الصفحة 26

التعريف الأوّل:

العبادة هي الخضوع للشيء بما أنّه إله


إنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة، وربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الإمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين والمشركين، وقال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه {وَلكنْ أعبدُ اللهَ الَّذي يَتَوفّاكُمْ} (يونس/104) وقال سبحانه: {قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أنْ أعبُدَ اللهَ مُخلِصاً لَهُ الدِّينَ} (الزمر/11).

وقال في النهي عن عبادة غيره: {إنَّما تَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللهِ أوْثاناً وَتَخْلُقونَ إفْكاً} (العنكبوت/17) وقال: {أتَعبُدونَ ما تَنْحِتُونَ} (الصافّات/95): فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقة في أفعال العباد، وعقائدهم من غير فرق بين عبادة

الصفحة 27
الموحّدين وعبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.

إنّ الإمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّ العبادة عندهم عبارة عن الفعل الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصة في حقّ المخضوع له، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذ أمران:

1 ـ الفعل المنبني عن الخضوع والتذلّل.

2 ـ العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.

أمّا الفعل، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع والتذلّل بأيّ مرتبة من مراتبها، كالتكلّم بكلام يؤدي إلى الخضوع له أو بعمل خارجي كالركوع والسجود بل الانحناء بالرأس، أو غير ذلك مما يدلّ على ذلّته وخضوعه أمام موجود.

وأمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع والتذلّل فهي عبارة عن:

1 ـ الاعتقاد بإلوهيته.

2 ـ الاعتقاد بربوبيته.

أمّا الأوّل فالإلوهية منسوبة إلى الله وهو ليس بمعنى المعبود ـ وإن اشتهر في الألسن ـ بل كونه معبوداً من لوازم

الصفحة 28
كونه إلها لا أنّه نفس معناه، بل إلاله ـ كما يشهد عليه الذكر الحكيم ـ مرادف، للفظ الجلالة ويختلف معه في الكلّية والجزئية، فالله كلّي ولفظ الجلالة علم جزئي.

وتوضيح ذلك أنّ الموحّدين عامة والوثنيين كلّهم، وعبدة الشمس والكواكب يعتقدون بإلوهية معبوداتهم إمّا لكون المعبود إلهاً كبيراً أو إلهاً صغيراً، إمّا إلهاً صادقاً أو إلهاً كاذباً، فالاعتقاد بإلوهية المعبود بهذا المعنى هو المقوّم لصدق العبادة.

ولأجل أنّه لا يستحق العبادة إلاّ من كان إلهاً لذلك يؤكّد القرآنَ بأنّه لا إله إلاّ الله ومع ذلك فكيف تعبدون غيره.

يقول سبحانه: {الَّذِينَ يَجْعَلونَ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَسوفَ يَعْلَمونَ} (الحجر/96).

{والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ} (الفرقان/68).

{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهةً لِيكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} (مريم/81).

{أئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أنَّ معَ اللهِ آلِهةً أُخْرى} (الأنعام/19).

وحاصل الآيات أنّ غيره سبحانه لا يستحق العبادة لأنّها من شؤون الإلوهية وهي من خصائص الله سبحانه لا

الصفحة 29
غير، فيتحصّل من ذلك أنّ العبادة عبارة عن الخضوع أمام موجود للاعتقاد بأنّه إله حقيقيّ أو مجازيّ، ولو لا ذلك الاعتقاد لا يوصف الخضوع بالعبادة، والشاهد عليه أنّ العاشق الولهان إذا خضع لمعشوقته، خضوعاً بالغاً لا يعد عبادة لها، لأنّه لم يصدر عن الاعتقاد بإلوهيتها وأنّها إله، وإنّما صدر عن اعتقاد بأنّها جميلة تجذب الإنسان بنفسيتها وجمالها.

ويدل على ما ذكرنا من أنّ دعوة المشركين وخضوعهم ونداءهم وسؤالهم كانت مصحوبة بالاعتقاد بإلوهية أصنامهم، أنّه سبحانه يفسّر الشرك في بعض الآيات باتّخاذ إله مع الله.

ويقول: {وأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إنّا كَفَيْناكَ المُستَهزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلونَ مَعَ اللهِ إلهاً آخَرَ فَسوفَ يَعْلَمونَ} (الحجر/94ـ96).

وفي بعض الآيات يندّد بالمشركين بأنّه ليس لهم إله غير الله فكيف يعبدون غيره، ويقول: {أمْ لَهُمْ إلهٌ غَيرُ اللهِ سُبحانَ اللهِ عَمّا يُشْرِكُونَ} (الطور/43).

والإمعان في هذه الآيات ونظائرها يؤكد أنّ اندفاع المشركين إلى عبادة الأصنام أو اندفاع الموحّدين إلى

الصفحة 30
عبادة الله هو اعتقادهم بكونهم آلهة أو كونه إلهاً، فهذا الاعتقاد كان يدفعهم إلى العبادة، ولأجل ذلك كانوا يقدّمون لمعبوداتهم النذور والقرابين وغيرهما من التقاليد والسنن. ولمّا كانت كلمة التوحيد تهدِّم عقيدتهم بإلوهية غيره سبحانه لذلك كانوا يستكبرون عند سماعها، كما قال سبحانه: {إنَّهُمْ كانُوا إذا قِيلَ لَهُمْ لا إلهَ إلاّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (الصافات/35).

ثم إنّ الاعتقاد بإلوهية الأصنام لا يلازم الاعتقاد بكون المعبود خالقاً للعالم حتى يقال بأنّ المشركين في الجاهلية كانوا موحدين في الخالقية، كما يدل على ذلك أكثر من آية. قال سبحانه:

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف/9).

إذ للإلوهية شؤون عندهم يقوم ببعضها الإله الأعلى كخلق السماوات والأرض، وبعضها الآخر الآلهة المزعومة المتخيّلة عندهم، كغفران الذنوب والشفاعة المطلقة المقبولة بلا قيد وشرط، وبما أنّ هذين الأمرين الأخيرين من شؤون الإله الأعلى أيضاً وليس للآلهة

الصفحة 31
المزعومة فيها حظّ ولا نصيب، يركّز القرآن على إثباتهما لله سبحانه فقط ويقول: {ومَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاّ اللهُ} (آل عمران/135). ويقول: {قُلْ للهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً} (الزمر/44).

وفي ضوء ذلك فالمشركون كانوا معتقدين بالإله الأعلى الأكبر وفي الوقت نفسه يعتقدون بآلهة شتّى ليس لهم من الشؤون ماللإله الأعلى منها، وفي الوقت نفسه كانت الآلهة عندهم مخلوقين لله سبحانه، مفوّضين إليهم بعض الشؤون كما عرفت.

ترادف الإله ولفظ الجلالة

إنّ الدليل الواضح على أنّ الإله يرادف لفظ الجلالة ولكن يفترق عنها بالجزئية والكلية الأُمور التالية:

أ ـ وحدة المادة، إذ الأصل للفظ الجلالة هو الإله، فحذفت الهمزة وعوّض اللام، ولذلك قيل في النداء: "يا الله، بالقطع كما يقال: يا إله"(1).

ب ـ الآيات التي استدلّ فيها على وحدة الإله صريحة في أنّ المراد من الإله هو المتصرّف المدبّر، أو من بيده

____________

1- الزمخشري، الكشاف 1: 30.


الصفحة 32
أزمّة الأُمور أو ما يقرب من ذلك، ولا يصح تفسير الإله بالمعبود وإلاّ لفسد الاستدلال، وإليك الآيات الواردة في ذلك المجال.

1 ـ {لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلاّ اللهُ لَفَسدَتا} (الأنبياء/22) فإنّ البرهان على نفي تعدّد الآلهة لا يتم إلاّ إذا جعلنا "الإله" في الآية بمعنى المتصرّف المدبّر أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين، ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقص البرهان لبداهة تعدّد المعبودين في هذا العالم، مع عدم فساد النظام الكوني وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة بالآلهة بل ومركزها مع انتظام العالم وعدم فساده.

وعندئذ يجب على من يجعل "الإله" بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ "بالحق" أي لو كان فيهما معبودات ـ بالحق ـ لفسدتا، ولمّا كان المعبود بالحقّ مدبراً أو متصرّفاً لزم من تعدّده فساد النظام وهذا كلّه تكلّف لا مبرّر له.

2 ـ {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد وما كانَ مَعَهُ مِنْ إله إذاً لَذَهَبَ كُلُّ إله بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعض} (المؤمنون/91).

ويتمّ هذا البرهان أيضاً لو فسّرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلّيّ، ما يطلق عليه لفظ الجلالة. وإن شئت قلت: إنّه كناية

الصفحة 33
عن الخالق أو المدبّر المتصرّف أو من يقوم بأفعاله وشؤونه، والمناسب في هذا المقام هو الخالق، ويلزم من تعدّده ما رتّب عليه في الآية من ذهاب كلّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لانتقص البرهان، ولا يلزم من تعدّده أيّ اختلال في الكون. وأدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّ في العالم آلهة متعدّدة، وقد كان في أطراف الكعبة المشرّفة ثلاثمائة وستون إلهاً ومع ذلك لم يقع أيّ فساد أو اختلال في الكون.

فيلزم من يفسّر (الإله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

3 ـ {قُلْ لَوْ كانَ مَعهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولونَ إذاً لاَبْتَغَوْا إلى ذِي العَرْشِ سَبِيلا} (الإسراء/42) فإنّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدّد الخالق المدبّر المتصرف، أو من بيده أزمّة أُمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الإلوهية، وأمّا تعدّد المعبود فلا يلازم ذلك إلاّ بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

4 ـ {إنَّكُمْ وما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها

الصفحة 34
وارِدُونَ * لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها} (الأنبياء/98ـ99) والآية تستدل بورود الأصنام والأوثان في النار، على بطلان كونها آلهة إذ لو كانت آلهة ما وردوا النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسّرنا الآلهة بما أشرنا إليه، فإنّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرّف فيه أو من فوّض إليه أفعال الله أجلّ من أن يحكم عليه بالنار وأن يكون حصب جهنم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان، لأنّ المفروض أنّها كانت معبودات وقد جعلت حصب جهنّم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه.

حصيلة البحث:

أنّ العبادة عبارة عن الخضوع الصادر عمّن يتّخذه الخاضع إلهاً، وما ذكرناه على وجه التفصيل هو الذي أفرغه الشيخ جواد البلاغي في قالب التعريف وقال: العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إلهاً، ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالإلوهية(1).

____________

1- البلاغي، آلاء الرحمن: 57، ط صيدا.


الصفحة 35

التعريف الثاني:

العبادة عبارة عن الخضوع للشيء
على أنّه ربّ


واللغويون وإن ذكروا للربّ معاني مختلفة كالخالق والمالك والصاحب والمصلح، ولكن الظاهر أنّ أكثر هذه المعاني من لوازم المعنى الواحد، ويمكن تصويره بأنّه من فوّض إليه أمر الشيء من حيث الإصلاح والتدبير والتربية، فلو أُطلق الربّ على الخالق فلأنّه يقوم بإصلاح مخلوقه وتدبيره، وتربيته. ولو أُطلق على صاحب المزرعة ربّ الضيعة، أو على سائس القوم أنّه ربّهم، فلأنّ الأوّلَ يقوم بتصليح أُمور المزرعة، والثاني بتدبير أُمور القوم وشؤونهم وقس على ذلك سائر الأُمور، فالله سبحانه ربّ العالمين، و{رَبُّ السَّمواتِ والأرضِ} (الصافات/5) و{هُوَ رَبُّ

الصفحة 36
الشِّعْرى} (النجم/49) فلأجل أنّه سبحانه مدبّر ومدير ومتصرّف في شؤونها والقائم عليها. فلو أُطلق الربّ على مالك الدابة فلأجل أنّه فُوِّض إليه إصلاح المملوك.

هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى الله سبحانه يعلّل في بعض الآيات حصر العبادة في الله سبحانه حيث حصر الربوبية به دون غيره، فتدلّ بصراحة على أنّ العبادة من شؤون الربوبية، وإليك بعض الآيات.

وقال المسيح:

{يا بَنِي إسْرائيلَ اعْبُدوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (المائدة/72). {إنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء/92). {إنَّ اللهِ رَبِّي ورَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتقِيمٌ} (آل عمران/51).

وإذا عرفت هذين الأمرين:

1 ـ الربّ من فوّض إليه تدبير الشيء وإصلاحه وتربيته.

2 ـ إنّ الآيات تعلّل حصر العبادة في الله بكونه ربّاً.

فستعرف أنّ اتّسام الخضوع، والسؤال والدعاء بالعبادة من شؤون الاعتقاد بكون المخضوع له ربّاً بيده مسير الخاضع ومصيره، وإن شئت قلت: بيده شأن أو

الصفحة 37
شؤون مَن حياته الدنيوية أو الأُخروية بيده، فالخضوع المقرون بهذا الاعتقاد يُضفي عليه عنوان العبادة.

وليعلم أنّ المراد من كون الرب مالكاً لشأن من شؤون حياته ليس المراد هو المالكية القانونية والوضعية التي تُعطى للإنسان حيناً وتسلَب عنه حيناً آخر، بل المراد المالكية التكوينية المستمدّة من الخالقية كما في الإله الأعلى أو من تفويض الإله الأعلى لها، كما هو الحال عند آلهة المشركين ـ على زعمهم ـ الذين يعتقدون بأنّه سبحانه فوّض إليهم بعضَ شؤون حياتهم، كغفران الذنوب والشفاعة، بل يظهر ممّا نقله ابن هشام في سيرته أنّ الشرك دخل مكّة في صورة الشرك في الربوبية فيما يرجع إلى الاستمطار، يقول ابن هشام:

"كان عمرو بن لحي" أول من أدخل الوثنية إلى مكّة ونواحيها، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام أُناساً يعبدون الأوثانَ وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلا:

ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا!


الصفحة 38
فقال لهم: أفلا تعطوني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟

وهكذا استحسن طريقتهم واستصحب معه إلى مكة صنماً كبيراً باسم "هبل" ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادتها(1).

إذن فاستمطار المطر من هذه الأوثان والاستعانة بها يكشف عن أنّ بعض المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لهذه الأوثان دخلا في تدبير شؤون الكون وحياة الإنسان.

نتيجة البحث

إذا عرفنا أنّ مقومّ العبادة عبارة عن اعتقاد السائل والخاضع والداعي أو المنادي بأنّ المسؤول والمخضوع له "إله" و "ربّ" يملك شيئاً ممّا يرجع إليه في عاجله أو آجله، في مسيره ومصيره، وإنّه يقوم بذلك لكونه خالقاً أو مفوَّضاً إليه من قبل الخالق، فيقوم على وجه الاستقلال والأصالة، تستطيع أن تقضي في الأعمال التي يقوم بها اشياع الأنبياء ومحبّوهم، بأنّها ليست عبادة أبداً وإنّما هي

____________

1- سيرة ابن هشام 1: 79.


الصفحة 39
من مصاديق التكريم والاحترام وإن بلغت نهاية التذلّل، لأنّها لا تنطلق من اعتقاد الخاضع بإلوهية النبي، ولا ربوبيته بل تنطلق عن الاعتقاد بكونهم عباد الله الصالحين، وعباده المكرمين الذين لا يعصون الله وهم بأمره يعملون، نظير:

1 ـ تقبيل الأضرحة وأبواب المشاهد التي تضمّ أجساد الأنبياء والأولياء، فإنّ ذلك ليس عبادة لصاحب القبر والمشهد، لفقدان عنصر العبادة فيما يفعله الإنسان من التقبيل واللّمس وما شابه ذلك.

2 ـ إقامة الصلاة في مشاهد الأولياء تبركاً بالأرض التي تضمنت جسد النبي أو الإمام، كما تبرّك بالصلاة عند مقام إبراهيم اتّباعاً لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبراهِيمَ مُصَلّى} (البقرة/125).

3 ـ التوسّل بالنبي سواء كان توسلا بذاته وشخصه، أو بمقامه وشخصيته أو بدعائه في حال حياته ومماته، فإنّ ذلك كلّه لا يكون عبادة لعدم الاعتقاد بإلوهية النبيّ ولا ربوبيته، ويعدّ من التوسّل بالأسباب، سواء كان المدعوّ قادراً على إنجاز العمل أو عاجزاً، غاية الأمر يكون التوسّل

الصفحة 40
في صورة العجز غير مفيد، لا متّسماً بالشرك، فلو افترضنا أنّ الأنبياء والأئمة في حال الممات غير قادرين على شيء فالدعاء والتوسّل بهم مع كونهم عاجزين لا يجعل العمل شركاً، بل يجعله لغواً، مع أنّ أصل المبنى باطل أي أنّهم غير قادرين في حال الممات.

4 ـ طلب الشفاعة من الأنبياء أو النبيّ الأكرم ليس شركاً لأنّه يطلبها منه بقيد أنّه عبد مأذون لا أنّه مفوّض إليه أمرها، وفي الواقع إمّا أن يكون مأذوناً فيشفع وإما أن يكون الطلب لغواً.

5 ـ الاستغاثة بالأرواح المقدّسة ليس إلاّ كالاستغاثة بهم في حال حياتهم، فهي على وجه يتّسم بالشرك من غير فرق بين حالي الحياة والممات ولا يتّسم به على وجه آخر، كذلك فلو استغاث به بما أنّه عبد أقدره الله تعالى على الإجابة حياً وميتاً، يكون من قبيل التوسّل بالأسباب، وإن استغاث به بما أنّه إله أو ربّ يقوم بالاستغاثة أصالة واستقلالا وأنّه فوّض إليه حياة المستغيث عاجلا وآجلا، فهو شرك من غير فرق بين الحالتين.

هذا خلاصة البحث حول حصر العبادة بالله سبحانه،

الصفحة 41
وإذا أمعنت فيما ذكرنا يمكنك على بعض ما أثارته بعض المناهج الفكرية في الأوساط الإسلامية حول هذه الأُمور، التي نسبت جلّ المسلمين إلى الشرك في العبادة مع أنّهم بمنأى عن الشرك.

الفوضى في التطبيق بين الإمام والمأموم

لقد ترك الإهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الإمام والمأموم فنرى أنّ إمام الحنابلة أحمد بن حنبل (641ـ142هـ) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)والتبرّك به وبقبره وتقبيلهما عندما سأله ولده عبد الله بن أحمد، وقال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله)ويتبرّك بمسِّه، ويُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى الله عزّ وجلّ؟ فقال: "لابأس بذلك"(1).

هذه هي فتوى الإمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، وبعده محمد بن عبد الوهاب ـ ولم ير بأساً بذلك،

____________

1- أحمد بن حنبل، العلل ومعرفة الرجال 2: 492، برقم: 3243، تحقيق الدكتور وصي الله عباس، ط بيروت 1408.


الصفحة 42
لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الأجسام والجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشي، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله وآجله، وأمّا مسّ المنبر أو القبر وتقبيلهما، كل ذلك لغاية التكريم والتعظيم لنبيّ التوحيد، وإن كان لغاية التبرّك فلا يتجاوز التبرّك في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، ولم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص والمنبر والقبر أو لنفس تلك الأشياء.

ولمّا كانت فتوى الإمام ثقيلة على محقق الكتاب، أو من علق عليه لأنها تتناقض مع ما عليه الوهابية وتبطل أحلام ابن تيمية، ومن لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الإمام وما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال: "أمّا مسّ منبر النبيّ فقد أثبت الإمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص14) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، ورى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (4/121) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال:


الصفحة 43
حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: ورأيت يزيد يفعل ذلك.

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لا يقال بمشروعية مسحه تبركاً به".

ويلاحظ على هذا الكلام:

بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّ با بن عمر، وما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر:

أوّلا:

لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لايمس كان على الإمام المفتي أن يذكر القيدَ، ولا يُطلق كلامَه، حتى ولو افترضنا أنّ المنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الأكرم، وهذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، وتقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يغفل التقسيم والتصنيف.

وثانياً:

أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه،

الصفحة 44
وذلك لأنّ معناه أنّ لجسمه الشريف تأثيراً في المنبر وما تبرّك به، وهذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا مؤثّر في الكون إلاّ الله سبحانه، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجسمه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً وأنّه يجوز للمسلمين أن يتأثروا به عبر القرون.

ثم إنّ المعلّق استثنى مسّ قبر النبي (صلى الله عليه وآله) والتبرك به، ومنعهما وقال في وجهه:

"وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ والتبرّك به فهذا القول غريب جداً لم أر أحداً نقله عن الإمام، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص 31): اتّفق الأئمة على أنّه لا يمسّ قبر النبي ولا يقبله، وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك بالله اتّخاذ القبور مساجد"(1).

لكن يلاحظ عليه:

كيف يقول: لم أجد أحداً نقله عن الإمام، أوَ ليس ولده أبو عبد الله راوية أبيه وكتبه يروي هذه الفتوى؟ وهو ثقة عند الحنابلة!

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الأول نفس

____________

1- تعليقة المحقق، نفس الصفحة.


الصفحة 45
التوحيد، والثاني أساس الشرك، فمن غرائب الأُمور، لأنّ الأمرين يشتركان في التوجّه إلى غير الله سبحانه، فلو كان هذا محرز الشرك، فالموضوعات سيّان، وإن فرّق بينهما بأنّ الماسّ، ينتفع بالأول دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الأول نافعاً والثاني أمراً باطلا دون أن يكون شركاً.

ولو رجع المحقق إلى الصحاح والمسانيد وكتب السيرة والتاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر ومسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة والتابعين، ولأجل إيقاف القارئ على صحة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

1 ـ إنّ فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بنت رسول الله حضرت عند قبر أبيها (صلى الله عليه وآله) وأخذت قبضة من تراب القبر تشمّه وتبكي وتقول:


ماذا على من شمّ تربة أحمدألاّ يشمّ مدَى الزمان غَواليا


الصفحة 46

صُبَّت عليَّ مصائب لو أنّهاصُبَّت على الأيّامِ صِرنَ لَياليا(1)

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومة يدل على جواز التبرّك بقبر رسول الله وتربته الطاهرة.

2 ـ إنّ بلال ـ مؤذّن رسول الله ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو يقول:

"ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟" فانتبه حزيناً وَجِلا خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام فجعل يضمّهما ويقبّلهما... إلى آخر الخبر(2).

____________

1- لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من المؤرخين، منهم السمهودي في وفاء الوفا 2: 444 ـ والخالدي في صلح الاخوان: 57، وغيرهما.

2- ابن الأثير، أُسد الغابة 1: 28، وغيره من المصادر.