إن الله تبارك وتعالى أختص لنفسه بعد نبيه خاصة وهم أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، علاهم بتعليته وسماهم إلى رتبته وجعلهم إليه الأدلاء بالإرشاد إليه، أئمة معصومين هادين مهديين، فاضلين كاملين، وجعلهم الحجج على الورى والعباد ودعاة إليه، شفعاء بإذنه، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يحكمون بأحكامه ويستنون بسننه، ويقيمون حدوده، ويؤدون فروضه، ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من يحيي عن بينه, صلوات الله والملائكة الأبرار والمقربين على محمد وآله الأخيار.
ولذلك كانوا دائما في مقام الشكر لله تعالى، لأنهم يرون كل شيء منة ونعمة وعطاءات إلهية جميلة، تزيدهم نورا وجمالا وبهاء، ورفعة عند الله، انظر إلى عبادتهم، كان رسول الله يقوم حتى تتفطر قدماه وكذلك السيدة الزهراء والأئمة من أهل البيت عليهم السلام. والمخلصون من أتباعهم.
روى العلامة المجلسي في بحار الأنوار ورد عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل أنه قال في قضية الإسراء والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله تعالى (إن الله مختبرك ـ أي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ـ في ثلاث ينظر كيف جدك؛ قال: أسلم لأمرك يا رب، ولا قوة لي على الصبر إلا بك، فما هن؟..... إلى أن يقول الإمام الثالثة...
وأما الثالثة: فما يلقى أهل بيتك من بعدك من القتل: أما أخوك علي فيلقى من أمتك الشتم والتضعيف والتوبيخ والحرمات والجهد والظلم وآخر ذلك القتل.
فقال: يا رب، سلمت وقبلت، ومنك التوفيق والصبر.
وأما ابنتك فتظلم، وتحرم، ويؤخذ حقها غصباً الذي تجعله لها، وتضرب وهي حاملة، ويدخل على حريمها ومنزلها بغير إذن، ثم يمسها هوان وذل ثم لا تجد مانعاً، وتطرح ما في بطنها من الضرب، وتموت من ذلك الضرب، قلت إنا لله وإنّا إليه راجعون قبلت يا رب وسلمت ومنك التوفيق والصبر.
وروى القندوزي في ينابيع المودة عن علي بن أبي طالب قال: كنت أمشي مع النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم في بعض طرق المدينة، فأتينا علي حديقة!
فقلتُ: يا رسول الله! ما أحسن هذه الحديقة! فقال: رسول الله: ما أحسنها؟! ولك يا علي في الجنّة أحسن منها!
ثمّ أتينا علي حديقة أُخرى، فقلتُ: يا رسول الله! ما أحسن هذه الحديقة!
فقال رسول الله: ما أحسنها! ولك يا علي في الجنّة أحسن منها! ثمّ أتينا علي حديقة أُخري، فقلت: يا رسول الله، ما أحسنها من حديقة!
فقال رسول الله: لك في الجنّة أحسن منها! قال: فمشينا حتّي أتينا علي سبع حدائق، وكلّما مررنا بحديقة منها، كنت أقول: يا رسول الله! ما أحسنها! فيقول: لك في الجنّة أحسن منها!
فَلَمَّا خَلاَ لَهُ الطَّرِيقُ اعْتَنَقَنِي وَأَجْهَشَ بَاكِياً! فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَهِ! مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: ضَغَائِنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ لاَيُبْدوُنَهَا لَكَ إلاَّ بَعْدِي! فَقُلْتُ: فِي سَلاَمَةٍ مِنْ دِينِي؟! قَالَ: فِي سَلاَمَةٍ مِنْ دِينِكَ.
وروي في ينابيع المودة وفي مناقب الخوارزمي عن أبي سعيد الخدريّ قال: أخبر رسولالله صلّيالله عليه وآله وسلّم عليّاً بما يلقي إليه من أعدائه من المقاتلة: فَبَكَي علي وَقَالَ: أَسْأَلُكَ يَا رَسُولَ اللَهِ بِحَقِّ قَرَابَتِي وَبِحَقِّ صُحْبَتِي أَنْ تَدْعُو اللَهَ أَنْ يَقْبِضَنِي إليهِ! فَقَالَ: يَا علي! أَنَا أَدْعُو اللَهَ لَكَ لأجَلٍ مُؤَجَّلٍ! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَهِ! علي مَا أُقَاتِلُ الْقَوْمَ؟! قَالَ علي الإحْدَاثِ فِي الدِّينِ.
وأخرج موفّق بن أحمد الخوارزميّ بسنده عن أبي ليلي، عن أبيه، قال: أعطى النبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم الراية يوم خيبر إلي علي، ففتح
وَأَذَانٌ مِنَ اللَهِ وَرَسُولِهِ إلي النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكبر.
وأنت الآخذ بسنّتي! والذابُّ عن ملّتي! وأنا وأنت أوّل من تنشقّ الأرض عنه؛ وأنت معي تدخل الجنّة؛ والحسن والحسين وفاطمة معنا، إنّ الله أوحي إليَّ أن أُبيّن فضلك؛ فقلت للناس وبلّغتهم ما أمرني الله تبارك وتعإلي بتبليغه!
ثمّ قال: اتَّقِ الضَّغائِنَ الَّتِي كَانَتْ فِي صُدُورِ قَوْمٍ لاَ تُظْهِرُهَا إلاَّ بَعْدَ مَوْتِي؛ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ وَبَكَى.
ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ أَنـَّهُمْ يَظْلِمُونَكَ بَعْدِي، وَأَنَّ ذَلِكَ الظُّلْمَ لاَ يَزُولُ بِالكُلِّيَّةِ عَنْ عِتْرَتِنَا حَتَّي إذَا قَامَ قَائِمُهُمْ، وَعَلَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَاجْتَمَعَتِ الأمة علي مَوَدَّتِهِمْ، وَالشَّانِئ لَهُمْ قَلِيلاً، وَالكَارِهُ لَهُمْ ذَلِيلاً، وَالمَادِحُ لَهُمْ كَثِيراً.
وذلك حين تغيّر البلاد؛ وضعف العباد، حين اليأس من الفرج، فعند ذلك يظهر القائم مع أصحابه؛ فبهم يظهر الله الحقّ؛ ويخمد الباطل بأسيافهم؛ ويتبعهم الناس راغباً إليهم وخائفاً منهم! أبشروا بالفرج فإنّ وعد الله حقّ لايخلف؛ وقضاءه لا يردّ؛ وهو الحكيم الخبير؛ وإنّ فتح الله قريب.
اللَهُمَّ إنَّهُمْ أَهْلِي فَأذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيراً؛ اللَّهُمَّ اكْلأهُمْ وَارْعَهُمْ، وَكُنْ لَهُمْ وَانْصُرْهُمْ، وَأَعِزَّهُمْ وَلاَ تُذِلَّهُمْ، واخْلُفْنِي فِيهِمْ إِنَّكَ علي مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ.
لاحظوا في الأحاديث كيف كان هم أمير المؤمنين سلامة الدين، والمحافظة على تعاليم الإسلام سالمة من عبث العابثين، ولم يكن يركز إلا على سلامة عبوديته لله تعالى وطاعته وما فيه رضى رب العالمين.
وكذلك عندما يقول في حديث الثقلين إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.
وعندما يقول صلى الله عليه وآله- من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
وعندما يقول- فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذى الله، ومن أرضاها فقد أرضى الله.
وعندما يقول حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا، وأبغض الله من أبغض حسينا.
فالأصل عند هذه الأوامر الإلهية هو السمع والطاعة، بمتابعة وولاية من أمر الله بطاعتهم وولايتهم، ووجوب متابعة ومراقبة حالهم وأحوالهم، وذلك أمر ظاهر في منطوق كل ما مر من النصوص الشرعية التي تفرض على البصر والبصيرة، دوام التطلع والتبصر في حقيقتهم وأحقيتهم، ونصرتهم وولايتهم، والنظر في كل أمورهم، ظاهرها وباطنها، دقيقها وجليلها. هذا ما دلت عليه النصوص الشرعية عند كل طوائف المسلمين.
وروى السيوطي والطبراني عن خالد بن عرفطة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال (إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي).
فالناس مبتلون أي ممتحنون بأهل البيت عليهم السلام وبإمامتهم على أن يعتقدوا بذلك ويطبقوه، ويبذلوا أموالهم وأنفسهم وأرواحهم في سبيل الثبات على أمر الله تعالى فيما يتعلق بأهل البيت.
وهذا الإختبار الإلهي قد أجج صراعا تاريخيا كبيرا وواسعا، قد يبدوا غامضا عند البعض من الناس، الذين لا يودون البحث عن الحقيقة والأحقية. ذلك الصراع الذي بدأ منذ العصور الأولى للإسلام، حيث ثارت الغيرة، وظهرت الضغائن والأحقاد، وانتشر الحسد ضد بني هاشم وأتباعهم من المؤمنين المخلصين، قال تعالى في سورة النساء. الآيتان: 54 - 55 {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما، فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا}.
عن بريد قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فسألته عن قول الله تعالى:
{أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} قال: فنحن الناس ونحن المحسودون على ما آتانا الله من الامامة دون خلق الله جميعا {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} جعلنا منهم الرسل والانبياء والائمة عليهم الصلاة والسلام، فكيف يقرون بها في آل إبراهيم ويكذبون بها في آل محمد عليهم الصلاة والسلام {فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا}. روي ذلك ابن حجر في الصواعق، وابن المغازلي الشافعي، وفي شواهد التنزيل للحسكاني.
أيوجد بلاء أعظم من هذا البلاء؟ أليس هذا الإبتلاء حجة على من شاهد أو سمع؟، فقد روى أبو داود عن العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها - وقال مرة فأنكرها - كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها). ورواه السيوطي في الجامع الصغير وقال صحيح.
وقال صلى اللّه عليه وسلم: "إن اللّه لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب اللّه الخاصة والعامة" (رواه أحمد).
وروى في كنز العمال ومجمع الزوائد عن الإمام الحسين بن علي عليهما السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضي به كان كمن شهده).
أليس في مظلوميات النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين وبقية أهل البيت إثارة لعقول وعواطف المؤمنين، وحجة بليغة ضد الغافلين عن أهل البيت وضد الناصبين لهم العداء؟.
لاحظوا وفي الفترة الأخيرة عندما حوصرت كربلاء والنجف، وقصفت مراقد الأئمة في العراق، وتكرار تلك المشاهد من خلال المحطات الفضائية التي تنقل الحدث مباشرة، والإعتداء على مساجد أهل البيت، وحالات إغتيال أتباع أهل البيت عليهم السلام. أليس في تلك المشاهد حجة على المشاهد والمستمع، من أجل أن يسأل نفسه، ما هي تلك المراقد؟ ومن هم الشيعة؟. ومن هم أهل البيت؟. وماهي مظلومياتهم؟.
فمن ثبت على ولائهم فهو من أهل الرسوخ والتمكين ويزيده الله تعالى رفعة وعلوا، وأما من كان غافلا فربما يتنبه ويتوصل إلى الحقيقة، وأما الناصب العداء لهم ولشيعتهم، فلا تزيده مظلوميات أهل البيت وشيعتهم إلا سخطا وبغضا من الله تعالى، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ونار جهنم هي المصير.
إن الناظر في ابتلاءات أهل البيت ومظلومياتهم، يجد أنها كانت من أجلنا، حتى ينقذنا الله بهم من الضلال، ونسير بأمان وثبات على الصراط المستقيم.
فكلما تمعن العبد المؤمن في مظلوميات أهل البيت وابتلاءاتهم، وتضحياتهم، وحملهم الأمانة على أكمل وجه، وصمودهم أمام الطواغيت والجبابرة في سبيل المحافظة على الدين، يجد أن كل ذلك من أجلنا، حتى يصلنا منهاج الشريعة المحمدية طاهرا صافيا نقيا، لم تمسه أيدي العابثين والحاسدين والحاقدين.
فهم عليهم الصلاة والسلام قد قدموا أنفسهم عبودية لله تعالى من أجلنا حتى نكون في مقدمة الأمم، سباقين في كل المجالات، وحتى نكون معهم من الناجين
لقد ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء في سبيل المحافظة على رسول الله ودعوته، وفي سبيل تعزيز الصلة بين العباد وربهم، فبثوا لنا تراث النور والهداية، وها هو تراثهم يملئ شرق الأرض وغربها، بالرغم من كل محاولات طمس نورهم وإخفاءه عن الناس، نجده يسطع متلألئا، وبشكل مطرد، منتظرا ظهور الأمام الثاني عشر الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، فكلما ازداد الظلم والجور، اقترب الوعد الحق بظهوره عليه السلام.
لقد استطاع الأئمة من أهل البيت وشيعتهم أن يحولوا ابتلاءاتهم ومظلومياتهم من تعرفات جلالية إلى مقامات جمالية وكمالية رائعة، وحلوا في مقامات الشكر العالية هم وأتباعهم المخلصون الموفون بعهدهم، وكشفوا عن مكنونات حقائقهم الجمالية أمام الله وأمام العباد، ونجدهم وكل أتباعهم دوما يرددون قوله تعالى {الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.
وروى الطبري والطبراني وابن كثير عن العتبي عن أبيه أن الأمام علي بن الحسين عليه السلام قال (إنا أهل بيت نطيع الله عز وجل فيما نحبه، ونحمده على ما نكره).
وعلى ذلك يكون هذا النوع من الإبتلاء هو من أجل رفعة وترقية المبتلين به، وإشهاد رسوخهم وتمكينهم وثباتهم، ومن أجل إظهار مكنونات حقائقهم، وحقيقة تمكنهم من الإيمان، والإستسلام لأمر الله تعالى، وبيان جاهزيتهم لخدمة الله تعالى وشريعته من على بساط العبودية الصادقة لله تعالى. ولذلك كان رسولنا الأكرم وأهل بيته الطاهرين القدوة في كل شيء، في الصبر والحلم والتقوى والشجاعة والعلم، والتحمل، وحمل الأمانة والتضحية والفداء، فها هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام يفدي رسول الله صلى الله عليه وآله عندما أجمعت قريش على قتله في مكة وبات في فراش النبي وهو يعلم أنه مقتول لا محالة، فأظهر الله حقيقة حبه وفداءه للنبي، وأنزل الله في ذلك قرآنا يتلى بعد أن باهى الله به الملائكة.
روى السيوطي عن ابن عباس قال قتل علي بن أبي طالب عمرو بن ود ودخل على النبي صلى اللّه عليه وسلم فلما رآه كبر وكبر المسلمون فقال اللّهم أعط علياً فضيلة لم تعطها أحداً قبله ولا تعطها أحداً بعده فهبط جبريل ومعه أترجة من الجنة فقال إن اللّه يقول حي بهذه علي بن أبي طالب فدفعها إليه فانفلقت في يده فلقتين فإذا حريرة بيضاء مكتوب فيها سطرين تحية من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب. وفي ذلك الموقف قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (برز الإيمان كله إلى الشرك كله) وقال (ضربة علي يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين). وكذلك في يوم خيبر عندما لم يفلح أبو بكر ولا عمر بفتح حصون خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لأعطين الراية غدا رجلا يفتح على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله).
وها هو الإمام أبي عبد الله الحسين عندما خرج إلى كربلاء، كان يعلم أنه مقتول هو وأبناءه وأصحابه، وأخذ معه نساءه، وبالرغم من محاولة ثنيه عن
وأما السيدة فاطمة الزهراء سلام الله تعالى عليها، سيدة نساء العالمين، بضعة رسول الله، فكانت القدوة في الثبات أمام المحن والإبتلاآت التي تعرض لها رسول الله صلى الله عليه وآله، في بداية الدعوة وأثناء مراحلها كلها، فقد كانت الأولى في كل شيء، فاستحقت أوسمة الشرف الربانية بعد أن حققت أسمى معاني العبودية، فكانت ولازالت وستبقى سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، حتى أن الله تعالى لطهارتها وفنائها في الله تعالى قد منحها وساما عاليا رفيعا، أن من آذاها فقد آذى الله، ومن أغضبها فقد أغضب الله، وأن الأئمة من ولدها وغير ذلك من الأوسمة العالية الرفيعة.
روى السيوطي وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من حملة الإبل، فلما نظر إليها قال: يا فاطمة تعجلي فتجرعي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا فأنزل الله {ولسوف يعطيك ربك فترضى}.
وكذلك سيرة الإمام الحسن عليه السلام وبقية الأئمة من أهل البيت وأصحابهم المخلصين، والعلماء الصادقين الذين اتبعوا نهجهم، بصدق وأمانة وتحملوا كل أنواع الإبتلاء والأذى والظلم، عبودية لله تعالى، وطاعة له ولرسوله، فكانت كل ابتلاءاتهم رفعة وترقية لهم عند الله، وحجة علينا.
الوسيلة بين العبودية والربوبية:
وأعتقد أنه من الضروري جدا للعبد المؤمن، حتى يزداد قربا من الله تعالى، وحبا وولاء لأحباب الله أهل البيت عليهم السلام، أن يتفكر دائما في ابتلاءاتهم ومظلومياتهم، حتى تزاد عوامل الصلة الوثيقة بينه وبينهم، ففي الحزن لأحزانهم، والفرح لفرحهم، آثار كبيرة وواضحة في تطهير النفس البشرية من حجاب الغفلة الكثيف عنهم، وعن موقعية الوسيلة بيننا وبين ربنا أثناء تحقيق معنى العبودية لله تعالى، فكلما تعمقنا في معانيهم عليهم السلام، فإننا نتطهر ونطهر، ونزداد إيمانا وروحانية تجعلنا مؤهلين لحضرة القرب والفتح الإلهي والمدد الرباني الواسع، عسى الله أن يرضى عنا فمن أرضاهم فقد أرضى الله، ومن أحبهم فقد أحب الله، ومن والاهم فقد والى الله، وعسى الله أن يفتح علينا بتعجيل فرجهم وفرج المؤمنين.
في الحقيقة، فأنا أخجل من نفسي وأنا العبد الفقير العاجز وأنا أحاول التعريف بأئمتي الهداة المهديين، ولازلت أجهل حقيقتهم، يعجز القلم أن يكتب وكذا يعجز الوصف عن أولئك العظماء، القدوة والأسوة في كل شيء، وفي كل مثل أعلى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأتوسل إلى الله تعالى أن يعرفني أئمتي، فإنني إن لم أعرفهم لم أعرف ديني، حتى أكون بين يدي ربي متحققا بأوصاف العبودية التي ارتضاها لمخلوقاته، وجعل أهل البيت عليهم السلام الوسيلة بين العبودية والربوبية، إنه قريب مجيب.
النوع الثاني من الإبتلاء:
قال تعالى في سورة المائدة الآية119 {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم}.
وهؤلاء الصادقون منهم من يرتقي إلى أقصى درجات ميزان أهل اليمين، ومنهم من يتوسطه، ومنهم من يتجه إلى درجاته الدنيا عند حدود ميزان الكاذبين.
ولذلك كانت الإبتلاءات في هذا النوع من أجل أن يحقق العباد موقعهم على ميزان أهل اليمين، فتكون الإبتلاءات وبشكل عام لتمييز العبد على درجات
ولذلك كان هذا النوع من الإبتلاء والإختبار حتى يحدد العبد موقعيته على ميزان أهل اليمين، ويكشف عن حقيقة ما يدعيه مما يعتقده ويؤمن به على بساط العبودية لله تعالى.
وموقعية العبد على هذا الميزان ترتفع نحو السابقين أو تنخفض نحو الكاذبين، أي أنها تزداد وتنقص حسب فهم العبد لمعنى الإبتلاء والإختبار والتعرفات الإلهية التي يتعرض لها، فإذا كان العبد صادقا في عبوديته ظاهرا وباطنا، فيبتليه ربه ليطهره ويرقيه، وربما يكون صادقا لكنه يعيش بعض الغفلة فيبتليه ليذكره وينبهه، أوربما يكون العبد صادقا في ظاهره مدعيا كاذبا في باطنه فيبتليه ربه ليميزه عن الصادقين وليكشف حقيقته حتى يتبين أنه من المدعين لمقامات الصادقين، فينزل إلى ميزان الكاذبين المنافقين ليحدد له موقعا عليه.
وعلى ذلك يكون هذا النوع من الإبتلاء، ابتلاء تأديب وتنبيه، وابتلاء إنذار وتذكير، وابتلاء تمييز وتطهير.
وهذا النوع من الإبتلاء يعتبره العلماء العارفون منة ونعمة من الله تعالى لعبده، وهو رسائل تذكير وتنبيه من أجل التأديب والتهذيب، أو تمييز وتحقيق وتطهير. ومن أجل حماية المؤمن من الإفتتان والركون إلى الدنيا.
ويبتلى في هذا النوع أغلب المسلمين، خصوصا منهم المؤمنين، ومن عرف عن الحقائق الإلهية ولو القليل.
وحيث أن شؤون الحياة والجسد والنفس تتغلب على غيرها من الشؤون، فكثيرا ما ينزع الناس إلى الدنيا وملذاتها والطمع في الحصول على الحد الأعلى من موجوداتها، من أجل تحقيق رغبات وشهوات الإنسان، فلربما يغفل الإنسان عن آخرته وعن دينه وشريعته، ويكون التوجه إلى الدنيا في تلك الحال على حساب العمل للآخرة.
محاسبة النفس ومراقبتها
فبالتالي هو بحاجة إلى مراجعة حساباته، ومحاسبة نفسه، وتغييرها نحو الأفضل قبل نزول التعرفات الجلالية عليه. يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله تعالى عليه (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا).
ويقول عز وجل في سورة الرعد الآية 11 {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
فهم الرسائل الإلهية يجنب العبد الإبتلاء
ولذلك تأتي الإنذارات الربانية، والتحذيرات من وقوع الإبتلاء في الدنيا قبل الآخرة على لسان الأنبياء والأوصياء، لتنبه وتذكر عباد الله حتى يعودوا إلى ربهم وحتى تقام الحجة عليهم.
قال تعالى في سورة الأنعام الآية: 51 {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون}.
فإذا كان المسلم المؤمن عنده حب لله ولرسوله ولدينه وشريعته، وعنده استعداد قلبي، وإخلاص ونية صادقة، ولكنه وبسبب غفلته وانهماكه في رؤية الدنيا، يغفل أويتناسى الآخرة، أو يصير من أهل التسويف، فتأتي المنة والعطاء الإلهي على شكل الإبتلاء والتعرفات الجلالية حتى تنبه العبد أو تذكره بربه وحقوقه عليه وتأدبه حتى يعود إلى رشده ويثوب إلى ربه.
ولذلك كان المسلم المؤمن بحاجة إلى تذكير مستمر وتنبيه دائم، من أجل أن يبقى على بساط العبودية محافظا على إيمانه ويقينه، وعليه أيضا البحث عن كل مقومات ذلك التذكير والتنبيه، فقد أشارت الآيات القرآنية والسنة النبوية الشريفة إلى تلك المقومات. كاتخاذ أخ في الله يقربه من الله ويعينه على طاعته، وكثرة الدرس والمطالعة لمن يستطيع ذلك، واتخاذ المعلم، والإقتداء بالمرجع الجامع للشرائط، والمحافظة على الجو الإيماني من خلال الجماعة، ومداومة الطاعات المندوبة والأذكار، والمحافظة على أدعية الأئمة الأطهار، ومن المهم أيضا دوام التفكر والإعتبار في النفس من أجل معرفتها وفي الدنيا وحقيقتها.