قلنا: لا نسلم مبادرة الذهن إلى ما ذكرتم، بل نقول: دلالتها على ما أوردناه أولى، بيانه: أن قوله " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله " غير لائق إلا بمن كان له أولياء وأنصار وخاذلون أعداء ويحتاج إلى النصرة، ويتضرر بالخذلان، وذلك لا يليق إلا بالسلطان.
وأما قوله لا يسلم حمله على الأولى ولم لا يجوز حمله على ولاية الدين والنصرة؟!
قلنا - لما تقدم قوله - في ذكره فائدتان: إحداهما: أن لفظ العام، إلى آخره.
قلنا: أما أن اللفظ عام، فظاهر، وأما تمكين المعاند من أن يقول ما قلتم حتى يحتاج إلى تعيين الرسول صلى الله عليه [ وآله ].
قلنا: بطلان هذا الكلام ظاهر، وذلك أن أحدا من الصحابة في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) لا يشك [ في ] أن عليا سيدا من سادات المؤمنين، وقد عرفوا مكانه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجهاده في سبيل الله، وطاعته لله، بل كان منهم من يعتقد أنه أفضل الخلق بعد الرسول (صلى الله عليه وآله). والذين جحدوا فضائله ونافسوا وكانوا يدعون المثلية في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم ينقصوه عن مراتب سادات المؤمنين حتى يحتاج الرسول إلى ذلك الجمع العظيم في ذلك الوقت الشديد الحر الذي [ كان ] يحتاج الشخص منهم إلى أن يضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر، ويخطبهم ليقرر عليهم مثل هذا الأمر الظاهر.
وهذا هو الجواب عن الفائدة الثالثة.
قوله: سلمنا خلوه عن الفائدة فلم لا يجوز ذلك أليس عندكم أن إمامة علي (عليه السلام) ثابتة بالنص الجلي، إلى آخره.
قلنا: الفائدة ها هنا حاصلة، وذلك لأن النصوص الجلية لم تكن بمحضر
وأما أنه لم يشهره في الوقت الأول وينهيه إلى جميع الصحابة؟
فلجواز أن يكون (عليه السلام) عالما بامتداد عمره فلا يجب عليه إشاعته وجوبا مضيقا في ذلك الوقت، لأنه حكيم لا يعترض عليه بتخصيص بعض الأوقات بإيقاع فعل أو قول دون وقت آخر، لجواز أن يفعل ذلك لمصلحة لا يطلع عليها.
قوله في الوجه الثالث: إن أهل اللغة فريقان، إلى آخره.
قلنا: لا نسلم حصرهم في الفريقين المذكورين، فإن منهم من جعلها حقيقة في القدر المشترك أيضا. سلمنا أن ذلك لم يقل به أحد من أهل اللغة السابقين، لكن لا نسلم أن أخذ(1) كل فرقة بقول يستلزم تحريم إحداث قول ثالث.
قوله: إن ذلك إجماع منهم فيكون القائل(2) بغير أحد القولين خارقا للاجماع.
قلنا: لا نسلم أن الإجماع حاصل، سلمناه، لكن لا نسلم أن مثل هذا إجماع(3) فإن الإجماع عبارة عن: اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد (صلى الله عليه وآله) على أمر من الأمور اتفاقا مقصودا بالقصد الأول، بحيث يفهم من كل منهم أن الحق ما اتفقوا عليه دون غيره. وها هنا ليس كذلك، فإن اتفاق أهل اللغة على أن المراد بهذه اللفظة أمر واحد أو أمران لا يحتمل غيرهما، غير حاصل.
____________
(1) تقرأ الكلمة في " ضا ": اقد. ولذلك كتبت في " عا ": أقل! وأثبتنا الصحيح.
(2) في " عا ": القابل، خطأ.
(3) في " عا ": الإجماع، غلطا.
قوله في المعارضة بالمعتق: أنه يسمى مولى وليس أولى(1) بالتصرف.
قلنا: بل هو أولى بالتصرف فيما هو أهل له، وهو خدمة معتقه والأمور التي تلزمه مراعاتها.
قوله: معنى القرب قدر مشترك بينهما بنص أهل اللغة، فحملها عليه أولى.
قلنا: حملها على ما ذكرناه أكثر فائدة لأن فيه معنى القرب وزيادة فكان أولى. وهو الجواب عن قوله: إن معنى النصرة أيضا حاصل في الجميع فلم لا تحملوها عليه؟
قوله في قول عمر: لم لا يجوز أن يكون أراد النصرة؟
قلنا: الضرورة تقتضي بأن كلام عمر مستلزم للغبطة، والنصرة لا شك أنها عامة لكل المؤمنين، ولا يحصل بتنصيصها في حق علي (عليه السلام) غبطة. وأيضا:
كلامه يدل بظاهره على حصول مرتبة لعلي ليست لغيره، والنصرة عامة لكل المؤمنين، فلا يحصل لعلي (عليه السلام) بإظهارها في حقه مرتبة له.
قوله: لو كان المراد ما ذكرتموه لزم أن يكون أولى بالتصرف(2) في حياة النبي صلى الله عليه [ وآله ].
قلنا: ليس في اللفظ إلا إثبات الولاية له (عليه السلام) كما ثبت للنبي (صلى الله عليه وآله)، أما أن
____________
(1) من نسخة " ضا ".
(2) من نسخة " ضا "، وفي " عا ": بالنصرة. غلطا.
قوله: سلمنا ذلك، لكن لم قلتم: إنها تدل على الإمامة؟!
قلنا: لما بيناه.
قوله: إنه جاء في القرآن لغير ذلك، كقوله تعالى * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه) *(1) قلنا: هذا مطابق لغرضنا، لأن الذين اتبعوا إبراهيم هم أولى بالتصرف في خدمته وأحواله من الكفار الذين لم يتبعوه، وكذلك الرعية للسلطان والتلامذة للأستاذ، وهذا هو المتبادر إلى الأفهام والتبادر إلى الذهن دليل الحقيقة، ولا يحتمل الاستفهام، وأما التوكيد فقد عرفت أنه لا يوجب كون اللفظ مشتركا.
قوله على الوجه الثاني: إن ذلك أيضا ممنوع، بدليل حسن الاستفهام والتوكيد.
قلنا: أما حسن الاستفهام فممنوع، وأما التأكيد فقد عرفت أنه قد يؤكد اللفظ ويراد به حقيقة ظاهرة وبالله التوفيق.
البرهان الثالث: قول النبي (صلى الله عليه وآله): " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي "(2) وجه الاستدلال به أن هذا الحديث يقتضي أن يثبت لعلي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله) مثل جميع المنازل التي كانت ثابتة لهارون من
____________
(1) آل عمران: 68.
(2) انظر من مصادر الحديث في تتمة المراجعات: سبيل النجاة: 117 - 123.
أما الأول فبيانه من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الحكيم إذا تكلم بكلام متناول بظاهره أشياء ثم استثنى بعضها وهو يريد الإفهام فإنه يكون مريدا لما عدا المستثنى ويكون الاستثناء قرينة دالة على إرادته لما عدا المستثنى، لما يتناوله اللفظ، كقول القائل: من دخل داري أكرمته إلا زيدا، عرفنا أنه أراد إكرام من عداه، لأنه أراد الإفهام، فلو لم يرد الإفهام ولم يرد إكرام عمرو أيضا لاستثناه كما استثنى زيد.
الثاني: أن الحديث لو أفاد منزلة واحدة فقط لما جاز أن يستثنى منزلة النبوة، لأن الشئ الواحد لا يمكن أن يستثنى منه.
الثالث: أن الأمة في هذا الحديث على ثلاثة أقوال:
أحدها: قول من قصره على منزلة واحدة، وهو السبب الذي يدعونه من خروج الكلام عليه، وهو أنه (عليه السلام) لما لم يستصحبه في غزوة تبوك أرجف(1) المنافقون بأنه إنما تركه بغضا له، فشكا علي (عليه السلام) ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فذكر النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك إزالة لذلك الوهم.
والقول الثاني: أنه يتناول كل المنازل إلا ما خرج بالدليل.
والثالث: التوقف إلى ظهور القرينة المعينة للمراد.
فالأول: باطل لثلاثة أوجه:
الأول: أن المرجف يبغض النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) إن لم يكن عاقلا فلا معنى لتأذيه منه، وإن كان عاقلا فالضرورة قاضية، بأنه لا يجوز أن يتوهم ذلك مع
____________
(1) في النسختين: رجف، وأثبت الصحيح.
الثاني: أن أكثر الروايات أن هذا الخبر ورد في غير غزوة تبوك.
الثالث: أن ما ذكرتموه من الرواية آحادية فلا تفيد العلم، وليس في لفظ الحديث ما يقتضي الاقتصار على هذه الواقعة، فإذا يمتنع العلم بصحة هذا.
والثالث أيضا باطل، لما ثبت في أصول الفقه من القول بصيغ العموم، وإذا كان كذلك وجبت صحة القسم الثاني وإلا لكان الحق خارجا عن الأمة وإنه غير جائز.
وأما بيان الثاني وهو: أن من جملة منازل هارون من موسى استحقاقه للقيام مقامه بعد وفاته، فلوجهين:
الأول: أنه كان خليفة لموسى حال حياته لقوله تعالى حكاية عنه " اخلفني في قومي "(1) فوجب بقاء أهليته للخلافة بعد وفاته.
التقرير الثاني: أنا لا ندعي خلافة هارون لموسى، بل نقول إن هارون كان شريك موسى (عليهما السلام) في الرسالة، ولا شك أنه لو بقي بعد وفاته لقام مقامه في كونه مفروض الطاعة، وذلك القدر كاف في المقصود، لأنه لما دل الحديث على أن حال علي (عليه السلام) كحال هارون في جميع المنازل، كان من منازل هارون استحقاقه للقيام مقامه من وجوب العصمة، وجب أن يكون علي (عليه السلام) كذلك.
لا يقال: الحديث لا يتناول إلا المنازل الثابتة دون المقدرة، وإمامة هارون بعد موسى (عليه السلام) ما كانت حاصلة بل كانت مقدرة، فلا يتناولها الحديث.
لأنا نقول: استحقاق هارون للقيام مقام موسى (عليه السلام) بعد وفاته منزلة ثابتة في الحال لأن استحقاق الشئ قد يكون حاصلا وإن لم يكن المستحق حاصلا في
____________
(1) الأعراف: 142.
لا يقال: لا نسلم دلالة الحديث على العموم، بيانه، هو: أن حسن الاستفهام والتوكيد دليل الاشتراك، ثم أنه (عليه السلام) لم يقل أنت مني بمنزلة هارون من موسى حتى الخلافة إن عشت بعدي. وعند الإمامية إذا قال الانسان ضربت كل من في الدار وكان فيه أربعة فإنه يحسن من السائل أن يستفهمه، ومن القائل أن يؤكد، فبطريق الأولى أن حسن الاستفهام والتوكيد في لفظ الحديث لا يقتضي العموم.
قوله: الحكيم إذا تكلم بكلام ظاهره التناول للأشياء، ثم استثنى بعضها وهو يريد الافهام، فإنه يكون مريدا لما عدا المستثنى.
قلنا: هذا لا يستقيم على مذهبكم، لأن حسن الاستفهام والتوكيد دليل الاشتراك عندكم، ومعلوم أنه يحسن الاستفهام بعد الاستثناء فيقال: أكرم كل من عدا زيدا. وكذلك التوكيد من المتكلم فيقال: أما جميع من عدا زيدا فإني أكرمهم.
قوله: الحديث لو أفاد منزلة واحدة لما جاز الاستثناء لامتناع الاستثناء من الشئ الواحد.
قلنا: من مذهبكم أن الاستثناء يخرج من اللفظ ما لولاه لصح دخوله فيه، لا ما لولاه(1) لوجب دخوله فيه، وإذا كان كذلك فقوله (عليه السلام): " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " يصلح لجميع المنازل ويصلح لبعضها عندكم، فصح أن يستثني منه النبوة ولا نقول: إنه يفيد منزلة واحدة فقط، بل نتوقف فيه، ونحمل الحديث على السبب، لأنه المتيقن، إذ لا يجوز خروجه عن اللفظ، وما عداه فيلزم أن يتوقفوا فيه.
____________
(1) في " عا ": لو لأنه يوجب. خطأ.
وقوله: إنه كان خليفة في حال حياته، فوجب بقاء تلك الخلافة بعد موته.
قلنا: لا نسلم كونه خليفة له حال حياته.
أما قوله تعالى: * (اخلفني في قومي) *.
قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك إنما كان(1) على طريق الاستظهار، كما قال * (وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) * ولأن هارون كان شريك موسى في النبوة، فلو لم يستخلفه موسى لكان هو لا محالة يقوم بأمر الأمة، وهذا لا يكون استخلافا على التحقيق لأن قيامه بذلك إنما كان لكونه نبيا.
ثم إن سلمنا أن موسى (عليه السلام) استخلف هارون في قومه، لكن في كل الأزمنة أو في بعضها؟ الأول ممنوع، والثاني مسلم، بيانه: أن قوله: * (اخلفني في...) *(2) أمر، وهو لا يفيد التكرار بالاتفاق، وأيضا القرينة دالة على أن ذلك الاستخلاف ما كان عاما لكل الأزمنة، لأن العادة جارية بأن من خرج من الرؤساء واستخلف على قومه خليفة أن يكون ذلك الاستخلاف معلقا بتلك السفرة فقط، وإذا ثبت أن ذلك الاستخلاف لم يكن حاصلا في كل الأزمنة لم يلزم من ثبوته في بعض الأزمنة ثبوته في كلها. قوله: لو عاش هارون بعد موسى (عليه السلام) لقام مقامه في كونه مفترض الطاعة.
قلنا: تجب على الناس طاعته فيما يؤديه عن الله تعالى؟ أو فيما يؤديه عن
____________
(1) في النسختين: يكون، وأثبتنا الراجح.
(2) الأعراف: 142، وبعده في " عا ": في أمر فهو. غلطا.
[ الجواب عن الشبهات ]:
لأنا نجيب عن الأول أن لفظ المنزلة يفيد العموم، وأما حسن الاستفهام فممنوع، وأما التوكيد فبتقدير الاستئناف. على أن التأكيد إنما هو تقوية المعنى الأول الذي يفيده اللفظ الأول بلفظ ثان، فلو لم يكن اللفظ الأول مفيدا لعموم لما حسن تأكيده.
قوله: إنه (صلى الله عليه وآله) لم يقل أنت مني بمنزلة هارون من موسى حتى الخلافة إن عشت بعدي.
قلت: لما كانت لفظة " منزلة " مفيدة لعموم كل واحدة من المنازل، ومن جملة المنازل كونه خليفة له لو عاش بعده، لم يكن به حاجة إلى إفراد هذه المنزلة بالذكر.
قوله في الثاني: هذا لا يستقيم على مذهبكم، لأن حسن الاستفهام
____________
(1) كذا في النسختين، والعبارة غير مستقيمة المعنى.
قلنا: مر في الجواب عنه(1).
قوله في الثالث: من مذهبكم أن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لصح دخوله تحت اللفظ.
قلنا: لا نسلم، بل هو عندنا يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله، وصيغ العموم عندنا صحيحة. سلمناه لكن قرينة توجب مرادية الباقي لا يستثني ما يريد إخراجه.
قوله: أصحاب الرواية الصحيحة كانت في غزوة تبوك.
قلنا: المعتبرون من أصحاب الرواية الصحيحة عندكم في هذا النقل غير بيني العدالة عندنا، فلا ثقة بقولكم.
قوله: لا نسلم أن من جملة منازل هارون من موسى كونه قائما مقامه بعد موته.
قلنا: تقدم جوابه.
قوله: لا نسلم كونه خليفة له حال حياته.
قلنا: بل هو كذلك للآية.
قوله: لم لا يجوز أن يكون ذلك إنما كان على سبيل الاستظهار.
قلنا: حمل لفظ الخلافة على ما أردناه حقيقة، فصرفه إلى معنى آخر خلاف الظاهر، وإنه محتاج إلى الدليل.
قوله: ولأن هارون كان شريك موسى في النبوة، فلو لم يستخلفه موسى
____________
(1) كذا في النسختين، والعبارة غير وافية.
قلنا: حقيقة الاستخلاف هي قيام شخص مقام الآخر في تنفيذ مراسمه على سبيل النيابة عنه، وها هنا كذلك، لأن هارون لو عاش بعد موسى (عليهما السلام) لكان متصرفا في إقامة حدود شريعته، منفذا لسنته التي خلفها في قومه، فقيامه بأمر الأمة حينئذ ليس لكونه نبيا فقط.
قوله: لو سلمنا أن موسى (عليه السلام) استخلف هارون في قومه لكن في كل الأزمنة أو بعضها؟ الأول ممنوع، لأنه أمر وهو لا يفيد التكرار، والثاني مسلم، إلى آخره.
قلنا: مرادنا إثبات أهلية هارون للقيام مقام موسى بعده واستحقاقه له، ولا شك أن تلك الأهلية ثابتة، بدليل الاستخلاف، والعلم حاصل ببقائها على تقدير بقائه بعده، لمكان العصمة.
قوله: يجب على الناس طاعته فيما يؤديه عن الله تعالى؟ أو فيما يؤديه عن موسى؟ أو في نصرته في إقامة الحدود؟
قلنا: بل في الكل، أما ثبوته في حق علي (عليه السلام) فإنما كان من جهة كونه مؤديا عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ومتصرفا في إقامة الحدود، لاستحالة كونه نبيا.
قوله: الثاني والثالث ممنوعان، لأن من الجائز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) هو المؤدي عن الله تعالى، ويكون المتولي لتنفيذ الأحكام غيره.
قلنا: الجواز ظاهر، لكن لا يلزم من عدم توليته لإقامة الحدود بنفسه خروجه عن كونه متصرفا، فإن التصرف في إقامة الحدود مثلا يصدق أن يأمر غلامه بذلك، فيصدق حينئذ أن هارون لو عاش بعد موسى لوجبت طاعته
____________
(1) في " عا ": فكان. خطأ.
قوله: سلمنا أنه لو عاش بعد موسى لكان منفذ الأحكام، لكن لا شك في أنه ما باشر تلك الأحكام، إلى آخره.
قلنا: إن هارون إنما لم يباشر تلك الأحكام لموته قبل موسى، وأما علي (عليه السلام) فإنه لم يمت قبل الرسول (صلى الله عليه وآله)، فظهر الفرق، وبالله التوفيق.
النوع الثالث: الاستدلال بالبراهين العقلية، وهي أربعة:
البرهان الأول: علي (عليه السلام) أفضل الصحابة، والأفضل يجب أن يكون هو الإمام، فإذن يجب أن يكون علي هو الإمام.
أما المقام الأول، فبيانه من اثنين وعشرين وجها.
الأول: قوله تعالى: * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبنائكم، ونسائنا ونسائكم، وأنفسنا وأنفسكم) *(1) وجه الاستدلال به أنه (عليه السلام) دعا عليا إلى ذلك المقام، وذلك يدل على غاية فضله.
أما الأول فلوجهين: أحدهما أنه (عليه السلام)(2) قصد بالمباهلة بيان دينه الذي جاء به، وذلك يقتضي أن يخص بالمباهلة من يكون هو في غاية المحبة له، وإلا لكان للمنافقين أن يقولوا: لو كان على بصيرة من أمره لدعا(3) إلى المباهلة نزول العذاب على من يحبه ويخاف عليه، دون من ليس كذلك.
ثم إن شفقة النبي (صلى الله عليه وآله) على الذين أحضرهم في ذلك الموضوع إما لشدة قربهم، وهو باطل، وإلا لأحضر العباس وعقيلا كما أحضر عليا (عليه السلام)، أو لكمال فضلهم فيلزم أن يكون علي أفضل الخلق.
الثاني: أنه لما كانت نفس علي (عليه السلام) نفسا له (صلى الله عليه وآله) وجب أن يثبت لعلي (عليه السلام) جميع ما يثبت له، لأن مقتضى الوحدة ذلك، ترك العمل به فيما عرف بضرورة
____________
(1) آل عمران: 61.
(2) هنا في النسختين زيادة: إنه إن.
(3) هنا في النسختين زيادة الهاء: لدعاه.
الثاني: قوله تعالى: * (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو موليه وجبرائيل وصالح المؤمنين) *(2) جاء في التفسير أن الآية نزلت في علي (عليه السلام)(3).
الثالث: قوله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *(4).
ولا شك في دخول علي (عليه السلام)، وخروج أبي بكر.
الرابع: خبر الطير: وهو ما روي: أنه (صلى الله عليه وآله) أهدي إليه طائر مشوي، فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، يأكل معي من هذا الطائر.
وفي رواية أخرى: " اللهم أدخل إلي أحب أهل الأرض إليك " فجاء علي (عليه السلام) وأكل معه من ذلك الطير(5) والاستدلال به: إن أحب الخلق إلى الله ليس إلا أكثرهم ثوابا، لأن المحبة منه تعالى لعبده ليس إلا إرادة الثواب. وأما أن أكثر الناس ثوابا أفضل فهو ظاهر.
الخامس: حديث المؤاخاة، فإنه (عليه السلام) لما آخى بين أصحابه اتخذه أخا
____________
(1) أي بنظر العقل، في مقابل ضرورة العقل.
(2) التحريم: 4.
(3) انظر تلخيص الشافي 3: 9، وبهامشه بعض مصادر الخبر، والتبيان 10: 48، ومجمع البيان 10: 474، وتفسير شبر: 533، والميزان 19: 332 و 340 و 341، وما نزل في القرآن في أهل البيت (عليهم السلام) للجبري: 86، طبعة قم الأولى، وينابيع المودة 1: 93، طبعة استانبول.
(4) الشورى: 23.
(5) انظر تلخيص الشافي 3: 11، وبهامشه بعض مصادر الخبر، والفصول المائة 2: 327 - 350.
السادس: خبر الراية، وهو ما روي: أنه (صلى الله عليه وآله) بعث أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزما، ثم بعث عمر فرجع منهزما، فبلغ ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي مبلغ، فبات ليلته مهموما، فلما أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية فقال:
" لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار " فتعرض لها المهاجرون والأنصار، فقال (صلى الله عليه وآله) أين علي؟ فقالوا: إنه أرمد العين فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فتفل في عينه، ثم دفع إليه الراية(2).
فهذا الحديث وكيفية ما جرى يستلزم سلب الأوصاف الحميدة التي تثبت لعلي (عليه السلام) عن غيره، خصوصا الذين غضب عليهم، وإلا لما كان في تخصيصه بهذه الأوصاف فائدة، وليس ذلك من دليل الخطاب، بل استدلال بقرائن كيفية ما جرت الحكاية عليه.
السابع: قوله (صلى الله عليه وآله): " من كنت مولاه فعلي مولاه "(3) وقد تقدم بيانه.
الثامن: قوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى "(4) وهذا الخبر وإن لم يدل على الإمامة فلا أقل من دلالته على أنه (عليه السلام) أفضل من الشيخين.
التاسع: قوله (صلى الله عليه وآله) في ذي الثدية: " يقتله خير هذه الأمة "(5) وقاتله كان علي (عليه السلام).
____________
(1) أنظر مصادر خبر المؤاخاة في تتمة المراجعات، سبيل النجاة: 123 - 127.
(2) أنظر مصادر خبر الراية في كتاب (علي في الكتاب والسنة) 2: 323 - 326، طبعة بيروت، وتلخيص الشافي 1: 236 و 2: 39 و 3: 13.
(3) أنظر البحث عن حديث الغدير وطرقه وتفاصيله في الفصول المائة 2: 407 - 487.
(4) أنظر البحث عن حديث المنزلة وطرقه في الفصول المائة 2: 357 - 397.
(5) أنظر تلخيص الشافي 2: 265 وبعض مصادره بهامشه، والذخيرة: 492 و 493.
الحادي عشر: ما روي عن عائشة أنها قالت: كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل علي (عليه السلام) فقال: " هذا سيد العرب " قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ألست أنت سيد العرب؟ فقال: " أنا سيد العالمين، وهذا سيد العرب "(2).
الثاني عشر: ما روي عن أنس أنه (عليه السلام) قال: " إن أخي ووزيري، وخير من أتركه بعدي، يقضي ديني، وينجز موعدي: علي بن أبي طالب "(3).
الثالث عشر: عن أبي رافع قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام):
" أما ترضين أن قد زوجتك خير أمتي "(4).
الرابع عشر: عن سلمان (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " خير من أترك بعدي علي بن أبي طالب "(5).
الخامس عشر: عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " علي خير
____________
(1) أنظر الذرية الطاهرة: 93، وتلخيص الشافي 3: 16 وبهامشه بعض مصادره، والذخيرة: 493 وبهامشه بعض مصادره، تتمة المراجعات، سبيل النجاة: 156 و 224 - 227.
(2) أنظر تلخيص الشافي 3: 16 وبهامشه بعض مصادره، والذخيرة: 493.
(3) أنظر تلخيص الشافي 3: 17 وبهامشه بعض المصادر، والذخيرة: 493 وبهامشه بعض المصادر.
(4) أنظر تلخيص الشافي 3: 16 وبهامشه بعض المصادر، والذخيرة: 493، والغدير 3: 95 و 7: 182.
(5) أنظر تلخيص الشافي 3: 17 وبهامشه بعض المصادر، والذخيرة: 493.
السادس عشر: من الوجوه العقلية: علي (عليه السلام) أعلم الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأعلم أفضل، بيان المقدمة الأولى بالإجمال والتفصيل:
أما الاجمال فهو أنه لا نزاع أنه (عليه السلام) كان في أصل الخلقة في غاية الذكاء والاستعداد للعلوم، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) في غاية الحرص في تربيته وإرشاده إلى اكتساب الفضائل، ثم إن عليا (عليه السلام) نشأ من أول صغره في حجر النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي كبره صار ختنا له، وكان يدخل عليه في كل يوم، ومعلوم أن مثل هذا التلميذ إذا كان بهذه الأوصاف وكان أستاذه بالأوصاف المذكورة، ثم اتفق لهذا التلميذ أن اتصل بخدمة مثل هذا الأستاذ في زمان الصغر وفي كل الأوقات، فإنه يبلغ المبلغ التام من العلم.
أما أبو بكر وأمثاله فإنهم اتصلوا بخدمة الرسول (صلى الله عليه وآله) في زمان الكبر، ثم إنهم ما كانوا يصلون إليه في يوم وليلة إلا زمانا يسيرا، وقيل: " العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والعلم في الكبر كالنقش في المدر ". فثبت أنه (عليه السلام) كان أعلم من أبي بكر وغيره.
وأما التفصيل فمن وجوه:
أحدها: قوله (صلى الله عليه وآله): " أقضاكم علي "(2) والقضاء يحتاج إلى جميع أنواع العلوم فلما رجح على الكل في القضاء وجب رجحانه عليهم في كل العلوم، وأما سائر الصحابة فقد رجح بعضهم على بعض في علم خاص كقوله (صلى الله عليه وآله):
" أفرضكم زيد بن ثابت " و " أقرأكم أبي ".
____________
(1) أنظر تلخيص الشافي 3: 17 وبهامشه بعض المصادر، والذخيرة: 493 وفيه: فمن أبى.
(2) أنظر تلخيص الشافي 2: 273 و 3: 21، والغدير 3: 96 و 6: 69، و 7: 183.
الثالث: روي: أن عمر أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فنبهه علي (عليه السلام) بقوله: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) *(4) مع قوله: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) *(5) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. فقال عمر سود الله وجهي، لولا علي لهلك عمر(6).
الرابع: أن امرأة أقرت بالزنا وهي حامل فأمر عمر برجمها، فقال علي (عليه السلام): إن كان لك سلطان عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟! دعها حتى تضع ولدها ثم افعل بها ما شئت. فترك عمر رجمها وقال: لولا علي لهلك عمر(7).
الخامس: قال (عليه السلام): " لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم،
____________
(1) الحاقة: 12، وانظر التبيان 10: 98، ومجمع البيان 10: 519، وتفسير شبر: 530، والميزان 20: 395 و 396.
(2) في النسختين هنا هذه الآية. وهي زائدة.
(3) أنظر تفاسير التبيان ومجمع البيان والميزان كما سبق، والغدير 3: 394 و 4: 65.
(4) الأحقاف: 15.
(5) البقرة: 233.
(6) الغدير 6: 93 و 94.
(7) الغدير 6: 110 و 111.