الصحابة عند "أهل السنّة والجماعة"
أمّا "أهل السنّة والجماعة" فقد بالغوا في تنزيه الصحابة، والقول بعدالتهم جميعاً بدون استثناء، وخرجوا بذلك على حدود العقل والنقل عندما أنكروا على من ينتقد أحداً منهم، أو يقول بعدم عدالته فضلا عن تفسيقهم، وإليك طرفاً من أقوالهم لتعرف بُعدهم عن مفاهيم القرآن، وما ثبت في السنّة النبويّة الصحيحة، وما أثبته العقل والوجدان:
هذا الإمام النووي يقول في شرح صحيح مسلم: "إنّ الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كلهم هم صفوة الناس وسادات الأُمّة، وأفضل ممّن بعدهم، وكلّهم عدول قدوة لا نخالة فيهم، وإنّما جاء التخليط ممّن بعدهم، وفيمن بعدهم كانت النخالة"(1).
وهذا يحيى بن معين يقول: "كلّ من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دجّال لا يكتَب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"(2).
وهذا الذهبي يقول: "من الكبائر سبُّ أحد من الصحابة، فمن طعن فيهم أو سبّهم، فقد خرج من الدين ومرق من ملّة المسلمين"(3).
____________
1- شرح النووي على مسلم 12: 216.
2- تهذيب التهذيب 1: 447، تاريخ بغداد 7: 145.
3- الكبائر للذهبي: 236 ـ 237 (الكبيرة السبعون في سب الصحابة).
ويقول الإمام أحمد بن حنبل: "خير الأُمّة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعليّ بعد عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديّون، ثمّ أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هؤلاء الأربعة خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قُبل منه، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يموت أو يُراجع"(2).
وقال الشيخ علاء الدين الطرابلسي الحنفي: "من شتم أحداً من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر أو عمر أو عثمان أو علياً أو معاوية أو عمرو بن العاص، فإن قال: كانوا على ضلال وكفر قُتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكّل نكالا شديداً(3).
وينقل الدكتور حامد حفني داود أقوال "أهل السنّة والجماعة" باختصار، فيقول: "يرى أهل السنّة أنّ الصحابة كلّهم عدول، وأنّهم جميعاً مشتركون في العدالة وإن اختلفوا في درجاتها، وأنّ من كفَّر صحابياً فهو كافر، ومن
____________
1- الصارم المسلول: 570.
2- راجع الغدير 10: 268.
3- معين الحكّام فيما يتردّد بين الخصمين من الأحكام: 228، عنه الغدير 10: 298.
ويرى جهابذة أهل السنّة أيضاً أنّه يجوز الخوض في ما جرى بين علي (رضي الله عنه) ومعاوية من أحداث التاريخ.
وأنّ من الصحابة من اجتهد وأصاب وهو علي ومن نحا نحوه، وأنّ منهم من اجتهد وأخطأ مثل معاوية وعائشة (رضي الله عنها) ومن نحا نحوهما، وأنّه ينبغي ـ في نظر أهل السنّة ـ الوقوف والإمساك عند هذا الحكم دون التعرّض لذكر المثالب.
ونهوا عن سب معاوية باعتباره صحابياً، وشدّدوا النكير على من سبَّ عائشة باعتبارها أُمّ المؤمنين الثانية بعد خديجة، وباعتبارها حبّ رسول الله.
وما زاد على ذلك فينبغي ترك الخوض فيه، وإرجاء أمره إلى الله سبحانه، وفي ذلك يقول الحسن البصري وسعيد بن المسيب: "تلك أُمور طهَّر الله منها أيدينا وسيوفنا فلنطهّر منها ألسنتنا".
هذه خلاصة آراء أهل السنّة في عدالة الصحابة، وفي ما ينبغي أن نقف منهم"(1). انتهى كلامه.
وإذا أراد الباحث أن يتوسّع في معرفة الصحابة، ومَن المقصودون بهذا المصطلح على رأي "أهل السنّة والجماعة"، فسيدرك بأنّهم يعطون هذا الوسام الشرفي لكلّ من رأى النبيّ!
____________
1- الصحابة في نظر الشيعة الإمامية لأسد حيدر، تقديم حامد حفني: 8 ـ 9.
ويقول أحمد بن حنبل: "أفضل الناس بعد صحابة الرسول من البدريين كلّ من صحبه سنة أو شهراً أو يوماً، أو رآه، وله من الصحبة على قدر ما صحبه"(2).
وقال ابن حجر في كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة": "كلّ من روى عن النبيّ حديثاً أو كلمة، أو رآه وهو مؤمن به فهو من الصحابة، ومن لقي النبيّ مؤمناً به ومات على الإسلام، طالت مجالسته معه أو قصرت، روى عنه أو لم يروِ، غزا أو لم يغزُ، من رآه ولم يجالسه ومن لم يره لعارض"(3).
والأغلبية الساحقة من "أهل السنّة والجماعة" يرون هذا الرأي، ويعدّون من الصحابة كلّ من رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أو وُلد في حياته وإن لم يدرك ولم يعقل، وليس أدلّ على ذلك من عدهم محمّد بن أبي بكر من الصحابة، وقد توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولمحمّد بن أبي بكر من العمر ثلاثة أشهر فقط.
ولذلك نرى ابن سعد يقسّم الصحابة إلى خمس طبقات في كتابه المشهور بطبقات ابن سعد.
وهذا الحاكم النيسابوري صاحب كتاب "المستدرك" يجعلهم اثنتي عشرة طبقة كالآتي:
____________
1- صحيح البخاري 4: 188 (كتاب فضائل أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، الباب الأول).
2- الكفاية للخطيب البغدادي: 69.
3- الإصابة لابن حجر 1: 158.
الطبقة الثانية: هم الذين حضروا دار الندوة.
الطبقة الثالثة: هم الذين هاجروا إلى الحبشة.
الطبقة الرابعة: هم الذين حضروا العقبة الأُولى.
الطبقة الخامسة: هم الذين حضروا العقبة الثانية.
الطبقة السادسة: هم الذين هاجروا للمدينة بعد هجرة الرسول إليها.
الطبقة السابعة: هم الذين شهدوا بدراً.
الطبقة الثامنة: هم الذين هاجروا بعد بدر وقبل الحديبية.
الطبقة التاسعة: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان.
الطبقة العاشرة: هم الذين هاجروا بعد الحديبية وقبل فتح مكّة، أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم.
الطبقة الحادية عشر: هم الذين سمّاهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطلقاء.
الطلقة الثانية عشر: هم صبيان وأطفال الصحابة الذين ولدوا في حياة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمثال محمّد بن أبي بكر.
"فأهل السنّة والجماعة" متّفقون على عدالة الصحابة أجمعين، والمذاهب الأربعة يقبلون رواياتهم بدون تردّد، ولا يسمحون بنقدها ولا الطعن فيها.
وناهيك أنّ رجال الجرح والتعديل الذين أخذوا على أنفسهم نقد المحدّثين والرواة لفرز الأحاديث وتنقيتها، ولكنّهم إذا وصلوا إلى الصحابي مهما كانت طبقته ومهما كان عمره عند وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهم يتوقّفون عند
وهذا لعمري تكلّف ظاهر ينفر منه العقل، ويشمئز منه الطبع، ولا يقرّه العلم، ولا أعتقد بأنّ المثقّفين من الشباب يقبلون هذه البدع المضحكة.
ولست أدري ولا أحد يدري من أين استمدّ "أهل السنّة والجماعة" هذه الأفكار الغريبة عن روح الإسلام الذي قام على الدليل العلمي والحجّة البالغة، وليتني أعلم، وليت واحداً منهم يقنعني بدليل واحد من كتاب أو سنّة أو منطق على عدالة الصحابة المزعومة!
ولكنّنا بحمد الله عرفنا اللغز من تلك الآراء المزيفة، وسنشرحها في الفصل القادم، فعلى الباحثين أن يكتشفوا بدورهم بعض الأسرار التي مازالت تنتظر الجرأة والشجاعة.
فصل الخطاب في تقييم الأصحاب
لا شكّ أنّ الصحابة بشر غير معصومين عن الخطأ، وهم كسائر الناس العاديين يجب عليهم ما يجب على كلّ الناس، ويحقّ لهم ما يحقّ لكلّ الناس، وإنّما لهم فضل الصحبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا احترموها ورعوها حقّ رعايتها، وإلاّ فإنّ العذاب يكون مضاعفاً; لأنّ عدل الله سبحانه اقتضى أن لا يعذّب البعيد القاصي كالقريب الداني، فليس الذي سمع من النبيّ مباشرة، ورأى نور النبوة، وشهد المعجزات، وتيقّن منها وحظي بتعاليم النبيّ نفسه، كمن عاش في زمن ما بعد النبيّ لم يره ولم يسمع منه مباشرة.
والعقل والوجدان يفضّلان رجلاً يعيش في زماننا، ويقيم على احترام الكتاب والسنّة وتنفيذ تعاليمهما، على صحابي عاش مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصاحبه، ولمّا يدخل الإيمان في قلبه وأسلم استسلاماً، أو صاحبه على البرّ والتقوى طيلة حياته ولكنّه ارتدّ وانقلب بعد وفاته.
وهذا ما يقرّره كتاب الله وسنّة رسوله إضافة للعقل والوجدان، وكلّ من له دراية بالقرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة، لا يرتاب في هذه الحقيقة ولا يجد عنها محيصاً.
ومثال ذلك قوله تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَة مُبَيِّنَة يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}(1).
____________
1- الأحزاب: 30.
وإذا كان القرآن الكريم والسنّة النبويّة الشريفة والتاريخ أقروا هذه الأُمور، وأوضحوها بأجلى بيان، فيصبح قول "السنّة والجماعة" بأنّ الصحابة كلّهم عدول قولا هراء لا عبرة به ولا قيمة; لأنّه يعارض القرآن والسنّة، ويعارض التاريخ والعقل والوجدان، فهو محض التعصّب، وهو قول بلا دليل وكلام بلا منطق.
وقد يتعجّب الباحث في هذه الأُمور من عقليّة "أهل السنّة والجماعة" الذين يخالفون العقل والنقل والتاريخ.
ولكن عندما يقرأ الباحث الأدوار التي لعبها الأمويون، وكذلك الأساليب التي اتبعها العباسيون لتركيز هذه العقيدة، أعني احترام الصحابة وعدم انتقادهم والقول بعدالتهم يزول عجبه، ولا يساوره أدنى شكّ في أنّهم إنّما منعوا الحديث في الصحابة; لكيلا يصل إليهم النقد والتجريح لأفعالهم الشنيعة التي ارتكبوها تجاه الإسلام ونبي الإسلام والأُمّة الإسلامية.
وإذا كان أبو سفيان، ومعاوية، ويزيد، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، وبسر بن أرطأة، كلّهم من الصحابة، وقد تولّوا
ومن يفعل ذلك من المسلمين يسمّوه كافراً وزنديقاً، ويُفتوا بقتله وعدم تغسيله وتكفينه، وإنّما يدفع بخشبة حتى يوارى في حفرته ـ كما تقدّم ذكره ـ، وكانوا إذا أرادوا قتل الشيعة اتهموهم بسبّ الصحابة، ومعنى سب الصحابة عندهم هو نقدهم وتجريحهم في ما فعلوه، وهذا وحده يكفي للقتل والتنكيل.
بل وصل الحدّ إلى أبعد من ذلك، ويكفي أن يتساءل أحد عن مفهوم الحديث حتى يلاقي حتفه، فإليك الدليل:
أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال: ذكر عند هارون الرشيد حديث أبي هريرة: إن موسى لقي آدم فقال له: أنت آدم الذي أخرجتنا من الجنّة؟ فقال رجل قرشي كان في المجلس: أين لقي آدم موسى؟! فغضب الرشيد وقال: النطع والسيف، زنديق يطعن في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(1).
وإذا كان هذا الرجل بلا شكّ من الأعيان; لأنّه يحضر مجلس الرشيد يلاقي الموت بقطع رأسه بالسيف، لمجرّد تساؤله عن المكان الذي لقي فيه آدم موسى; فلا تسأل عن الشيعي الذي يقول بأنّ أبا هريرة كذّاب، استناداً لتكذيب الصحابة له وعلى رأسهم عمر بن الخطّاب.
ومن هنا يفهم الباحث كلّ التناقضات التي جاءت في الأحاديث،
____________
1- تاريخ بغداد 14: 8، سير أعلام النبلاء 9: 288.
كلّ ذلك لأنّ النقد والتجريح كانا ممنوعين ويجران إلى الموت والهلاك، بل إنّ الذي يتساءل عن بعض المعاني ليصل إلى الحقيقة ويشمُّ منه رائحة التفتيش والتنقيب فهو مقتول لا محالة، ليكون مثالا لغيره، فلا يجرؤ أحد بعده أن يتكلّم.
وقد موَّهوا على الناس بأنّ الذي يطعن في حديث أبي هريرة أو أحد الصحابة حتى العاديين منهم، بأنّه طعن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلك وضعوا هالة على الأحاديث الموضوعة التي اختلقها بعض الصحابة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصبحت من المسلّمات.
وكنت كثيراً ما احتجّ على بعض علمائنا بأنّ الصحابة لم يكن عندهم هذا التقديس، بل كانوا أنفسهم يشكّكون في حديث بعضهم إذا تعارض حديثه بما يخالف القرآن، وبأنّ عمر بن الخطّاب ضرب أبا هريرة بالدرّة ونهاه عن الحديث واتهمه بالكذب، إلى غير ذلك، فكانوا يردّون علي دائماً بأنّ الصحابة من حقّهم أن يقولوا في بعضهم ما شاؤوا، أمّا نحن فلسنا في مستواهم حتى نرّد عليهم أو ننتقدهم.
أقول: يا عباد الله، إنّهم تقاتَلوا وكفَّر بعضهم بعضاً وقتل بعضهم بعضاً؟!
يقولون: كلّهم مجتهدون، للمصيب منهم أجران وللمخطئ أجر واحد، وليس لنا نحن أن نخوض في شؤونهم.
ومن المؤكّد أنّ هؤلاء ورثوا هذه العقيدة من آبائهم وأجدادهم سلفاً عن خلف، فهم يردّدونها ترديد الببغاء بدون تدبّر ولا تمحيص.
وأنا أتعجّب من الغزالي ومن "أهل السنّة والجماعة" عموماً على استدلالهم بالقرآن على عدالة الصحابة، وليس في القرآن آية واحدة تدلّ على ذلك، بل في القرآن آيات كثيرة تنفي عدالتهم، وتفضح سرائرهم وتكشف نفاقهم.
وقد أفردنا فصلا كاملا لهذا الموضوع في كتابنا "فاسألوا أهل الذكر" من صفحة 113 إلى صفحة 172، فمن أراد مزيد البحث والوقوف على تلك الحقائق، فليرجع للكتاب المذكور ليعرف قول الله و قول الرسول فيهم.
ولكي يعرف الباحث بأنّ الصحابة لم يكونوا يحلمون يوماً بالمنزلة التي اخترعها لهم "أهل السنّة والجماعة"، فما عليه إلاّ قراءة كتب الحديث، وكتب التاريخ التي طفحت بأفعالهم الشنيعة وتكفير بعضهم، و كيف أنّ الكثير منهم كان يشكّ في نفسه إن كان من المنافقين.
فها هو البخاري يخرج في صحيح بأنّ ابن مليكة أدرك ثلاثين من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كلّهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إنّه على إيمان جبرئيل(2).
____________
1- المستصفى: 130.
2- صحيح البخاري 1: 17 (كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله).
ولا عبرة لقول من يقول بأنّ المنافقين ليسوا من الصحابة، إذا عرفنا أنّ المصطلح الذي اتفقوا عليه هو ما سمعناه آنفاً أنّ كلّ من رأى رسول الله مؤمناً به فهو صحابي حتى لو لم يجالسه.
وقولهم: مؤمناً به، فيه أيضاً تكلّف; لأنّ كلّ الذين صاحبوا النبيّ نطقوا بالشهادتين(2)، وقبل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم ذلك الإسلام الظاهري وقال: "أمرتُ
____________
1- إحياء علوم الدّين للغزالي 1: 114، (كتاب العلم، الباب السادس في آفات العلم).
2- التعريف الذي ذكره للصحابي وهو من رأى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤمناً به وإن كان لا يشمل المنافقين ويخرجهم من الصحبة، لكنّه تعريف بلا دليل ومستند يستند عليه، وذلك لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أطلق لفظ الصحبة على المنافقين، فأطلق على عبد اللّه بن أُبي بأنّه صاحبي وعلى ذو الخويصرة كذلك أنّه من أصحابي، فعليه استعمال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للفظ الصحبة عامّ يشمل المنافقين منهم وغير المنافقين، فتعريف الصحبة بتعريف لا يشمل المنافقين مخالف للسنّة النبويّة والأحاديث الشريفة المستعملة للفظ الصحبة في الأعمّ من ذلك.
إن قلت: إنّ هذا التعريف اصطلاح خاصّ يستعمله المحدّثون فيما بينهم ويصطلحون عليه.
قلت: الاصطلاح على شيء لا بأس به، لكنّه في هذا الاصطلاح الخاصّ الذي يستخدمه المحدّثون وغيرهم إيهام وتغرير للقارئ، حيث إنّهم يستخدمون لفظ الصحابة في خصوص غير المنافقين منهم، ثمّ بعد ذلك يحكمون بعدالة عموم الصحابة بما يشمل المنافقين وغيرهم، وهذا تغرير بالقارئ وإخفاء للحقيقة.
=>
____________
<=
ثمّ إنّ هناك صحابة في قلوبهم مرض وفي نفوسهم ريب كما صرّح القرآن بذلك; وصدع به في أكثر من مكان ومورد، فقال مخاطباً زواجات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة الأحزاب 32: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفاً }، وقال تعالى: { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ } الأنفال 49، وقال تعالى: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } الأحزاب 12، وقال تعالى: { لَئِنْ لَمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } الأحزاب 60، إلى غير ذلك من الآيات المصرّحة بوجود أناس من الصحابة ليسوا بالقليلين مرضى القلوب والنفوس، وأنّ الإيمان لم يخالط قلوبهم ونفوسهم، وأنّ هؤلاء كانوا يتربّصون بالمؤمنين الدوائر وكانوا يتّهمون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويطعنون فيه، وأن اللّه سبحانه وتعالى حذّرهم ووعدهم في كثير من آياته، وحذّر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم ومن تصرّفاتهم، فبعد ذلك لا يستطيع مكابر أن ينكر ذلك ويقول بأنّ الصحابة كلّهم عدول وكلهم مؤمنين وأنّ المنافقين ليسوا منهم.
فنقول: سلّمنا بخروج المنافقين من الصحابة، لكن مرضى القلوب من الصحابة وداخلين فيهم، وهؤلاء نرى ذمّهم وتوبيخهم ووعيد اللّه عليهم في آيات كثيرة من القرآن الكريم، فبعد ذلك لا يمكن القول بعدالة هؤلاء أيضاً، وللتوسّع أكثر يرجع إلى كتاب الصحبة والصحابة بين الإطلاق اللغوي والتقييد الشرعي للكاتب السلفي حسن فرحان المالكي، فقد بحث المسألة بشكل مفصّل.
1- فتح المعين، الميباري الهندي 4: 272، كشف الخفاء للعجلوني 1: 192 وقال:
"قال في اللآلئ: هو غير ثابت بهذا اللفظ، ولعلّه مروي بالمعنى من أحاديث صحيحة ذكرتها في الأقضية من الذهب الابريز. وقال في المقاصد: اشتهر بين الأُصوليين والفقهاء، بل وقع في شرح مسلم للنووي في قوله (صلى الله عليه وسلم): إنّي لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشقّ بطونهم ما نصّه: معناه أنّي أُمرت بالحكم بالظاهر واللّه يتولّى السرائر كما قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ".
ولذلك أيضاً نجد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمّي المنافقين ـ بـ "أصحابي" ـ وهو يعلم نفاقهم، وإليك الدليل:
أخرج البخاري بأنّ عمر بن الخطّاب طلب من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضرب عنق عبدالله بن أُبيّ المنافق فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): "دعه لا يتحدّث الناس بأنّ محمّداً يقتل أصحابه"(1).
وقد يحاول بعض العلماء من "أهل السنّة والجماعة" إقناعنا بأنّ المنافقين كانوا معروفين فلا نخلطهم بالصحابة، و هذا أمر مستحيل لا سبيل إليه، بل المنافقون هم من جملة الصحابة الذين لا يعلم خفاياهم إلاّ الله سبحانه، وقد كانوا يصلّون ويصومون ويعبدون الله، ويتقرَّبون إلى النبيّ بكلّ الوسائل، وإليك الدليل:
أخرج البخاري في صحيحه بأنّ عمر بن الخطّاب طلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرّة أُخرى أن يأذن به بضرب عنق ذي الخويصرة عندما قال للنبي: أعدل! ولكنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمر: "دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"(2).
____________
1- صحيح البخاري 6: 65، (كتاب فضائل القرآن، سورة المنافقين).
2- صحيح البخاري 4: 179 (كتاب بدء الخلق، باب كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) تنام عينه ولا ينام قلبه)، صحيح مسلم 3: 112 (كتاب الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم).
فمن كتاب الله قوله تعالى: {بَلْ جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}(1).
وقوله: { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً }(2).
وقوله: { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ }(3).
وقوله: { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ }(4).
وتجدر الإشارة بأنّ بعض العلماء من "أهل السنّة والجماعة" يحاولون جهدهم تغطية الحقائق، فيفسّرون "الأعراب" بأنّهم ليسوا من الصحابة، وإنّما هم سكان البادية من أطراف الجزيرة العربية.
ولكنّنا وجدنا عمر بن الخطّاب عندما أشرف على الموت أوصى إلى الخليفة من بعده قائلا: وأُوصيه بالأعراب خيراً فإنّهم أصل العرب ومادة الإسلام(5).
فإذا كان أهل العرب ومادة الإسلام هم أشدّ كفراً ونفاقاً، وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليهم حكيم، فلا قيمة لقول "أهل السنّة والجماعة" بأنّ الصحابة كلّهم عدول.
____________
1- المؤمنون: 70.
2- التوبة: 97.
3- التوبة: 101.
4- التوبة: 101.
5- صحيح البخاري 4: 206 (كتاب المناقب، باب مناقب المهاجرين).
أمّا ما قرَّره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنّة النبوبة الشريفة فقوله: "يؤخذ بأصحابي إلى النار، فأقول: يا ربِّ هؤلاء أصحابي! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً لمن بدل بعدي ولا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم"(2).
إلى أحاديث أُخرى كثيرة ضربنا عنها صفحاً من أجل الاختصار، وليس هدفنا البحث في حياة الصحابة لكي نطعن بعدالتهم، فالتاريخ كفانا مؤونة ذلك، وشهد على البعض منهم بالزنا، وشرب الخمر، وشهادة الزور، والارتداد، وارتكاب الجرائم بحقّ الأبرياء، وخيانة الأُمّة، ولكن نريد فقط أن نبرز بأن مقولة عدالة الصحابة كلّهم هي خرافة وهمية جاء بها "أهل السنّة والجماعة" ليستروا على سادتهم وكبرائهم من الصحابة الذين أحدثوا في دين الله، وغيّروا أحكامه ببدع ابتدعوها، ولنكشف ثانية بأنّ "أهل السنّة الجماعة" باعتناقهم عقيدة "عدالة الصحابة أجمعين" قد أظهروا هويّتهم الحقيقية، ألا وهي مودّة المنافقين، والاقتداء ببدعهم التي أحدثوها ليرجعوا
____________
1- التوبة: 99.
2- صحيح البخاري 7: 209 (كتاب الرقاق، باب الحوض) بألفاظ مختلفة.
وبما أنّ "أهل السنّة والجماعة" قد حرَّموا على أتباعهم نقد الصحابة وتجريحهم، وأغلقوا في وجوههم باب الاجتهاد، وذلك من عهد الخلفاء الأمويين، وعهد اختلاق المذاهب، وورث الأتباع هذه العقيدة وأورثوها إلى أبنائهم جيلا بعد جيل وبقي "أهل السنّة والجماعة" حتى يوم الناس هذا يمنعون من الخوض في الصحابة ويترضّون عليهم جميعاً، ويكفّرون من ينتقد واحداً منهم.
وخلاصة القول: أنّ الشيعة أتباع أهل البيت ينزّلون الصحابة منازلهم التي يستحقّونها، فيترضّون على المتّقين منهم، ويتبرّأون من المنافقين والفاسقين أعداء الله ورسوله، وبذلك فهم وحدهم أهل السنّة الحقيقية; لأنّهم أحبّوا حبيب الله ورسوله من الصحابة، وتبرّأوا من أعداء اللّه ورسوله الذين كانوا السبب الرئيسي في ضلال الأغلبية الساحقة من المسلمين.