مقدمة


الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأصلي وأسلم على حبيبنا ورسولنا محمد وأهل بيته الأطهار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


الصفحة 2
وبعد:

فهذا بحث يتعلق بموضوع الإبتلاء، وهو من سلسلة أبحاث من كتابي الجديد (نظرات المستبصرين في تراث أهل البيت)، ولأهمية الموضوع رأيت أن أجعله في كتاب منفصل زيادة في الفائدة.

كما أنني لا أدعي الإحاطة، ولا أقصد التطاول على علمائنا الأجلاء، وإنما إحياء لأمر أهل البيت عليهم السلام، حتى أدخل في زمرة المرحومين الذين يحيون أمر رسول الله وأهل بيته المعصومين الطاهرين، وحتى أقدم شهادة تكون عنوان محبة وولاء، ووفاء واقتداء، وتعريفا لمقامهم السامي على العباد.

سائلا المولى عز وجل أن يرزقني والمؤمنين زيارتهم في الدنيا، ورضاهم وشفاعتهم في الآخرة، وأن يوردنا حوضهم حتى نشرب منه شربة لا نظمأ بعدها أبدا إنه نعم المجيب.


د. ص. الحسيني
27 / 7 / 2005

الإبتلاء سنة إلهية على بساط العبودية

يتساءل الناس عادة عن الإبتلاءات وأنواعها وحقيقتها، وما علاقة الإبتلاء بالفتنة؟ وماهي دلالة الإبتلاءات على القرب والبعد من الله سبحانه وتعالى؟.

أما السؤال المهم في هذا البحث المختصر فهو لماذا أكثر ما يكون الإبتلاء عند الرسل والأنبياء والأئمة من أهل البيت وأتباعهم؟. ولماذا اختص أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم والمؤمنون الصالحون من أمة محمد صلى الله عليه وآله

الصفحة 3
بالإبتلاء؟. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعن أئمتنا من أهل بيت الرحمة والعصمة عشرات الروايات تشير إلى ذلك المعنى.

فقد روى أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل يبتلي العبد على قدر إيمانه فإن كان صلب الإيمان شدد عليه البلاء. وإن كان في إيمانه ضعف خفف عنه البلاء).

وقد أخرج الحاكم في المستدرك و ابن أبي شيبة وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال (بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل فتية من بني هاشم، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم اغرورقت عيناه وتغير لونه، فقلت: ما نزال نرى في وجهك شيئا نكرهه فقال: "إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤوها قسطا كما ملؤوها جورا، فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج).

وروى في فتح الباري والسيوطي والمناوي في فيض القدير وغيرهم عن عدد من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال - ما أوذي أحد ما أوذيت.

فالنبي محمد والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، هم حجج الله على عباده، وهم المصطفون الأبرار وهم أفضل خلق الله، فلماذا تعرضوا إلى الظلم والأذى وجميع أنواع الإبتلاءات؟ وما علاقة الإبتلاء بهم وبنا؟ وما أثر الإبتلاء عليهم وعلينا؟ وما الذي يجب أن يكون عليه موقفنا تجاه ابتلاءاتهم ومظلومياتهم؟.

والذي دفعني للبحث في الإبتلاء، هو أنه وعلى مر تاريخنا الإسلامي، لم يكن أحد أكثر ابتلاءً وتعرضا للظلم والتطريد والتشريد من أهل البيت وأتباعهم وشيعتهم، كان ذلك منذ انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا، وأتصور

الصفحة 4
أن ذلك صار يدركه كل من يقرأ التاريخ بإنصاف أو يتابع المحطات الفضائية وبشكل يومي.

لقد ذكر أئمتنا من أهل بيت النبوة والعصمة سلام الله تعالى عليهم وقالوا (ما منا إلا مسموم أومقتول). ولو راجع المسلم المنصف تاريخ الإسلام والمسلمين، لعرف بعضا مما تعرض له رسول الله وأهل بيته من الظلم والأذى والإضهاد، ويكفي أن نتذكر مصيبة الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره، حيث ظلموا وقتلوا في كربلاء وسلبوا وسبيت نساؤهم، وليس البحث لسرد مظلوميات أهل البيت عليهم السلام، فهناك أبحاث متخصصة في هذا المجال يستطيع القارئ أن يراجعها ويرجع إلى كتابنا سبيل المستبصرين.

ومن أجل البحث في هذا الموضوع، فإنه لابد من الدخول في شرح ولو باختصار لبعض المصطلحات والمفاهيم الشرعية التي تنبثق عنها قضية الإبتلاءات، لأنها كلها مرتبطة ببعضها.

كما أنه لا يمكن الوصول إلى حقيقة معنى الإبتلاء وأنواعه ونتائجه، والإجابة على التساؤلات المطروحة بدون تقديم طرح عن العبودية لله تعالى وأوصافها، والربوبية وحقوقها وبعض الأمثلة عليها من الشريعة المقدسة، وكذلك بحث معاني الفتنة والتمحيص والإختبار والإستدراج وما يتعلق بتلك المفاهيم، إذ لا يمكن تجريد معنى الإبتلاء وحقيقته عن كل تلك المعاني.

ولذلك كان لابد من التفصيل فيها عند وجود الضرورة لذلك، ولو بتفصيل مختصر يفي بالغرض المطلوب. فلا تستغرب عزيزي القارئ عند قراءة العنوان أو عند تداخل القضايا مع بعضها والتي تبدو وللوهلة الأولى وكأنه ليس لها علاقة في بحث الإبتلاء.

مفهوم الإبتلاء:

أما بالنسبة لمعرفة الإبتلاء ومعناه وحقيقته ونتائجه وأنواعه، وهو المهم في هذا البحث. فالإبتلاء والبلاء هو الإمتحان والإختبار، ويكون الإبتلاء في الخير والشر، قال تعالى {ونبلوكُم بالشَّرّ والخير فتنةً}.


الصفحة 5
وقال تعالى في سورة التوبة الآية: 126 {أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون}.

وقال تعالى في سورة العنكبوت الآيات: 1 - 3 {الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين}.

وقال تعالى في سورة النحل الآية 92 {إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}.

وقال تعالى في سورة المائدة الآية 48 {ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات}.

وقال تعالى في سورة الملك. الآية: 2 {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}.

وقال تعالى في سورة الأنفال. الآية: 25 {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}.

وقال تعالى في سورة الأنفال الآية28 {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم}.

وقال تعالى في سورة الأنفال الآية: 73 {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}.

وكما ترى فإن كلمة الإبتلاء والبلاء في الآيات الشريفة مرتبطة بكلمة الفتنة، وهما تحملان نفس المعنى وهو الإختبار والإمتحان، ولكن الفرق بين الإبتلاء والفتنة، هو أن كلمة الإبتلاء تعني واقع الإبتلاء وحاله، أما الفتنة فهي النتيجة المنيثقة عن الإبتلاء، وعليه فإن معنى الإبتلاء هو حال وواقع الإبتلاء والفتنة هي النتيجة له. والآيات مرة تطرح الفتنة مقترنة بالإبتلاء في نفس الآية، ومرة نجد كلمة الفتنة لوحدها، ومرة كلمة الإبتلاء لوحدها.

وكما قلنا فإن الفتنة هي نتيجة الإمتحان والإختبار التي ربما تكون استدراجا وبعدا عن الله تعالى، وربما تكون نجاحا وترقية ومزيد قرب من الله، وأما الإبتلاء فهو حال وواقع الإبتلاء من جميع نواحيه.


الصفحة 6
والإبتلاء: هو تعرف من الله تعالى إلى عبده، حتى يقيم الحجة عليه، وحتى يشهد العبد ويظهر حقيقة ظاهره وباطنه أمام الله تعالى، وهذا التعرف يطلق عليه العلماء العارفون بالله التعرف الجلالي وقد يصل البعض (كالأنبياء وأهل البيت والصديقين من الأولياء) إلى درجات عالية من التمكن الإيماني ويعتبرونه عطاء جماليا.

أما لماذا أطلق على الإبتلاء بأنه تعرف جلالي؟، ذلك أن النفس البشرية من طبيعتها تحب النزوع إلى الراحة والخمول ومراقبة غرائزها وإشباعها، فإذا ما تعرضت لنوازل قهرية وتعرفات جلالية مثل الأمراض والأوجاع والشدائد والأهوال وكل ما يثقل على النفس ويؤذيها ويؤلمها كالفقر والذل وأذية الخلق وغير ذلك مما تكرهه النفس البشرية بطبعها من ضغوطات نفسية أو جسدية أو فكرية، فإنها تنزعج وتقلق وتضطرب. فالإنسان لايحب كل تلك النوازل القهرية، ويطمح دائما إلى ما فيه راحته النفسية والجسدية والعقلية وإلى كل مايطيل عمره وأمله في الحياة الدنيا. وهذا ما يفسر الإقبال الشديد على الدنيا وزخرفها وزبرجها، وعلى النفس وشهواتها وأهوائها من أغلب الناس ونسيان الآخرة.

قال تعالى في سورة آل عمران الآية 14 {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}.

وأما بقية الناس الذين يرغبون في الآخرة ويستعدون لها فهم في حالة صراع ونزاع مع الدنيا والنفس وهو ما أطلق عليه النبي الأكرم وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام المجاهدة والجهاد الأكبر.

روى السيوطي في الجامع الصغير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لقوم رجعوا من الجهاد قال- قدمتم خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر: مجاهدة العبد هواه.

فالمجاهدة هي محاولة تغيير مسار حياة العبد من النزوع إلى الدنيا، والتوجه في السلوك إلى الآخرة عن طريق تقييد النفس وشهواتها وأهوائها بقيود شرعية ربانية، وهو ما يسميه العلماء العارفون بالله بالتحلية والتخلية، أي

الصفحة 7
تحلية النفس بالصفات والأخلاق الإسلامية الفاضلة، وتخليتها من كل خلق وسلوك مذموم ذمه الشارع المقدس وحذر منه رسول الله والأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام.

ومع وجود النية الصادقة والإرادة الصالحة، والعزيمة القوية، والإخلاص لله تعالى، ومتابعة الرسول الأكرم وأهل بيته المعصومين والإقتداء بهديهم، فإن الله تعالى يوفق لتلك المجاهدة، وينير للعبد طريقه ويهديه إلى الصراط المستقيم، قال تعالى في سورة العنكبوت. الآية: 69 {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.

ولذلك كانت الإبتلاءات وبشكل عام، تزعج الإنسان وتذكره بأن هذه الدار دار فناء لا دار بقاء، وتذكره بربه ومصيره وآخرته.

فعادة ما يكون الإبتلاء بما يخالف رغبات النفس وغرائزها وحاجاتها من كل تلك الأنواع التي ذكرناها. ولكنها إذا نزلت بما يتوافق مع رغبات النفس وشهواتها، كانفتاح الدنيا وزينتها وزخرفها، فإن ذلك ربما يكون استدراجا للعبد ولذلك يستشهد المستدرجون من الناس بقول يرفعونه أمام كل من يعترض على سلوكهم وأفعالهم، وهذا القول المشهور هو (لولا أنني على حق ما أعطاني الله النعمة) وقول آخر يعشش في أذهانهم يرددونه عند حصول مخالفة عند الآخرين فيتغاضون عن قبح أفعالهم وسوء سلوكهم بقولهم (نحن أولياء بالنسبة إلى الناس) ولا يلتفت إلى قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتم الله عز وجل يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) ولذلك كان من الواجب على العبد أن يدرك ماهية تلك المفاهيم كالإبتلاء والتمحيص والفتنة والإختبار والإستدراج وغير ذلك، حتى إذا مانزلت به نازلة من تلك النوازل، فإنه يستطيع أن يتصرف التصرف الشرعي اللائق، على نور وبصيرة من ربه.


الصفحة 8

أركان الإبتلاء:

إن على العبد المؤمن الذي يرجوا رحمة ربه ورضوانه أن يتذكر دائما أربع قضايا أساسية يرتكز عليها الإبتلاء وهي: _ أولا: معرفة المبتلي والممتحن.

وثانيا: معرفة المبتلى من زاوية العبودية.

وثالثا: كيف يتصرف العبد المبتلى أثناء الإبتلاء.

ورابعا: نوع الإبتلاء ونتائجه.

من هو المبتلي والممتحن؟

أما بالنسبة إلى المبتلي والممتحن فهو الله تعالى، خالقنا وبارئنا، الذي له الأمر والخلق، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ربنا وسيدنا ومولانا، الذي يعلم كل شيء، ويعلم ما ينفعنا ويصلحنا، ويضرنا وينفعنا، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، فقد نسب الإبتلاء إلى نفسه من خلال الآيات القرآنية الشريفة قال تعالى في سورة النحل الآية 92 {إنما يبلوكم الله به} وقال تعالى في سورة الأنعام الآية 165 {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم}. وقال تعالى في سورة الملك الآية 2 {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور}. وقال تعالى في سورة محمد الآية31 {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم}. وقال تعالى في سورة آل عمران الآية 154 {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم}. وقال تعالى في سورة البقرة الآية249 {إن الله مبتليكم بنهر}. وهناك آيات أكثر مما ذكرت تدل على ما ذهبنا إليه.

وبناء على ذلك فإن الله تعالى جعل الثواب والعقاب في الآخرة، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، فليست الدنيا دار جزاء للمؤمن ولا دار عقاب للكافر، فكانت دار امتحان واختبار قدر الله تعالى لها ذلك، حتى تكون محل عمل يعمل فيها العبد ويبنى لآخرته، أو ينسى نفسه فيها ويظن أنها دار مقر. فقد جعلها الله دارا يشهد فيها العبد على حقيقة ذاته وأعماله ظاهرها وباطنها.


الصفحة 9
روى في كنز العمال والديلمي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (يا أيها الناس، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ودار ترح لا دار فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشدة، ألا وإن الله تعالى خلق الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، فجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة، وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضا، فيأخذ ويبتلي ليجزي، فاحذروا حلاوة رضاعها لمرارة فطامها واحذروا لذيذ عاجلها لكربة آجلها، ولا تسعوا في عمران دار قد قضى الله خرابها، ولا تواصلوها وقد أراد منكم اجتنابها، فتكونوا لسخطه متعرضين ولعقوبته مستحقين).

قال الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة (إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها. مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة).

وروي عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال - لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة.

وروي عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه سئل: من أعظم الناس خطراً؟ فقال (عليه السلام): (من لم ير الدنيا خطراً لنفسه).

ثانيا ـ العبد المبتلى:

وأما المبتلى فهو العبد الجالس على بساط العبودية لله تعالى، قال تعالى في سورة الذاريات. الآية: 56 {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.

ولذلك كانت العبودية لله أساس وجود وحياة العبد في الدنيا، يتلقى من ربه كل ما يصلح له وينفعه في رحلته الدنيوية. فإذا عرف الإنسان أنه عبد فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه.


الصفحة 10

مفهوم العبودية لله:

ذكر العارفون بالله تعالى أن العبودية جوهرة كنهها الربوبية. وهذا يعني أن للعبودية أركان وأسس، من أدركها وفهمها وأسس عبوديته عليها، فإنه حتما سوف يصل إلى معرفة حقيقة وجوده والمراد منه.

فالعبودية لله تعالى هي التذلل والافتقار للواحد القهار مالك الحكم والاختيار، وهي الإستسلام والإنقياد لله تعالى في كل حال.

وهذه المعاني تقتضي منا معرفة أوصاف العبودية حتى يتحقق بها العبد، وأهم تلك الأوصاف، هي الضعف والجهل والذل والفقر من العبد بين يدي ربه وسيده، فمن تحقق بها وما يبتنى عليها من أوصاف، يكون قد حقق معنى العبودية في ذاته وسلوكه.

ويقابل كل صفة من صفات العبودية صفة من صفات الربوبية لا يجوز للعبد أن يتجاوزها أو يتعدى عليها فالذل والفقر من أوصاف العبودية يقابلهما العز والكبرياء من أوصاف الربوبية فقد روى أحمد والحاكم والنسائي وابن ماجة ومسلم في صحيحه عن ابن عباس وغيره الحديث القدسي قال _ قال الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته. وفي لفظ آخر - ألقيته في جهنم.

وإذا نظرنا إلى صفات الله، وأخذنا كل صفة من صفات الربوبية فإن عكسها يكون للعباد، فهو الخالق ونحن المخلوقين وهو الرب ونحن العبيد وهو الملك ونحن المملوكون وهو الغفار ونحن المذنبون وهو العليم ونحن الجهلاء، وهكذا بقية الصفات.

وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذه المعاني وبشكل صريح في القرآن الكريم، نذكر عددا من الآيات الشريفة توضح ذلك.

قال تعالى في سورة فاطر الآية: 15 {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}. فنحن الفقراء وهو الغني.

وقال تعالى في سورة هود الآية 66 {إن ربك هو القوي العزيز}. فهو عز وجل القوي العزيز ونحن الضعفاء الأذلاء.


الصفحة 11
وقال تعالى في سورة النساء الآية139 {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.

وقال تعالى في سورة البقرة الآية 216 {عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. فهو العالم ونحن لا نعلم.

ومن تمعن في آيات القرآن الكريم فإنه يجد مئات الآيات التي تبين أوصاف الربوبية وأوصاف العبودية، ولذلك فإن العبد المؤمن الصالح الذي يعمل على تحقيق أوصاف العبودية يستمد قوته من الله القوي ويعالج فقره بالله الغني، ويستمد علمه من الله العالم، ويرفع ذلته بالله العزيز، فهو غني بالله قوي بالله عزيز بالله عالم بالله قال تعالى في سورة البقرة الآية 282 {واتقوا الله ويعلمكم الله}.

وعليه فإن على العبد أن يجلس على بساط العبودية في هذه الحياة ويعمل على أن يتحقق بما منحه الله من أوصاف، حتى يتأكد معنى الصلة بين العبد وربه، ويتجسد معنى العبودية عند أداء العبد العبادات كالصلاة والحج والصيام والدعاء والتضرع والمناجاة وغيرها من الطاعات كالزكاة والصدقات بالكيفية التي علمنا الله إياها. فإذا حقق العبد من خلال العبادة، التخشع والتذلل والخضوع والفقر وأداها لله خالصة، كان من جناب الربوبية القبول والمدد بالعزة والقوة، وكانت الصلة بالله أقوى وأوثق. فكلما كان التحقيق بأوصاف العبودية أقوى كانت الصلة بالله أوثق والقبول والإستجاية أوكد. قال تعالى في سورة غافر الآية 60 {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. وربما يدرك العبد معنى العبودية أكثر كلما كانت الضرورة لحاجات الحياة أكثر وأشد، فلو أخذنا مثلا من العبادات صلاة الإستسقاء، عند انحباس المطر وفقد عنصر من أهم عناصر الحياة، فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا

الصفحة 12
متخشعا متوسلا متضرعا وحسبك به فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد.

طاعة رسول الله والأئمة من أهم مظاهر العبودية:

وأرجوا أن نلاحظ الآيات التالية التي تضيف معنى آخر للعبودية، وهي طاعة رسول الله وأوصياءه لأن طاعتهم عبودية لله تعالى واستسلاما لأمره، ويستحيل تحقيق معنى العبودية لله تعالى بدون طاعتهم وولايتهم، وأي عمل لا يرتبط بهم وبولايتهم وطاعتهم لا يقبل.

روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لو أن رجلا صفن بين الركن والمقام، فصلى، وصام، ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار). رواه الطبراني، وفي كنز العمال، وفي مجمع الزوائد، ورواه ابن حبان وقال رجاله رجال الصحيح.

ومن أجل تأكيد دورهم، وكيف أن الله تعالى قد خصهم بالمدد الإلهي الخاص حتى يكونوا وسيلة بيننا وبين الله تعالى حتى يعلموا الجهلاء ويغنوهم ويزكوهم، ويتفضلوا على عباد الله بالنور والهداية أثناء رحلة تحقيق معنى العبودية في ذاتنا وسلوكنا وظاهرنا وباطننا، فقد جعل الله تعالى طاعته مقترنة بطاعتهم، وقضاءه بقضائهم، وحربه حربهم، وسلمه سلمهم وغير ذلك من ما بينته الآيات القرآنية، وسأذكر بعضا منها على سبيل المثال والإختصار، ولا يتسع المجال لذكرها مفصلة. ولكن وقبل ذلك أذكر بأن الله قد شرط على العباد قبول طاعاتهم إذا تقدمها ذكر محمد وآل محمد، فالصلاة وإن تحققت فيها أوصاف العبودية غير أنه لم يصلى فيها على محمد وآل محمد لن تقبل، وهذا ما أجمع عليه كل علماء المسلمين، وبشتى طوائفهم.

قال تعالى في سورة النساء الآية 80 {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله}. وقال تعالى في سورة آل عمران الآية 132 {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}.