قال الدكتور عبد الملك السعدي: وقد ظهر في الآونة الأخيرة أُناس ينكرون التوسّل بالذات مطلقاً، سواء كان صاحبها حيّاً أو ميّتاً.
وقد أوّلوا حديث الأعمى وقالوا: إنّ الأعمى لم يتوسّل ولم يأمره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به بل قال له: صلِّ ركعتين ثم اطلب منّي أن أدعو لك ففعل.
وأنت يا أخي عليك أن تقرأ نص الحديث هل يحتمل هذا التأويل، وهل فيه هذا المدّعى؟ أم أنّه أخذ يطلب من الله متشفعاً بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يدع له (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو أراد منه ذلك لاستجاب له أوّل مرّة حيث طلب منه الدعاء بالكشف عن بصره فأبى إلاّ أن يصلّي ويتولّى الأعمى بنفسه الدعاء(1).
التوسّل بذات النبيّ بعد رحيله
إنّ الصحابي الجليل عثمان بن حنيف فهم من الحديث السابق أنّ التوسّل بذات النبي وشخصه يعم حياته ومماته، فلأجل ذلك عندما رجع إليه بعضُ أصحاب الحاجة علّمه نفس الدعاء الذي علّمه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) للضرير ومن حسن الحظ كان توصّله ناجحاً.
روى الطبراني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف عن عمّه عثمان بن حنيف، أنّ رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان (رضي الله عنه)في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى ابن حنيف فشكى
____________
1- الدكتور عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الاسلامي الدقيق، طـ.بغداد شارع المتنبي.
فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان (رضي الله عنه)فجاء البوّاب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان (رضي الله عنه) فأجلسه معه على الطنفسة فقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له ثم قال له: ما ذكرتُ حاجتك حتى كانت الساعة؟ وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها.
ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلّمته فيّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمته، ولكنّي شهدت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وأتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أفتبصر؟ فقال: يا رسول الله ليس لي قائد وقد شقّ عليّ.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ائت الميضأة فتوضّأ ثمّ صلّ ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدعوات.
قال ابن حنيف: فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط(1).
إنّ دلالة الحديث على جواز التوسّل بذوات الصالحين وأخصّ منهم الأنبياء أمر لا سترة فيه، نعم بعض من لا يروقه هذا النوع من
____________
1- المعجم الكبير للحافظ سليمان بن أحمد بن أيّوب اللخمي الطبراني (ت 360 هـ): 9/16 ـ 17، باب ما أسند إلى عثمان بن حنيف، برقم 8310، والمعجم الصغير له أيضاً: 1/183 ـ 184.
أوّلا: إنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو دعاء الشخص المتوسّل به إلى الله تعالى بقضاء حاجة المتوسّل لا كما يعرفه القوم في زماننا هذا من التوسّل بذات المتوسّل به.
ثانياً: لو كان دعاء الأعمى الذي علّمه رسول الله دعاءً ينفع في كلّ زمان ومكان لما رأينا أيّ أعمى على وجه البسيطة(1).
يلاحظ على كلامه الأوّل: بأنّه من غرائب الكلام فقد جعل من مذهبه دليلا على ضعف الرواية، وهو أنّ معنى التوسّل عند الصحابة هو التوسّل بدعاء الشخص لا بذاته. فمن أين علم أنّه مذهب الصحابة وهل أنّ مذهبهم يُعرف من خلال أحاديثهم، مع أنّ الحديثين المرويين عن طريق ذلك الصحابي الجليل عثمان بن حنيف يدلاّن على خلافه؟
وأمّا الثاني: فهو إطاحة بالوحي، وازدراء به، ولو صحّ ما ذكره فلقائل أن يقول: لو صحّ قوله سبحانه: { ادعوني أستجب لكم } (غافر/60) يجب أن لا يبقى على وجه البسيط ذو عاهة.
والجواب عن تلك الوسوسة في كلا المقامين واحد، وهو أنّ الدعاء مقتض لنزول الرحمة ودفع الكُربة ولكن ليس السبب تاماً لنجاح المقصود، بل له شروط وله موانع وعوائق، ولأجل ذلك نرى أنّ بعض الأدعية لا تستجاب، مع أنّه سبحانه يحثّ على الدعاء وأنّه يستجيب دعاء من دعاه، ويقول: { وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم }.
مناقشة في سند الرواية
لقد تعرّفت على تمامية دلالة الرواية وهناك من يريد المناقشة
____________
1- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 335.
إنّ في سند هذا الحديث رجلا اسمه روح بن صلاح وقد ضعّفه الجمهور وابن عديّ وقال ابن يونس: يروي أحاديث منكرة(1).
أظنّ أنّ الكاتب لم يرجع إلى مصدرها وإنّما تبع تقوّل الآخرين، ونحن نضع أمامك سند الحديث من المصدرين اللذين روي عنهما الحديث ولا ترى فيهما أثراً من روح بن صلاح وإليك السند:
روى الطبراني في المعجم الكبير، قال: حدّثنا طاهر بن عيسى بن قريش المصري المقري: ثنا أصبغ بن الفرح: ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي، عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف، عن عمّه عثمان بن حنيف(2).
ورواه البيهقي بالسند التالي:
أخبرنا أبو سعبد عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد (رحمه الله): أنبأنا الإمام أبوبكر محمد بن علي بن الشاشي القفال قال: أنبأنا أبو عروبة: حدّثنا العباس بن الفرج: حدّثنا إسماعيل بن شبيب: حدّثنا أبي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر المديني... إلخ السند(3).
وأنت ترى أنّه ليس في طريق الرواية روح بن صلاح بل هو روح بن القاسم والكاتب صرّح بأنّ الرواية رواها الطبراني والبيهقي، وهذا يعرب عن أنّ الكاتب لم يرجع إلى المصدرين وإنّما اعتمد على تقوّل الآخرين.
____________
1- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 237.
2- الطبراني: المعجم الكبير: 9/17، وفي المعجم الصغير له "أصبغ بن الفرج" مكان "أصبغ بن الفرح".
3- البيهقي: دلائل النبوة: 6/168.
سيرة الأُمم في توسّلهم بالذوات الطاهرة
لم يكن التوسّل بالصالحين والطيبين والمعصومين والمخلصين من عباد الله أمراً جديداً في زمن النبي وبعده بل كان ذلك امتداداً للسيرة الموجودة قبل الإسلام، ونحن نضع أمامك قسماً من هذه التوسلات لتكون على علم بأنّ الفطرة السليمة تدعو الإنسان إلى التوسّل بالموجودات الطاهرة لجلب رحمته تعالى.
1 ـ استسقاء عبد المطلب بالنبي وهو رضيع
إنّ عبد المطلب استسقى بالنبي الأكرم وهو طفل صغير، حتى قال ابن حجر: إنّ أبا طالب يشير بقوله:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل |
إلى ما وقع في زمن عبد المطلب حيث استسقى لقريش والنبي معه غلام(2).
____________
1- الذهبي: ميزان الاعتدال: 2/85 برقم 2801.
2- فتح الباري: 2/398، ودلائل النبوة: 2/126.
2 ـ استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام
أخرج ابن عساكر عن أبي عرفة، قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش، يا أبا طالب أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلم فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنّه شمس دجى تجلّت عن سحابة قتماء، وحوله أُغيلمه، فأخذ النبي أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذَ إلى الغلام وما في السماء قزعة، قأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب النادي، والبادي، وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل(1) |
وقد كان استسقاء أبي طالب بالنبي وهو غلام، بل استسقاء عبد المطلب به وهو صبي أمراً معروفاً بين العرب، وكان شعر أبي طالب في هذه الواقعة مما يحفظه أكثر الناس.
ويظهر من الروايات أنّ استسقاء أبي طالب بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان موضع رضا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فانّه بعدما بعث للرسالة استسقى للناس فجاء المطر وأخصب الوادي فقال النبي: لو كان أبو طالب حيّاً لقرّت عيناه، ومن ينشدنا قوله؟ فقام علي (عليه السلام) وقال: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كأنّك أردت قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل(2) |
إنّ التوسّل بالأطفال في الاستسقاء أمر ندب إليه الشارع، قال
____________
1- فتح الباري: 2/494، والسيرة الحلبية: 1/116.
2- إرشاد الساري: 2/338.
هذا هو الإمام الشافعي يقول في آداب صلاة الاستسقاء: " وأحب أن يخرج الصبيان، ويتنظفوا للاستسقاء، وكبار النساء، ومن لا هيبة منهنّ، ولا أحبّ خروج ذات الهيبة، ولا آمر بإخراج البهائم "(2).
فما الهدف من إخراج الصبيان والنساء الطاعنات في السن، إلاّ استنزال الرحمة بهم وبقداستهم وطهارتهم؟ كل ذلك يعرب عن أنّ التوسّل بالأبرياء والصلحاء والمعصومين مفتاح استنزال الرحمة وكان المتوسّل يقول: ربّي وسيّدي!! الصغير معصوم من الذنب، والكبير الطاعن في السن أسيرك في أرضك، ولكتا الطائفتين أحقّ بالرحمة والمرحمة. فلأجلهم أنزل رحمتك علينا، حتى تعمّنا في ظلّهم.
إنّ الساقي ربّما يسقي مساحة كبيرة لأجل شجرة واحدة، وفي ظلّها تُسقى الأعشاب وسائر الخضراوات غير المفيدة.
3 ـ توسّل الخليفة بعمّ النبي: العباس
روى البخاري في صحيحه قال: كان عمر بن الخطاب إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه) وقال: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وأنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، قال: فيُسقون(3).
والحديث صحيح السند فما ظنك برواية رواها الإمام البخاري، لكن من لا يروقه التوسّل بالذوات الطاهرة أخذ يؤوّل الحديث بأنّ
____________
1- عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي: 49.
2- ابن إدريس الشافعي: الأُم: 1/230.
3- البخاري: الصحيح: 2/32 باب صلاة الاستسقاء.
لا أظنّ أن أحداً يحمل شيئاً من الإنصاف، يسوِّغ لنفسه أن يفسر الحديث بما ذكره أي التوسّل بالدعاء، لأنّ في الموضوع نصوصاً تردُّ ذلك وإليك الإشارة إليها:
1 ـ قول الخليفة عند الدعاء... قال: " اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا ". وهذا ظاهر في أنّ الخليفة قام بالدعاء في مقام الاستسقاء، وتوسّل بعمّ الرسول في دعائه، ولو كان المقصود هو التوسّل بدعائه، كان عليه أن يقول: يا عمّ رسول الله كنّا نطلب الدعاء من الرسول فيسقينا الله، والآن نطلب منك الدعاء فادع لنا(2).
2 ـ روى ابن الأثير كيفية الاستسقاء فقال: استسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة لمّا اشتدّ القحط، فسقاهم الله تعالى به، وأخصبت الأرض، فقال عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله والمكان منه. وقال حسان:
سال الإمام وقد تتابع جدبنا | فسقى الغمامُ بغُرّة العباس |
عمِّ النّبي وصنوِ والده الذي | ورث النبي بذاك دون الناس |
أحيى الإله به البلاد فأصبحت | مخضرّة الأجناب بعد الياس |
____________
1- التوصل إلى حقيقة التوسّل: 253.
2- صحيح البخاري، باب صلاة الاستسقاء: 2/32.
أمعن النظر في قول الخليفة: هذا والله الوسيلة.
3 ـ ويظهر من شعر حسّان أنّ المستسقي كان هو نفس الخليفة وهو الداعي حيث قال: " سأل الإمام... " وكان العباس وسيلته لاستجابة الدعاء.
قال الدكتور عبد الملك السعدي: " وقد أوّلوا حديث العباس بأنّ عمر طلب من العباس أن يدعو لأنّهم كانوا إذا أجدبوا طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو لهم فكذا هنا طلب الدعاء من العباس. وهذا التأويل غير مقبول لوجهين:
الوجه الأوّل: إنّ السنّة أن يدعو الإمام نفسه والقوم يؤمَّنون وهذا ما حصل حيث كان الداعي هو سيدنا عمر لا العباس.
الوجه الثاني: إنّ نص الحديث لا يدل على أنّ عمر طلب الدعاء من العباس بل كان هو الداعي، بدليل قوله: اللّهمّ إنّا كنّا نتوسّل... إلخ وهذا عين الدعاء ولم يرد أيّ لفظ يشير إلى أنّه قال للعباس: ادع لنا بالسقيا.
ومع ذلك فأيّ خلل يحصل في الدين أو العقيدة إذا أجرينا النص على ظاهره وتركنا العناد والتعصّب؟
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: " ويستبين من قصة العباس استحباب الاستسقاء بأهل الخير والصلاح وأهل بيت النبوّة وفيه فضل
____________
1- الجزري: أُسد الغابة: 3/111 طبع مصر.
وأظنّ أنّ هذه الروايات الصحيحة لا تبقي شكاً ولا ريباً في خلد أحد في جواز التوسّل بالصالحين.
وأمّا ما ذكره من أنّه لو كان المقصود، التوسّل بذات العباس لكان النبي بذلك أفضل، وأعلم، فيلاحظ عليه أنّ الهدف من إخراج عمّ النبي إلى المصلّى وضمّه إلى الناس هو استنزال الرحمة، فكأنّ المصلّين يقولون ربّنا لو لم نكن مستحقّين لنزول الرحمة، لكن عمّ النبيّ مستحقّ لها، فأنزل رحمتك إليه لتريحه من أزمة القحط والغلاء وعندئذ تعمّ الرحمة لغير العباس، ومن المعلوم أنّ هذا لا يتحقق إلاّ بالتوسل بإنسان حيّ يكون شريكاً مع الجماعة في المصير وفي هناء العيش ورغده لا مثل النبيّ الراحل الخارج عن الدنيا والنازل في الآخرة، نعم يجوز التوسّل بشخصه أيضاً ولكن لا بهذا الملاك بل بملاك آخر لم يكن مطروحاً للخليفة في المقام.
ولو افترضنا صحّة ما يُدَّعى من أنّ الخليفة توسّل بدعاء عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّه عبارة أُخرى عن التوسّل بذات النبيّ لبّاً إذ لولا صلته به لما قُدِّم للدعاء.
____________
1- عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي: 46.
«8»
التوسّل بحقّ الصالحين وحرمتهم ومنزلتهم
إنّ من التوسّلات الرائجة بين المسلمين منذ وقعوا في إطار التعليم الإسلامي، التوسّل بمنازل الصالحين وحقوقهم على الله، وهناك سؤال يطرح نفسه وهو أنّه: كيف يمكن أن يكون لإنسان حقّاً على الله؟
بل الحقوق كلّها لله على العباد، ولكن الإجابة على السؤال واضحة، إذ ليس معنى ذلك أنّ للعباد أو لبعضهم على الله سبحانه حقّاً ذاتياً يلزم عليه سبحانه الخروج عنه، بل لله سبحانه الحقّ كلّه، فله على الناس حقّ العبادة والطاعة إلى غير ذلك، بل المراد المقام والمنزلة التي منحها سبحانه عباده تكريماً لهم، وليس لأحد على الله حقّ إلاّ ما جعله الله سبحانه حقّاً على ذمّته لهم تفضّلا وتكريماً، قال سبحانه: { وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين } (الروم/47).
وروى الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم، عن أبي هريرة (رضي الله عنه)قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ثلاثة حقّ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف "(2).
فهذان الحديثان قد ثبت بهما وجود حقّ للعباد على الله تعالى، إلاّ أنّه حقّ تكريم لا حقّ إلزام وإيجاب.
إنّ للإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب كلمة قيّمة في تفسير حقّ العباد على الله وإنّ هذا الحقّ ممّا منح سبحانه تفضلا على عباده، قال: " فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصاً لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت صروف قضائه ولكنّه سبحانه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلا منه وتوسّعاً بما هو من المزيد أهله(3).
وقد أوضح الإمام معنى حقّ الناس على الله وأنّه ليس حقّاً ذاتياً
____________
1 و 2- الترغيب والترهيب: 3/43، والنووي على مسلم: 1/231.
3- نهج البلاغة قسم الخطب ـ الخطبة 216.
أفبعد هذه التصاريح على أنّ حقّ الناس على الله مقتضى تفضّله سبحانه وتكرّمه على عباده ليس لنا أن نستشكل في تصوير حقّ الناس على الله؟!
على أنّ هذا النوع من التوسّل لا يفترق عن التوسّل بذات النبي وشخصه فإنّ المنزلة والمقام مرآة لشخصه وانّ حرمة الشخص وكرامته نابعة من كرامة ذاته وفضيلتها، فلو صحّ التوسّل بالأوّل كما تعرّفت عليه من خلال الأحاديث يصح الثاني بدون إشكال، ويدل عليه من الأحاديث ما نذكره:
1 ـ التوسّل بحقّ السائلين
روى عطية بن العوفي عن أبي سعيد الخدري أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال: من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا، فإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سُمعة إنما خرجت اتّقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تعيذني من النار وأن تغفر ذنوبي إنّه لا يغفر الذنوب إلاّ أنت، إلاّ أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك(1).
إنّ دلالة الحديث واضحة لا يمكن لأحد التشكيك فيه، وسند
____________
1- ابن ماجة: السنن: 1/256 برقم 778، الإمام أحمد: المسند: 3/21.