الصفحة 56
مستغفراً ربك من ذنوبي، متشفعاً بك، وفي رواية: وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي، ثم بكى وأنشأ يقول:


يا خير من دفنت بالقاع أعظمهفطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنهفيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثم استغفر وانصرف، قال: فرقدت فرأيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نومي وهو يقول: إلحق الرجل وبشّره بأنّ الله غفر له بشفاعتي، فاستيقظت، فخرجت أطلبه فلم أجده.

قلت: بل قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان في كتابه "مصباح الظلام": إنّ الحافظ أبا سعيد السمعاني ذكر فيما روينا عنه عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال: قدم علينا أعرابي بعدما دفنّا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحثا من ترابه على رأسه، وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله سبحانه وما وعينا عنك، وكان فيما أُنزل عليك: { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا الله... } وقد ظلمت، وجئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: انّه قد غفر لك، انتهى.

وروى ذلك أبو الحسن علي بن إبراهيم بن عبد الله الكرخي عن علي بن محمد بن علي، قال: حدثّنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن ابن صادق، عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فذكره، ولا منافاة بين النقلين لإمكان التعدّد، وعلى فرض الوحدة فأحد النقلين اقتصر، والآخر أسهب في النقل، فنقل جميع القصة.

وقد أدرك ذلك الأعرابي بسلامة فطرته أنّ الآية الكريمة التي تدعو المسلمين إلى المجيء إلى النبي حتى يطلبوا منه أن يستغفر لهم،

الصفحة 57
ليست خاصة بحياة النبي الدنيوية، بل تعم الحياة الأُخروية، فلأجل ذلك قام يطلب من النبي أن يستغفر له، وقال عياض في الشفاء بسند جيد عن ابن حميد ـ أحد الرواة ـ عن مالك فيما يظهر، قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال مالك: " يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فانّ الله تعالى أدّب قوماً فقال: { لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النَّبي } الآية، ومدح قوماً فقال: {إنّ الذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله } الآية، وذمّ قوماً فقال: { إنّ الذين ينادونك من وراء الحجرات } الآية، وانّ حرمته ميتاً كحرمته حياً، فاستكان لها أبو جعفر، فقال: يا أبا عبد الله أستقبلُ القبلة وأدعو أم أستقبلُ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: لم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم (عليه السلام) إلى الله يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفعك الله تعالى قال الله تعالى: { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم } الآية.

فانظر هذا الكلام من مالك، وما اشتمل عليه من أمر الزيارة والتوسّل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واستقباله عند الدعاء وحسن الأدب التام معه.

وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين السامري الحنبلي في المستوعب "باب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)" وذكر آداب الزيارة، وقال: ثم يأتي حائط القبر فيقف ناحيته ويجعل القبر تلقاء وجهه، والقبلة خلف ظهره، والمنبر عن يساره، وذكر كيفية السلام والدعاء.

منه: اللّهم إنّك قلت في كتابك لنبيك (عليه السلام): { ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك } الآية، وإنّي قد أتيت نبيّك مسغفراً، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللّهمّ إنّي أتوجه إليك بنبيّك (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر دعاءً طويلا(1).

____________

1- السمهودي: وفاء الوفا: 4/1360 ـ 1362.


الصفحة 58
هذه نماذج قدمناه إليك لتكون على بيّنة من هذا الأمر وانّه لم يكن هناك فرق بين الحياتين، وقد نقل المؤرخون أُموراً كثيرة يضيق الوقت بنقلها ولو كنّا شاكّين في صدق بعض هذه التوسّلات ولكن نقل علماء السيرة والتاريخ المقدار الهائل من التوسّلات بدعاء النبي ـ بعد رحيله ـ يكشف أنّ التوسّل بدعاء النبي الأكرم كان أمراً رائجاً بين المسلمين ولم يكن أمراً غريباً ولا محظوراً وإلاّ لما صحّ أن ينقل المؤرخ ما يتلقاه المسلمون أمراً مرغوباً عنه. وقد ذكرها لفيف من المحقّقين في كتبهم فراجعها(1).

وليس لنا أن نترك السيرة المستمرة الهائلة التي يلمسها من توقف هنيئة لدى القبر الشريف النبوي وقد قال سبحانه: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنَّم وساءت مصيراً } (النساء/115).

وقد نقل السمهودي نبذاً ممّا وقع لمن استغاث بالنبي أو طلب منه شيئاً عند قبره فأعطى مطلوبه ونال مرغوبه ممّا ذكره الإمام محمد بن موسى بن النعمان في كتابه "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام"(2).

شبهات لابد من الإجابة عليها

قد تعرفت على أدلة التوسّل بدعاء النبي الأكرم وأنّه أمراً أطبق

____________

1- لاحظ شفاء السقام في زيارة خير الأنام للسبكي، والدرر السنية لزيني دحلان، والمبرد المبكي في رد الصارم المنكي لابن علان، ونضرة الإمام السبكي برد الصارم المنكي للسمهودي.

2- وفاء الوفا: 4/1380 ـ 1387. طالع ذلك الفصل تجد فيه حكايات وقضايا كثيرة تدل على جريان السيرة بين المسلمين على التوسّل بدعاء النبي الأكرم.


الصفحة 59
على جوازه الكتاب والسنّة النبوية وسيرة المسلمين، غير أنّ هناك شبهات أثارها بعض من اتّخذ في هذه المسألة موقفاً مسبقاً فزعم أنّ هناك أشواكاً في الطريق تعثّر طريق السالكين المتوسّلين وبدورنا نذكر هذه الشبهات بألفاظها ثم نأتي بما يقلعها من أساسها.

الشبهة الأُولى: البرزخ مانع من الاتصال

إنّ الحياة البرزخية حياة لا يعلمها إلاّ الله فهي حياة مستقلّة نؤمن بها ولا نعلم ماهيتها، وإنّ بين الأحياء والأموات حاجزاً يمنع الاتصال فيما بينهم قطعياً، وعلى هذا يستحيل الاتصال لا ذاتاً ولا صفاتاً وأنّه سبحانه يقول: { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } (المؤمنون/100) والبرزخ معناه الحاجز الذي يحول دون اتصال هؤلاء بهؤلاء(1).

هذه العبارة تتضمن أمرين قد خلط الكاتب بينهما:

أ ـ إنّ الحياة البرزخيّة لا نعلم حقيقتها.

ب ـ إنّ البرزخ حاجز مانع عن الاتصال.

فعلى هامش الأمر الأوّل نقول: إنّ حقيقة الحياة مطلقاً ـ مادية كانت أم برزخية ـ أمر مجهول لا يعلم حقيقتها إلاّ خالقها، والذي يعود إلى إمكاننا هو التعرف على آثارها وخصوصياتها، فكما أنّ الحياة المادية معلومة لنا ببعض آثارها، وكلّما يتقدم العلم يتقدم الإنسان في ميادين التعرف على آثارها، وهكذا الحياة البرزخية فهي مجهولة الحقيقة ولكنّها معلومة بآثارها، وقد ذكر الكتاب العزيز بعضها، وأنّ الشهداء الأحياء بحياتهم البرزخية يُرزَقون، يَفْرحون بما آتاهم الله،

____________

1- محمد نسيب الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 267.


الصفحة 60
يَستبشِرون بالذين لم يلحقوا بهم، ويستبشِرون بنعمة من الله، وأنّهم ربّما يتمنون أموراً كتمنّي حبيب النجار عرفان قومه بمصيره كما قال سبحانه: { قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربّي وجعلني من المكرمين }.

إنّ الحياة البرزخية لا تختص بالمؤمنين، وهناك من المذنبين الكافرين من تعمّهم كآل فرعون إذ يعرضون على النار غدواً وعشياً، قال سبحانه: { وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النّار يعرضون عليها غدوّاً وعشياً * ويوم تقومُ الساعة أدخِلوا آل فرعون أشدَّ العذاب } (غافر/45 ـ 46).

وهذا المقدار من التعرف يكفينا في القضاء بأنّ لهم شعوراً واستشعاراً ودركاً وتعقّلا وظواهر نفسية من الفرج والألم وغير ذلك، ولا تتطلب مسألة التوسّل سوى كون المتوسّل به عاقلا حيّاً مدركاً شاعراً ملتفتاً إلى الدنيا وما يجري فيها.

وعلى هامش الأمر الثاني نقول: إنّ البرزخ بمعنى الحاجز لا بمعنى انقطاع الصلة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة ومن فسّره بالمعنى الثاني فإنّما انتخبه لدعم مذهبه وإنّما هو مانع من رجوع الناس إلى حياتهم الدنيا.

ويدلّ على ذلك: أنّه سبحانه ذكر أمر البرزخ بعدما ذكر تمنّي العصاة الرجوع إلى الدنيا، قال سبحانه: { حتّى إذا جاء أحدهمُ الموتُ قال ربّي ارجعوني لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلاّ إنّها كلمة هو قائلها } (المؤمنون/100).

فقوله: { كلاّ } ردع لتمنّي رجوعهم، يعني لا يستجاب دعاؤهم،

الصفحة 61
ثم عاد سبحانه يؤكده بقوله: { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } أي حائل مانع من الرجوع إلى الدنيا إلى يوم يبعثون.

إنّ اتّخاذ موقف مسبق في المسألة يشكّل مانعاً من الوصول إلى الحقيقة، ويعد من موانع المعرفة الصحيحة فبما أنّ القائل يقتفي أثر من يقول لا يصح التوسّل بدعاء النبي الأكرم في البرزخ، فقد أراد نحتَ دليل لقوله ففسّر البرزخ في الآية بمعنى المانع عن الاتصال لا المانع عن انتقال أهل البرزخ إلى الدنيا، فكأنّه يصوّر أنّ بين الحياتين ستاراً حديدياً أو جداراً ضخماً يمنع من اللقاء والسماع، وليس لما يتخيله دليل، بل الدليل على خلافه، ترى أنّه سبحانه يحكي عن ماء البحرين أحدهما عذب فرات والآخر ملح أُجاج ثم يقول: { وبينهما برزخ لا يبغيان } أي مانع يمنع عن اختلاط المائين، يقول سبحانه: { مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان } (الرحمن 19 ـ 20) ولم يكشف العلم عن وجود سدّ مادّي بين البحرين.

الشبهة الثانية: امتناع اسماع الموتى

إنّ الله تعالى يقول: { فإنّك لا تسمع الموتى } (الروم/52) والنمل بحذف الفاء/80).

ويقول عزّ وجلّ: { وما أنت بمسمع من في القبور } (فاطر/22).

والرسول بعد أن توفّاه الله هو من الموتى ومن أهل القبور فثبت أنّه لا يسمع دعاء أحد من أهل الدنيا وإن كان هو والأنبياء، لا يُبْلُون لأنّ الله قد حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، ولكنّهم أجساد بلا

الصفحة 62
أرواح وهم أموات(1).

فعلى هامش هذه الشبهة نقول: أوّلا: إنّ قوله: " الرسول بعدما توفّاه الله هو من الموتى " ظاهر في إنكار الحياة البرزخية للأنبياء، فلو كان النبي من الموتى فالشهداء من الموتى مع أنّ القرآن يندد من يعدهم أمواتاً إذ يقول: { ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون }.

نعم يقول سبحانه: { إنك ميّت وإنّهم ميّتون } (الزمر/20) ولكن لا بمعنى الفناء المطلق، بل انسلاخ الروح عن البدن وانتقاله إلى العالم الآخر.

وثانياً: إنّ هاتين الآيتين ناظرتان إلى الأجساد الموجودة في القبور، فإنّها هي التي لا تسمع ولا تعي والاتصال لا يكون بيننا وبين هذه الأجساد، بل يتحقق بيننا وبين الأرواح الطاهرة والنفوس الزكية الباقية الخالدة، وإنْ تبعثر الجسد وتناثرت أجزاؤه، فالأرواح هي التي يُسلّم ويُصلّى عليها وهي التي تَسمع وتَرد.

وأمّا الحضور عند المراقد التي تضمّنت الأجساد والأبدان، فلأجل أنّه يبعث على التوجه إلى صاحب تلك الأجساد ويكون أدعى إلى تذكّر خصاله أو صفاته، وإلاّ فانّ الارتباط بهم، والسلام عليهم، ممكن حتى من مكان ناء وبلد بعيد، كما تصرح بذلك بعض أحاديث الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولابن القيم كلام في تفسير الآيتين نأتي بنصّه:

قال: أمّا قوله تعالى: { وما أنتَ بمسع من في القبور } فسياق الآية

____________

1- التوصل إلى حقيقة التوسّل: 267.


الصفحة 63
يدل على أنّ المراد منها أنّ الكافر الميّت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعاً يُنتفع به كما أنّ من في القبور لا نقدر على إسماعهم إسماعاً ينتفعون به، ولم يُرِد سبحانه أنّ أصحاب القبور لا يسمعون شيئاً البتة كيف وقد أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّهم يسمعون خفق نعال المشيّعين وأخبر أنّ قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرّع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أنّ من سلّم على أخيه المؤمن ردّ عليه السلام.

هذه الآية نظير قوله: { إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصُّمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرين } وقد يقال: نفي إسماع الصُمّ مع نفي إسماع الموتى يدل على أنّ المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأنّ قلوب هؤلاء لمّا كانت ميتة صمّاء كان إسماعها ممتنعاً بمنزلة خطاب الميّت والأصمّ، وهذا حقّ ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلّقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي والله أعلم(1).


*  *  *

وقال أيضاً: قال ابن عبد البر: ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: ما من مسلم يمرّ على قبر أخيه كانَ يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه إلاّ ردَّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام. فهذا نص في أنّه يعرفه بعينه ويرد عليه السلام.

وفي الصحيحين عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من وجوه متعددة أنّه أمر بقتلى بدر فأُلقوا في قليب، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم يا فلان ابن

____________

1- الإمام شمس الدين ابن القيم: الروح: 45 ـ 46، طـ. دار الكتب العلمية بيروت.


الصفحة 64
فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّاً فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّاً؟ فقال له عمر: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيّفوا؟ فقال: والذي بعثني بالحقّ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنّهم لا يستطيعون جواباً.

وثبت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الميت يسمع قرع نعال المشيّعين له إذا انصرفوا عنه.

وقد شرّع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأُمّته إذا سلّموا على أهل القبور أن يُسلِّموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ـ ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد.

والسلف مجمعون على هذا وقد تواترت الآثار عنهم بأنّ الميّت يعرف زيارة الحيّ له ويستبشر به.

قال أبوبكر عبد الله بن محمّد بن عبيد بن أبي الدنيا في كتاب القبور، باب معرفة الموتى بزيارة الأحياء:

(حدثنا) محمد بن عون: حدّثنا يحيى بن يمان، عن عبد الله بن سمعان، عن زيد بن أسلم، عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به وردّ عليه حتى يقوم.

(حدثنا) محمد بن قدامة الجوهري: حدّثنا معن بن عيسى القزاز: أخبرنا هشام بن سعد: حدثنا زيد بن أسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: إذا مرّ الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام

الصفحة 65
وعرفه، وإذا مرّ بقبر لا يعرفه فسلّم عليه ردّ عليه السلام(1).

ويدل على هذا أيضاً ما جرى عليه عمل الناس قديماً وإلى الآن من تلقين الميّت في قبره، ولولا أنّه يسمع ذلك وانتفع به لم يكن فيه فائدة وكان عبثاً، وقد سئل عنه الإمام أحمد (رحمه الله) فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل.


*  *  *

الشبهة الثالثة: انقطاع عمل الإنسان

يدل على انقطاع الصلة بين الحياتين الحديث المتواتر عن رسول الله: " إذا مات المرء انقطع عمله إلاّ عن ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له " وهذه الرواية تشمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

فعلى هامش هذه الشبهة نقول: إنّ من وطّن نفسه على إثبات ما يتمناه سواء أكان حقاً أم باطلا فهو يتمسّك بكل شيء سواء أكانت له دلالة على ما يتبناه أم لا.

فأي دلالة لهذا الحديث على انقطاع الصلة، إذ غاية ما يدل عليه أنّ الإنسان لا ينتفع بعمله شخصياً بعدما انتقل إلى البرزخ إلاّ عن ثلاث، فليس له عمل مباشر ينتفع به إلاّ هذه الثلاث، وأمّا أنّه لا يتمكن من التكلم والجواب والاستغفار في حق الغير فلا دلالة للحديث عليه.

هكذا تزول الشبهات ويبقى الأصل سليماً وهو أنّ الأنبياء أحياء بعد مفارقة الأرواح لأجسادهم الطاهرة وأنّه من الممكن اتصال الأحياء بأرواحهم، كل ذلك بإذنه سبحانه.

____________

1- الإمام شمس الدين ابن القيم: الروح: 5 ـ 6.

2- المصدر نفسه: 267.


الصفحة 66

التلوّن في الاستدلال

نرى أنّ المانعين عن التوسّل بدعاء النبي في حياته البرزخية يتلوّنون في الاستدلال، فتارة ينفون حياة النبي بعد الموت وأُخرى ينفون إمكان الاتصال وثالثة يدعون لغوية هذا العمل، ونعوذ بالله من قولهم الرابع إذ يعدّون العمل شركاً وعبادة للرسول، أمّا الثلاث الأُول فقد ظهرت حالها، وأمّا الشرك فلا يدرى كيف يوصف به، مع أنّ هذا عمل واحد يُطلَب في حياة النبي ويُطلَب بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى أفيمكن أن يكون شيء واحد توحيداً في حالة وشركاً في أُخرى؟ مع أنّه لا يسأل الرسولُ بما أنّه إله، أو ربّ أو بيده مصير الداعي، وإنّما يسأله بما أنّه عبد صالح ذو نفس طاهرة وكريمة وهو أفضل الخلائق وأحد الأمانين في الأرض يستجاب دعاؤه ولا يرد.


الصفحة 67

«7»
التوسّل بالأنبياء والصالحين أنفسهم


هناك قسم آخر من التوسّل وهو التوسّل بذوات الأنبياء والصالحين وجعلهم وسيلة لاستجابة الدعاء، والتنويه بما لهم من المقام والمنزلة عند الله سبحانه، وهذا غير القسم الخامس، ففي القسم الماضي كنّا نتوسّل بدعاء النبي ونجعل دعاءه وسيلة إلى الرب وفي هذا القسم نجعل نفس الرسول وكرامته عند الله وسيلة إلى الرب.

ومن الإمعان في القسم السابق يُعرف مفهوم هذا التوسّل لأنّ التوسّل بدعائه لأجل أنّه دعاء روح طاهرة، ونفس كريمة، وشخصية مثالية وأفضل الخلائق، ففي الحقيقة ليس الدعاء بما هو دعاء، وسيلة، وإنّما الوسيلة هي الدعاء النابع عن تلك الشخصية الإلهية التي كرّمها الله وعظّمها ورفع مقامها وذِكراها وقال: { ورفعنا لك ذكرك } (الانشراح/4).


الصفحة 68
وأمر المسلمين بتكريمه وتعزيره حيث قال: { فالّذين آمنوا به وعزَّروهُ ونصروهُ واتَّبعوا النور الذي أنزل معه أُولئك هم المفلحون } (الأعراف/157) فقوله { عزَّروه } بمعنى أكرموه.

فإذا كان رصيد استجابة الدعاء هو شخصيته الفذّة المثالية، ومنزلته عند الله فالأولى أن يتوسّل بها الإنسان كما يتوسّل بدعائه، فمن اعترف بجواز الأوّل ومنع الثاني فقد فرّق بين أمرين متلازمين، وما دعاهم إلى التفريق بينهما إلاّ صيانة لمعتقدهم.

وبدورنا نغض النظر عن هذا الدليل ونذكر ما ورد في السنّة النبوية مروياً عن طريق صحيح أقرّ به الأقطاب من أهل الحديث.

1 ـ توسلّ الضرير بنبيّ الرحمة

عن عثمان بن حنيف أنّه قال: إنّ رجلا ضريراً أتى النبي فقال: أُدعُ الله أن يعافيني فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ وهو خير.

قال: فادعه قال: فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء: " اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه اليك بنبيّك محمّد نبي الرحمة، يا محمد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى، اللّهمّ شفّعه فيَّ ".

قال ابن حنيف: " فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ "(1).

____________

1- الترمذي: الصحيح، كتاب الدعوات، الباب 119، برقم 3578، وسنن ابن ماجة 1: 441 برقم 1385، مسند أحمد: 4/138 إلى غير ذلك من المصادر وسيأتي في المتن نصوصهم حول وصف الحديث.


الصفحة 69
إنّ الاستدلال بالرواية مبني على صحّتها سنداً وتمامية دلالتها مضموناً.

أمّا الأوّل: فلم يناقش في صحّتها إلاّ الجاهل بعلم الرجال، حتى أنّ ابن تيمية قال: قد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي أنّه علّم رجلا أن يدعو فيقول: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك. وروى النسائي نحو هذا الدعاء "(1).

وقال الترمذي: هذا حديث حق حسن صحيح.

وقال ابن ماجة: هذا حديث صحيح.

وقال الرفاعي: لا شك أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور(2).

وبعد ذلك فلم يبق لأحد التشكيك في صحّة سند الحديث إنّما الكلام في دلالته وإليك البيان:

إنّ الحديث يدل بوضوح على أنّ الأعمى توسّل بذات النبي بتعليم منه (صلى الله عليه وآله وسلم) والأعمى وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر إلاّ أنّ النبي علّمه دعاء تضمن التوسّل بذات النبي، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث.

وبعبارة ثانية: أنّ الذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران:

الأوّل: أنّ الراوي طلب من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعاء ولم يظهر منه توسّل بذات النبي.

الثاني: أنّ الدعاء الذي علّمه النبي، تضمّن التوسّل بذات النبي بالصراحة التامة، فيكون ذلك دليلا على جواز التوسّل بالذات.

____________

1- مجموعة الرسائل والمسائل: 1/13.

2- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 158.


الصفحة 70
وإليك الجمل والعبارات التي هي صريحة في المقصود.

1 ـ اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك:

إنّ كلمة "بنبيّك" متعلقة بفعلين هما "أسألك" و "أتوجّه إليك" والمراد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاؤه.

وتقدير كلمة "دعاء" قبل لفظ "بنبيّك" حتى يكون المراد هو "أسألك بدعاء نبيّك أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك" تحكّم وتقدير بلا دليل. وتأويل دون مبرّر ولو أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجَهْمية والقدريّة.

2 ـ محمد نبي الرحمة:

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من الله بواسطة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وشخصيته فقد جاءت بعد كلمة "بنبيّك" جملة "محمد نبي الرحمة" لكي يتّضح نوع التوسّل والمتوسّل به بأكثر ما يمكن.

3 ـ يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي:

إنّ جملة "يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي" تدل على أنّ الرجل الضرير ـ حسب تعليم الرسول ـ اتّخذ النبي نفسَه، وسيلة في دعائه أي أنّه توسّل بذات النبي لا بدعائه (صلى الله عليه وآله وسلم).

4 ـ وشفّعه فيّ:

إنّ قوله "وشفّعه فيّ" معناه يا رب اجعل النبي شفيعي وتقبّل شفاعته في حقّي، وليس معناه تقبل دعاءه في حقّي، فإنّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتى يكون معنى هذه الجملة: استجب دعاءه في حقّي.

ولو كان هناك دعاء من النبي، لذكره الراوي إذ ليس دعاؤه (صلى الله عليه وآله وسلم)

الصفحة 71
من الأُمور غير المهمّة حتى يتسامح الراوي في حقّه.

وحتى لو فرضنا أنّ معناه "تقبّل دعاءه في حقّي" فلا يضر ذلك بالمقصود أيضاً، إذ يكون على هذا الفرض هناك دعاءان: دعاء الرسول ولم يُنْقَل لفظه، والدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، وقد جاء فيه التصريح بالتوسّل بذات النبي وشخصه وصفاته، وليس لنا التصرّف في الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير، بحجّة أنّه كان هناك للرسول دعاء.

لقد أورد هذا الحديث النسائي والبيهقي والطبراني والترمذي والحاكم في مستدركه ولكن الترمذي والحاكم ذكرا جملة "اللّهمّ شفّعه فيه" بدل "وشفّعه فيّ".

إجابة على سؤال

إنّ من يمنع التوسّل بشخصية الرسول المثالية لمّا وقع أمام هذا الحديث تعجّب عاضّاً على انملته فحمل الحديث على أنّه من قبيل التوسّل بدعاء الرسول لا بشخصه وذاته الكريمة مستدلاًّ بقول الضرير "ادعو الله أن يعافيني" وقد خلط بين أمرين:

الأوّل: المحاورة الابتدائية التي وقعت بين النبي والضرير، فكان المطلوب بلا شك، هو طلب الدعاء من النبي، وهذا ما لا ينكره أحد، إنّما الكلام فيما يأتي.

الثاني: الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير فإنّه تضمّن التوسّل بذات النبي ولا يمكن لأحد أن ينكر التصاريح الموجودة في الحديث.

والتصرّف في النصّ الثاني بحجة أنّ الموضوع في المحاورة الأُولى هو طلب الدعاء، تصرف نابع من اتخاذ موقف مسبق قبل النظر