الصفحة 45

الفصل الثاني
النبوة

عقيدتنا في:

    النبوة

        النبوة لطف

            معجزة الانبياء

                عصمة الانبياء

                    صفات النبي

                        الانبياء وكتبهم

                            الاسلام

                                مشرّع الاسلام

                                    القرآن الكريم

                                        طريقة إثبات الاسلام

                                        والشرائع السابقة


الصفحة 46

الصفحة 47

13 ـ عقيدنا في النبوّة

نعتقد: أنّ النبوّة وظيفة إلهية وسفارة ربّانية، يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في إنسانيّتهم، فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية إرشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والاخرة، لغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الاخلاق ومفاسد العادات، وتعليمهم الحكمة والمعرفة، وبيان طريق السعادة والخير، لتبلغ الانسانية كمالها اللائق بها، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين دار الدنيا ودار الاخرة.

ونعتقد: أنّ قاعدة اللطف ـ على ما سيأتي معناها ـ توجب أن يبعث الخالق ـ اللطيف بعباده ـ رسله لهداية البشر وأداء الرسالة الاصلاحية، وليكونوا سفراء الله وخلفاءه.

كما نعتقد: أنه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه، وليس لهم الخيرة في ذلك، بل أمر كلّ ذلك

الصفحة 48
بيده تعالى، لانه (أعلمُ حَيثُ يَجعَلُ رِسَالَتهُ) (1).

وليس لهم أن يتحكّموا فيمن يرسله هادياً ومبشِّراً ونذيراً، ولا أن يتحكّموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة.

14 ـ النبوّة لطف

إنّ الانسان مخلوق غريب الاطوار، معقَّد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيّته وفي عقله، بل في شخصية كلّ فرد من أفراده، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة، وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى.

فمن جهة: قد جبل على العواطف والغرائز من حب النفس والهوى والاثرة وإطاعة الشهوات، وفطر على حب التغلُّب والاستطالة والاستيلاء على ما سواه، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها، كما قال تعالى: (إنَّ الانسَانَ لَفِي خُسْر)(2)، و: (إنّ الانسَانَ لَيَطْغى أن رآهُ استَغنَى)(3)، و: (إنَّ

____________

(1) الانعام: 124.

(2) العصر: 2.

(3) العلق: 6 ـ 7.


الصفحة 49
النَّفسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(1)، إلى غير ذلك من الايات المصرِّحة والمشيرة إلى ما جُبلت عليه النفس الانسانية من العواطف والشهوات.

ومن الجهة الثانية: خلق الله تعالى فيه عقلاً هادياً يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير، وضميراً وازعاً يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم.

ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الانسانية مستعراً بين العاطفة والعقل، فمن يتغلِّب عقله على عاطفته كان من الاعلين مقاماً والراشدين في انسانيتهم والكاملين في روحانيتهم، ومن تقهره عاطفته كان من الاخسرين منزلة والمتردّين إنسانية والمنحدرين إلى رتبة البهائم.

وأشد هذين المتخاصمين مراساً على النفس هي العاطفة وجنودها، فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة ومبتعدين عن الهداية، بإطاعة الشهوات وتلبية نداء العواطف، (وَمَا أكَثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بِمُؤمِنينَ) (2).

____________

(1) يوسف: 53.

(2) يوسف: 103.


الصفحة 50
على أنّ الانسان لقصوره وعدم اطّلاعه على جميع الحقائق وأسرار الاشياء المحيطة به والمنبثقة من نفسه، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضرّه وينفعه، ولا كل ما يسعده ويشقيه، لا فيما يتعلّق بخاصّة نفسه، ولا فيما يتعلّق بالنوع الانساني ومجتمعه ومحيطه، بل لا يزال جاهلاً بنفسه، ويزيد جهلاً أو إدراكاً لجهله بنفسه كلّما تقدّم العلم عنده بالاشياء الطبيعية والكائنات المادية.

وعلى هذا، فالانسان في أشّد الحاجة ليبلغ درجات السعادة الى من ينصب له الطريق اللاحب، والنهج الواضح إلى الرشاد واتّباع الهدى ; لتقوى بذلك جنود العقل، حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللّدود اللجوج عندما يهيئ الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة.

وأكثر ما تشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه ـ وكثيراً ما تفعل ـ فتزيِّن له أعماله وتحسن لنفسه انحرافاتها، إذ تريه ما هو حسن قبيحاً، أو ما هو قبيح حسناً، وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميّز له كلّ ما هو حسن ونافع وكل ما هو قبيح وضار، وكل واحد منّا صريع لهذه المعركة

الصفحة 51
من حيث يدري ولا يدري، إلاّ من عصمه الله.

ولاجل هذا يعسر على الانسان المتمدِّن المثقَّف ـ فضلاً عن الوحشي الجاهل ـ أن يصل بنفسه إلى جميع طريق الخير والصلاح، ومعرفة جميع ما ينفعه ويضّره في دنياه وآخرته، فيما يتعلَّق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه ممّن هو على شاكلته وتكاشف معهم، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات.

فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفاً بهم (رَسُولاً مِنهُم يَتلوُا عَلَيهِم ءايتهِ وَيُزكِّيهِم ويُعلّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكمَةَ) (1)، وينذرهم عمّا فيه فسادهم، ويبشّرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم.

وإنّما كان اللطف من الله تعالى واجباً، فلانّ اللطف بالعباد من كماله المطلق، وهو اللطيف بعباده الجواد الكريم، فإذا كان المحل قابلاً ومستعداً لفيض الجود واللطف، فإنّه تعالى لابد أن يفيض لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه.

____________

(1) الجمعة: 2.


الصفحة 52
وليس معنى الوجوب هنا أنّ أحداً يأمره بذلك فيجب عليه أن يطيع، تعالى عن ذلك، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنّه واجب الوجود، أي: اللزوم واستحالة الانفكاك.

15 ـ عقيدتنا في معجزة الانبياء

نعتقد: أنّه تعالى إذ ينصّب لخلقه هادياً ورسولاً لابدّ أن يعرِّفهم بشخصه، ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلاً وحجّة يقيمها لهم، إتماماً للّطف، واستكمالاً للرحمة.

وذلك الدليل لابدّ أن يكون من نوع لا يصدر إلاّ من خالق الكائنات ومدبر الموجودات، أي: فوق مستوى مقدور البشر، فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي، ليكون معرِّفاً به ومرشداً إليه، وذلك الدليل هو المسمى بالمعجز أو المعجزة، لانّه يكون على وجه يعجز البشر عن مجاراته والاتيان بمثله.

وكما أنّه لابد للنبي من معجزة يظهر بها للناس لاقامة الحجة عليهم، فلابد أن تكون تلك المعجزة ظاهرة الاعجاز بين الناس

الصفحة 53
على وجه يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته، فضلاً عن غيرهم من سائر الناس، مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوّة منه، لتكون دليلاً على مدّعاه، وحجة بين يديه، فإذا عجز عنها أمثال أولئك عُلم أنّها فوق مقدور البشر وخارقة للعادة، فيعلم أنّ صاحبها فوق مستوى البشر، بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبّر الكائنات.

وإذا تمَّ ذلك لشخص من ظهور المعجز الخارق للعادة، وادّعى ـ مع ذلك ـ النبوة والرسالة، يكون حينئذ موضعاً لتصديق الناس بدعواه والايمان برسالته والخضوع لقوله وأمره، فيؤمن به من يؤمن ويكفر به من يكفر.

ولاجل هذا وجدنا أنّ معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون، فكانت معجزة موسى (عليه السلام) هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون، إذ كان السحر في عصره فنّاً شائعاً، فلما جاءت العصا بطل ما كانوا يعملون، وعلموا أنّها فوق مقدورهم وأعلى من فنّهم، وأنّها ممّا يعجز عن مثله البشر ويتضاءل عندها الفن والعلم.

وكذلك كانت معجزة عيسى (عليه السلام)، وهي إبراء الاكمه والابرص وإحياء الموتى، إذ جاءت في وقت كان فن الطب هو السائد بين

الصفحة 54
الناس، وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا، فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسى (عليه السلام).

ومعجزة نبيّنا الخالدة هي القرآن الكريم، المعجز ببلاغته وفصاحته، في وقت كان فن البلاغة معروفاً، وكان البلغاء هم المقدّمون عند الناس بحسن بيانهم وسموِّ فصاحتهم، فجاء القرآن كالصاعقة، أذلّهم وأدهشهم، وأفهمهم أنّهم لا قِبَل لهم له، فخنعوا له مهطعين عندما عجزوا عن مجاراته وقصروا عن اللحاق بغباره.

ويدلّ على عجزهم أنّه تحدّاهم بإتيان عشر سور مثله فلم يقدروا، ثمّ تحدّاهم أن يأتوا بسورة من مثله فنكصوا، ولما علمنا عجزهم عن مجاراته مع تحدّيه لهم، وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان، علمنا أنّ القرآن من نوع المعجز، وقد جاء به محمّد بن عبد الله مقروناً بدعوى الرسالة.

فعلمنا أنّه رسول الله، جاء بالحق وصدق به، صلّى الله عليه وآله.

16 ـ عقيدتنا في عصمة الانبياء

ونعتقد: أنّ الانبياء معصومون قاطبة، وكذلك الائمة عليهم جميعاً التحيات الزاكيات، وخالَفَنا في ذلك بعض المسلمين، فلم

الصفحة 55
يوجبوا العصمة في الانبياء، فضلاً عن الائمة.

والعصمة: هي التنزُّه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان، وإن لم يمتنع عقلاً على النبي أن يصدر منه ذلك، بل يجب أن يكون منزَّهاً حتى عمّا ينافيى المروءة، كالتبذّل بين الناس: من أكل في الطريق، أو ضحك عال، وكل عمل يستهجن فعله عند العرف العام.

والدليل على وجوب العصمة: أنّه لو جاز أن يفعل النبي المعصية، أو يخطأ وينسى، وصدر منه شيء من هذا القبيل، فإمّا أن يجب إتّباعه في فعله الصادر منه عصياناً أو خطأً، أو لا يجب:

فان وجب اتّباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي برخصة من الله تعالى، بل أوجبنا ذلك، وهذا باطل بضرورة الدين والعقل.

وإن لم يجب اتّباعه فذلك ينافي النبوّة التي لابدّ أن تقترن بوجوب الطاعة أبداً.

على أن كل شيء يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية أو الخطأ، فلا يجب إتّباعه في شيء من الاشياء، فتذهب فائدة البعثة، بل يصبح النبي كسائر الناس، ليس لكلامهم ولا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائماً، كما لا تبقى طاعة

الصفحة 56
حتمية لاوامره، ولا ثقة مطلقة بأقواله وأفعاله.

وهذا الدليل على العصمة يجري عيناً في الامام، لانّ المفروض فيه أنّه منصوب من الله تعالى لهداية البشر خليفة للنبي، على ما سيأتي في فصل الامامة.

17 ـ عقيدتنا في صفات النبي

ونعتقد: أنّ النبي ـ كما يجب أن يكون معصوماً ـ يجب أن يكون متّصفاً بأكمل الصفات الخلقية والعقلية وأفضلها، من نحو: الشجاعة، والسياسة، والتدبير، والصبر، والفطنة، والذكاء ; حتّى لايدانيه بشر سواه فيها، لانّه لولا ذلك لما صحّ أن تكون له الرئاسة العامة على جميع الخلق، ولا قوَّة إدارة العالم كله.

كما يجب أن يكون: طاهر المولد، أميناً، صادقاً، منزَّهاً عن الرذائل قبل بعثته أيضاً ; لكي تطمئنّ إليه القلوب وتركن إليه النفوس، بل لكي يستحق هذا المقام الالهي العظيم.

18 ـ عقيدتنا في الانبياء وكتبهم

نؤمن على الاجمال بانّ جميع الانبياء والمرسلين على حق،

الصفحة 57
كما نؤمن بعصمتهم وطهارتهم، وأمّا إنكار نبوّتهم أو سبّهم أو الاستهزاء بهم فهو من الكفر والزندقة، لانّ ذلك يستلزم إنكار نبينا الذي أخبر عنهم وصدّقهم.

أمّا المعروفة أسماؤهم وشرائعهم، كآدم ونوح وإبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى وسائر من ذكرهم القرآن الكريم بأعيانهم، فيجب الايمان بهم على الخصوص، ومن أنكر واحداً منهم فقد أنكر الجميع، وأنكر نبوّة نبيّنا بالخصوص.

وكذلك يجب الايمان بكتبهم وما نزل عليهم.

وأمّا التوراة والانجيل الموجودان الان بين أيدي الناس، فقد ثبت أنّهما محرّفان عمّا أنزلا، بسبب ما حدث فيهما من التغيير والتبديل والزيادات والاضافات بعد زماني موسى وعيسى (عليهما السلام)بتلاعب ذوي الاهواء والاطماع، بل الموجود منهما أكثره ـ أو كلّه ـ موضوع بعد زمانهما من الاتباع والاشياع.

19 ـ عقيدتنا في الاسلام

نعتقد: أنّ الدين عند الله الاسلام، وهو الشريعة الالهية الحقّة التي هي خاتمة الشرائع وأكملها، وأوفقها في سعادة البشر،

الصفحة 58
وأجمعها لمصالحهم في دنياهم وآخرتهم، وصالحة للبقاء مدى الدهور والعصور، لا تتغيّر ولا تتبدّل، وجامعة لجميع ما يحتاجه البشر من النظم الفردية والاجتماعية والسياسية.

ولمّا كانت خاتمة الشرائع، ولا نترقَّب شريعة أخرى تُصلح هذا البشر المنغمس بالظلم والفساد، فلابدَّ أن يأتي يوم يقوى فيه الدين الاسلامي، فيشمل المعمورة بعدله وقوانينه.

ولو طُبِّقت الشريعة الاسلامية بقوانينها في الارض تطبيقاً كاملاً صحيحاً، لعمّ السلام بين البشر، وتمَّت السعادة لهم، وبلغوا أقصى ما يحلم به الانسان من الرفاه والعزّة والسعة والدعة والخلق الفاضل، ولانقشع الظلم من الدنيا، وسادت المحبّة والاخاء بين الناس أجمعين، ولا نمحى الفقر والفاقة من صفحة الوجود.

وإذا كنّا نشاهد اليوم الحالة المخجلة والمزرية عند الذين يسمّون أنفسهم بالمسلمين، فلانّ الدين الاسلامي في الحقيقة لم يطبَّق بنصه وروحه، ابتداء من القرن الاول من عهودهم، واستمرت الحال بنا ـ نحن الذين سمّينا أنفسنا بالمسلمين ـ من سيّء إلى أسوأ إلى يومنا هذا، فلم يكن التمسّك بالدين الاسلامي هو الذي جر على المسلمين هذا التأخّر المشين، بل بالعكس: إنّ تمرُّدهم على

الصفحة 59
تعاليمه، واستهانتهم بقوانينه، وانتشار الظلم والعدوان فيهم، من ملوكهم إلى صعاليكهم ومن خاصتهم إلى عامتهم ; هو الذي شلَّ حركة تقدّمهم، وأضعف قوّتهم، وحطَّم معنوياتهم، وجلب عليهم الويل والثبور، فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم، (ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ لَم يَكُ مُغيِّراً نِعمَةً أنعَمَهَا عَلى قَوم حَتَّى يُغَيِّروا مَا بِأنفُسِهِم) (1)، تلك سنّة الله في خلقه، (إنَّهَ لا يُفلحِ المُجرِمُونَ) (2)، (وَمَا كانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظلم وأهلُهَا مُصلِحونَ) (3)، (وَكذَلِكِ أخذُ رَبّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهي ظَالِمَةٌ إنَّ أخذَهُ أليِمٌ شَدِيدٌ) (4).

وكيف ينتظر من الدين أن ينتشل الامّة من وهدتها وهو عندها حبر على ورق، لا يعمل بأقل القليل من تعاليمه.

إنّ الايمان والامانة، والصدق والاخلاص، وحسن المعاملة والايثار، وأن يحب المسلم لاخيه ما يحب لنفسه، وأشباهها، من أوّل أُسس دين الاسلام، والمسلمون قد ودّعوها من قديم أيّامهم

____________

(1) الانفال: 53.

(2) يونس: 17.

(3) هود: 117.

(4) هود: 102.


الصفحة 60
إلى حيث نحن الان، وكلّما تقدم بهم الزمن وجدناهم أشتاتاً وأحزاباً وفرقاً، يتكالبون على الدنيا، ويتطاحنون على الخيال، ويكفِّر بعضهم بعضاً، بالاراء غير المفهومة، أو الاُمور التي لاتعنيهم، فانشغلوا عن جوهر الدين وعن مصالحهم ومصالح مجتمعهم: بأمثال النزاع في خلق القرآن، والقول بالوعيد والرجعة، وأنّ الجنة والنار مخلوقتان أو سيخلقان، ونحو هذه النزاعات التي أخذت منهم بالخناق، وكفّر بها بعضهم بعضاً، وهي إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على انحرافهم عن سنن الجادّة المعبّدة لهم، إلى حيث الهلاك والفناء.

وزاد الانحراف فيهم بتطاول الزمان، حتى شملهم الجهل والضلال، وانشغلوا بالتوافه والقشور، وبالاتعاب والخرافات والاوهام، وبالحروب والمجادلات والمباهاة، فوقعوا بالاخير في هاوية لاقعر لها، يوم تمكّن الغرب المتيقظ ـ العدو اللّدود للاسلام ـ من أن يستعمر هذه البقاع المنتسبة إلى الاسلام، وهي في غفلتها وغفوتها، فيرمي بها في هذه الهوّة السحيقة، ولا يعلم إلاّ الله تعالى مداها ومنتهاها (وَمَا كانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرى بِظُلم وَأهلُهَا

الصفحة 61
مُصلِحُونَ) (1).

ولا سبيل للمسلمين اليوم وبعد اليوم إلاّ أن يرجعوا إلى أنفسهم فيحاسبوها على تفريطهم، وينهضوا إلى تهذيب أنفسهم والاجيال الاتية بتعاليم دينهم القويمة، ليمحوا الظلم والجور من بينهم، وبذلك يتمكّنون من أن ينجوا بأنفسهم من هذه الطامة العظمى، ولابدّ بعد ذلك أن يملاوا الارض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، كما وعدهم الله تعالى ورسوله، وكما هو المترقّب من دينهم الذي هو خاتمة الاديان، ولا رجاء في صلاح الدنيا وإصلاحها بدونه.

ولابدّ من إمام ينفي عن الاسلام ما علق فيه من أوهام، وأُلصق فيه من بدع وضلالات، وينقذ البشر وينجّيهم ممّا بلغوا إليه من فساد شامل، وظلم دائم وعدوان مستمر، واستهانة بالقيم الاخلاقية والارواح البشرية، عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه.

20 ـ عقيدتنا في مشرِّع الاسلام

نعتقد: أنّ صاحب الرسالة الاسلامية هو محمّد بن عبد الله،

____________

(1) هود: 117.


الصفحة 62
وهو خاتم النبيين، وسيّد المرسلين، وأفضلهم على الاطلاق، كما أنّه سيّد البشر جميعاً، لا يوازيه فاضل في فضل، ولا يدانيه أحد في مكرمة، ولا يقاربه عاقل في عقل، ولا يشبهه شخص في خلق، وأنّه لعلى خلق عظيم، ذلك من أول نشأة البشر إلى يوم القيامة.

21 ـ عقيدتنا في القرآن الكريم

نعتقد: أنّ القرآن هو الوحي الالهي المنزَّل من الله تعالى على لسان نبيه الاكرم فيه تبيان كل شيء، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة، وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية، لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف.

وهذا الذي بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزّل على النبي، ومن ادّعى فيه غير ذلك فهو مخترق أو مغالط أو مشتبه، وكلّهم على غير هدى، فانه كلام الله الذي (لا يَأتيهِ البَاطِلُ مِن بَينِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلفِهِ) (1).

ومن دلائل إعجازه: أنّه كلّما تقدّم الزمن وتقدّمت العلوم

____________

(1) فصلت: 42.


الصفحة 63
والفنون، فهو باق على طراوته وحلاوته، وعلى سموّ مقاصده وأفكاره، ولا يظهر فيه خطأ في نظرية علمية ثابتة، ولا يتحمل نقض حقيقة فلسفية يقينية، على العكس من كتب العلماء وأعاظم الفلاسفة، مهما بلغوا في منزلتهم العلمية ومراتبهم الفكرية، فانّه يبدو بعض منها ـ على الاقل ـ تافهاً أو نابياً أو مغلوطاً كلّما تقدّمت الابحاث العلمية، وتقدمت العلوم بالنظريات المستحدثة، حتى من مثل أعاظم فلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو الذين اعترف لهم جميع من جاء بعدهم بالابوّة العلمية والتفوّق الفكري.

ونعتقد أيضاً: بوجوب احترام القرآن الكريم وتعظيمه بالقول والعمل، فلا يجوز تنجيس كلماته حتى الكلمة الواحدة المعتبرة جزءً منه على وجه يقصد أنّها جزء منه.

كما لا يجوز لمن كان على غير طهارة أن يمسّ كلماته أو حروفه (لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ) (1) سواء كان محدِثاً بالحدث الاكبر كالجنابة والحيض والنفاس وشبهها، أو محدِثاً بالحدث الاصغر حتى النوم، إلاّ إذا اغتسل أو توضّأ، على التفاصيل التي تذكر في

____________

(1) الواقعة: 79.


الصفحة 64
الكتب الفقهية.

كما أنّه لا يجوز إحراقه، ولا يجوز توهينه، بأيّ ضرب من ضروب التوهين الذي يعد في عرف الناس توهيناً: مثل رميه، أو تقذيره، أو سحقه بالرجل، أو وضعه في مكان مستحقر ; فلو تعمّد شخص توهينه وتحقيره ـ بفعل واحد من هذه الامور وشبهها ـ فهو معدود من المنكرين للاسلام وقدسيته، المحكوم عليهم بالمروق عن الدين والكفر بربِّ العالمين.

22 ـ طريقة إثبات الاسلام والشرائع السابقة

لو خاصمنا أحد في صحّة الدين الاسلامي، نستطيع أن نخصمه بإثبات المعجزة الخالدة له، وهي القرآن الكريم، على ما تقدّم من وجه إعجازه ; وكذلك هو طريقنا لاقناع نفوسنا عند ابتداء الشك والتساؤل اللّذين لابدّ أن يمرّا على الانسان الحر في تفكيره عند تكوين عقيدته أو تثبيتها.

أما الشرائع السابقة، كاليهودية والنصرانية، فنحن قبل التصديق بالقرآن الكريم، أو عند تجريد أنفسنا عند العقيدة الاسلامية، لاحجّة لنا لاقناع نفوسنا بصحتها، ولا لاقناع المشكّك المتسائل،

الصفحة 65
إذ لا معجزة باقية لها كالكتاب العزيز، وما ينقله أتباعها من الخوارق والمعاجز للانبياء السابقين، فهم متّهمون في نقلهم لها أو حكمهم عليها، وليس في الكتب الموجودة بين أيدينا المنسوبة إلى الانبياء كالتوراة والانجيل ما يصلح أن يكون معجزة خالدة تصح أن تكون حجّة قاطعة ودليلاً مقنعاً في نفسها قبل تصديق الاسلام لها.

وإنّما صحّ لنا ـ نحن المسلمين ـ أن نقرَّ ونصدّق بنبوة أهل الشرائع السابقة، فلانّا بعد تصديقنا بالدين الاسلامي، كان علينا أن نصدّق بكل ما جاء به وصدّقه، ومن جملة ما جاء به وصدّقه نبوّه جملة من إلاّنبياء السابقين على نحو ما مرّ ذكره.

وعلى هذا فالمسلم في غنى عن البحث والفحص عن صحّة الشريعة النصرانية وما قبلها من الشرائع السابقة بعد اعتناقه الاسلام، لانّ التصديق به تصديق بها، والايمان به إيمان بالرسل السابقين والانبياء المتقدّمين، فلا يجب على المسلم أن يبحث عنها ويفحص عن صدق معجزات أنبيائها، لانّ المفروض أنّه مسلم قد آمن بها بإيمانه بالاسلام، وكفى.

نعم، لو بحث الشخص عن صحّة الدين الاسلامي، فلم تثبت له صحّته، وجب عليه عقلاً ـ بمقتضى وجوب المعرفة والنظر ـ أن

الصفحة 66
يبحث عن صحّة دين النصرانية، لانّه هو آخر الاديان السابقة على الاسلام، فإن فحص ولم يحصل له اليقين به أيضاً وجب عليه أن ينتقل فيفحص عن آخر الاديان السابقة عليه، وهو دين اليهودية حسب الفرض، وهكذا ينتقل في الفحص حتى يتم له اليقين بصحّة دين من الاديان، أو يرفضها جميعاً.

وعلى العكس فيمن نشأ على اليهودية أو النصرانية، فإنّ اليهودي لا يغنيه اعتقاده بدينه عن البحث عن صحّة النصرانية والدين الاسلامي، بل يجب عليه النظر والمعرفة بمقتضى حكم العقل، وكذلك النصراني ليس له أن يكتفي بإيمانه بالمسيح (عليه السلام)، بل يجب أن يبحث ويفحص عن الاسلام وصحّته، ولا يعذر في القناعة بدينه من دون بحث وفحص، لانّ اليهودية وكذا النصرانية لاتنفي وجود شريعة لاحقة لها ناسخة لاحكامها، ولم يقل موسى ولا المسيح (عليهما السلام) أنه لا نبي بعدي.

فكيف يجوز لهؤلاء النصارى واليهود أن يطمئنّوا إلى عقيدتهم ويركنوا إلى دينهم قبل أن يفحصوا عن صحّة الشريعة اللاحقة لشريعتهم، كالشريعة النصرانية بالنسبة إلى اليهود والشريعة الاسلامية بالنسبة إلى اليهود والنصارى، بل يجب ـ بحسب فطرة

الصفحة 67
العقول ـ أن يفحصوا عن صحة هذه الدعوى اللاحقة، فإن ثبتت لهم صحتها انتقلوا في دينهم إليها، وإلاّ صحّ لهم ـ في شريعة العقل ـ حينئذ البقاء على دينهم القديم والركون إليه.

أمّا المسلم ـ كما قلنا ـ فإنّه إذا اعتقد بالاسلام لا يجب عليه الفحص، لا عن الاديان السابقة على دينه، ولا عن اللاحقة التي تدّعى:

أمّا السابقة، فلانّ المفروض أنّة مصدِّق بها، فلماذا يطلب الدليل عليها؟ وإنّما فقط قد حكم له بأنّها منسوخة بشريعته الاسلامية، فلا يجب عليه العمل بأحكامها ولا بكتبها.

وأمّا اللاحقة، فلانّ نبي الاسلام محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا نبيّ بعدي»(1)، وهو الصادق الامين كما هو المفروض، (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إن هُوَ إلاَّ وَحيٌ يُوحَى) (2)، فلماذا يطلب الدليل على صحّة دعوى النبوة المتأخرة إن ادعاها مدع؟

نعم، على المسلم ـ بعد تباعد الزمان عن صاحب الرسالة،

____________

(1) الامالي للمفيد: 33، صحيح مسلم 3/1471، مسند أحمد 3/23، المعجم الكبير 8/161، سنن البيهقي 8/144.

(2) النجم: 3، 4.


الصفحة 68
واختلاف المذاهب والاراء، وتشعّب الفرق والنحل ـ أن يسلك الطريق الذي يثق فيه أنّه يوصله إلى معرفة الاحكام المنزَّلة على محمّد صاحب الرسالة، لانّ المسلم مكلَّف بالعمل بجميع الاحكام المنزَّلة في الشريعة كما أُنزلت.

ولكن كيف يعرف أنّها الاحكام المنزَّلة كما أُنزلت، والمسلمون مختلفون، والطوائف متفرّقة، فلا الصلاة واحدة، ولا العبادات متّفقة، ولا الاعمال في جميع المعاملات على وتيرة واحدة! فماذا يصنع؟ بأيّة طريقة من الصلاة ـ إذن ـ يصلّي؟ وبأيّة شاكلة من الاراء يعمل في عباداته ومعاملاته: كالنكاح، والطلاق، والميراث، والبيع، والشراء، وإقامة الحدود والديّات، وما إلى ذلك؟

ولا يجوز له أن يقلّد الاباء، ويستكين إلى ما عليه أهله وأصحابه، بل لابدّ أن يتيقّن بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله تعالى، فإنه لا مجاملة هنا ولا مداهنة، ولا تحيّز ولا تعصّب.

نعم، لابدَّ أن يتيقّن بأنّه قد أخذ بأمثل الطرق التي يعتقد فيها بفراغ ذمته بينه وبين الله من التكاليف المفروضة عليه منه تعالى، ويعتقد أنّه لا عقاب عليه ولا عتاب منه تعالى بإتّباعها وأخذ الاحكام منها، ولا يجوز أن تأخذه في الله لومة لائم، (أيَحسَبُ

الصفحة 69
الانسَانُ أن يُترَكَ سُدىً)(1)، (بَلِ الانسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ)(2)، (إنَّ هَذِهِ تَذكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبيلاً) (3).

وأوّل ما يقع التساؤل فيما بينه وبين نفسه أنّه هل يأخذ بطريقة آل البيت أو يأخذ بطريقة غيرهم؟ وإذا أخذ بطريقة آل البيت، فهل الطريقة الصحيحة طريقة الامامية الاثني عشرية أو طريقة من سواهم من الفرق الاخرى؟ ثمّ إذا أخذ بطريقة أهل السنّة فمن يقلِّد من المذاهب الاربعة أو من غيرهم من المذاهب المندرسة؟ هكذا يقع التساؤل لمن أُعطي الحريّة في التفكير والاختيار، حتى يلتجئ من الحق إلى ركن وثيق.

ولاجل هذا وجب علينا ـ بعد هذا ـ أن نبحث عن الامامة، وأن نبحث عمّا يتبعها في عقيدة الامامية الاثني عشرية.

____________

(1) القيامة: 36.

(2) القيامة: 14.

(3) المزمل: 19.


الصفحة 70

الصفحة 71

الفصل الثالث
الامامة

عقيدتنا في:

    الامامة

        عصمة الامام

            صفات الامام وعلمه

                طاعة الائمة

                    حبّ آل البيت

                        الائمة

                            إن الامامة بالنص

                                عدد الائمة

                                    المهدي

                                        الرجعة

                                            التقيّة


الصفحة 72

الصفحة 73

23 ـ عقيدتنا في الامامة

نعتقد: أنّ الامامة أصل من أُصول الدين، لا يتم الايمان إلاّ بالاعتقاد بها، ولا يجوز فيها تقليد الاباء والاهل والمربّين مهما عظموا وكبروا، بل يجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوّة.

وعلى الاقل أنّ الاعتقاد بفراغ ذمّة المكلّف من التكاليف الشرعية المفروضة عليه يتوقّف على الاعتقاد بها ايجاباً أو سلباً، فاذا لم تكن أصلاً من الاُصول لا يجور فيها التقليد، لكونها أصلاً، فإنّه يجب الاعتقاد بها من هذه الجهة، أي من جهة أنّ فراغ ذمة المكلّف من التكاليف المفروضة عليه قطعاً من الله تعالى واجب عقلاً، وليست كلّها معلومة من طريقة قطعية، فلا بدّ من الرجوع فيها إلى من نقطع بفراغ الذمة باتّباعه، أمّا الامام على طريقة الامامية، أو غيره على طريقة غيرهم.

كما نعتقد: أنّها كالنبوّة لطف من الله تعالى، فلابدّ أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه من هداية البشر،

الصفحة 74
وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين، وله ما للنبي من الولاية العامّة على الناس، لتدبير شؤونهم ومصالحهم، وإقامة العدل بينهم، ورفع الظلم والعدوان من بينهم.

وعلى هذا، فالامامة استمرار للنبوة، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الانبياء هو نفسه يوجب أيضاً نصب الامام بعد الرسول.

فلذلك نقول: إنّ الامامة لا تكون إلاّ بالنص من الله تعالى على لسان النبي أو لسان الامام الذي قبله، وليست هي بالاختيار والانتخاب من الناس، فليس لهم إذا شاؤوا أن ينصّبوا أحداً نصّبوه، وإذا شاؤوا أن يعيّنوا إماماً لهم عيّنوه، ومتى شاؤوا أن يتركوا تعيينه تركوه، ليصح لهم البقاء بلا إمام، بل «مَن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة»(1)، على ما ثبت ذلك عن الرسول الاعظم بالحديث المستفيض.

وعليه لا يجوز أن يخلو عصر من العصور من إمام مفروض

____________

(1) الكافي 1/377، المحاسن 1/176، عيون أخبار الرضا 2/58، كمال الدين: 413، الغيبة للنعماني: 130، رجال الكشي 2/724، مسند الطيالسي: 259، المعجم الكبير 10/350، مستدرك الحاكم 1/77.


الصفحة 75
الطاعة منصوب من الله تعالى، سواء أبى البشر أم لم يأبوا، وسواء ناصروه أم لم يناصروه، أطاعوه أم لم يطيعوه، وسواء كان حاضراً أم غائباً عن أعين الناس، إذ كما يصح أن يغيب النبي ـ كغيبته في الغار والشعب ـ صحّ أن يغيب الامام، ولا فرق في حكم العقل بين طول الغيبة وقصرها.

قال الله تعالى: (وَلِكُلِّ قَوم هَاد) (1).

وقال: (وإنْ مِنْ أمّة إلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ) (2).

24 ـ عقيدتنا في عصمة الامام

ونعتقد: أنّ الامام كالنبي يجب أن يكون معصوماً من جميع الرذائل والفواحش، ما ظهر منها وما بطن، من سنِّ الطفولة إلى الموت، عمداً وسهواً.

كما يجب أن يكون معصوماً من السهو والخطأ والنسيان، لانّ الائمة حفظة الشرع والقوَّامون عليه، حالهم في ذلك حال النبي، والدليل الذي اقتضانا أن نعتقد بعصمة الانبياء هو نفسه يقتضينا أن

____________

(1) الرعد: 7.

(2) فاطر: 24.


الصفحة 76
نعتقد بعصمة الائمة بلا فرق.

ليسَ عَلى اللهِ بمُستَنكَرِ أن يَجمعَ العالَمَ في واحدِ(1)

25 ـ عقيدتنا في صفات الامام وعلمه

ونعتقد: أنّ الامام كالنبي يجب أن يكون أفضل الناس في صفات الكمال: من شجاعة، وكرم، وعفّة، وصدق، وعدل، ومن تدبير، وعقل، وحكمة وخلق.

والدليل في النبي هو نفسه الدليل في الامام.

أمّا علمه: فهو يتلقّى المعارف والاحكام الالهية وجميع المعلومات من طريق النبي أو الامام من قبله.

وإذا استجدّ شيء لابدّ أن يعلمه من طريق الالهام بالقوة القدسية التي أودعها الله تعالى فيه، فإنّ توجّه إلى شيء وشاء أن يعلمه على وجهه الحقيقي، لا يخطئ فيه ولا يشتبه، ولا يحتاج في كلّ ذلك إلى البراهين العقلية، ولا إلى تلقينات المعلّمين، وإن كان علمه قابلاً للزيادة والاشتداد، ولذا قال صلّى الله عليه وآله في دعائه:

____________

(1) البيت لابي نؤاس، راجع: دلائل الاعجاز: 196 و 424 و 428.


الصفحة 77
«رَبِّ زدني علماً».

أقول: لقد ثبت في الابحاث النفسيّة أنّ كل انسان له ساعة أو ساعات في حياته قد يعلم فيها ببعض الاشياء من طريق الحدس الذي هو فرع من الالهام، بسبب ما أودع الله تعالى فيه من قوّة على ذلك، وهذه القوة تختلف شدّة وضعفاً وزيادة ونقيصة في البشر باختلاف أفرادهم، فيطفر ذهن الانسان في تلك الساعة إلى المعرفة من دون أن يحتاج إلى التفكير وترتيب المقدّمات والبراهين أو تلقين المعلّمين، ويجد كل إنسان من نفسه ذلك في فرص كثيرة في حياته.

وإذا كان الامر كذلك، فيجوز أن يبلغ الانسان من قوّته الالهامية أعلى الدرجات وأكملها، وهذا أمر قرَّره الفلاسفة المتقدّمون والمتأخرون.

فلذلك نقول ـ وهو ممكن في حدِّ ذاته ـ: إنّ قوّة الالهام عند الامام ـ التي تسمّى بالقوة القدسية ـ تبلغ الكمال في أعلى درجاته، فيكون في صفاء نفسه القدسية على استعداد لتلقّي المعلومات في كلّ وقت وفي كل حالة، فمتى توجّه إلى شيء من الاشياء وأراد معرفته استطاع علمه بتلك القوة القدسية الالهامية بلا توقّف

الصفحة 78
ولاترتيب مقدمات ولا تلقين معلّم، وتنجلي في نفسه المعلومات كما تنجلي المرئيات في المرآة الصافية، لا غطش فيها ولا إبهام.

ويبدو واضحاً هذا الامر في تاريخ الائمة (عليهم السلام) كالنبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّهم لم يتربّوا على أحد ولم يتعلّموا على يد معلّم، من مبدأ طفولتهم إلى سن الرشد، حتى القراءة والكتابة، ولم يثبت عن أحدهم أنه دخل الكتاتيب أو تلمذ على يد أستاذ في شيء من الاشياء، مع ما لهم من منزلة علمية لا تجارى، وما سئلوا عن شيء إلاّ أجابوا عليه في وقته، ولم تمر على ألسنتهم كلمة: لا أدري، ولا تأجيل الجواب إلى المراجعة أو التأمّل أو نحو ذلك.

في حين أنّك لا تجد شخصاً مترجماً له من فقهاء الاسلام ورواته وعلمائه إلاّ ذكرت في ترجمته تربيته وتلمذته على غيره، وأخذه الرواية أو العلم على المعروفين، وتوقّفه في بعض المسائل، أو شكّه في كثير من المعلومات، كعادة البشر في كلِّ عصر ومصر.

26 ـ عقيدتنا في طاعة الائمّة

ونعتقد: أنّ الائمة هم أولو الامر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم، وأنّهم الشهداء على الناس، وأنّهم أبواب الله، والسبب إليه، والادلاّء

الصفحة 79
عليه، وأنّهم عيبة علمه، وتراجمة وحيه، وأركان توحيده، وخزّان معرفته، ولذا كانوا أماناً لاهل الارض كما أنّ النجوم أمان لاهل السماء، على حد تعبيره (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).

وكذلك على حدّ قوله أيضاً: «إنّ مثلهم في هذه الامّة كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق وهوى»(2).

وأنّهم حسبما جاء في الكتاب المجيد: (بَل عِبادٌ مُكرَمُونَ لا يَسبِقُونَهُ بالقَولِ وَهُم بأمرهِ يَعمَلُون) (3).

وأنّهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً(4).

بل نعتقد: أنّ أمرهم أمر الله تعالى، ونهيهم نهيه، وطاعتهم طاعته، ومعصيتهم معصيته، ووليّهم وليّه، وعدوّهم عدوّه.

ولا يجوز الرد عليهم، والراد عليهم كالراد على الرسول، والراد

____________

(1) صحيفة الامام الرضا(عليه السلام): 47، عيون أخبار الرضا 2/27، فضائل أحمد: 189، المعجم الكبير 7/25، كنز العمال 12/101.

(2) كمال الدين: 239، عيون الاخبار لابن قتيبة: 1، مستدرك الحاكم 2/343، المعجم الكبير 12/34.

(3) الانبياء: 26 ـ 27.

(4) مسند أحمد 1/330، الصواعق المحرقة: 85، تفسير الطبري 22/5، مجمع الزوائد 9/121.