قال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن معين: صالح، وقال ابن حجر: عطية بن سعيد بن جنادة العوفي الجدلي الكوفي أبو الحسن صدوق، قال ابن عدي: قد روى عن جماعة من الثقات، توفّي سنة إحدى عشرة ومائة، قال ابن سعد: خرج عطية مع ابن الأشعث فكتب الحجّاج إلى محمد بن القاسم أن يعرض عليه سبَّ علي ـ إلى أن قال: ـ كان ثقة وله أحاديث صالحة وكان أبوبكر البزّاز يعدّه في التشيّع روى عن جلّة الناس(1).
نعم، هناك من ضعّفه لا لأنّه غير صدوق بل لأنّه كان يتشيّع وليس تشيّعه إلاّ ولاؤه لعلي وأهل بيته وهل هذا ذنب؟!
إنّ لوضع الحديث دوافع خاصة توجد أكثرها في أبواب المناقب والمثالب وخصائص البلدان والقبائل، أو فيما يرجع إلى مجال العقائد، كالبدع الموروثة من اليهود والنصارى في أبواب التجسيم والجهة وصفات الجنة والنار، وأمّا مثل هذا الحديث الذي يعرب بوضوح أنّه كلام إنسان خائف من الله سبحانه ترتعد فرائصه من سماع عذابه فبعيد عن الوضع.
2 ـ التوسّل بحقّ النبي وبحقّ من سبقه من الأنبياء
روى الطبراني بسنده عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أنّه لمّا ماتت فاطمة بنت أسد أُم علي ـ رضي الله عنها ـ دخل عليها رسول الله فجلس عند رأسها
____________
1- ابن حجر: تقريب التهذيب: 2/24 برقم 216، وتهذيب التهذيب: 7/227 برقم 413.
ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً فلمّا بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله بيده ثم خلع رسول الله قميصه فألبسها إيّاه وكفّنها ببرد فوقها ثم دعا رسول الله أُسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسوداً يحفرون فحفروا قبرها، فلمّا بلغوا اللحد حضره رسول الله بيده وأخرج ترابه بيده فلمّا فرغ دخل رسول الله فاضطجع فيه وقال: الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأُمّي فاطمة بنت أسد ولقّنها حجتها، ووسّع عليها مدخلها بحقّ نبيّك والأنبياء الذين من قبلي فإنّك أرحم الراحمين وكبّر عليها أربعاً وأدخلها اللحد والعباس وأبوبكر.
والاستدلال بالرواية يتوقف على تمامية الرواية سنداً ومضموناً.
أمّا المضمون فلا مجال للخدشة فيه، وأمّا السند فصحيح، رجاله كلّهم ثقاة لا يغمز في حقّ أحد منهم، نعم فيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبان والحاكم وقد عرفت كلام الذهبي فيه(1).
وقد رواه أئمة الحديث وأساتذته وإليك أسماء من وقفنا على روايتهم:
1 ـ رواه الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في المعجم الأوسط 563 ـ 753.
2 ـ رواه أبو نعيم عن طريق الطبراني في حلية الأولياء 3/121.
____________
1- لاحظ للوقوف على حال روح بن صلاح المصري ميزان الاعتدال: 2/85 برقم 2801.
4 ـ رواه ابن عبد البرّ في الاستيعاب على هامش الإصابة 4/382.
5 ـ نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/118 برقم 7.
6 ـ رواه الحافظ نور الدين الهيثمي المتوفّى 708 في معجم الزوائد ومنبع الفوائد 9/562 ـ 752، وقال: ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه روح بن صلاح وثّقه ابن حبان والحاكم.
7 ـ رواه المتّقي الهندي في كنز العمال 13/636 برقم 08637.
هؤلاء الحفّاظ نقلوا الحديث في جوامعهم وصرّحوا بأنّ رجال السند، رجال الصحيح ولو كان هناك شيء ففي روح بن صلاح وقد عرفت توثيقه من أساتذة الفن كابن حبان والحاكم.
وأمّا التوسّل بحقّ الأولياء والشخصيّات الإلهيّة ففي أدعية أئمة أهل البيت نماذج من أدعية التوسّل، وهي كثيرة وموزعة في الصحيفة العلوية(1) ودعاء عرفة(2) والصحيفة السجادية(3) وغيرها من كتب الدعاء.
وفيما يلي نذكر نماذج من تلك الأدعية:
1 ـ يقول الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في دعاء له:
"... بحقّ محمّد وآل محمّد عليك، وبحقّك العظيم عليهم أن تصلّي عليهم كما أنت أهله، وأن تعطيني أفضل ما أعطيت السائلين من
____________
1- وهي المجموعة التي تضم بعض أدعية الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) جمعها الشيخ عبد الله السماهيجي.
2- وهو دعاء الإمام الحسين (عليه السلام) في عرفات، يوم عرفة.
3- وهو بعض أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام).
2 ـ ويقول الإمام سيد الشهداء الحسين (عليه السلام) في دعاء عرفة:
"... اللّهمّ إنّا نتوجّه إليك ـ في هذه العشية التي فرضتها وعظّمتها ـ بمحمد نبيّك ورسولك وخيرتك من خلقك ".
3 ـ ويقول الإمام زين العابدين (عليه السلام) في دعائه بمناسبة حلول شهر رمضان:
"... اللّهمّ إنّي أسألك بحقّ هذا الشهر وبحقّ من تعبّد فيه "(2).
إلى هنا تمّت بعض الأدلة على جواز التوسّل بالشخصيات الطاهرة التي لها منزلة ومكانة، وهناك روايات أُخرى في هذا الصدد نتركها لئلاّ يطول بنا الكلام فإنّ الغرض الإيجاز لا الإطناب.
3 ـ توسّل آدم بحقّ النبي
قد تعرّفت على حقيقة حقّ العبد على الله وربّما يحتمل أن يراد منه منزلته وجاهه عند الله وكرامته لديه قال نور الدين السمهودي:
إعلم أنّ الاستغاثة والتشفّع بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبجاهه وبركته إلى ربّه تعالى من فعل الأنبياء وسير السلف الصالح، واقع في كلّ حال، قبل خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته الدنيوية ومدّة البرزخ وعرصات القيامة.
" وإذا جاز السؤال بالأعمال ـ كما في حديث الغار الصحيح وهي مخلوقة ـ فالسؤال بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى. وفي العادة أنّ من له عند شخص قدر فتوسّل به إليه من غيبته فإنّه يجيب إكراماً للمتوسل به وقد يكون
____________
1- الصحيفة العلوية للسماهيجي: 51.
2- الصحيفة السجادية: دعاء رقم 44.
قال الدكتور عبد الملك السعدي: " إذا قلت: اللّهمّ إنّي توسّلت إليك بجاه فلان، لنبي أو صالح فهذا أيضاً مما ينبغي أن لا يحصل بجوازه خلاف، لأنّ الجاه ليس له ذات المتوسّل به بل مكانته ومرتبته عند الله وهي حصيلة الأعمال الصالحة لأنّ الله تعالى قال عن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ { وكان عند الله وجيهاً } وقال عن عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ { وجهياً في الدنيا والآخرة } فلا ينكر على من يتوسّل بالجاه إذا كنّا منصفين، لأنّه لا يحتمل نسبة التأثير إلى المتوسّل به إذ ليس هو المقصود بل المتوسّل به جاهه ومكانته عند الله لا غير(2).
وقال أيضاً في قصة استسقاء الخليفة بالعباس: " إنّ عمر لم يقل واليوم نستسقي بالعباس بن عبد المطلب بل قال: بالعباس عمّ نبيّك، فالوجاهة حصلت له لأنّه عمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الميّت وهذا اعتراف بأنّ جاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد موته ما زال باقياً حتى سرى إلى عمّه العباس(3).
ونحن نضيف إلى ذلك: أنّه إذا جاز التوسّل بالقرآن ـ كما مرّ في الفصل الثاني ـ لمكانته عند الله ومنزلته لديه وهو كلام الله الصامت، فالتوسّل بالنبي الأكرم وهوكلام الله الناطق بطريق أولى.
عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اقترف آدم الخطيئة قال: ربّي أسألك بحقّ محمّد لما غفرتَ لي، فقال الله عزّ وجلّ: يا آدم، كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟ قال: لأنّك يا ربّ لمّا خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش
____________
1- السمهودي: وفاء الوفا: 4/1372.
2- عبد الملك السعدي: البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق: 45.
3- المصدر نفسه: 49.
يقع الكلام في سند الحديث أوّلا ومتنه ثانياً.
أمّا الأوّل: فرجاله ثقاة، نعم وقع الكلام في واحد منهم وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فقد قال البيهقي: وهو ضعيف، ولكن الحاكم صحّح الحديث على شرط الشيخين، ولو قلنا بأنّه لا يعتمد على تصحيح الحاكم وحده فتكون الرواية مؤيّدة، إذ ليس معنى كون الراوي ضعيفاً أن الرواية مكذوبة.
وهناك نكتة أشرنا إليها سابقاً، وهي أن لو كان التوسّل بشخص النبي أمراً منكراً بين المسلمين لما تجرّأ الواضع بوضع الحديث الذي يتضمّن ذلك الأمر المنكر، لأنّ هدفه من الوضع إقبال الناس إلى كلامه وتسليمهم بالرواية، وهذا لا يجتمع مع كون المضمون أمراً مخالفاً لما عليه المسلمون في ظرف النقل، وبذلك يُعلم أنّ الرواية سواء أكانت صحيحة أم لا، تُثْبت ما بيّناه في جواز التوسّل بذات النبي.
نعم هنا شبهات حول الرواية، تجب الإجابة عنها:
الشبهة الأُولى
إنّ الحديث يتضمّن الإقسام على الله بمخلوقاته، فالإقسام على
____________
1- البيهقي: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن حسن البيهقي (ت384 ـ 458 هـ) طبع دار الكتب العلمية بيروت: 5/489 ولاحظ الدر المنثور: 1/59 ونقله كثير من المفسرين في قصة توبة آدم.
يلاحظ عليه: أنّ ما استدلّ به على حرمة الإقسام على الله بمخلوقاته عن طريق أنّ الحلف بمخلوق على مخلوق حرام، مردود جداً، لأنّ القرآن مليء بالحلف بمخلوق على المخلوق، قال سبحانه:
{ والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين } (التين/1 ـ 3).
{ والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلّى } (الليل/1 ـ 2).
{ والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر } (الفجر/1 ـ 4).
ففي هذه الآيات حلف بمخلوق على مخلوق، والحالف هو الله والمحلوف به هو هذه الموجودات والمحلوف عليه هم الناس أو المسلمون قاطبة.
فلو كان الحلف بمخلوق على مخلوق أمراً خطيراً وبمقربة من الشرك أو هو نفسه كما يقوله بعض الناس(1).
لما حلف به سبحانه، لأنّ ماهية العمل إذا كانت ماهية شركية، فلا يفرق بينه وبين عباده كما أنّه إذا كانت ماهية الشيء ظلماً وتجاوزاً على البريء، فالله وعباده فيه سيّان، قال الله تعالى: { قل إنّ الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تفعلون } (الأعراف/28).
إنّ الحلف بهذه العظائم ذات الأسرار إنّما لأجل أحد الأمرين: إمّا للدعوة إلى التدبّر والدقة في صنعها والنواميس السائدة عليها واللطائف
____________
1- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 217.
ولا عتب علينا إذا عرضنا المسألة على السنّة النبويّة، فقد جاءت فيها موارد قد ورد فيها الحلف بخلوق على مخلوق، نكتفي بما رواه مسلم في صحيحه، وما ظنّك برواية مسلم في جامعه!
1 ـ روى مسلم في صحيحه:
" جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله أيّ الصدقة أعظم أجراً؟ فقال: أما وأبيك لَتُنَبَّأنَّهُ: أن تَصَدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء "(1).
2 ـ روى مسلم أيضاً:
" وجاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ من نجد ـ يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله: خمس صلوات في اليوم والليل.
فقال: هل عليّ غيرهنّ؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوع، وصيام شهر رمضان.
فقال: هل عليّ غيره؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوع، وذكر له رسول الله الزكاة.
فقال الرجل: هل عليَّ غيرها؟
قال: لا... إلاّ أن تطّوع.
فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص.
____________
1- صحيح مسلم: 3/94 كتاب الزكاة، باب أفضل الصدقة.
أو قال: دخل الجنة ـ وأبيه ـ أن صدق "(2).
فإذ بطل الأصل: حرمة الحلف بمخلوق على مخلوق، بطل ما بُني عليه من حرمة الإقسام على الله بحقّ مخلوقه.
إلى هنا تمّ بيان أنّ الشبهة شبهة غير صحيحة، وإنّما دعا القائل إلى التمسّك بها لدعم رأيه المسبق.
الشبهة الثانية
إنّ الحوار الوارد في الحديث كان بعد اقتران الخطيئة ولكنّه قبل أن يخطأ، علّمه الله الأسماء كلّها، ومن جملة الأسماء اسم محمد وعَلِم أنّه نبيّ ورسول وأنّه خير الخلق أجمعين، فكان أحرى أن يقول آدم: ربّي إنّك أعلمتني به أنّه كذلك لما علّمتني الأسماء كلّها(3).
نقول على هامش الشبهة: إنّ ردّ السنّة الشريفة بمثل هذه التشكيكات، جرأة عليها إذ أيّ مانع أن يكون هنا عِلْمَين: علم جزئي وقف عليه عندما فتح عينيه على الحياة في الجنّة، وعلم واسع علّمه سبحانه بعد ذلك الظرف، عندما أراد سبحانه إثبات كرامته على الملائكة.
إنّ هذا النوع من التشكيك يستمد من إثبات الرأي والصمود على العقيدة وإن كان الحديث على خلافها.
وهناك نكتتان ننبّه عليهما:
____________
1- أي حلفاً بأبيه، فالواو للقسم.
2- صحيح مسلم ج 1، باب ما هو الاسلام: 32.
3- الرفاعي: التوصل إلى حقيقة التوسّل: 218.
الثانية: نحن نفترض أنّ الحديث الراهن مجعول موضوع، ولكنّه يعرب عن أنّ التوسّل بالمخلوق والإقسام على الله بمخلوقاته ليس شركاً ولا ذريعة إليه، بل ولا حراماً.
وذلك لأنّه لو كان شركاً وذريعة إليه أو حراماً، لما رواه الثقاة واحد عن واحد، وهم أعرف بموازين الشرك ومعاييره، ولما أورده الأكابر من العلماء في المعاجم الحديثة، كالبيهقي في دلائل النبوة والحاكم في مستدركه، والسيوطي في تفسيره، والطبراني في المعجم الصغير، وأكابر المفسّرين في القرون الغابرة، لأنّ الشرك أمر بيّن الغي، فلا معنى ولا مسوغ لنقله بحجة أنّه رواية.
فكل ذلك يعرب عن الفكرة الخاطئة في الحكم على الحلف على الله بمخلوقاته شركاً.
«9»
التوسّل بمقام النبي ومنزلته عند الله
إنّ هذا النوع من التوسّل ليس قسماً آخر بل يرجع إلى التوسّل بحقهم، بل التحقيق هو: أنّ التوسّل ليس له إلاّ قسم واحد وهو توسيط قداسة النبي وشخصيته وحرمته عند الله تبارك وتعالى، حتى يستجيب دعاء الإنسان لأجلها، ولو كان لدعاء النبي أثر هو الإجابة فإنّما هو في ظلّ قداسته وشخصيته، وهناك كلمة قيّمة للشيخ محمد الفقي في هذا الصعيد نأتي بنصّها:
يمتاز الأنبياء والرسل عن سواهم بمميزات لها خطورتها وعِظَم شأنها، ويتمتعون بخصوصيات تجل عن التقدير والتعبير، فهم يتفاوتون عن الخلائق بشتّى الخوارق، ويختصّون بأنواع رائعة من المعجزات وأسمى المقامات: { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله
والذي وهبهم هذه العطايا وأنعم عليهم بهذه الامتيازات، كتب لهم في سجل الحوائج قضاء ما يطلبون، وما يرجون لأنّهم رسله إلى خلقه يلجأ إليهم عند الشدائد، ويستغاث بهم في الملمّات وقد أكرم الله كذلك من بين خلقه، رجالا لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، واقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلّب فيه القلوب والأبصار، وهم أولياؤه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فلهم الحظوة لديه، والقبول عنده بتفضيل عليهم بالاستجابة لدعائهم وقبول الاستغاثة منهم.
وفي جواز التشفّع، والاستغاثة بجاهه، تواترت الأحاديث واستفاضت الأخبار، خصوصاً عندما يطول الموقف ويشتدّ الكرب ويعظهم الهول، يوم تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. فتطلب الخلائق في هذا الموقف من الأنبياء إغاثتهم، والاستشفاع بهم، فيحيلونهم كل بدوره إلى خير شفيع، وأعظم مغيث فيقصدون كعبة الشفاعة وقبلة الإغاثة، فيستجيب لرغباتهم ويسارع لإغاثتهم وإنقاذهم ويهمّ لمرضاتهم بما عهد فيه من فضل، وما عرف عنه من كرم(1).
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: أنا سيّد الناس يوم القيامة. هل تدرون بِمَ ذلك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد ويسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنوا الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول
____________
1- محمد الفقي (من علماء الأزهر الشريف): التوسّل والزيارة: 161.
فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سمّاك الله عبداً شكوراً إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي عزّ وجلّ قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله (وإنّي قد كنت كذبت ثلاث كذبات ـ فذكرهنّ أبو حيان(1) في الحديث)، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضّلك الله برسالته وبكلامه على الناس إشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّي قد قتلت نفساً لم أُؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا
____________
1- ما تفرّد به أبو حيان مخالف للكتاب والعقل فلا عبرة به.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلّمت الناس في المهد صبيّاً إشفع لنا ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول عيسى: إنّ ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله (ولم يذكر ذنباً)، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلى غيري إذهبوا إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فيأتون محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر إشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقَعُ ساجداً لربّي عزّ وجلّ ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفّع، فأرفَعُ رأسي فأقولُ: أُمّتي يا ربّ أُمّتي يا ربّ، فيقال: يا محمد أدخل من أُمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكة وحميرا وكما بين مكّة وبصرى(1).
فالحديث يدلّ على جواز التوسّل بالمقام والمنزلة لقولهم: يا من أنت رسول وخاتم الأنبياء، كما أنّ فيه دلالة على طلب الشفاعة منه لقولهم إشفع لنا إلى ربك.
إنّ التوسّل بالأنبياء والأولياء ليس بملاك جسمانيتهم فإنهم وغيرهم في ذلك المجال سواسية، وإنّما يتوسّل بهم بروحانيتهم العالية
____________
1- البخاري: الصحيح: 6/84 ـ 85، صحيح مسلم: 1/127 ـ 130، مسند أحمد: 2/412.
فالتفريق في التوسّل بين الحياة والممات ينشأ من نظرة مادية تعطي الأصالة للجسم والمادة ولا تقيم للمعنى والروحانية وزناً ولا قيمةً.
فالنبي الأكرم مدار الفضائل والكمالات وهو يتمتع بأروع الكرامات وكلّها ترجع إلى روحانيته ومعنويته القائمة المحفوظة في جميع الحالات.
فما هذا التفريق بين الحياة المادية والبرزخية والأُخروية؟
فمن اتّخذ الأنبياء والأولياء وغيرهم ممّن باتوا لربّهم سجّداً وقياماً، أسباباً حال حياتهم أو بعد مماتهم، ووسائل لقضاء حوائجهم ووسائط لجلب الخير ودفع الشر، لم يحيدوا عمّا تهدف إليه الشريعة ولم يتجاوزوا الخط المشروع ولم يتعدّوا مقصود الرسالة النبوية وغاياتها.
فالأسباب لا يمكن إنكارها، ولا يعقل تجاهلها، ولا يتأتّى جحودها لأنّه تعالى هو الذي خلق الأسباب والمسبّبات ورتّب النتائج على المقدّمات فمن تمسك بالأسباب فقد تمسّك بما أمر الله سبحانه.