الصفحة 25

الآية الثانية
اتّخاذ المساجد على قبور المضطهدين
في سبيل التوحيد


يذكر سبحانه قصة أصحاب الكهف، وأنّهم اعتزلوا قومَهم للحفاظ على عقيدتهم ودينهم، حتى وافاهم الأجل وهم في الكهف، وقد أعثر الله عليهم قوماً بعد ثلاثة قرون وأطلعهم عليهم، يقول سبحانه: {وَكَذلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} (الكهف/21).

ومعنى الآية أنّا أعثرنا على أصحاب الكهف أهلَ المدينة ليعلموا أنّ وعد الله بالبعث حقّ، فإنّ بَعْثَ هؤلاء بعد لَبْثهم ثلاثمائة سنة دليل على إمكان الحياة الثانوية، ليعلموا أنّ الساعة لا ريب فيها.

ثمّ إنّ القوم الذين أعثرهم الله على أجسادهم اتّفقوا على تكريمهم، ولكن اختلفوا في طريقة التكريم، كما يقول سبحانه: {إِذْ

الصفحة 26
يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}، فظاهرُ المنازعة هو ما جاء بعد هذه الجملة بضميمة لفظة الفاء، فقال جماعة: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً}، أي اجعلوا عليهم بنياناً كبيراً، ويدلّ على الوصف تنكير {بُنْيَاناً}، وقد صرّح الجوهري وابن منظور بأنّ البنيان بمعنى الحائط(1)، ولذلك فسّره القاسمي بقوله: أي باب كهفهم بنياناً عظيماً كالخانقاهات والمشاهد والمزارات المبنيّة على الأنبياء وأتباعهم(2)، تسترأجسادهم وتعظّم أبدانهم، ربهم أعلم بهم.

ولكن قال آخرون الذين غلبوا على أمر القائلين بالقول الأول وصار البلد تحت سلطتهم {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} ومعبداً وموضعاً للعبادة والسجود يتعبّد الناس فيه ببركاتهم.

هذا هو الظاهر المستفاد من الآية.

قال الرازي: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِم} قيل: المراد به الملك المسلم وأولياء أصحاب الكهف، وقيل: رؤساء البلد، {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} نعبد الله، وستبقى آثار أصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد(3).

وقال أبو حيان الأندلسي: روي أنّ التي دَعت إلى البنيان ماتت كافرة، أرادت بناء مصنع لكفرهم، فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجداً(4).

وقال أبو السعود (ت159): {وَقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِم} وهم

____________

1- الجوهري، الصحاح 6: 228 مادة بناء; وابن منظور، اللسان 1: 510 تلك المادة.

2- القاسمي، محاسن التأويل 7: 21.

3- الرازي، مفاتيح الغيب 21: 105.

4- أبو حيان محمد بن يوسف (654-754 هـ)، البحر المحيط ج6.


الصفحة 27
الملك والمسلمون {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} (1).

وقال الزمخشري في الكشاف: {وَقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِم} من المسلمين وملكهم وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم ليتّخذ على باب الكهف مسجداً يصلّي فيه المسلمون ويتبرّكون بمكانهم(2).

إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية، وكأنَّ الاتفاق موجود على أنّ القول بايجاد البنيان على باب الكهف كان لغير المسلمين، والقول ببناء المسجد على بابه قول المسلمين، والذي يدلّ على ذلك أمران:

الأوّل: إنّ اتّخاذ المسجد دليل على أنّ القائل كان موحّداً مسلماً غير مشرك، فأيّ صلة للمشرك ببناء مسجد على باب الكهف، ولو كان المشركون يهتمّون بعمارة المسجد الحرام فلأجل أنّه أُنيطَ بالبيت كيانهم وعظمتهم في الأوساط العربيّة، بحيث كان التخلّي عنها مساوقاً لسقوطهم عن أعين العرب في الجزيرة كتكريمهم البيت الحرام.

أفبعدَ اتّفاق أكابر المفسّرين هل يصحّ لباحث أن يشكّ في أنّ القائلين ببناء المسجد على قبورهم كانوا هم المسلمين الموحّدين؟!

الثاني: ما رواه الطبري في تفسير قوله: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} قال: إنّ المبعوث دخل المدينة فجعل يمشي بين سوقها فيسمع أُناساً كثيراً يحلفون باسم عيسى بن مريم فزاده فزعاً ورأى أنّه حيران، فقام مسنِداً ظهرَه إلى جدار من جُدران المدينة ويقول في نفسه:

____________

1- أبو السعود محمد بن محمد العمادي، التفسير 5: 215.

2- الزمخشري، الكشاف 2: 245.


الصفحة 28
أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل، أمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى لا يخاف، ثمّ قال في نفسه: لعلّ هذه ليست بالمدينة التي أعرف(1).

وهذا يعرب عن أنّ الأكثرية الساحقة كانت موحّدة مؤمنة متديّنة بشريعة المسيح، رغم ما كانوا على ضدّه قبل ثلاثمائة سنة.

وقال في تفسير قوله تعالى: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً} فقال الذين أعثرناهم على أصحاب الكهف: {اُبْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} يقول: ربّ الفتية أعلم بشأنهم، وقوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} يقول جلّ ثناؤه: قال القوم الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف: {لَتَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}.

وقد نُقل عن عبد الله بن عبيد بن عمير: فقال المشركون نبني عليهم بنياناً فإنّهم آباؤنا ونعبد الله فيها، وقال المسلمون: نحن أحقّ بهم، هم منّا، نبني عليهم مسجداً فيه ونعبد الله فيه(2).

الرأي المسبق يضرب عرض الجدار

إنّ الشيخ الألباني ربيب الوهابيّة ومروّجها، لمّا رأى دلالة الآية على أنّ المسلمين حاولوا أنْ يبنوا مسجداً على قبورهم، وكان ذلك على طرف الخلاف من عقيدته، حاول تحريف الكلم وقال: إنّ المراد من

____________

1- الطبري، التفسير 15: 219 في تفسير سورة الكهف، الآية 19 ط. مصر مصطفى الحلبي.

2- الطبري، التفسير 15: 225; ولاحظ تفسير القرطبي والكشاف للزمخشري وغرائب القرآن للنيسابوري في ذيل هذه الآية.


الصفحة 29
الغالبين هم أهل السلطة، ولا دليل على حجيّة فعلهم، ولكنّه عزب عن أنّ البيئة قد انقلبت عن الشرك إلى التوحيد ومن الكفر إلى الإسلام حسبما نقله الطبري، وليس القائل ببناء المسجد على بابهم الملك، وإنّما القائل هم الذين توافدوا على باب الكهف عندما أعثرهم سبحانه على أحوالهم، وطبع الحال يقتضي توافد الأكثرية الساحقة القاطنين في المدينة على باب الكهف لا خصوص الملك، ولا وزراؤه، بل الموحّدون بأجمعهم، وهو في هذه النسبة عيال على ابن كثير حيث قال: والظاهر أنّهم أصحاب النفوذ(1).

نحن نفترض أنّهم أصحاب النفوذ، إلاّ أنّهم نظروا إلى الموضوع من خلال منظار دينهم ومقتضى مذهبهم لا مقتضى سلطتهم.

تقرير القرآن على صحّة كلا الاقتراحين

إنّ الذكر الحكيم يذكر كلا الاقتراحين من دون أيّ نقد ورد، وليس صحيحاً قطعاً أن يذكر الله سبحانه عن هؤلاء المتواجدين على باب الكهف أمراً باطلا من دون أيّة إشارة إلى بطلانه، إذ لو كان كذلك كأن يكون أمراً محرّماً أو مقدّمة للشرك والانحراف عن التوحيد، لكان عليه أن لا يمرّ عليها بلا إشارة إلى ضلالهم وانحرافهم، خصوصاً أنّ سياق الآية بصدد المدح وأنّ أهل البلد اتّفقوا على تكريم هؤلاء الذين هجروا أوطانهم لأجل صيانة عقيدتهم، غاية الأمر اختلفوا في كيفيّته، فمن قائل

____________

1- ابن كثير، التفسير 5: 375.


الصفحة 30
ببناء البنيان إلى آخر ببناء المسجد.

إنّ القرآن كتاب نزل لهداية الإنسان وتربية الأجيال، والهدف من عرض حياة الأُمم ووقائعهم هو الاعتبار، فلا ينقل شيئاً إلاّ فيه عبرة، فلو كان الاقتراحان يمسّان كرامة التوحيد، لِمَ سكت عنه؟

وهذا ظاهر فيمن تدبّر في القرآن الكريم، وسيوافيك بقيّة الكلام عند بيان النتيجة.

إنّ جمال الدين القاسمي الدمشقي (1283-1332 هـ) كان يصوّر نفسه مصلحاً إسلاميّاً يسعى في توحيد كلمة المسلمين ولَمِّ شَعْثِهم، ومن شروط من يتبنّى لنفسه ذلك المقام الرفيع أن ينظر إلى المسائل من منظار وسيع ويستقبل الخلاف بين المسلمين بسعة صدر، ولكنّه ـ عفا الله عنه ـ يريد توحيد الكلمة في ظلّ الأُصول التي ورثها عن ابن تيمية، فزاد في الطين بلّة، ويشهد لذلك ما علّقه على عبارة ابن كثير، وإليك عبارة ابن كثير، وتعليق ذاك.

قال ابن كثير بعد تفسير الآية: هل هم كانوا محمودين أم لا؟ فيه نظر، لأنّ النبيّ قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبياءهم وصالحيهم مساجد" يحذّر ما فعلوا.

وقال جمال الدين: وعجيب من تردّده في كونهم غير محمودين، مع إيراده الحديث الصحيح بعده المسجّل بلعن فاعل ذلك، والسبب في ذلك أنّ البناء على قبر النبيّ مَدعاة للإقبال عليه والتضرّع إليه، ففيه فتح

الصفحة 31
لباب الشرك وتوسّل إليه بأقرب وسيلة...(1).

يلاحظ عليه:

أنّ القرآن هو الحجّة الكبرى للمسلمين، وفيه تبيان لكلّ شيء، وهو المهيمن على الكتب، فإذا دلّ القرآن على جوازه فما قيمة الخبر الواحد الذي روي في هذا المجال إذا كان مضادّاً للوحي، ومخالفاً لصريح الكتاب، وإن كانت السنّة المحمديّة الواقعية لا تختلف عنه قيد شعرة، إنّما الكلام في الرواية التي رواها زيد عن عمرو حتى ينتهي إلى النبي، فإنّ مثله خاضع للنقاش، ومرفوض إذا خالف الكتاب، لكن ما ذكره يعرب عن أنّ الأساس عنده هو الحديث لا الذكر الحكيم.

وكان عليه بعد تسليم دلالة القرآن أن يبحث في سند الحديث ودلالته، وأنّ الحديث على فرض الصحّة ناظر إلى ما كان القبر مسجوداً له، أو مسجوداً عليه أو قِبلة، ومن المعلوم أنّ المسلمين لا يسجدون إلاّ لله، ولا يسجدون إلاّ على ما صحّ السجود عليه، ولا يستقبلون إلاّ القِبلة، وسيتّضح نصّ محقّقي الحديث، على أنّ المراد هو ذلك، فانتظر.

وأعجب منه ما في ذيل كلامه: من أنّه رأى التوسّل بالنبيّ شركاً، مع أنّ النصوص الصحيحة في الصحاح تدلّ على جوازه، فقد توسّل الصحابي الضرير بالنبيّ الأكرم حسب تعليمه وقال: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك نبيّ الرحمة، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى(2).

____________

1- جمال الدين القاسمي، محاسن التأويل 7: 30-31.

2- الترمذي، الصحيح 5: كتاب الدعوات، الباب 119 برقم 2578; ابن ماجة، السنن 1: 441 برقم 1385; الإمام أحمد، المسند 4: 138، إلى غير ذلك من المصادر.


الصفحة 32
وقد اتّفقوا على صحة الحديث، حتى أنّ ابن تيمية ـ مُثيرَ هذه الشكوك ـ اعترف بصحّته وقال: وقد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبيّ أنّه علّم رجلا يدعو فيقول:...، وقد أوردنا نصوص القوم في كتاب "التوسّل".

ومن زعم أنّ هذه التوسّلات أساس الشرك، فلينظر إلى المسلمين طيلة أربعة عشر قرناً، فإنّهم ما برحوا يتوسّلون بالنبي (صلى الله عليه وآله)، وما عدلوا عن سبيل التوحيد قيد شعرة.

إنّ إنشاء البناء على قبر نبيّ التوحيد تأكيدٌ على مبدأ التوحيد ورسالته العالمية التي يشكل أصلها الأول قوله سبحانه: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.

وقد خرجنا عن هذه الدراسة بالنتيجتين التاليتين:

1 ـ جواز البناء على قبور الأولياء والصالحين ودعاة التوحيد فضلا عن النبيّ وما ذلك إلاّ أنّ القرآن ذكر ذلك من دون أن يغمض فيه، وليس القرآن كتاباً قصصيّاً ولا مسرحيّاً للتمثيل، بل هو كتاب هداية ونور، فإن نقل شيئاً ولم يغمض عليه فهو دليل على أنّه محمود عنده.

نرى أنّه سبحانه يحكي كيفيّة غرق فرعون ويقول: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (يونس/90).

ولمّا كانت تلك الفكرة باطلة عنده سبحانه، أراد إيقاف المؤمنين على أنّ الإيمان في هذا الظرف غير مفيد، فلأجل ذلك عقّب عليه بقوله: {ءالاْنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس/91).


الصفحة 33
فالإنسان العارف بالكتاب يقف على أنّه لم يترك على صعيد العقائد أُموراً إلاّ وذكر أوضحها وبيّنها بطرق مختلفة، ومن تلك الطرق القصص الواردة في الكتاب العزيز، فكلّ ما وقع في الأُمم السالفة وصار القرآن بصدد ذكره فهو على أقسام ثلاث: كونه بيّن الصحة، أو بيّن البطلان، أو المردّد بين الأمرين.

فقد يترك البيان في الأولين لعدم الحاجة، وأمّا الثالث فلا يتركه إلاّ إذا كان مقبولا لديه.

2 ـ جواز بناء المسجد على قبور الصالحين فضلا عن الأنبياء وجواز الصلاة فيها والتبرّك بتربته، فلو كانت الصلاة في المقابر مكروهة فالأدلّة المرغّبة إلى الصلاة في جِوار الصالحين والأنبياء تخصّص تلك العمومات، وذلك لأنّ للصلاة في مشاهدهم مصلحة تغلب على الحضاضة الموجودة في الصلاة في المقابر المطلقة.


الصفحة 34

الآية الثالثة
صيانة الآثار الإسلامية وتعظيم الشعائر


قال سبحانه: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج/32).

والاستدلال بالآية يتوقّف على ثبوت صغرى وكبرى:

الصغرى عبارة عن كون الأنبياء وأوصيائهم ومن يرتبط بهم أحياءً وأمواتاً من شعائر الله.

والكبرى عبارة عن كون البناء وصيانة الآثار والمقابر تعظيماً لشعائر الله.

ولا أظنّ أنّ الكبرى تحتاج إلى مزيد بيان، إنّما المهم بيان الصغرى، وأنّ الأنبياء والأوصياء من شعائر الله، وبيان ذلك يحتاج إلى نقل ما ورد حول شعائر الله من الآيات:

1 ـ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} (البقرة/158).

2 ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامِ وَلاَ

الصفحة 35
الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} (المائدة/2).

3 ـ {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} (الحج/36).

وفي آية أُخرى جعل مكان شعائر الله حرمات الله وقال:

{ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاَْنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاَْوْثَانِ...} (الحج/30).

ما هو المقصود من شعائر الله؟

هنا احتمالات:

1 ـ تعظيم آيات وجوده سبحانه.

2 ـ معالم عبادته وأعلام طاعته.

3 ـ معالم دينه وشريعته وكلّ ما يمت إليهما بصلة.

أمّا الأوّل، فلم يقل به أحد، إذ كل ما في الكون آيات وجوده، ولا يصحّ تعظيم كلّ موجود بحجة أنّه دليل على الصانع.

وأمّا الثاني، فهو داخل في الآية قطعاً، وقد عدّ الصَّفا والمروةَ والبُدْن من شعائر الله، فهي من معالم عبادته وأعلام طاعته، إنّما الكلام في اختصاص الآية بمعالم العبادة وأعلام الطاعة، ولا دليل عليه، بل المتبادر هو الثالث، أي معالم دينه سبحانه، سواء كانت أعلاماً لعبادته وطاعته أم لا، فالأنبياء والأوصياء والشهداء والصحف والقرآن الكريم والأحاديث النبويّة كلّها من شعائر دين الله وأعلام شريعته، فمن عظّمها فقد عظّم شعائر الدين.


الصفحة 36
قال القرطبي: فشعائر الله، أعلام دينه، لا سيما ما يتعلّق بالمناسك(1).

ولقد أحسن حيث عمّم أولا، ثمّ ذكر مورد الآية ثانياً، وممّا يعرب عن ذلك أنّ ايجاب التعظيم تعلّق بـ "حرمات الله" في آية أُخرى.

قال سبحانه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}، والحرمات ما لا يحلّ انتهاكه، فأحكامه سبحانه حرمات الله، إذ لا يحلّ انتهاكها، وأعلام طاعته وعبادته حرمات الله، إذ يحرم هتكها، وأنبياؤه وأوصياؤهم وشهداء دينه وكتبه وصحفه من حرمات الله، يحرم هتكهم، فلو عظّمهم المؤمن أحياءً وأمواتاً فقد عمل بالآيتين: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ} {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ}.

____________

1- القرطبي، التفسير 12: 56 طبع دار إحياء التراث.


الصفحة 37

الآية الرابعة
صيانة الآثار ومودّة ذوي القربى


إنّ القرآن الكريم يأمرنا ـ بكلّ صراحة ـ بحبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأقربائه، ومودّتهم ومحبّتهم فيقول:

{وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة/56) و {قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى/23).

ومن الواضح لدى كلّ من يخاطبه الله بهذه الآية أنّ البناء على مراقد النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)، هو نوع من إظهار الحبّ والمودّة لهم، وبذلك يخرج عن كونه بدعة، لوجود أصل له في الكتاب والسنّة، ولو بصورة كليّة.

وهذه العادة متّبعة عند كافة الشعوب والأُمم في العالم، فالجميع يعتبرون ذلك نوعاً من المودّة لصاحب ذلك القبر، ولذلك تراهم يدفنون كبار الشخصيات السياسية والعلمية في كنائس ومقابر مشهورة ويزرعون أنواع الزهور والأشجار حولها.


الصفحة 38

الفصل الثاني:

من منظار القواعد الفقهيّة


الأصل في الأشياء الإباحة والحلّية

إنّ الأصل في الأشياء هو الإباحة ما لم يرد فيها نهي في الشريعة، وهذه هي القاعدة المحكمة التي اعتمد عليها الفقهاء عبر القرون إلاّ المتزمّتين غير الواعين.

حتى أنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ وظيفة النبيّ الأكرم هو بيان المحرّمات دون المحلّلات، وأنّ الأصل هو حلّية كلّ عمل وفعل، إلاّ أن يجد النبيّ حرمته في شريعته، وأنّ وظيفة الأُمّة هو استفراغ الوسع في استنباط الحكم من أدلّته، فإذا لم تجد دليلا على الحرمة تحكم عليه بالجواز.

ونكتفي في هذا المقام بالإشارة إلى مجموعة من الآيات، وإن كان في السنّة الغرّاء أيضاً كفاية:

1 ـ قال سبحانه: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ

الصفحة 39
بِغَيْرِ عِلْم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} (الأنعام/119).

فإنّ هذه الآية تكشف عن أنّ الذي يحتاج إلى البيان إنّما هو المحرّمات لا المباحات، ولأجل ذلك لا وجه للتوقّف في العمل، بعدما لم يكن مبيّناً في جدول المحرّمات.

وبعبارة أُخرى: أنّ المسلم إذا لم يجد شيئاً في جدول المحرّمات لم يكن له تبرير لتوقّفه وعدم الحكم عليه بالإباحة والجواز والحلّية.

2 ـ قال سبحانه: {قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِم يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} (الأنعام/145).

إنّها تكشف عن أنّ ما يلزم بيانه إنّما هو المحرّمات لا المباحات، ولذلك يستدلّ مبلغ الوحي ـ ونعني به النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) ـ بأنّه لا يجد فيما أُوحي إليه محرّماً على طاعم يطعمه سوى الأُمور المذكورة، فإذا لم يكن هناك شيء فهو محكوم بالحلّية والإباحة.

3 ـ قال سبحانه: {مَنِ اهْتَدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} (الإسراء/15).

4 ـ قال سبحانه أيضاً: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص/59).

إنّ دلالة هاتين الآيتين على المقام واضحة، فإنّ جملة "وما كان" تارة تستعمل في نفي الشأن والصلاحية، وأُخرى في نفي كون الشيء

الصفحة 40
أمراً ممكناً.

أمّا الأوّل، فمثل قوله: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانِكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة/143) وغيرها كسورة آل عمران (الآيات 79 و 161)، أي ليس من شأن الله سبحانه وهو العادل الرؤوف أن يضيع أيمانكم.

وأمّا الثاني، فمثل قوله: {مَا كَانَ لِنَفْس أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلا} (آل عمران/145)، أي لا يمكن لنفس أن تموت بدون إذنه سبحانه.

فيكون معنى الآيتين بناءً على الاستعمال الأول: هو ليس من شأن الله تعالى أن يعذّب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولا.

وعلى الاستعمال الثاني: هو ليس من الممكن أن يعذّب الله الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث إليهم رسولا.

وعلى كلّ تقدير، فدلالة الآيتين على الإباحة واضحة، إذ ليست لبعث الرسل خصوصية وموضوعية، ولو أُنيط جواز العذاب ببعثهم فإنّما هو لأجل كونهم وسائط للبيان والإبلاغ، والملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان وإبلاغ، وأنّ التعذيب ليس من شأنه سبحانه، أو أنّه ليس أمراً ممكناً حسب حكمته.

5 ـ قال سبحانه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَة إِلاَّ وَلَهَا مُنْذِرُونَ} (الشعراء/208).

فإنّ هذه الآية مشعرة بأنّ الهلاك كان بعد الإنذار والتخويف، وأنّ اشتراط الانذار كناية عن البيان وإتمام الحجّة.

6 ـ قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَاب مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} (طه/134).


الصفحة 41
فإنّ هذه الآية تدلّ على أنّ التعذيب قبل بعث الرسول مردود بحجة المعذّبين وهي قولهم: {لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ}، فلا يصحّ التعذيب إلاّ بعد إتمام الحجّة عليهم ببعث الرسل.

وهذا يعني أنّ الأشياء مباحة جائزة الارتكاب خالية عن العقوبة أصلا، إلاّ إذا ردع عنها الشارع بشكل من الأشكال التي منها إرسال الأنبياء.

7 ـ قوله سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِير وَلاَ نَذِير فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِير} (المائدة/19).

فإنّ ظاهر قوله: {مَا جِاءَنَا مِنْ بَشِير وَلاَ نَذِير} أنّه حجّة تامّة صحيحة، ويحتج به على كلّ من عذّب قبل البيان، ولأجل ذلك قام سبحانه بإرسال الرسل حتى لا يُحتج عليه، بل تكون الحجة لله سبحانه.

وهذا يعطي أنّه لا يحكم على حرمة شيء ولا يجوز التعذيب على ارتكابه قبل بيان حكمه، وذلك لأنّ بعث البشير والنذير كناية عن بيان الأحكام.


الصفحة 42

الفصل الثالث:

المشاهد والمقابر من خلال سيرة المسلمين
في خير القرون


قد تعرّفت على قضاء الكتاب في تكريم الأنبياء والأولياء، وأنّ البناء على قبورهم أو بناء المساجد حول مراقدهم، أمر محبّذ، ندبت إليه الشريعة الإلهيّة، ولم ترَ أيّ أثر فيها للتحريم، وعلى ذلك درج السلف الصالح عبر القرون، ولم يزل الإلهيّون من أهل الكتاب والمسلمين على مدى العصور يهتمّون بمقابر الأنبياء والأولياء بالبناء والتعمير ثمّ التطهير والتنظيف لها، حتى أنّ كثيراً من المتمكّنين يُخصّصُون شيئاً من أموالهم لهذه الغاية.

فهذه القباب الشاهقة والمنائر الرفيعة والساحات الوسيعة حول مراقد الأنبياء والأولياء وحول مراقد صحابتهم في مختلف الديار شرقها وغربها، لدليل قاطع على أنّ هذه السيرة سيرة مشروعة، وإلاّ كان على الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان رفضها وردّها بالبيان والبنان

الصفحة 43
والسلطة والقوّة، فالسكوت عليها إلى عصر إثارة هذه الشكوك، عصر ابن تيمية، أدلّ دليل على كونها سيرة مشروعة.

وعندما قام ابن تيمية بوجه هذه السيرة أثار ثائرة المسلمين ضدّه شرقاً وغرباً، وقد بيّنوا ضلالة تلك الفكرة وانحرافها عن الشرع.

وقدوقف السلف الصالح ـ بعدفتح الشام ـ على قبورالأنبياء ذوات البناء الشامخ، فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم ـ وعلى رأسهم عمر بن الخطاب ـ بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب هدمه.

وهكذا الحال في سائر القبور المشيّدة عليها الأبنية في أطراف العالم، وإن كنت في ريب فاقرأ تواريخهم.

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة التي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام، وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان، لجاء بكتاب فخم ضخم، يعرب عن أنّ السنة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده، من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا، هي مشروعيّة البناء على القبور والعناية بحفظ آثار علماء الدين، ولم ينبس أي ابن أُنثى حول ذلك ببنت شفة، وما اعتُرض عليها، بل تلقوها اظهاراً للمحبّة والودّ لأصحاب الرسالات والنبوّات وأصحاب العلم والفضل، ومن خالف تلك السنة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين، قال سبحانه:

{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعَ غَيْرَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنَصِلْهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء/115).


الصفحة 44
وقد وارى المسلمون جسد النبي الأكرم في بيته المسقّف، ولم يزل المسلمون منذ واروا جثمانه، على العناية بحجرته الشريفة بشتّى الأساليب.

وقد بنى عمر بن الخطاب حول حجرته جداراً، حيث جاء تفصيل كلّ ذلك مع ذكر وصف الأبنية التي توالت عليها عبر القرون في الكتب المتعلّقة بتاريخ المدينة، لا سيّما وفاء الوفا للإمام السمهودي المتوفّى عام 911 هـ(1)، والبناء الأخير الذي شيّد عام 1270هـ قائم لم يمسّه سوء، وسوف يبقى بفضل الله تبارك وتعالى محفوظاً عن الاجتراء.

وأمّا المشاهد والقباب المبنيّة في المدينة منذ العصور الأُولى فحدّث عنها ولا حرج، لا سيّما في بقيع الغرقد، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التاريخ وأخبار المدينة.

وقد ذكر كثير من المؤرّخين والسوّاح شيئاً كثيراً من أبنية شاهقة على قبور الأنبياء والصالحين في خير القرون.

وبدورنا نذكر شيئاً يسيراً ممّا جاء في كتبهم، ونكتفي بذكر كلمات ثلاثة من المؤرّخين المعروفين بالثبت والضبط، ثمّ نذكر ما ذكره الرحّالة المعروف ابن جبير في رحلته على وجه التفصيل:

1 ـ كلمة المسعودي في حقّ قبور أئمة أهل البيت (عليهم السلام)

هذا هو المسعودي الذي توفي عام 453 هـ، وقد أدرك خير القرون، وولد في مؤخّره ـ لو كان خير القرون هو القرون الثلاثة الأُولى ـ

____________

1- السمهودي، وفاء الوفا 2: 458 الفصل التاسع.


الصفحة 45
يقول: وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة مكتوب عليها: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله مبيد الأُمم ومحيي الرمم، هذا قبر فاطمة بنت رسول الله (ص) سيّدة نساء العالمين وقبر الحسن بن عليّ ابن أبي طالب، وعليّ بن الحسين بن أبي طالب، ومحمّد بن علي وجعفر ابن محمد(1).

2 ـ كلمة ابن الجوزي:

يقول ابن الجوزي: وهذا هو محمد بن أبي بكر التلمساني يصف المدينة الطيّبة وبقيع الغرقد في القرن الرابع بقوله: وقبر الحسن بن علي عن يمينك إذا خرجت من الدرب ترفع إليه قليلا، عليه مكتوب: هذا قبر الحسن بن علي، دفن إلى جنب أُمّه فاطمة رضي الله عنها وعنه(2).

3 ـ كلمة الحافظ محمد بن محمود بن النجّار:

يقول: في قبة كبيرة عالية قديمة البناء في أول البقيع، وعليها بابان يفتح أحدهما في كلّ يوم للزيارة رضي الله عنهم(3).

4 ـ الرحّالة ابن جبير والأبنية على المشاهد:

هذا هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي الشاطبي،

____________

1- المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر 2: 288.

2- مجلة العربي: رقم ع6 المؤرخة 1393.

3- أخبار مدينة الرسول، اهتمّ بنشره صالح محمد جمال، طبع مكة المكرّمة 1366.


الصفحة 46
أحد علماء الأندلس الأكابر في الفقه والحديث، يحكي لنا في رحلته عن الأبنية الرفيعة والقباب العالية في المشاهد والمزارات المعروفة يومذاك للأنبياء والصالحين والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وصحابته والتابعين لهم بإحسان.

فقد قام برحلات ثلاث، أهمّها استغرقت أكثر من ثلاث سنوات، حيث بدأها يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال عام 785 هـ، و ختمها في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر محرم سنة 815 هـ، وقد وصف في هذه الرحلة ما مرّ به من مدن وما شاهد من عجائب البلدان.

كما وعنى عناية خاصة بوصف النواحي الدينية والمساجد والمشاهد وقبور الأنبياء والأولياء وأهل البيت والصحابة والتابعين، وصفاً دقيقاً، يعرب عن أنّ هذه القباب والأبنية الرفيعة شُيّدت من قبل قرون تتّصل إلى عصر الصحابة والتابعين.

ولم يكن يومذاك أيُّ معترض على بنائها فوق قبور هؤلاء، ولم يدر بِخُلْدِ أحد أنّ هذه القباب والأبنية ستبعدنا عن التوحيد، بل كانوا يتبرّكون بهذا العمل ويبدون ما في مشاعرهم من ودّ وحبّ لأصحابها.

وكان التبرّك والتقبيل سنّة رائجة بين المسلمين، وهم لم يكونوا يقبّلون باباً ويتبرّكون بالجدار، بل يتبرّكون بمن حوتهم، على حدّ قول مجنون العامري:


أمرُّ على الديار ديار ليلىأُقبِّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الديار شغفن قلبيولكن حبّ من سكن الديارا


الصفحة 47
وفيما يلي نشير بشكل مقتضب إلى مجمل كلامه:

مشهد رأس الحسين بالقاهرة:

يقول ابن جبير في ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة: فأوّل ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عزّ وجلّ، فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وهو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بُنيَ عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به....

إلى أن يقول: ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل، شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلّها، كأنّه المرآة الهندية الحديثة الصقل.

وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك، وإحداقهم به، وانكبابهم عليه، وتمسّحهم بالكسوة التي عليه، وطوافهم حوله، مزدحمين داعين باكين متوسّلين إلى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدّسة، ومتضرّعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد، والأمر فيه أعظم، ومرآى الحال أهول، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم.

مشاهد الأنبياء والصالحين في مصر:

يقول ابن جبير عن الجبّانة المعروفة بالقرافة: هي أيضاً إحدى عجائب الدنيا، لِما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم،

الصفحة 48
وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء... فمنها قبر ابن النبي صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، مشاهد أربعة عشر من الرجال وخمس من النساء.

إلى أن يقول: مشهد عليّ بن الحسين بن عليّ (رضي الله عنه)، ومشهدان لابني جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهم، والقاسم بن محمد بن جعفر الصادق بن محمد بن علي زين العابدين المذكور، رضي الله عنهم، ومشهدان لابنية الحسن والحسين رضي الله عنهما، ومشهد ابنه عبد الله بن القاسم (رضي الله عنه)، ومشهد ابنه يحيى بن القاسم، ومشهد عليّ بن عبد الله بن القاسم، رضي الله عنهم، ومشهد أخيه عيسى بن عبد الله، رضي الله عنهما، ومشهد يحيى بن الحسن بن زيد بن الحسن، رضي الله عنهم، ومشهد محمد بن عبد الله بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي، رضي الله عنهم، ومشهد جعفر بن محمد من ذريّة عليّ بن الحسين، رضي الله عنهم.

وأمّا عن النساء فيقول ابن جبير: مشهد السيّدة أُمّ كلثوم ابنة القاسم بن محمد بن جعفر، رضي الله عنهم، ومشهد السيّدة زينب ابنة يحيى بن زيد بن علي بن الحسين، رضي الله عنهم، ومشهد أُمّ كلثوم ابنة محمد بن جعفر الصادق رضي الله عنهم، ومشهد السيّدة أُمّ عبد الله بن القاسم بن محمد، رضي الله عنهم.