الصفحة 119

معناه أولى بكم، وذكر ذلك أيضا الأخفش(1) والزجاج(2) وعلي بن عيسى(3) واستشهدوا ببيت لبيد، لكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق، لأن الأكابر مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه، والذاكرون له لم يذكروه إلا في تفسير هذه الآية وآية أخرى مرسلا غير مسند، ولم يذكروه في الكتب الأصلية من اللغة، وليس كلما يذكر في التفاسير كان ذلك لغة أصيلة، ولذلك فإنهم يفسرون اليمين بالقوة في قوله تعالى: * (والسماوات مطويات بيمينه) *(4) والقلب بالعقل في قوله تعالى:

* (لمن كان له قلب) *(5) مع أن ذلك ليس لغة أصيلة.

وثانيهما: أن أصل تركيب " والى "(6) يدل على الدنو والقرب، يقال وليته إليه وليا أي دنوت منه دنوا وأوليته إياه أي أدنيته منه، وتباعدنا بعد ولي، ومنه قوله: " كل مما يليك "، وقولهم فلان أولى من فلان، أفعل التفضيل من الوالي:

فالأدنى والأقرب من الداني والقريب، ففيه معنى القرب، لأن الأحق بالشئ أقرب إليه والمولى اسم لموضع الولي كالمرقى والممشى(7) لموضع الرقي والمشي.

وإذا عرفت ذلك فنقول: أن تفسير أبي عبيدة: * (مأواكم النار هي موليكم) * بأنه أولى بكم فنقول إن ذلك ليس حقيقة لأن ذلك يقتضي أن يكون

____________

(1) الأخفش على الاطلاق هو الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة المجاشعي تلميذ الخليل وسيبويه، ومعنى الأخفش: صغير العينين مع ضيق النظر تشبيها بالخفاش.

(2) إبراهيم بن محمد الزجاج الأديب النحوي تلميذ المبرد وثعلب توفي في (310 هـ).

(3) علي بن عيسى بن عبد الله الرماني الواسطي النحوي والمعتزلي (296 - 384 هـ).

(4) الزمر: 67.

(5) ق: 37.

(6) كذا في النسختين، ولعل الصحيح: ولي.

(7) هنا في النسختين لفظة فموضع زائدة.


الصفحة 120
للكفار حصة في الجنة إلا أن النار أحق بهم، لأن من لوازم أفعل التفضيل ذلك، وهو باطل، بل الأولى أن نحملها على الناصر أي هي ناصركم ومعناه: لا ناصر لكم غيرها والمقصود نفي الناصر مطلقا.

وأما بيت لبيد(1) فقد حكي عن الأصمعي فيه قولان:

أحدهما: أن المولى اسم لموضع الولي، أي تحتسب البقرة أن كلا من الجانبين موضع المخافة، وإنما جاء مفتوح العين تغليبا لحكم اللام على الفاعل أن الفتح في المولى ألفا قد جاء كثيرا.

الثاني: أنه أراد بالمخافة الكلاب ومولاها: صاحبها.

وأما قوله تعالى: * (ولكل جعلنا موالي) *(2) فمعناه: وراثا يلون(3) ما تركه الوالدان.

وأما قول الأخطل:

فأصبحت مولاها على الناس كلهم...

وقوله: لم يشأروا فيه إذ كانوا مواليه...

وقوله: (كانوا) موالي (حق) يطلبون (به)(4)...

فالمراد به: الأولياء، ومنه قوله (عليه السلام): " مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي

____________

(1) قوله:


فغدت كلا الفرجين تحسب أنهمولى المخافة خلفها وأمامها

وانظر مجمع البيان 3: 65.

(2) النساء: 33.

(3) في النسختين: يليون، غلطا.

(4) الألفاظ بين الأقواس ساقطة.


الصفحة 121
الله ورسوله "(1) أي أولياء الله ورسوله.

وقوله (عليه السلام): " أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها "(2) فالرواية المشهورة مفسرة له.

وقوله تعالى: * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا) *(3) أي وليهم وناصرهم هكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعامة المفسرين(4) فقد ظهر بما قلنا أن لفظة المولى غير محتملة الأولى.

سلمناه لكن لم قلتم: بتعيين حمله في هذا الحديث عليه في الوجه الأول، وأن من ذكر كلاما محتملا لأشياء عقيب كلام خرج في أحد محتملاته. فإنه يريد بذلك المحتمل ذلك الصريح.

قلنا: هذا ممنوع.

قوله: الانسان إذا كان له عبيد فيهم زيد فقال للجماعة: ألستم تعرفون عبدي زيدا أشهدكم أن عبدي حر، فهم منه أنه أراد عبده زيدا.

قلنا: لا نسلم، بدليل حسن الاستفهام والتوكيد ها هنا الذين هما عندكم دليل الاشتراك، فإنه لو أشهد أقواما على ذلك لم يشهدوا حتى يستفسروه: أي عبيدك تريد؟ ويحسن منه أن يقول بعد المقدمة: أشهدكم أن عبدي الذي هو زيد.

ثم سلمنا أن تقديم تلك المقدمة يقتضي أن يكون المراد بالمولى الأولى،

____________

(1) كنز العمال 12: 88، الحديث 34113، مع تقديم وتأخير في مفردات الحديث.

(2) انظر التبيان 3: 187، ومجمع البيان 2: 41 وفيهما: نكحت.

(3) سورة محمد: 11.

(4) انظر التبيان 9: 295، ومجمع البيان 9: 151، وتفسير شبر: 475، والميزان 18:

230.


الصفحة 122
ولكن(1) مؤخرة الحديث وهي قوله صلى الله عليه [ وآله ]: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله " تقتضي أن يكون المراد من المولى الناصر، وذلك أن لفظة المولى لما كانت محتملة لذلك المعنى ولغيره، ثم ذكر عقيبها لفظا صريحا في ذلك المعنى وهي الموالاة التي هي ضد العداوة، يبادر إلى الذهن أنه إنما أراد بالمولى الناصر.

قوله في الوجه الثاني: أن المولى له معان كثيرة لكن لا يمكن حمله ها هنا إلا على الأولى.

قلنا: لا نسلم، ولم لا يجوز حمله على ولاية الدين والنصرة؟

قوله: كون المؤمنين بعضهم أولياء بعض معلوم، فكيف يجوز أن يجمع النبي (صلى الله عليه وآله) الجموع في مثل ذلك ليقرأ على الخلق إيجاب ما تقدم إيجابه من موالاته.

قلنا: في ذكره فائدتان:

إحداهما: أن لفظ العام ممكن للمعاند من أن يقول: إنما أوجب الله تعالى ولاية المؤمنين، فمن أين فلان منهم؟ ولا يمكن أن نقول ذلك إذا عين رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلانا بالولاية، لأن ما نص عليه الرسول (صلى الله عليه وآله) فهو أحق.

الثانية: أنه (صلى الله عليه وآله) ربما أحس بقوم أنهم غير مخلصين في ولاية علي (عليه السلام) فأراد أن يحملهم على الإخلاص في موالاته بموالاة نفسه.

بيانه: أنه (عليه السلام) إنما قال ذلك بعد الفتح، وقد دخل في الإسلام بعد الفتح من كان علي (عليه السلام) قتل أقاربهم، ولا يمتنع أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) أشفق أن يكون قد بقي في قلوب أولئك بقايا نفار، فأراد (صلى الله عليه وآله) إزالته، وإذا كانت هذه الوجوه محتملة

____________

(1) اللفظ هنا في النسختين: وذلك، وأثبتنا الصحيح.


الصفحة 123
لم يلزم من حمل المولى على الناصر التكرار وخلوه عن الفائدة.

ثم إن سلمنا خلوه عن الفائدة لكن لم لا يجوز ذلك؟ أليس عندكم أن إمامة علي (عليه السلام) كانت ثابتة بالنصوص الجلية فإذا جاز بعد سبق العلم بإمامته بالنصوص الجلية جمع الجموع لإثبات إمامته بمثل هذا النص الخفي فلئن يجوز فيما قلناه كان أولى.

سلمناه، قوله في الوجه الثالث: إن لفظة المولى تفيد في جميع محاملها معنى واحدا وهو الأولى، فوجب حملها عليها دفعا للاشتراك.

قلنا: أهل اللغة في هذه اللفظة فريقان: منهم من جعلها مشتركة بين هذه المعاني، ومنهم من جعلها بمعنى القرب والدنو على ما بيناه، فالقول بأنها موضوعة لمعنى واحد وهو الأولى خرق للإجماع.

سلمنا أنه لا يكون مخالفا للإجماع ولكن المعتق يسمى مولى مع أنه ليس أولى بالتصرف فبطل قولكم: أن هذه الأولوية ثابتة في جميع مفهومات هذه اللفظة.

سلمنا أن الأولوية ثابتة في جميع مفهوماتها، لكن معنى القرب والدنو قدر مشترك بينهما، وقد نص أهل اللغة على أنها موضوعة لذلك، فيكون ذلك أولى مما ذكرتموه، وأيضا فمعنى النصرة حاصل في الجميع فلم لا تحملونه عليه؟!

قوله في الوجه الرابع: إن عمر قال " بخ بخ " إلى آخره.

قلنا: لم لا يجوز أن يكون أراد النصرة؟

قوله: النصرة أمر ظاهر.

قلنا: تقدم الكلام فيه.

سلمناه لكن لو كان المراد ما ذكرتموه للزم أن يكون أولى بالتصرف في حال وجود النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا، كما كان النبي (صلى الله عليه وآله) كذلك، ومعلوم، أنكم لا تقولون به.


الصفحة 124
سلمنا أن المولى يفيد الأولى فلم قلتم: إن ذلك يدل على الإمامة؟

قوله في الوجه الأول: إن أهل اللغة لا يستعملون ذلك إلا فيمن يملك التدبير والتصرف.

قلنا: لا نسلم بل قد جاء في القرآن لغير ذلك قال الله تعالى: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا) *(1) فأخبر أن أتباع إبراهيم كانوا أولى به، ومعلوم أنهم ليسوا بأولى بالتصرف فيه، فكذلك أتباع السلطان يقولون: نحن أولى بسلطاننا، والتلامذة: نحن أولى بأستاذنا، وليس المقصود إلا الأولوية في أمر ما، لا في التصرف فقط، لأن صحة الاستفهام عما هو فيه والتوكيد بذكره(2) دليلان على الاشتراك.

قوله في الوجه الثاني: إن قولنا: فلان أولى بي من نفسي، وإن كان لا يقتضي الأولوية في التصرف إلا أنه ها هنا كذلك، لأنه لما كان قوله (عليه السلام):

" ألست أولى بكم منكم بأنفسكم " معناه أولى بالتصرف فيكم، وجب أن يكون قوله: " فعلي مولاه أولى بكم من أنفسكم في التصرف فيكم ".

قلنا هذا أيضا ممنوع بدليل حسن الاستفهام والتوكيد.

[ بداية الإجابة عن الشبهات ]:

لأنا نجيب:

عن الأول: أن العلم بصحته ضروري من التواتر.

قوله: هذه مكابرة إذ ليس العلم له كوجود مكة وغيرها من المتواترات.

____________

(1) آل عمران: 68.

(2) في نسخة " عا ": نذكره، غلطا.


الصفحة 125
قلنا: عندنا أنه كذلك، فأما عندكم فإن زعمتم أنه لم يحصل لكم العلم به أصلا فلم يضرنا ذلك، وغير ممتنع أن يحصل لكم العلم، للعلة التي ذكرناها وهو اعتقادكم لما ينافي موجب الخبر، وإن زعمتم أن العلم به حاصل لكن بينه وبين المتواترات تفاوت، فقد سلمتم أنه متواتر، وأما التفاوت فغير ضار لأن العلوم الضرورية مختلفة بالأشدية والأضعفية.

قوله: إن كثيرا من أكابر نقلة الحديث لم ينقلوها كمسلم والبخاري وغيرهما.

قلنا: كون شخص أو شخصين أهملا حديثا لم يلزم منه سقوط ذلك الحديث وكذبه، فإنه لو نقل كل الرواة كل الأخبار كما وقعت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما وقع بين الناس خلاف في خبر قط، ومعلوم أن الخلاف في الأخبار أكثر من أن يحصى، ثم (الحامل لهم)(1) على الاهمال إما عدم الوصول إلى التزكية، أو لاعتقادهم عدم صحته لشبهة عندهم، أو لعدم اعتقادهم لصحته، أو لتوقفهم في رواته، حتى أن تاركيه لو صرحوا بفساده لم يلزم فساده.

قوله: على أن عليا (عليه السلام) كان يوم الغدير باليمن ولم يكن حاضرا.

قلنا: لا نسلم فإن كل من نقل هذا الحديث نقل حضور علي (عليه السلام) وأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بضبعه(2) والإشارة إليه بهذا الكلام، فالعلم الحاصل بهذا الخبر مستلزم للعلم بوجوده (عليه السلام) في ذلك الوقت. وأيضا فكلام عمر مخاطبا له(3) وشعر حسان

____________

(1) عن هامش نسخة " عا ".

(2) انظر الجزء الأول من موسوعة الغدير في الكتاب والسنة والأدب، للعلامة الشيخ عبد الحسين الأميني النجفي (قدس سره).

(3) انظر حديث التهنئة في الغدير 1: 270 - 283.


الصفحة 126
ابن ثابت في هذا المعنى يشهدان بحضوره في ذلك الوقت(1).

قوله: أما دعواكم تواتر هذا الخبر فمخالفوكم أيضا يدعون تواتر الأخبار الدالة على فضائل الشيخين، إلى آخره.

قلنا: أما ما كان من تلك الأخبار مستلزم صحته إما منهما، أو قادحا فيما علمناه بالضرورة في حق علي (عليه السلام) فنحن نجزم بعدم صحته، لاستحالة أن يتكلم النبي (صلى الله عليه وآله) بكلامين متنافيين وما لم يكن كذلك من الأخبار الدالة على فضيلة لهما من خارج فنحن لا نمنع أن يقول النبي (صلى الله عليه وآله) في حق أحد كلاما يستميل به قلبه، فتتأكد فيه محبة الإيمان ورسوخه، بعد ثبوت صحة ذلك النقل على وجهه.

قوله: تعويلكم على رواية الشيعة إما لأجل كثرتهم أو لأجل إجماعهم، والأول باطل، لأنهم ما بلغوا في الزمن الأول حد التواتر.

قلنا: إن مثل هذا الخبر لا يختص بنقله الشيعة فقط حتى لا تكون كثرتهم تفيد العلم.

سلمنا أن الشيعة هم الناقلون فقط، لكن لم قلتم أنهم لم يبلغوا في الكثرة إلى حد التواتر؟ وظاهر أنهم لم يزالوا بالغين إلى حد التواتر؟

سلمنا لكن(2) العلم التواتري لا يتوقف على الكثرة فإن المخبر الواحد مع انضمام القرائن إليه قد يفيد خبره العلم، فليس من شرط التواتر تحقق الكثرة دائما.

قوله: إجماع الأمة إما أن يكون على كونه من أخبار الآحاد أو أخبار

____________

(1) انظر شعر حسان وترجمته في الغدير 2: 35 - 65.

(2) في نسخة " عا " هنا زيادة: لم قلتم؟ وهي في نسخة " ضا " مكتوبة ولكن مشطوب عليها.


الصفحة 127
التواتر، الأول مسلم والثاني ممنوع فلم قلتم: إن ذلك يدل على القطع؟

قلنا: اتفاق الأمة على نقله واعتقاد صحته دليل جزمهم به.

قوله: إن أكثر الأمة تجعله خبر واحد بمعنى أنهم يعتقدون أن صحته مظنونة لا معلومة إلى آخره.

قلنا: لا نسلم، وذلك أن أكثر الأمة إذا اعتقدوا بأسرهم مخالفهم ومؤالفهم(1) صحته خصوصا، وفي المخالفين لما يتضمنه هذا الخبر من شديد المعاندة في إنكار مقتضاه، فيستحيل أن يكون فيه تسليم له ثم بعد ذلك يتعسف في صرفه عن ظاهره إلى تأويلات نادرة لا تسمن ولا تغني من جوع.

قوله: ولو سلمنا ذلك لكن، لا يمكنكم التمسك بالإجماع، لجواز(2) أن يكون الإمام لم يظهر الحق لأجل الخوف من الظالمين.

قلنا: مرادنا من الإجماع إطباق الخلق بأسرهم على نقله والتواتر به.

سلمناه لكن هذا الاعتراف ليس بشئ لأن الحق إما صحة هذا الخبر أو كذبه، فإن كان الأول فالخلق بأسرهم قد أطبقوا على نقله فالتقية ممن تكون؟

وما مانع الإمام من إظهار الحق؟ وإن كان الحق كذبه فلا شك أن مضمونه على ما قررناه مما ينكره جمهور الخلق فلو كان الإمام يعلم أنه كذب لكان إظهار ذلك منه مما يوافق طباع أكثر الخلق ويحبوه وتميل أنفسهم إليه، لأنهم حينئذ كانوا يستغنون عن التعسف في تأويله وحمله على الوجوه التي لا يخفى فسادها، وكانت التقية أيضا عنه زائلة لمساعفة(3) أكثر الخلق على ذلك.

____________

(1) في نسخة " عا ": مخالفتهم ومؤالفتهم، وهو غلط. وفي نسخة " ضا " هنا زيادة (على).

(2) في نسخة " عا ": يجوز، وهو غلط.

(3) من الإسعاف، بمعنى المساعدة.


الصفحة 128
قوله في الوجه الثاني: وأما المناشدة في الشورى فضعيف لأن الحاجة إلى تصحيح هذه المناشدة كالحاجة إلى تصحيح أصل الحديث بل ذلك أولى إلى آخره.

قلنا: أما المناشدة فمعلومة بالتواتر كما علم أصل الحديث.

قوله: ويتعذر صحتها فلا نسلم إنهاءها إلى جميع الصحابة.

قلنا: لا شك في حضور المعتبرين من الصحابة الذين يدعون الضدية في هذا الأمر وأنهم أولى به، وتقدير الاعتراض أن نقول: يجوز أن يكون احتجاج علي (عليه السلام) في الشورى بهذا الخبر لو وصل إلى كل الصحابة لأنكر واحد منهم، لكنه إذا ثبت أن أجل الصحابة المتنازعين في هذا الأمر كانوا حضورا في وقت الخبر وفي وقت احتجاج علي (عليه السلام) به لم ينقل عن أحد منهم إنكاره، فبطريق الأولى أن لا ينكره أحد من غيرهم ممن لا طمع له في هذا الأمر لو وصله، هذا مع تسليم أن الصحابة بأسرهم لم يكونوا حضورا عند احتجاج علي (عليه السلام) في الشورى، وهو غير مسلم.

قوله: بتقدير تسليم إنهائها إلى كلهم، فلا نسلم أنه لم يوجد فيهم من أنكر ذلك.

قلنا: لا شك أن ذلك من الوقائع الكبار في الإسلام والأمور العظيمة التي يجب توافر الدواعي على نقلها، فعلمنا أنه لو كان هناك إنكار لنقل.

قوله: وبتقدير عدم النكير فلا نسلم أن ذلك يدل على قطعهم بصحته إلى آخره.

قلنا: لو لم تجزموا بصحته عند احتجاجه عليهم به لكان لهم أن ينكروه، خصوصا وهم في محل الحاجة إلى دفعه (عليه السلام) عن هذا الأمر، وقد سبق تقرير ذلك.

قوله: لعلهم سكتوا تقية وخوفا.


الصفحة 129
قلنا: التقية والخوف في حق تلك الأمة من نفر يسير غير جائز، ولا مسموع، ولو صح الخوف من بني هاشم لكان الخوف منهم عند سلبهم لمنصبه على اطلاعهم على أولويته به وطلبه لمثل تلك المناشدة وغيرها، وكذلك ردهم لشهادته ومنعهم لإرث فاطمة (عليها السلام) وغير ذلك مما تواترت به الرواية من أفعالهم أولى وأتم، فهل يجوز أن يسكتوا لمثل هذا الخبر في مناشدته تقية لبني هاشم ولا يجوز تقيتهم في مثل هذه المواضع وأمثالها.

قوله: ثم إن سلمنا أصل الحديث فلا نسلم صحة هذه المقدمة(1) إلى آخره.

قلنا: أما المقدمة فمعلومة لنا بالتواتر، وذلك لأن كل ناقل من الشيعة نقل هذا الخبر فهو ناقل لها، وقد بينا أن نقل اليسير من الناس قد يفيد التواتر فضلا عن كثير الشيعة في كل الأطراف، وإنكار بعض الأمة لهذه المقدمة لا يضرنا فيما علمناه جزما.

قوله: إن أحدا لم ينقل إن عليا (عليه السلام) ذكرها يوم الشورى.

قلنا: من روى احتجاجه بالخبر يوم الشورى فإنه يروي المقدمة أيضا.

سلمناه، لكن عدم نقلهم لمقدمته لا توجب أنهم لم يسمعوها منه، لجواز نقل البعض من الحديث اكتفاء به عن كله، لشهرته، أو لأنهم نسوا ذكره للمقدمة حال الرواية، وإن كانوا قد سمعوها حال الاحتجاج.

سلمناه، لكن عدم ذكره لها يوم الشورى لا يستلزم عدم ذكرها من الرسول (عليه السلام) عند ذكر هذا الخبر، وهو ظاهر.

قوله: سلمنا أصل الحديث لكن لا نسلم دلالته على الإمامة.

____________

(1) مقدمة النبي للنص على الوصي (عليهما السلام).


الصفحة 130
قلنا: قد بيناه، وكذلك احتمال لفظ المولى (لمعنى)(1) الأولى.

قوله: إنه باطل لوجهين: أحدهما: أن " أفعل من كذا " موضوع ليدل على معنى التفضيل، ومفعل موضوع ليدل على الحدثان أو الزمان أو المكان.

قلنا: هب أنه كذلك ولكن وضع مفعل لو منع كونه موضوعا في الأصل لما ذكرت، من إطلاقه على غير هذا المعنى، لكان كما يدل على معنى التفضيل كذا لا يدل على باقي المسمات المشتركة فيه، كالمعتق والمعتق والناصر والحليف وابن العم فلا يكون حينئذ لفظا مشتركا، وقد أجمع أهل اللغة والنحو أنه كذلك فإذن كون مفعل في الأصل موضوعا لهذه المعاني إما من واضع واحد أو أكثر على ما بين في أصول الفقه.

قوله: إن أحدا من أئمة اللغة لم يذكروا أن مفعلا قد يكون بمعنى أفعل التفضيل.

قلنا: قد بينا أن أكثر أهل اللغة ذكروه وأن المفسرين أطبقوا على وروده بمعنى أفعل التفضيل في القرآن، وكذلك أئمة النحويين كالمبرد والفراء وابن الأنباري وغيرهم، من رؤساء العربية والنحو.

قوله: لو كان لفظة المولى بمعنى الأولى لصح أن يقرن بأحدهما ما يقرن بالآخر، إلى آخره.

قلنا: لا نسلم، بل التحقيق أن صحة إقران اللفظ باللفظ من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني، إذ لو لم يكن كذلك لصح أن يبدل اللفظ بمرادفه من الفارسي، وكان يحسن أن يقال عوض قوله: اسقني معه إناء الماء أو اسقني من آب، وإذا كان صحة الاقتران من عوارض الألفاظ لم يلزم في كل ما عرض للفظ

____________

(1) زيادة بمقتضى السياق.


الصفحة 131
أن يحسن عروضه للآخر، وقد تقرر ذلك في أصول الفقه(1) فلا يلزم إذا أن يصح أن يقرن بلفظ المولى ما صح اقترانه للفظ الأولى.

قوله: أما النقل عن أئمة اللغة فلا حجة لوجهين: أحدهما إلى آخره.

قلنا: أما المرجع في اللغة إلى أئمة اللغة والنقل فذلك ظاهر مجمع عليه، فلا يلتفت إلى منعه.

قوله: إن ذلك منهم لتساهل لا تحقيق فإن أحدا من أكابر الأئمة كالخليل وأضرابه لم يذكروه.

قلنا: لا نسلم أنهم لم يذكروه، غاية ما في الباب أنكم لم تجدوا لهم نقلا، لكن عدم وجدانكم لا يدل على عدم وجوده.

سلمناه لكن كون كل واحد من أهل اللغة لم يذكره ونقله الباقون لا يوجب القدح في النقلة، فإن التساهل إذا جاز من الأكثرين جاز من الأقل فإذن الخليل لو ذكره لكان متساهلا وحينئذ لا يبقى وثوق بنقل اللغة.

قوله: إن الذاكرين له لم يذكروه إلا في تفسير هذه الآية(2) وآية أخرى مرسلا غير مسند لم يذكروه في الكتب الأصلية من اللغة، وليس كلما يذكر في التفاسير كان ذلك لغة أصلية، ولذلك فإنهم يفسرون اليمين بالقوة.

قلنا: اشتمال اللغة على الحقيقة والمجاز ظاهر، ومعلوم أن المجاز إنما يصار إليه عند تعذر حمل الكلام على الحقيقة وإلا فالأصل في الكلام الحقيقة.

ثم إن المجاز الأصلي قد يشيع ويكثر استعماله حتى تصير الحقيقة اللغوية بالنسبة إليه مجازا، وإذا كان كذلك فنقول إن لفظة المولى وإن كانت مشتركة إلا أن

____________

(1) انظر مظان البحث في كتب أصول الفقه.

(2) المائدة: 55.


الصفحة 132
أهل اللغة فهموا بحسب القرينة في هذا الخبر أن المراد من المولى هو الأولى، بعد فهمهم أنه من جملة مسمياتهم اللغوية، فدعوى أنه ليس لغة أصلية استلزم أنه منقول، وهو معارض بما أنه خلاف الأصل، فتفسير هذه الآية أو غيرها إذن بحسب اللغة الأصلية.

وأما ذكر أهل اللغة له مرسلا فلا يدل على فساده، فإن الإرسال قد يكون لظهور الرواية، وقد يكون لظهور مطابقة التفسير.

وأما تفسيرهم بغير اللغة الأصلية كاليمين وأمثاله فذاك إنما كان لاستعماله اليمين بمعنى الجارحة على الله تعالى، فلا جرم لما لم تصح الحقيقة للإرادة عدلوا إلى المجاز.

قوله: إن أصل تركيب والى(1) يدل على القرب والدنو إلى آخره.

قلنا: هب أنه كذلك.

قوله: إذا عرفت ذلك فنقول: إن تفسير أبي عبيدة: * (مأواكم النار هي موليكم) * فإنها الأولى بكم ليس حقيقة، إلى آخره.

قلنا: إن أفعل جاءت لإثبات الفضل فقط، فيحتمل أن يكون أبو عبيدة عنى بذلك أن النار لها ولايتهم، لا أنها أفضل من غيرها، وذلك لا ينافي غرضنا.

سلمنا أنه يقتضى أن يكون للكفار حصة في الجنة لكن ذلك حق، وأن الانسان لمبدأ فطرته ثبت استحقاق الجنة له، وبأعماله الردية الطارئة على نفسه(2) المرسلة لها ثبت استحقاق النار له، ولما كانت الشقاوة بحسب الكفر كانت النار لهم

____________

(1) كذا في النسختين، ولعل الأولى: ولي.

(2) هذا أقرب ما تقرأ الكلمة في نسخة " ضا "، وجعلها في " عا ": يقينية، ولا مناسبة لها.


الصفحة 133
أحق ويدل على ذلك قول النبي (صلى الله عليه وآله): " كل مولود يولد على فطرة(1) الإسلام، وإنما أبواه هما يهودانه وينصرانه ".

قوله: وأما بيت لبيد فقد حكي عن الأصمعي فيه قولان: أحدهما: أن المولى اسم لموضع الولي إلى آخره.

قلنا: الأصل في اسم الموضع أن يكون مكسور العين، فدعوى تقليب حكم اللام مدفوع.

قوله: في الوجه الثاني: أنه أراد بالمخافة الكلاب، وبالمولى صاحبها، لو كان كذلك لكان لا يجوز له في خلفها وأمامها إلا النصب، لأن الرفع يقتضي أن يكون صاحب الكلاب، فهو نفس الخلف والإمام فيصح رفعه، وحمله على الأولى حمل هو هو.

قوله: وأما قوله تعالى: * (ولكل جعلنا موالي) *(2) فمعناه وراث يلون(3) ما تركه الوالدان.

قلنا: لو كان المراد هو أن يليه فقط دون أن يكون أولى لكان لمن(4) يلي حمله ونقله من الأجانب - والأقارب الذين ليسوا في درجة الوارث - فيه حصة كما للوارث لعلة، أنهم يلونه، وهو ظاهر الفساد.

قوله: وأما قول الأخطل " فأصبحت مولاها " وقوله: " لم يثأروا فيه

____________

(1) روى الحديث إلى هنا " على الفطرة " الكليني في أصول الكافي 2: 13 عن علي ابن إبراهيم بن هاشم القمي، وليس في تفسيره. وروى ذلك الصدوق في التوحيد:

330، 331 عن إبراهيم بن هاشم القمي.

(2) النساء: 33.

(3) في النسختين: يكون. وأثبتنا الصحيح.

(4) في النسختين: من، وأثبتنا الصحيح.


الصفحة 134
إن(1) كانوا مواليه " وقوله: " موالي حق " فالمراد به الأولياء.

قلنا: المرجع في هذه المفهومات إلى أهل اللغة والنحو، وقد بينا أنهم فسروها بالأولى، على أنه لا معارض بين المفسرين، لأن الأولى فعيل بمعنى فاعل فيكون المعنى والي، ولا شك أن الوالي هو الأولى بالتصرف، وهو الجواب عن قوله (عليه السلام) " مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله "(2) أي أولياء الله وقوله (عليه السلام) " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مواليها "(3) فالرواية الثانية تفسره.

قلنا: فإن المذكورين موالي الله، أي كل واحد منهم ولي الله، أي وال على إقامة مراضيه. وقد عرفت أن الوالي هو الأولى، فهم أولى بالتصرف فيما يرضي الله تعالى.

لا يقال(4) فلزم أن يكون هؤلاء أولى بالتصرف في مراضي الله تعالى من أكابر الصحابة.

لأنا نقول: الأولوية ها هنا بالله لهم بالنسبة إلى من دونهم في ذلك.

فإن قلت: فيلزم أن يكون الحال في الخبر كذلك، فيكون الأولوية فيه ثابتة لعلي (عليه السلام) بالنسبة إلى من هو دونه، وذلك مما لا نأباه.

قلت: الفرق ظاهر، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) لما كان أولى من جميع الخلق بأنفسهم وجب أن يكون علي (عليه السلام) كذلك، بخلاف خبر المذكورين، وكذلك الجواب عن

____________

(1) في نسخة " عا ": و. وهو غلط.

(2) كنز العمال 12: 88، ح 34113.

(3) انظر التبيان 3: 187، ومجمع البيان 2: 41.

(4) في " ضا ": لا ننال. وفي " عا ": من الأنقال. وأثبتنا الصحيح.


الصفحة 135
الخبر في ولي المرأة وأما قوله تعالى: * (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) *(1) فحمله المولى ها هنا على الأولى بالتصرف حسن، على أنا لا ننكر أن يكون ها هنا بمعنى الناصر، فإنا ما ادعينا أن لفظة المولى في كل موضوع تفيد الأولى، بل في هذا الخبر.

قوله: سلمناه لكن لم قلتم: إنه يتعين حمله في حسن الاستفهام والتوكيد؟

قلنا: أما الاستفهام فلا نسلم حسنه في هذه المواضع، بل الذهن السليم يشهد بقبحه، وأما حسن التوكيد(2) فلا يدل على الاشتراك، بأنك إذا قلت:

جاءني زيد، يتبادر إلى فهم كل عقال أن هذا الانسان المخصوص وصل إليك، والمبادرة إلى الذهن قرينة الحقيقة، فإن كان يحسن أن يؤكده فيقول: جاءني زيد بنفسه.

وأما المنع من الشهادة عليه إلا بعد الاستفسار فلا نسلم ذلك مطلقا.

وبيانه: أن الفهم ها هنا قد يختلف بحسب ذلك السامع وبلادته ونقصه وعدم تفطنه، فجائز أن يسبق إلى ذهن واحد المعنى المراد قبل الآخر، وأقوى منه، فيجوز له على ذلك التقدير أن يشهد عليه، وجائز لمن لم يكن كذلك أن يستفسر، بل قد يجب الاستفسار لاستثبات الحقوق الشرعية، وأما التأكيد، فقد علمت أنه لا يلزم منه الاشتراك.

قوله: سلمناه لكن مؤخرة الحديث يقتضي أن يكون المراد من الحديث الناصر، إلى آخره.

____________

(1) سورة محمد (صلى الله عليه وآله): 11.

(2) هنا في النسختين كلمة (قلنا)، زائدة.