الصفحة 80
على الرسول كالراد على الله تعالى.

فيجب التسليم لهم والانقياد لامرهم والاخذ بقولهم.

ولهذا نعتقد: أنّ الاحكام الشرعيه الالهية لا تستقى إلاّ من نمير مائهم، ولا يصحّ أخذها إلاّ منهم، ولا تفرغ ذمّة المكلَّف بالرجوع إلى غيرهم، ولا يطمئنّ بينه وبين الله إلى أنّه قد أدّى ما عليه من التكاليف المفروضة إلاّ من طريقهم.

إنّهم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها غرق في هذا البحر المائج الزاخر بأمواج الشبه والضلالات والادّعاءات والمنازعات.

ولا يهمّنا من بحث الامامة في هذه العصور إثبات أنّهم هم الخلفاء الشرعيون وأهل السلطة الالهية، فإنّ ذلك أمر مضى في ذمّة التأريخ، وليس في إثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد، أو يعيد الحقوق المسلوبة إلى أهلها، وإنّما الذي يهمّنا منه ما ذكرنا من لزوم الرجوع إليهم في الاخذ بأحكام الله الشرعية، وتحصيل ما جاء به الرسول الاكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به.

وإنّ في أخذ الاحكام من الرواة والمجتهدين الذين لا يستقون من نمير مائهم ولا يستضيئون بنورهم، ابتعاداً عن محجّة الصواب

الصفحة 81
في الدين، ولا يطمئن المكلّف من فراغ ذمته من التكاليف المفروضة عليه من الله تعالى، لانّه مع فرض وجود الاختلاف في الاراء بين الطوائف والنحل فيما يتعلّق بالاحكام الشرعية إختلافاً لا يرجى معه التوفيق، لا يبقى للمكلّف مجال أن يتخيّر ويرجع إلى أي مذهب شاء ورأي اختار، بل لابدّ له أن يفحص ويبحث حتى تحصل له الحجة القاطعة بينه وبين الله تعالى على تعيين مذهب خاص يتيقّن أنّه يتوصّل به إلى أحكام الله، وتفرغ به ذمّته من التكاليف المفروضة، فإنّه كما يقطع بوجود أحكام مفروضة عليه يجب أن يقطع بفراغ ذمّته منها، فان الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

والدليل القطعي دالّ على وجوب الرجوع إلى آل البيت، وأنّهم المرجع الاصلي بعد النبي لاحكام الله المنزلة، وعلى الاقل قوله عليه أفضل التحيات: «إني قد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً، الثقلين، وأحدهما أكبر من الاخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الارض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما

الصفحة 82
لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»(1).

وهذا الحديث اتّفقت الرواية عليه من طرق أهل السنة والشيعة.

فدقّق النظر في هذا الحديث الجليل تجد ما يقنعك ويدهشك في مبناه ومعناه، فما أبعد المرمى في قوله: «إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي أبداً»، والذي تركه فينا هما الثقلان معاً، إذ جعلهما كأمر واحد، ولم يكتف بالتمسُّك بواحد منهما فقط، فبهما معاً لن نضل بعده أبداً.

وما أوضح المعنى في قوله: «لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض»، فلا يجد الهداية أبداً من فرّق بينهما ولم يتمسّك بهما معاً، فلذلك كانوا: سفينة النجاة، و أماناً لاهل الارض، ومن تخلّف عنهم غرق في لجج الضلال ولم يأمن من الهلاك.

وتفسير ذلك بحبّهم فقط من دون الاخذ بأقوالهم واتّباع طريقهم هروب من الحق، لا يلجئ إليه إلاّ التعصُّب والغفلة عن المنهج الصحيح في تفسير الكلام العربي المبين.

____________

(1) سنن الترمذي 5/663، مسند أحمد 3/14، سنن الدارمي 2/431، المصنف 11/452، السنة لابن أبي عاصم 2/336، الطبقات لابن سعد 2/194.


الصفحة 83

27 ـ عقيدتنا في حبّ آل البيت

قال الله تعالى: (قُل لاَّ أسألُكُم عَليهِ أجراً إلاَّ المَوَدَّةَ في القُربى)(1).

نعتقد: أنّه زيادة على وجوب التمسّك بآل البيت، يجب على كل مسلم أن يدين بحبّهم ومودّتهم، لانّه تعالى في هذه الاية المذكورة حصر المسؤول عليه الناس في المودة في القربى.

وقد تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنّ حبهم علامة الايمان، وأنّ بغضهم علامة النفاق (2)، وأنّ من أحبّهم أحب الله ورسوله، ومن أبغضهم أبغض الله ورسوله (3).

بل حبّهم فرض من ضروريات الدين الاسلامي التي لا تقبل الجدل والشك، وقد اتّفق عليه جميع المسلمين على اختلاف نحلهم وآرائهم، عدا فئة قليلة اعتبروا من أعداء آل محمّد، فنبزوا

____________

(1) الشورى: 23.

(2) المحاسن 1/176، أمالي الصدوق: 384، مسند أحمد 1/84، صحيح مسلم 1/86، سنن الترمذي 2/301.

(3) أمالي الصدوق: 384، مقتل الحسين للخوارزمي 1/109، ذخائر العقبى: 18، الصواعق المحرقة: 263، كنز العمال 12/98 و 103 و 116.


الصفحة 84
باسم النواصب، أي: مَن نصبوا العداوة لال بيت محمّد، وبهذا يعدُّون من المنكرين لضرورة إسلامية ثابتة بالقطع، والمنكر للضرورة الاسلامية ـ كوجوب الصلاة والزكاة ـ يعدّ في حكم المنكر لاصل الرسالة، بل هو على التحقيق منكر للرسالة، وإن أقرّ في ظاهر الحال بالشهادتين.

ولاجل هذا كان بغض آل محمّد من علامات النفاق، وحبّهم من علامات الايمان، ولاجله أيضاً كان بغضهم بغضاً لله ولرسوله.

ولا شك أنّه تعالى لم يفرض حبّهم ومودّتهم إلاّ لانّهم أهل للحب والولاء، من ناحية قربهم إليه سبحانه، ومنزلتهم عنده، وطهارتهم من الشرك والمعاصي، ومن كل ما يبعد عن دار كرامته وساحة رضاه.

ولا يمكن أن نتصوّر أنّه تعالى يفرض حب من يرتكب المعاصي، أو لا يطيعه حقّ طاعته، فإنّه ليس له قرابة مع أحد أو صداقة، وليس عنده الناس بالنسبة إليه إلاّ عبيداً مخلوقين على حد سواء، وإنما أكرمهم عند الله أتقاهم.

فمن أوجب حبه على الناس كلهم لابدّ أن يكون أتقاهم وأفضلهم جميعاً، وإلاّ كان غيره أولى بذلك الحب، أو كان الله يفضّل

الصفحة 85
بعضاً على بعض في وجوب الحب والولاية عبثاً أو لهواً بلا جهة استحقاق وكرامة.

28 ـ عقيدتنا في الائمّة

لا نعتقد في أئمتنا عليهم أفضل الصلاة والسلام ما يعتقده الغلاة والحلوليّون، (كَبُرت كَلِمةً تَخرُجُ مِن أفواهِهِم) (1).

بل عقيدتنا الخاصّة: أنّهم بشر مثلنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وإنما هم عباد مكرمون، اختصّهم الله تعالى بكرامته، وحباهم بولايته، إذ كانوا في أعلى درجات الكمال اللائقة في البشر: من العلم، والتقوى، والشجاعة، والكرم، والعفّة، وجميع الاخلاق الفاضلة، والصفات الحميدة، لايدانيهم أحد من البشر فيما اختصوا به.

وبهذا استحقّوا أن يكونوا أئمة وهداة، ومرجعاً بعد النبي في كلّ ما يعود للناس من أحكام وحكم، وما يرجع للدين من بيان وتشريع، وما يختص بالقرآن من تفسير وتأويل.

____________

(1) الكهف: 5.


الصفحة 86
قال إمامنا الصادق (عليه السلام): «ما جاءكم عنّا ممّا يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه وردّوه إلينا، وما جاءكم عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه ولاتردّوه إلينا»(1).

29 ـ عقيدتنا في أنّ الامامة بالنص

نعتقد: أنّ الامامة كالنبوّة، لا تكون إلاّ بالنص من الله تعالى على لسان رسوله، أو لسان الامام المنصوب بالنص إذا أراد أن ينص على الامام من بعده.

وحكمها في ذلك حكم النبوّة بلا فرق، فليس للناس أن يتحكَّموا فيمن يعيّنه الله هادياً ومرشداً لعامّة البشر، كما ليس لهم حق تعيينه أو ترشيحه أو انتخابه، لانّ الشخص الذي له من نفسه القدسية استعداد لتحمّل أعباء الامامة العامّة وهداية البشر قاطبة يجب ألا يعرف إلاّ بتعريف الله ولا يعيَّن إلاّ بتعيينه.

ونعتقد: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصّ على خليفته والامام في البرية

____________

(1) مختصر بصائر الدرجات: 92.


الصفحة 87
من بعده، فعيّن ابن عمه علي بن أبي طالب أميراً للمؤمنين، وأميناً للوحي، وإماماً للخلق في عدّة مواطن، ونصّبه، وأخذ البيعة له بإمرة المؤمنين يوم الغدير فقال: «ألا مَن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه كيفما دار»(1).

ومن أوّل مواطن النص على إمامته قوله حينما دعا أقرباءه الادنين وعشيرته الاقربين فقال: «هذا أخي، ووصيي، وخليفتي من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا»(2)، وهو يومئذ صبي لم يبلغ الحلم.

وكرَّر قوله له في عدّة مرّات: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعدي»(3).

إلى غير ذلك من روايات وآيات كريمة دلّت على ثبوت الولاية

____________

(1) المصنف 12/67، سنن ابن ماجة 1/43، سنن الترمذي 5/633، مسند أحمد 1/118، مستدرك الحاكم 3/109، وللمزيد راجع كتاب الغدير: المجلد الاول.

(2) مسند أحمد 1/111، خصائص النسائي: 83، تفسير الطبري 19/74.

(3) المصنف 12/60، التاريخ الكبير 1/115، صحيح مسلم 4/1870، سنن الترمذي 5/640، مسند أحمد 1/179.


الصفحة 88
العامّة له، كآية: (إنَّما وَليُّكُم اللهُ ورَسولُهُ والَّذين آمنوا الّذِينَ يُقيِمُونَ الصَّلاةَ وَ يؤُتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعوُنَ)(1)، وقد نزلت فيه عندما تصدَّق بالخاتم وهو راكع(2).

ولا يساعد وضع هذه الرسالة على استقصاء كلّ ما ورد في إمامته من الايات والروايات، ولا بيان وجه دلالتها.

ثمّ إنّه (عليه السلام) نص على إمامة الحسن والحسين، والحسين نص على إمامة ولده علي زين العابدين، وهكذا إماماً بعد إمام، ينصّ المتقدّم منهم على المتأخِّر إلى آخرهم وهو أخيرهم على ما سيأتي.

30 ـ عقيدتنا في عدد الائمّة

ونعتقد: أنّ الائمّة الذين لهم صفة الامامة الحقّة، هم مرجعنا في الاحكام الشرعية، المنصوص عليهم بالامامة اثنا عشر إماماً، نصّ عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعاً بأسمائهم(3)، ثمّ نصّ المتقدّم منهم على من بعده، على النحو الاتي:

____________

(1) المائدة: 55.

(2) تفسير الطبري 6/186، أسباب النزول: 113، تفسير الرازي 12/26.

(3) كمال الدين: 250 ـ 256، عيون أخبار الرضا 1/41 ـ 51، فرائد السمطين 2/132.


الصفحة 89
ت الكنية الاسماللقبسنة الولادةسنة الوفاة
1أبوالحسن علي بن أبي طالبالمرتضى23 ق. هـ40 هـ
2أبو محمدالحسن بن عليالزكي2 هـ50 هـ
3أبو عبداللهالحسين بن عليسيد الشهداء3 هـ61 هـ
4أبو محمد علي بن الحسينزين العابدين38 هـ95 هـ
5أبو جعفرمحمد بن عليالباقر57 هـ114 هـ
6أبو عبداللهجعفر بن محمدالصادق83 هـ148 هـ
7أبو ابراهيمموسى بن جعفرالكاظم128 هـ183 هـ
8أبو الحسنعلي بن موسىالرضا148 هـ203 هـ
9أبو جعفرمحمد بن عليالجواد195 هـ220 هـ
10أبو الحسنعلي بن محمدالهادي212 هـ254هـ
11أبو محمد الحسن بن علي العسكري232 هـ260 هـ
12أبو القاسممحمد بن الحسن المهدي256 هـ....

وهو الحجة في عصرنا، الغائب المنتظر، عجل الله فرجه، وسهل
مخرجه؛ ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً.

الصفحة 90

31 ـ عقيدتنا في المهديّ

إنّ البشارة بظهور المـهديّ من ولد فاطمة فـي آخر الزمان ليملا الارض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، ثابتة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتواتر، وسجّلها المسلمون جميعاً فيما رووه من الحديث عنه على اختلاف مشاربهم(1).

وليست هي بالفكرة المستحدثة عند الشيعة دفع إليها انتشار الظلم والجور فحلموا بظهور من يطهّر الارض من رجس الظلم، كما يريد أن يصوّرها بعض المغالطين غير المنصفين.

ولو لا ثبوت فكرة المهدي عن النبي على وجه عرفها جميع المسلمين وتشبَّعت في نفوسهم واعتقدوها، لما كان يتمكّن مدّعو المهدية في القرون الاولى ـ كالكيسانية والعباسيين، وجملة من العلويين وغيرهم ـ من خدعة الناس واستغلال هذه العقيدة فيهم طلباً للملك والسلطان، فجعلوا ادّعاءهم المهدية الكاذبة طريقاً للتأثير على العامة، وبسط نفوذهم عليهم.

____________

(1) الغيبة للطوسي: 187، سنن أبي داود 4/107، سنن ابن ماجه 2/1368، مستدرك الحاكم 4/557، سنن الترمذي 4/505.


الصفحة 91
ونحن مع ايماننا بصحّة الدين الاسلامي، وأنّه خاتمة الاديان الالهية، ولا نترقَّب ديناً آخر لاصلاح البشر، ومع ما نشاهد من انتشار الظلم، واستشراء الفساد في العالم على وجه لا تجد للعدل والصلاح موضع قدم في الممالك المعمورة، ومع ما نرى من انكفاء المسلمين أنفسهم عن دينهم، وتعطيل أحكامه وقوانينه في جميع الممالك الاسلامية، وعدم التزامهم بواحد من الالف من أحكام الاسلام، نحن مع كل ذلك لابدّ أن ننتظر الفرج بعودة الدين الاسلامي إلى قوّته وتمكينه من إصلاح هذا العالم المنغمس بغطرسة الظلم والفساد.

ثمّ لا يمكن أن يعود الدين الاسلامي إلى قوّته وسيطرته على البشر عامة، وهو على ما هو عليه اليوم وقبل اليوم من اختلاف معتنقيه في قوانينه وأحكامه وفي أفكارهم عنه، وهم على ما هم عليه اليوم وقبل اليوم من البدع والتحريفات في قوانينه والضلالات في ادّعاءاتهم.

نعم، لا يمكن أن يعود الدين إلى قوّته إلاّ إذا ظهر على رأسه مصلح عظيم، يجمع الكلمة، ويرد عن الدين تحريف المبطلين، ويبطل ما ألصق به من البدع والضلالات بعناية ربّانية وبلطف إلهي،

الصفحة 92
ليجعل منه شخصاً هادياً مهدياً، له هذه المنزلة العظمى، والرئاسة العامّة، والقدرة الخارقة، ليملا الارض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظملاً وجوراً.

والخلاصة: أنّ طبيعة الوضع الفاسد في البشر البالغة الغاية في الفساد والظلم ـ مع الايمان بصحّة هذا الدين، وأنّه الخاتمة للاديان ـ يقتضي انتظار هذا المصلح المهدي لانقاذ العالم ممّا هو فيه.

ولاجل ذلك آمنت بهذا الانتظار جميع الفرق المسلمة، بل الامم من غير المسلمين، غير أنّ الفرق بين الامامية وغيرها هو أنّ الامامية تعتقد أنّ هذا المصلح المهدي هو شخص معيّن معروف ولد سنة 256 هجرية ولا يزال حياً، هو ابن الحسن العسكري واسمه محمّد، وذلك بما ثبت عن النبي وآل البيت من الوعد به، وما تواتر عندنا من ولادته واحتجابه.

ولا يجوز أن تنقطع الامامة وتحول في عصر من العصور وإن كان الامام مخفياً، ليظهر في اليوم الموعود به من الله تعالى، الذي هو من الاسرار الالهية التي لا يعلم بها إلاّ هو تعالى.

ولا يخلو من أن تكون حياته وبقاؤه هذه المدة الطويلة معجزة جعلها الله تعالى له، وليست هي بأعظم من معجزة أن يكون إماماً

الصفحة 93
للخلق وهو ابن خمس سنين يوم رحل والده إلى الرفيق الاعلى، ولا هي بأعظم من معجزة عيسى إذ كلّم الناس في المهد صبياً وبعث في الناس نبياً.

وطول الحياة أكثر من العمر الطبيعي ـ أو الذي يتخيّل أنّه العمر الطبيعي ـ لا يمنع منها فن الطب ولا يحيلها، غير أنّ الطب بعد لم يتوصّل إلى ما يمكّنه من تعمير حياة الانسان، وإذا عجز عنه الطب فانّ الله تعالى قادر على كلّ شيء، وقد وقع فعلاً تعمير نوح وبقاء عيسى (عليهما السلام) كما أخبر عنهما القرآن الكريم، ولو شك الشاك فيما أخبر به القرآن فعلى الاسلام السلام.

ومن العجب أن يتساءل المسلم عن إمكان ذلك وهو يدّعي الايمان بالكتاب العزيز!!

وممّا يجدر أن نذكره في هذا الصدد ونذكّر أنفسنا به: أنّه ليس معنى انتظار هذا المصلح المنقذ المهدي أن يقف المسلمون مكتوفي الايدي فيما يعود إلى الحق من دينهم، وما يجب عليهم من نصرته، والجهاد في سبيله، والاخذ بأحكامه، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

بل المسلم أبداً مكلّف بالعمل بما أنزل من الاحكام الشرعية،

الصفحة 94
وواجب عليه السعي لمعرفتها على وجهها الصحيح بالطرق الموصلة إليها حقيقة، وواجب عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ما تمكّن من ذلك وبلغت إليه قدرته، كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته.

فلا يجوز له التأخّر عن واجباته بمجرد الانتظار للمصلح المهدي والمبشّر الهادي، فإنّ هذا لا يسقط تكليفاً، ولا يؤجّل عملاً، ولا يجعل الناسَ هملاً كالسوائم.

32 ـ عقيدتنا في الرجعة

إنّ الذي تذهب إليه الامامية ـ أخذاً بما جاء عن آل البيت (عليهم السلام)ـ أنّ الله تعالى يعيد قوماً من الاموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها، فيعزّ فريقاً ويذلّ فريقاً آخر، ويديل المحقّين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمّد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.

ولا يرجع إلاّ من علت درجته في الايمان، أو مَن بلغ الغاية من الفساد، ثمّ يصيرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يستحقّونه من الثواب أو العقاب، كما حكى الله تعالى في قرآنه

الصفحة 95
الكريم تمنّي هؤلاء المرتجعين ـ الذين لم يصلحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله ـ أن يخرجوا ثالثاً لعلّهم يصلحون: (قَالوا رَبَّنا أمَّتنا اثنَتَينِ وَأحيَيتَنَا اثنَتَينِ فاعتَرَفنَا بِذُنُوبِنَا فَهَل إلى خُرُوج مِن سَبيل)(1).

نعم، قد جاء القرآن الكريم بوقوع الرجعة إلى الدنيا، وتظافرت بها الاخبار عن بيت العصمة، والامامية بأجمعها عليه، إلاّ قليلون منهم تأوَّلوا ما ورد في الرجعة بأنّ معناها رجوع الدولة والامر والنهي إلى آل البيت بظهور الامام المنتظر، من دون رجوع أعيان الاشخاص وإحياء الموتى.

والقول بالرجعة يعد عند أهل السنة من المستنكرات التي يستقبح الاعتقاد بها، وكان المؤلّفون منهم في رجال الحديث يعدّون الاعتقاد بالرجعة من الطعون في الراوي والشناعات عليه التي تستوجب رفض روايته وطرحها، ويبدو أنّهم يعدّونها بمنزلة الكفر والشرك بل أشنع، فكان هذا الاعتقاد من أكبر ما تنبز به الشيعة الامامية، ويشنَّع به عليهم.

ولا شكّ في أنّ هذا من نوع التهويلات التي تتّخذها الطوائف

____________

(1) المؤمن: 11.


الصفحة 96
الاسلامية ـ فيما غبر ـ ذريعة لطعن بعضها في بعض، والدعاية ضده، ولا نرى في الواقع ما يبرّر هذا التهويل، لانّ الاعتقاد بالرجعة لايخدش في عقيدة التوحيد، ولا في عقيدة النبوّة، بل يؤكد صحّة العقيدتين، إذ الرجعة دليل القدرة البالغة لله تعالى كالبعث والنشر، وهي من الامور الخارقة للعادة التي تصلح أن تكون معجزة لنبيّنا محمّد وآل بيته صلّى الله عليه وعليهم.

وهي عيناً معجزة إحياء الموتى التي كانت للمسيح (عليه السلام)، بل أبلغ هنا، لانها بعد أن يصبح الاموات رميماً (قَالَ مَن يُحـيي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُل يُحيِيهَا الَّذِي أنشأَهَا أوَّلَ مَرة وَهُو بِكُلِّ خَلق عَليِمٌ) (1).

وأمّا من طعن في الرجعة باعتبار أنّها من التناسخ الباطل، فلانّه لم يفرّق بين معنى التناسخ وبين المعاد الجسماني، والرجعة من نوع المعاد الجسماني، فإنّ معنى التناسخ هو انتقال النفس من بدن إلى بدن آخر منفصل عن الاول، وليس كذلك معنى المعاد الجسماني، فإنّ معناه رجوع نفس البدن الاول بمشخّصاته النفسية، فكذلك

____________

(1) يس: 78 ـ 79.


الصفحة 97
الرجعة.

وإذا كانت الرجعة تناسخاً فإنّ إحياء الموتى على يد عيسى (عليه السلام)كان تناسخاً، وإذا كانت الرجعة تناسخاً كان البعث والمعاد الجسماني تناسخاً.

إذن، لم يبق إلاّ أن يناقش في الرجعة من جهتين:

الاولى: أنّها مستحيلة الوقوع.

الثانية: كذب الاحاديث الواردة فيها.

وعلى تقدير صحة المناقشتين، فانّه لا يعتبر الاعتقاد بها بهذه الدرجة من الشناعة التي هوَّلها خصوم الشيعة.

وكم من معتقدات لباقي طوائف المسلمين هي من الامور المستحيلة، او التي لم يثبت فيها نص صحيح، ولكنّها لم توجب تكفيراً وخروجاً عن الاسلام، ولذلك أمثلة كثيرة، منها: الاعتقاد بجواز سهو النبي أو عصيانه، ومنها الاعتقاد بقدم القرآن، ومنها: القول بالوعيد، ومنها: الاعتقاد بأنّ النبي لم ينص على خليفة من بعده.

على أنّ هاتين المناقشتين لا أساس لهما من الصحّة، أمّا أنّ الرجعة مستحيلة فقد قلنا أنّها من نوع البعث والمعاد الجسماني،

الصفحة 98
غير أنّها بعث موقوت في الدنيا، والدليل على إمكان البعث دليل على إمكانها، ولا سبب لاستغرابها إلاّ أنّها أمر غير معهود لنا فيما ألفناه في حياتنا الدنيا، ولا نعرف من أسبابها أو موانعها ما يقرّبها إلى اعترافنا أو يبعدها، وخيال الانسان لا يسهل عليه أن يتقبّل تصديق ما لم يألفه، وذلك كمن يستغرب البعث فيقول: (مَن يُحييِ العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)؟ فيقال له: (يُحيِيهَا الّذي أنشَأَهَا أوَّل مَرة وَهُوَ بِكلِّ خَلق عَلِيمٌ) (1).

نعم، في مثل ذلك ممّا لا دليل عقلي لنا على نفيه أو إثباته، أو نتخيّل عدم وجود الدليل، يلزمنا الرضوخ إلى النصوص الدينية التي هي من مصدر الوحي الالهي، وقد ورد في القرآن الكريم ما يثبت وقوع الرجعة إلى الدنيا لبعض الاموات، كمعجزة عيسى (عليه السلام)في إحياء الموتى: (وَأُبرِئ الاكمَهَ وَالابرصَ وأُحيي الموتَى بإذنِ اللهِ) (2).

وكقوله تعالى: (أَنَّى يُحيِي هَذِهِ اللهُ بَعدَ مَوتِها فأمَاتَهُ اللهُ مائَةَ

____________

(1) يس: 78 ـ 79.

(2) آل عمران: 49.


الصفحة 99
عَام ثُمَّ بَعثَهُ) (1).

والاية المتقدّمة: (قالُوا رَبَّنا أمَتَّنا اثنَتَينِ...) (2)، فإنّه لايستقيم معنى هذه الاية بغير الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، وإن تكلَّف بعض المفسِّرين في تأويلها بما لا يروي الغليل، ولا يحقّق معنى الاية.

وأمّا المناقشة الثانية ـ وهي دعوى أنّ الحديث فيها موضوع ـ فإنّه لا وجه لها، لانّ الرجعة من الامور الضرورية فيما جاء عن آل البيت من الاخبار المتواترة.

وبعد هذا، أفلا تعجب من كاتب شهير يدَّعي المعرفة مثل أحمد أمين في كتابه «فجر الاسلام» إذ يقول: «فاليهودية ظهرت في التشيّع بالقول بالرجعة»!

فأنا أقول له على مدّعاه: فاليهودية أيضاً ظهرت في القرآن بالرجعة، كما تقدّم ذكر القرآن لها في الايات المتقدّمة.

ونزيده فنقول: والحقيقة أنّه لابدّ أن تظهر اليهودية والنصرانية في كثير من المعتقدات والاحكام الاسلامية، لانّ النبي الاكرم جاء

____________

(1) البقرة: 259.

(2) المؤمن: 11.


الصفحة 100
مصدّقاً لما بين يديه من الشرائع السماوية وإن نسخ بعض أحكامها، فظهور اليهودية أو النصرانية في بعض المعتقدات الاسلامية ليس عيباً في الاسلام، على تقدير أنّ الرجعة من الاراء اليهودية كما يدّعيه هذا الكاتب.

وعلى كلّ حال، فالرجعة ليست من الاصول التي يجب الاعتقاد بها والنظر فيها، وإنّما اعتقادنا بها كان تبعاً للاثار الصحيحة الواردة عن آل البيت (عليهم السلام) الذين ندين بعصمتهم من الكذب، وهي من الامور الغيبية التي أخبروا عنها، ولا يمتنع وقوعها.

33 ـ عقيدتنا في التقيّة

روي عن صادق آل البيت (عليه السلام) في الاثر الصحيح: «التقيّة ديني ودين آبائي»(1)، و «من لا تقيّة له لادين له»(2).

وكذلك هي، لقد كانت شعاراً لال البيت (عليهم السلام)، دفعاً للضرر عنهم وعن أتباعهم، وحقناً لدمائهم، واستصلاحاً لحال المسلمين، وجمعاً لكلمتهم، ولمّاً لشعثم.

____________

(1) الكافي 2/174، المحاسن 1/397.

(2) الكافي 2/172، الفقه المنسوب للامام الرضا (عليه السلام): 338.


الصفحة 101
وما زالت سمة تعرف بها الامامية دون غيرها من الطوائف والامم، وكلّ انسان إذا أحسَّ بالخطر على نفسه أو ماله بسبب نشر معتقده أو التظاهر به لابدَّ أن يتكتَّم ويتّقي في مواضع الخطر، وهذا أمر تقضيه فطرة العقول.

ومن المعلوم أنّ الامامية وأئمّتهم لاقوا من ضروب المحن وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أيّة طائفة أو أُمَّة أخرى، فاضطرّوا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقيّة بمكاتمة المخالفين لهم، وترك مظاهرتهم، وستر اعتقاداتهم وأعمالهم المختصة بهم عنهم ; لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدين والدنيا، ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم.

وللتقيّة أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية.

وليس هي بواجبة على كلّ حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الاحوال، كما إذا كان في إظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للاسلام وجهاد في سبيله، فإنّه عند ذلك يستهان بالاموال ولا تعزّ النفوس.

وقد تحرم التقيّة في الاعمال التي تستوجب قتل النفوس

الصفحة 102
المحترمة، أو رواجاً للباطل، أو فساداً في الدين، أو ضرراً بالغاً على المسلمين بإضلالهم، أو إفشاء الظلم والجور فيهم.

وعلى كلّ حال، ليس معنى التقيّة عند الامامية أنّها تجعل منهم جمعية سرّية لغاية الهدم والتخريب، كما يريد أن يصوّرها بعض أعدائهم غير المتورّعين في إدراك الامور على وجهها، ولا يكلّفون أنفسهم فهم الرأي الصحيح عندنا.

كما أنّه ليس معناها أنها تجعل الدين وأحكامه سرّاً من الاسرار لا يجوز أن يذاع لمن لا يدين به، كيف وكتب الامامية ومؤلّفاتهم فيما يخص الفقه والاحكام ومباحث الكلام والمعتقدات قد ملات الخافقين، وتجاوزت الحد الذي ينتظر من أيّة أمَّة تدين بدينها؟!

بلى، إنّ عقيدتنا في التقيّة قد استغلّها من أراد التشنيع على الامامية، فجعلوها من جملة المطاعن فيهم، وكأنّهم كان لا يشفى غليلهم إلاّ أن تقدَّم رقابهم إلى السيوف لاستئصالهم عن آخرهم في تلك العصور التي يكفي فيها أن يقال هذا رجل شيعي ليلاقي حتفه على يد أعداء آل البيت من الامويين والعباسيين، بله العثمانيين.

وإذا كان طعن من أراد أن يطعن يستند إلى زعم عدم مشروعيتها من ناحية دينية، فإنّا نقول له:


الصفحة 103
أولاً: إنّنا متّبعون لائمتنا (عليهم السلام) ونحن نهتدي بهداهم، وهم أمرونا بها، وفرضوها علينا وقت الحاجة، وهي عندهم من الدين، وقد سمعت قول الصادق (عليه السلام): «من لا تقيّة له لا دين له».

وثانياً: قد ورد تشريعها في نفس القرآن الكريم، ذلك قوله تعالى: (إلاَّ مَن أكرِهَ وَقلبُهُ مُطمَئِنٌ بالايمَان)(1)، وقد نزلت هذه الاية في عمّار بن ياسر الذي التجأ إلى التظاهر بالكفر خوفاً من أعداء الاسلام(2).

وقوله تعالى: (إلاَّ أن تَتَّقوُا مِنهُم تُقَاةً) (3).

وقوله تعالى: (وَقَالَ رَجُلٌ مؤُمِنٌ مِن ءالِ فِرعَونَ يَكتُمُ إيمَانَهُ) (4).

____________

(1) النحل: 106.

(2) التبيان في تفسير القرآن 6/428، مجمع البيان في تفسير القرآن 3/387، التفسير الكبير 19/120، جامع البيان 14/122.

(3) آل عمران: 28.

(4) المؤمن: 28.


الصفحة 104

الصفحة 105

الفصل الرابع
ما أدّب به آل البيت شيعتهم

تمهيد

عقيدتنا في الدعاء:

الدعاء

    أدعية الصحيفة السجادية

        زيارة القبور

            معنى التشيع عند آل البيت (عليهم السلام)

                الجور والظلم

                    التعاون مع الظالمين

                        الوظيفة في الدولة الظالمة

                            الدعوة إلى الوحدة الاسلامية

                                حق المسلم على المسلم


الصفحة 106

الصفحة 107

تمهيد:

إنّ الائمّة من آل البيت (عليهم السلام) علموا من ذي قبل أنّ دولتهم لن تعود إليهم في حياتهم، وأنّهم وشيعتهم سيبقون تحت سلطان غيرهم ممّن يرى ضرورة مكافحتهم بجميع وسائل العنف والشدّة.

فكان من الطبيعي ـ من جهة ـ أن يتّخذوا التكتّم «التقيّة» ديناً وديدناً لهم ولاتباعهم، مادامت التقيّة تحقن من دمائهم، ولا تسيء إلى الاخرين ولا إلى الدين، ليستطيعوا البقاء في هذا الخضم العجّاج بالفتن، والثائر على آل البيت بالاحن.

وكان من اللازم بمقتضى إمامتهم ـ من جهة أُخرى ـ أن ينصرفوا إلى تلقين أتباعهم أحكام الشريعة الاسلامية، وإلى توجيههم توجيهاً دينيّاً صالحاً، وإلى أن يسلكوا بهم مسلكاً اجتماعياً مفيداً، ليكونوا مثال المسلم الصحيح العادل.

وطريقة آل البيت في التعليم لا تحيط بها هذه الرسالة، وكتب الحديث الضخمة متكفلة بما نشروه من تلك المعارف الدينية، غير أنّه لابأس أن نشير هنا إلى بعض ما يشبه أن يدخل في باب العقائد

الصفحة 108
فيما يتعلّق بتأديبهم لشيعتهم بالاداب التي تسلك بهم المسلك الاجتماعي المفيد، وتقرِّبهم زلفى إلى الله تعالى، وتطهِّر صدورهم من درن الاثام والرذائل، وتجعل منهم عدولاً صادقين.

وقد تقدّم الكلام في التقيّة التي هي من تلك الاداب المفيدة اجتماعياً لهم، ونحن ذاكرون هنا بعض ما يعنُّ لنا من هذه الاداب.

34 ـ عقيدتنا في الدعاء

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «الدعاء سلاح المؤمن، وعمود الدين، نور السماوات والارض»(1)، وكذلك هو أصبح من خصائص الشيعة التي امتازوا بها، وقد ألّفوا في فضله وآدابه، وفي الادعية المأثورة عن آل البيت ما يبلغ عشرات الكتب، من مطوّلة ومختصرة، وقد أُودع في هذه الكتب ما كان يهدف إليه النبي وآل بيته صلّى الله عليهم وسلّم من الحث على الدعاء والترغيب فيه، حتى جاء عنهم: «أفضل العبادة الدعاء»(2)، و: «أحب الاعمال إلى الله عزّوجل

____________

(1) الكافي 2/339.

(2) الكافي 2/338.


الصفحة 109
في الارض الدعاء»(1).

بل ورد عنهم: «إنّ الدعاء يردّ القضاء والبلاء»(2)، و: أنّه «شفاء من كل داء»(3).

وقد ورد أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان رجلاً دعّاءً(4)، أي: كثير الدعاء، وكذلك ينبغي أن يكون وهو سيِّد الموحِّدين وإمام الالهيين.

وقد جاءت أدعيته كخطبه آية من آيات البلاغة العربية، كدعاء كميل بن زياد المشهور(5)، وقد تضمَّنت من المعارف الالهية والتوجيهات الدينية مايصلح أن تكون منهجاً رفيعاً للمسلم الصحيح.

وفي الحقيقة، إنّ الادعية الواردة عن النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام خير منهج للمسلم إذا تدبّرها، تبعث في نفسه قوّة

____________

(1) الكافي 2/339.

(2) الكافي 2/341.

(3) الكافي 2/341.

(4) الكافي 2/339.

(5) مصباح المتهجد: 844.


الصفحة 110
الايمان والعقيدة وروح التضحية في سبيل الحق، وتعرِّفه سرَّ العبادة ولذّة مناجاة الله تعالى والانقطاع إليه، وتلقَّنه ما يجب على الانسان أن يعلمه لدينه، وما يقرِّبه إلى الله تعالى زلفى، ويبعده عن المفاسد والاهواء والبدع الباطلة.

وبالاختصار، إنّ هذه الادعية قد أُودعت فيها خلاصة المعارف الدينية من الناحية الخلقية والتهذيبية للنفوس، ومن ناحية العقيدة الاسلامية، بل هي من أهم مصادر الاراء الفلسفية، والمباحث العلمية في الالهيات والاخلاقيات.

ولو استطاع الناس ـ وما كلهم بمستطيعين ـ أن يهتدوا بهذا الهدى الذي تثيره هذه الادعية في مضامينها العالية، لما كنت تجد من هذه المفاسد ـ المثقلة بها الارض ـ أثراً، ولحلَّقت هذه النفوس المكبَّلة بالشرور في سماء الحق حرّة طليقة، ولكن أنّى للبشر أن يصغي إلى كلمة المصلحين والدعاة إلى الحق، وقد كشف عنهم قوله تعالى: (إنَّ النَّفسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (1)، (وَمَا أكَثرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بمُؤمِنينَ) (2).

____________

(1) يوسف: 53.

(2) يوسف: 103.


الصفحة 111
نعم، إنّ ركيزة السوء في الانسان اغتراره بنفسه، وتجاهله لمساوئه، ومغالطته لنفسه في أنّه يحسن صنعاً فيما اتّخذ من عمل، فيظلم ويتعدّى، ويكذب ويراوغ، ويطاوع شهواته ما شاء له هواه، ومع ذلك يخادع نفسه أنّه لم يفعل إلاّ ما ينبغي أن يفعل، أو يغضّ بصره متعمداً عن قبيح ما يصنع ويستصغر خطيئته في عينه.

وهذه الادعية المأثورة التي تستمدّ من منبع الوحي تجاهد أن تحمل الانسان على الاختلاء بنفسه، والتجرّد إلى الله تعالى، لتلقّنه الاعتراف بالخطأ، وأنّه المذنب الذي يجب عليه الانقطاع إلى الله تعالى لطلب التوبة والمغفرة، ولتلمّسه مواقع الغرور والاجترام في نفسه، ومثل أن يقول الداعي من دعاء كميل بن زياد:

«إلهي ومَولاي، أجريتَ عليَّ حُكماً اتَّبعتُ فيهِ هوى نفسِي، وَلم أحترَس فيهِ من تَزيينِ عدوِّي، فغرَّني بِما أهوى، وَاسعدهُ على ذلك القضاءُ، فتجاوزتُ بما جرى عليَّ من ذلك بعضَ حدودكَ، وخالفتُ بعضَ أوامرِكَ»(1).

ولا شك أنّ مثل هذا الاعتراف في الخلوة أسهل على الانسان

____________

(1) مصباح المتهجد: 844.