قال الله تبارك وتعالى:

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينَ}



الصفحة 5

بسم الله الرحمن الرحيم
وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بالعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضيءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص، ومكافحة الشرك والوثنية، ثم بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا ـ ونظراً للحاجةِ المتزايدة ـ رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّة من كتاب اللهِ العزيز، والسُنّةِ الشريفة الصحيحة، والعقل السليم، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام، والله الموفِّق.


معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة


الصفحة 6

الصفحة 7

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم


العبادة من الموضوعات التي تطرق إليها الذكر الحكيم كثيراً. وقد حثَّ عليها في أكثر من سورة وآية وخصَّها بالله سبحانه وقال: {وقَضى ربُّكَ ألاّ تَعبُدوا إلاّ إيّاهُ وبِالوالِدَينِ إحساناً} (الإسراء/23) ونهى عن عبادة غيره من الأنداد المزعومة والطواغيت والشياطين، وجعلها الأصل الأصيل بين الشرائع السماوية وقال: {يا أهلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمة سَواء بَينَنا وبَينَكمْ ألاّ نَعْبدَ إلاّ إيّاهُ ولا نُشرِكَ بهِ شَيئاً ولا يَتَّخذَ بَعضُنا بَعضاً أرباباً مِنْ دُونَ اللهِ} (آل عمران/64) كما جعلها الرسالة المشتركة بين الرسل فقال سبحانه: {ولَقدْ بَعثنا في كُلِّ اُمَّة رَسولا أنِ اعبدُوا اللهَ واجْتنِبوا الطّاغوتَ فمِنهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ومِنهمْ مَنْ حَقَّتْ عَليهِ الضَّلالةُ} (النحل/36).

فإذا كان لهذا الموضوع تلك العناية الكبيرة فجدير

الصفحة 8
بالباحث المسلم أن يتناولها بالبحث والتحقيق العلمي، حتى يتميّز هذا الموضوع عن غيره تميزاً منطقياً.

والذي يُضفي على الدراسة، أهمية أكثر، هو أنّ التوحيد في العبادة أحد مراتب التوحيد التي لا محيص للمسلم من تعلّمه، ثم عقد القلب عليه، والتحرر عن أيّ لوم من الوان الشرك. فلا تُنال تلك الاُمنيةُ في مجالي العقيدة والعمل إلاّ بمعرفة الموضوع معرفة صحيحة، مدعمة بالدليل حتى لا يقع في مغبَّة الشرك، وعبادة غيره سبحانه.

ورغم المكانة الرفيعة للموضوع لم نعثر على بحث جامع حول مفهوم العبادة يتكفّل بيان مفهومها، وحدّها الذي يُفصله عن التكريم والتعظيم أو الخضوع والتذلل، وكأنَّ السلف (رضوان الله عليهم) تلقّوها مفهوماً واضحاً، واكتفوا فيها بما توحي إليهم فطرتُهم.

ولو صحّ ذلك فإنّما يصح في الأزمنة السالفة، دون اليوم الذي استفحل عند بعض الناسِ أمر ادّعاء الشرك في العبادة، فيما درج عليه المسلمون منذ قرون إلى أن ينتهي إلى عصر التابعين والصحابة فأصبح ـ بادعائهم ـ كل تعظيم

الصفحة 9
وتكريم للنبيّ، عبادة له، وكلّ خضوع أمام الرسول شرك، فلا يلتفت الزائر يميناً وشمالا في المسجد الحرام والمسجد النبوي إلاّ وتوقر سمعه كلمةُ "هذا شرك يا حاج"، وكأنّه ليس لديهم إلاّ تلك اللفظة، أو لا يستطيعون تكريم ضيوف الرحمن إلاّ بذلك.

فاللازم على هؤلاء ـ الذين يعدون مظاهر الحبّ والودّ، والتكريم والتعظيم شركاً وعبادة ـ وضعَ حدٍّ منطقيّ للعبادة، يُميَّز بها، مصاديقُها عن غيرها حتى يتّخذه الوافدون من أقاص العالم وأدانيه، ضابطة كلّية في المشاهد والمواقف، ولكن ـ وللأسف ـ لا تجد بحثاً حول مفهوم العبادة وتبيينها في كتبهم ونشرياتهم ودورياتهم.

فلأجل ذلك قمنا في هذه الرسالة، بمعالجة هذا الموضوع، بشرح مفهومها لغة وقرآناً، حيث بيّنا أنّ حقيقة الشرك في تعاليم الأنبياء أخصّ ممّا ورد في المعاجم وكتب اللّغة.


جعفر السبحاني         
تحريراً في 25 / 2 / 1416 هـ


الصفحة 10

تخصيص العبادة والاستعانة بالله سبحانه


إنّ المسلم في شرق الأرض وغربها، يخصّ العبادة والاستعانة بالله سبحانه في كلّ يوم في صلواته الخمس فيقول: {إيّاكَ نَعبُدُ وإيّاكَ نَستَعِينُ} ولا خلاف بين المسلمين في هذه الضابطة الكلّية، أي أنّ العبادة مختصّة بالله سبحانه، ولا يصحّ إصدار هوية إسلامية لشخص إلاّ بعد الاعتراف بهذه الكُبرى، وإنّما الخلاف بينهم في بعض الأُمور والأحوال الخارجية، فهل هي عبادة أو لا؟ فلو صحّت كونها عبادة فلا يجوز الإتيان بها لغيره سبحانه وإن أتى بها لغيره يُعدّ مشركاً.

مثلا تقبيل الأضرحة هل هو عبادة لصاحب القبر أو تكريم وتعظيم له؟ وهكذا الصلاة في المشاهد وعند قبور الأنبياء، فهل هي عبادة لصاحب القبر (وإن كانت الصلاة

الصفحة 11
لله) أو هي عبادة لله ولكن تتضمّن التبرّك بصاحب القبر؟

ومثل ذلك مسألة الاستعانة في نفس الآية، فمع الاعتراف بحصر الاستعانة بالله سبحانه، فلا شكّ عند العقلاء عامة أنّه تجوز الاستعانة بالأحياء في الأُمور الدنيوية، ولكن إذا استعان بإنسان حيّ فيما يرجع إلى الأُمور الغيبية، كردّ ضالته وبرء مرضه فهل هو استعانة تخالف الحصر المذكور في الآية أو لا؟

وهناك صورة ثالثة أبهم من الصورة الثانية وهي: إذا استعان بميّت بنحو من الأنحاء كما إذا طلب منه الدعاء والاستغفار في حقّه فهل هي استعانة تخالف الحصر أو لا؟ وقس على ذلك بعض ما يرد عليك من الصور المردّدة بين العبادة والتكريم، أو بين الاستعانة الجائزة والمحرّمة.

ولأجل أن يكون البحث أكثر علمية وموضوعية علينا أولا البحث في مسألتين:

1 ـ تحديد مفهوم العبادة حتى تتميّز عن التكريم والتبجيل والتبرّك.

2 ـ تحديد الاستعانة المختصة بالله وفصلها عن الاستعانة الجائزة.

كل ذلك في ضوء القرآن الكريم.


الصفحة 12

المسألة الاُولى:

مفهوم العبادة وحدّها


بالرغم من عناية اللغويين والمفسّرين بتفسير لفظ العبادة وتبيينها، لكن لا تجد في كلماتهم ما يشفي الغليل، وذلك لأنّهم فسّروه بأعمّ المعاني وأوسعها وليس مرادفاً للعبادة طرداً وعكساً.

1 ـ قال الراغب في المفردات: "العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغ منها، لأنّها غاية التذلّل، ولا يستحقّ إلاّ من له غاية الإفضال وهو الله تعالى ولهذا قال: {وقَضى ربُّكَ ألاَّ تَعبُدوا إلاّ إيّاهُ...} ".

2 ـ قال ابن منظور في لسان العرب: "أصل العبودية: الخضوع والتذلل".

3 ـ قال الفيروز آبادي في القاموس المحيط: "العبادة:


الصفحة 13
الطاعة".

4 ـ قال ابن فارس في المقاييس: "العبد: الذي هو أصل العبادة، له أصلان متضادّان، والأول من ذينك الأصلين، يدلّ على لين وذل، والآخر على شدّة وغلظ".

هذه أقوال أصحاب المعاجم ولا تشذّ عنها أقوال أصحاب التفاسير وهم يفسّرونه بنفس ما فسّر به أهل اللغة، غير مكترثين بأنّ تفسيرهم، تفسير لها بالمعنى الأعم.

1 ـ قال الطبري في تفسير قوله: {إيّاكَ نَعبُد} اللّهمّ لك نخشع ونذلّ ونستكين إقراراً لكَ يا ربّنا بالربوبية لا لغيرك. إنّ العبودية عند جميع العرب أصلها الذلّة وأنّها تسمّى الطريق المذلّل الذي قد وطئته الأقدام وذلّلته السابلة معبَّداً، ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب للحوائج: معبَّد، ومنه سمّي العبد عبداً، لذلّته لمولاه(1).

2 ـ قال الزجاج: معنى العبادة: الطاعة مع الخضوع، يقال: هذا طريق معبّد إذا كان مذلّلا لكثرة الوطء، وبعير معبّد إذا كان مطليا بالقطران، فمعنى {إيّاكَ نَعبدُ}: إياك نطيع،

____________

1- الطبري، التفسير 1: 53، ط دار المعرفة، بيروت.


الصفحة 14
الطاعة التي نخضع منها(1).

3 ـ وقال الزمخشري: العبادة: أقصى غاية الخضوع والتذلّل، ومنه ثوب ذو عبدة أي في غاية الصفافة، وقوة النسج، ولذلك لم تستعمل إلاّ في الخضوع لله تعالى لأنّه مولى أعظم النعم فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع(2).

4 ـ قال البغوي: العبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع وسمّي العبد عبداً لذلّته وانقياده يقال: طريق معبّد، أي مذلّل(3).

5 ـ قال ابن الجوزي: المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال:

أ ـ بمعنى التوحيد {إيّاك نعبد} عن علي وابن عباس.

ب ـ بمعنى الطاعة كقوله تعالى {لا تَعبُدِ الشَّيطانَ}.

ج ـ بمعنى الدعاء(4).

6 ـ قال البيضاوي: العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلّل، ومنه الطريق المعبّد أي مذلّل، وثوب ذو عبدة، إذا كان في غاية الصفافة، ولذلك لا تستعمل إلاّ في الخضوع

____________

1- الزجاج، معاني القرآن 1: 48.

2- الزمخشري، الكشاف 1: 10.

3- البغوي، التفسير 1: 42.

4- ابن الجوزي، زاد المستنير 1: 12.


الصفحة 15
لله تعالى(1).

وسيأتي أنّ تفسير العبادة بغاية الخضوع ربّما يكون تفسيراً بالأخص، إذ لا تشترط في صدقها غاية الخضوع، ولذلك يعدُّ الخضوع المتعارف الذي يقوم به أبناء الدنيا أمام الله سبحانه عبادة، وإن لم يكن بصورة غاية التعظيم، وربّما يكون تفسيراً بالأعم، فإنّ خضوع العاشق لمعشوقه ربّما يبلغ نهايته ولا يكون عبادة.

7 ـ وقال القرطبي: نعبُد، معناه نطيع، والعبادة: الطاعة والتذلّل، وطريق معبّد إذا كان مذلّلا للسالكين(2).

8 ـ وقال الرازي: العبادة عبارة عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تعظيم الغير وهو مأخوذ من قولهم: طريق مُعبَّد(3).

وإذا قصّرنا النظر في تفسير العبادة، على هذه التعاريف وقلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للأفراد ومانعة للاغيار، لزم رَمي الأنبياء والمرسلين، والشهداء

____________

1- البيضاوي، أنوار التنزيل 1: 9.

2- القرطبي، جامع أحكام القرآن 1: 145.

3- الرازي، مفاتيح الغيب 1: 242، في تفسير قوله تعالى: (إيّاكَ نعبدُ).


الصفحة 16
والصدّيقين بالشرك وأنّهم ـ نستعيذ بالله ـ لم يتخلّصوا من مصائد الشرك، ولزم ألاّ يصحّ تسجيل أحد من الناس في قائمة الموحّدين. وذلك لأنّ هذه التعاريف تفسّر العبادة بأنّها:

1 ـ إظهار التذلّل.

2 ـ إظهار الخضوع.

3 ـ الطاعة والخشوع والخضوع.

4 ـ أقصى غاية الخضوع.

وليس على أديم الأرض من لا يتذلّل أو لا يخشع ولا يخضع لغير الله سبحانه وإليك بيان ذلك:


*  *  *

ليست العبادة نفس الخضوع أو نهايته

إنّ الخضوع والتذلّل حتى إظهار نهاية التذلّل لا يساوي العبادة ولا يعدّ حداً منطقياً لها، بشهادة أنّ خضوع الولد أمام والده، والتلميذ أمام اُستاذه، والجنديُّ أمام قائده، ليس عبادة لهم وإن بالغوا في الخضوع والتذلّل حتى ولو قبّل الولدُ قدمَ الوالدين، فلا يعد عمله عبادة، لأنّ الله

الصفحة 17
سبحانه يقول: {واخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمة} (الإسراء/24).

وأوضح دليل على أنّ الخضوع المطلق وإن بلغ النهاية لا يعدّ عبادة هو أنّه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم وقال: {وإذْ قُلنا لِلمَلائِكةِ اسْجُدوا لآدَمَ} (البقرة/34) وآدم كان مسجوداً له ككونه سبحانه مسجوداً له، مع أنّ الأول لم يكن عبادة وإلاّ لم يأمر بها سبحانه، إذ كيف يأمر بعبادة غيره وفي الوقت نفسه ينهى عنها بتاتاً في جميع الشرائع من لدن آدم (عليه السلام) إلى الخاتم(صلى الله عليه وآله)، ولكن الثاني أي الخضوع لله، عبادة.

والله سبحانه يصرّح في أكثر من آية بأنّ الدعوة إلى عبادة الله سبحانه والنهي عن عبادة غيره، كانت أصلا مشتركاً بين جميع الأنبياء، قال سبحانه: {ولَقدْ بَعثنا في كُلِّ اُمَّة رَسولا أنِ اعبدُوا اللهَ واجْتنِبوا الطّاغوتَ} (النحل/36) وقال سبحانه: {وَما أرسَلنا مِنْ قَبلِكَ مِنْ رَسول إلاّ نُوحي إليهِ أنَّهُ لا إلـهَ إلاّ أنَا فَاعْبُدونِ} (الأنبياء/25) وفي موضع آخر من الكتاب يعد سبحانه التوحيد في العبادة: الأصل المشترك بين جميع الشرائع السماوية، إذ يقول: {قل يا أهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمة سَواء بَينَنا وبَينَكمْ ألاّ نَعْبدَ إلاّ اللهُ ولا نُشرِكَ بهِ شَيئاً} (آل عمران/64)،

الصفحة 18
ومعه كيف يأمر بسجود الملائكة لآدم الذي هو من مصاديق الخضوع النهائي؟ وهذا الاشكال لايندفع إلاّ بنفي كون الخضوع عبادة، ببيان أنّ للعبادة مقوّماً لم يكن موجوداً في سجود الملائكة لآدم.

ولم يكن آدم فحسب هو المسجود له بأمره سبحانه، بل يوسف الصديق كان نظيره، فقد سجد له أبواه وإخوته، وتحقّق تأويل رؤياه بنفس ذلك العمل، قال سبحانه حاكياً عن لسان يوسف: {إنّي رأيتُ أحدَ عشَر كوكباً والشَّمسَ والقَمَر رأَيتُهُمْ لي ساجِدِينَ} (يوسف/4).

كما يحكي تحققه بقوله سبحانه: {ورَفعَ أبَويهِ عَلَى العَرشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقالَ يا أبَتِ هـذا تَأْويلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلها رَبِّي حَقّاً} (يوسف/100) ومعه كيف يصحّ تفسير العبادة بالخضوع أو نهايته.

إنّه سبحانه أمر جميع المسلمين بالطواف بالبيت، الذي ليس هو إلاّ حجراً وطيناً، كما أمر بالسعي بين الصفا والمروة، قال سبحانه: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالبَيتِ العَتِيقِ} (الحج/29) وقال سبحانه: {إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيتَ أوِ اعْتَمَر فَلا جُناحَ عَلَيهِ أنْ يَطَّوَّفَ بِهِما} (البقرة/158).


الصفحة 19
فهل ترى أنّ الطواف حول التراب والجبال والحجر عبادة لهذه الأشياء بحجّة أنّه خضوع لها؟!

إنّ شعار المسلم الواقعي هو التذلّل للمؤمن والتعزّز على الكافر، قال سبحانه: {فَسَوْفَ يأْتِي اللهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذِلَّة عَلَى المُؤْمِنينَ أعِزَّة عَلى الكافِرينَ} (المائدة/54).

فمجموع هذه الآيات وجميع مناسك الحج، يدلاّن بوضوح على أنّ مطلق الخضوع والتذلّل ليس عبادة. ولو فسّرها أئمة اللغة بالخضوع والتذلّل، فقد فسّروها بالمعنى الأوسع، فلا محيص حينئذ عن القول بأنّ العبادة ليست إلاّ نوعاً خاصاً من الخضوع. ولو سُميت في بعض الموارد مطلق الخضوع عبادة، فإنّما سُميت من باب المبالغة والمجاز، يقول سبحانه: {أَرأَيتَ مَنِ اتَّخَذَ إلهَهُ هَواهُ أفأَنتَ تَكونُ عَليهِ وَكيلا} (الفرقان/43) فكما أنّ إطلاق اسم الإله على الهوى مجاز فكذا تسمية متابعة الهوى عبادة لها، ضرب من المجاز.

ومن ذلك يعلم مفاد قوله سبحانه: {ألَمْ أعْهَدْ إلَيكُمْ يا بَني آدمَ أنْ لا تَعبُدوا الشَّيطانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وأنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُستقيمٌ} (يس/60ـ61).


الصفحة 20
فإنّ مَنْ يتَّبِع قولَ الشَّيطان فيتساهل في الصلاة والصيام، ويترك الفرائض أو يشرب الخمر ويرتكب الزنا، فإنّه بعمله هذا يقترف المعاصي لأنّه يعبده كعبادة الله، أو كعبادة المشركين للأصنام ولأجل ذلك، لا يكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك، وخارجاً عن عداد المسلمين، مع أنّه من عبدة الشيطان لكن بالمعنى الوسيع الأعم من الحقيقي والمجازيّ.

وربما يتوسع في إطلاق العبادة فتطلق على مطلق الإصغاء لكلام الغير، وفي الحديث: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدي عن الله عزّ وجلّ فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان"(1).

توجيه غير سديد

إنّ بعض من يفسّر العبادة بالخضوع والتذلّل عندما يقف أمام هذه الدلائل الوافرة، يحاول أن يجيب ويقول: إنّ سجود الملائكة لآدم أو سجود يعقوب وأبنائه ليوسف، لم

____________

1- الكليني، الكافي 6: 434.


الصفحة 21
يكن عبادة له ولا ليوسف، لأنّ ذلك كان بأمر الله سبحانه ولولا أمره لانقلب عملهم عبادة لهما.

وهذا التوجيه بمعزِل عن التحقيق، لأنّ معنى ذلك أنّ أمر الله يُغيّر الموضوع، ويبدل واقعه إلى غير ما كان عليه، مع أنّ الحكم لا يغيِّر الموضوع.

فلو نفترض أنّه سبحانه أمر بسبِّ المشرك والمنافق فأمره سبحانه لايخرج السبَّ عن كونه سباً، فلو كان مطلقُ الخضوع المتجلّى في صورة السجود لآدم، أو ليوسف، عبادة لكان معنى ذلك أنّه سبحانه أمر بعبادة غيره، مع أنّها فحشاء بتصريح الذكر الحكيم لا يأمر بها سبحانه، قال تعالى: {إنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحشاءِ أتَقُولونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف/28).

وهناك تعاريف للعبادة لجملة من المحققين نأتي بها واحداً بعد الآخر:

1 ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة

إنّ صاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكرناه حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل يبعده عن بعض ما ذكرنا،

الصفحة 22
لذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة:

أ ـ العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدَّ النهاية.

ب ـ ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود، لا يعرف منشأها.

ج ـ واعتقاده بسلطة لا يُدرَك كنهها وماهيتها.

ويلاحظ على هذا التعريف:

أولا:

أنّ التعريف غير جامع، وذلك لأنّه إذا كان مقوُّم العبادة، الخضوعَ البالغَ حدّ النهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع والخضوع التي يؤديها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة، وربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من هؤلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبادة وجهداً.

وثانياً:

ماذا يريد من قوله "عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها"؟ فهل يعتقد أنّ الأنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود ولكن لا يعرفون منشأها. مع أنّ غيرهم يستشعر عظمة المعبود ويعرف منشأها، وهو أنّه سبحانه: الخالق البارئ، المصوّر، أو أنّه سبحانه هو

الصفحة 23
الملك القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن العزيز الجبار المتكبر.

وثالثاً:

ماذا يريد من قوله: "واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها"؟.

فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقق العبادة، فلازم ذلك عدم صدقها على عبادة الأصنام والأوثان، فإنّ عُبّاد الأوثان يعبدونها وكانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند الله سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها وماهيتُها.

2 ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الأزهر

وقد عرّف شيخ الأزهر الأسبق العبادة بنفس ما عرّفها به صاحب المنار، ولكنّه يختلف عنه لفظاً ويتّحد معه معنىً، فقال: العبادة خضوع لا يحدُّ، لعظمة لا تحد(1).

وهذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً واشكالا، وذلك أنّ العبادة ليست منحصرة في خضوع لا يحدّ بل الخضوع المحدّد أيضاً ربّما يعد عبادة، كما إذا كان الخضوع بأقل مراتبه. وكذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ، إذ

____________

1- تفسير القرآن الكريم: 37.


الصفحة 24
ربما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد كما هو الحال في عبادة الأصنام، الذي كان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند الله.

3 ـ تعريف ابن تيمية

وأكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال:

"العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة والزكاة والصيام، والحج، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبرّ الوالدين وصلة الأرحام"(1).

وهذا الكاتب لم يفرّق ـ في الحقيقة ـ بين العبادة والتقرّب، وتصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى الله، فهو عبادة له تعالى أيضاً، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، فهناك أُمور توجب رضا الله، وتستوجب ثوابَه لكنها قد تكون عبادة كالصوم والصلاة والحج، وقد تكون موجبة للقرب إليه دون أن تعدّ عبادة، كالإحسان إلى الوالدين، وإعطاء

____________

1- مجلة البحوث الإسلامية، العدد 2: 187، نقلا عن كتاب العبودية: 38.


الصفحة 25
الزكاة، والخمس، فكل هذه الأُمور (الأخيرة) توجب القربى إلى الله في حين لا تكون عبادة. وإن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها.

وبعبارة أُخرى: أنّ الإتيان بهذه الأعمال يعدّ طاعة لله ولكن ليس طاعة عبادة.

وإن شئت قلت: إنّ هناك أُموراً عباديّة وأُموراً قربية، وكل عبادة مقرِّبة، وليس كل مقرِّب عبادة، فدعوة الفقير إلى الطعام، والعطف على اليتيم ـ مثلا ـ توجب القرب ولكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله لله تعالى.

وإذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين، كلّ يلازم الآخر.