(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)

(البقرة : 124)


الصفحة 5

الوحدة حول مائدة الكتاب والسنة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلاة على محمّد وآله الطاهرين، والسلام على أصحابه البررة الميامين.

وبعد: تنازعنا معاشر المسلمين على مسائل الخلاف في الداخل ففرّق أعداء الإسلام من الخارج كلمتنا من حيث لا نشعر، وضعفنا عن الدفاع عن بلادنا، وسيطر الأعداء علينا، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال/46).

وينبغي لنا اليوم وفي كلّ يوم أن نرجع إلى الكتاب والسنّة في ما اختلفنا فيه ونوحّد كلمتنا حولهما، كما قال تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ)(النساء/59).

وفي هذه السلسلة من البحوث نرجع إلى الكتاب والسنّة ونستنبط منها ما ينير لنا السبيل في مسائل الخلاف، فتكون بإذنه تعالى وسيلة لتوحيد كلمتنا.

راجين من العلماء أن يشاركونا في هذا المجال، ويبعثوا إلينا بوجهات نظرهم على عنوان:

بيروت     
ص.ب 124/24
العسكـري   


الصفحة 6

الصفحة 7

الصفحة 8

الصفحة 9

( 1 )
إبليس لا سلطان له على خلفاء الله في الأرض

أخبر الله سبحانه في سورة الحجر أنّ إبليس لا سلطان له على عباده المخلصين، في ذكره ما دار بينه وبين إبليس من محاورة، وذلك في قوله تعالى:

(رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لاَُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الاَْرْضِ وَلاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الُْمخْلَصِينَ * قَالَ ... إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الآيات 30-42) وأخبر تعالى عمّا جرى بين يوسف و زليخا، وكيف يعصم الله المخلَصين من إغواء الشيطان، حيث قال تعالى في سورة يوسف:

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذلِكَ

الصفحة 10
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُْمخْلَصِينَ )(الآية24).

وعرفنا أنّ الوصف المذكور من شروط الإمامة في ما أخبر الله عمّا دار بينه وبين خليله إبراهيم (عليه السلام) في سورة البقرة، وقال:

(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )(الآية124).

وذكر في سورة الأنبياء أنّ الذين جعلهم أئمة، يهدون بأمره، وقال تعالى:

(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ...)(الآية73).

وذكر منهم في تلك السورة نوحاً وإبراهيمَ ولوطاً وإسماعيلَ وأيّوبَ وذا الكفل ويونس وموسى وهارون وداود وسليمان وزكريّا ويحيى وعيسى (عليهم السلام).

وكان في من وصفهم بالإمامة في هذه السورة: النبيُّ والرسول والوزير والوصيّ.

إذاً فقد بان لنا أنّ الله تبارك وتعالى اشترط لمن جعله

الصفحة 11
إماماً أنْ يكون غير ظالم.

وقد وصف الله الإمام بأنّه خليفته في الأرض، كما ورد في خطابه لداود (عليه السلام) في سورة ص:

(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ) (الآية26).

وورد في وصفه لآدم (عليه السلام)في خطابه للملائكة في سورة البقرة:

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَة ... )(الآية30).

كماسنشرحه بعدتفسيركلمات الآيات إن شاء الله تعالى.

شرح الكلمات

أ ـ أغوَيْتَني، ولأُغويّنّهم، والغاوين:

غوى فهو غاو: انهمك في الغيّ.

وأغواه: أضلّه وأغراه، وقصد اللعين بقوله أغويتني: أنه تعالى بلعنه وقوله له قبل هذه الآية: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّين)، أبعده عن رحمته جزاء تمرُّده وامتناعه عن السجود لآدم، كما قال تعالى في سورة البقرة: (يُضِلُّ بِهِ

الصفحة 12
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِين)(الآية26).

ب ـ لأُزيّننّ لهم:

أي: أُحسِّنُ لهم سوءَ أعمالهم، كما قال سبحانه وتعالى: (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) (الأنفال/48; النحل/24; العنكبوت/37) و (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) (التوبة/37).

ج ـ المخلَصِين:

المخلَصُون: هم الذين أخلصهم الله لنفسه بعدما أخلصوا أنفسهم لله، فليس في قلوبهم محلٌّ لغيره.

د ـ إبتلى:

بلاه بلاءً وابتلاه ابتلاءً: امتحنه واختبره بالخير والشرّ والنعمة والنقمة.

هـ ـ بكلمات:

المقصود من الكلمات هنا قضايا امتحن الله بها

الصفحة 13
إبراهيم(عليه السلام)، مثل ابتلائه بعبّاد الكواكب والأصنام، وإحراقه بالنار، وتضحيته بابنه، وأمثالها.

و ـ فأتمَّهنَّ:

أي: أكمل أداءَهنّ.

ز ـ جاعلك:

وردت "جعل" بمعنى: خلق وأوجد وحكم وشرّع وقرّر وصيّر، والأخير هو المقصود هنا.

خ ـ إماماً:

الإمام: هو المقتدى للناس في الأقوال والأفعال.

ط ـ الظالمين:

الظّلم: وضع الشيء في غير موضعه، والظّلم ـ أيضاً ـ تجاوز الحقّ. والظّلم ثلاثة أنواع:

أوّلا: ظلم بين الإنسان وربّه، وأعظمه الشِّرك والكفر،

الصفحة 14
كما قال سبحانه في سورة لقمان: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )(الآية13).

وفي سورة الأنعام: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ ... )(الآية157).

ثانياً: ظلم بين الإنسان وغيره، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الشورى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ )(الآية42).

ثالثاً: ظلم الإنسان نفسه، كما قال سبحانه وتعالى في سورة البقرة: (... وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ )(الآية231).

وفي سورة الطلاق: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (الآية1).

وكلّ نوع من الظّلم ظلم للنّفس.

يقال لمن اتّصف بالظّلم في أيّ زمان من عمره المتقدّم منه أو المتأخّر: ظالم.


الصفحة 15

ي ـ همّت به وهمّ بها:

همّ بالأمر: عزَمَ على القيام به ولم يفعله.

ك ـ رَأى:

رأى بالعين: نظر، وبالقلب: أبصر، وأدرك.

ل ـ برهان:

البرهان: أوكدُ الأدلّة، والحجّةُ البيّنةُ الفاصلة، وما رآه يوسف أكثر من هذا.

تأويل الآيات:

قال إبليس لربّ العالمين: ربّ بما لعنْتني وأبعدْتني عن رحمتك لأُزيّننّ للناس في دار الدنيا الأعمال السيّئة، كما قال سبحانه:

أ ـ في سورة النحل: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَم مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) (الآية63).

ب ـ في سورة الأنفال: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ ...) (الآية48).

ج ـ في سورة النمل: (... يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ

الصفحة 16
وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ... )(الآية24).

وقال الشيطان: لأُزيِّننَّ للناس أعمالهم ولأُغويّنّهم أجمعين إلاّ عبادك الذين اصطفيتهم لنفسك.

وقال الله في جوابه: إنّكَ لا سُلطةَ لك إلاّ على من اتّبعك من المنهمِكينَ في الغيِّ والضّلالة، وأخبر تعالى عن شأن عباده المخلَصين في ما حكاه عن خبر يوسف (عليه السلام)وزليخا، حيث قال: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ) في بيت خلا عن كلّ إنسان ماعدا يوسف (عليه السلام).

وزليخا عزيزة مصر ومالكة يوسف، همّت أن تنال مأربها من يوسف، ولولا أنّ يوسف رأى برهان ربّه لهمّ بقتلها وهو السوء، أو همّ بالفحشاء كما هو مقتضى طبيعة الحال التي كان عليها الفتى مكتمل الرجولة غير المتزوّج مع مالكته الفتاة مكتملة الأُنوثة المترفة في بيت خلا من كلّ أحد، ولكنّه رأى برهان ربّه واستعصم، فقد كان ممّن أخلصه الله لنفسه.


الصفحة 17
فما هو البرهان الذي رآه يوسف (عليه السلام)؟ وكيف رآه؟

إنّ يوسف (عليه السلام) رأى آثار العملين على نفسه كالآتي بيانه:

( 2 )
أثر العمل وخلوده وانتشار البركة والشؤم
من بعض الأعمال على الزمان والمكان

لمعرفة معنى عصمة الأنبياء ينبغي أن ندرس كيفية انتشار البركة والشؤم عى الزمان والمكان وآثار أعمال الإنسان في الدّنيا والآخرة، فنستعين الله ونقول:

قال الله سبحانه وتعالى:

أ ـ في سورة البقرة:

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَات

الصفحة 18
مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )(الآية185).

ب ـ في سورة القدر:

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ l وَمَا أَدْريكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ l لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر l تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالزُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر l سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).

أنزل الله القرآن على خاتم أنبيائه في ليلة من ليالي شهر رمضان، فأصبحت تلك الليلة ليلة القدر تتنزّل الملائكة والروح فيها كلّ سنة بأمر ربّهم أبد الدّهر، وانتشرت البركة من تلك اللّيلة إلى كلّ شهر رمضان كذلك أبد الدهر.

وسندرس في بحث النَّسْخِ إن شاء الله تعالى أنَّ الجمعة أصبحت مباركة منذ عهد آدم (عليه السلام) لما أنزل الله سبحانه وتعالى فيها من البركات على آدم (عليه السلام)، وأنّ عصر التاسع من ذي الحجّة أصبح مباركاً يغفر الله ذنوب عباده فيه بمنى لنزول المغفرة على آدم (عليه السلام) فيه، وأصبحت أراضي عرفات والمشعر ومنى أراضي مباركةً في التاسع والعاشر من ذي

الصفحة 19
الحجّة على كلّ بني آدم (عليه السلام) بعد ذلك، وبقي أثرها كذلك أبد الدّهر.

وكذلك أصبح أثر قدمي إبراهيم (عليه السلام) في البيت على تلك الكتلة من الطين التي رقى عليها ابراهيم (عليه السلام) لبناء جدار البيت مباركاً، فأمرنا الله باتّخاذها مصلًّى بعد ذلك أبد الدهر وقال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى).

وكذلك الشأن في انتشار الشّؤم كما كان من أمر بيوت عاد في الحِجْرِ بعد نزول العذاب عليهم، كما أخبرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنها عند مروره عليها في غزوة تبوك، وجاء خبره في كتب الحديث والسيرة، وقالوا ما موجزه:

لمّا سار رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة مرّ بالحِجْر ـ ديار ثمود بوادي القرى في طريق الشام من المدينة ـ فنزل قبل أن يمرّ بها، فاستقى الجيش من بئرها، فنادى منادي النبي أن: لا تشربوا من ماء بئرهم، ولا تتوضّأوا منه للصلاة، فجعل الناس يهريقون ما في أسقيتهم وقالوا: يا رسول الله قد عجنّا، قال: "أعلفوها الإبل خوف أن يصيبَكم مثل ما أصابهم".


الصفحة 20
ولما ارتحل ومرّ بالحِجْرِ، سجّى ثوبه على وجهه واستحثّ(1)راحلتهوفعل الجيش كذلك،وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله):

"لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلاّ وأنتم باكون".

وجاءه رجل بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذّبين، فأعرض عنه واستتر بيده أن ينظر إليه، وقال: "أَلْقِهِ!" فألقاهُ(2).

ووقع نظير ذلك للإمام علي (عليه السلام) كما رواه نصر بن مزاحم وغيره، واللفظ لنصر في كتابه "وقعة صفين" بسنده، وقال:

كان مخنف بن سليم يساير عليّاً ببابل(3) ، فقال الإمام

____________

1- سجّى ثوبه على وجهه: غطّاه، واستحثّ راحلته: استعجلها.

2- الخبر في مادة الحجر في معجم البلدان; وخبر غزوة تبوك في سيرة ابن هشام 4 : 164-165; ومغازي الواقدي : 1006-1008; وإمتاع الأسماع : 454-456; ومسند أحمد 2 : 9و58و66و72و74و91و96و113و137 و 3 : 296; وصحيح البخاري 3 : 61و99 ذكر غزوة تبوك وتفسير سورة الحِجْر; وصحيح مسلم، كتاب الزهد، الحديثان 39 و 40.

3- بابل في العراق بين الكوفة وبغداد، وجسر الصّراة كان على نهر الصّراة بالقرب من بغداد.

راجع مادّتي (بابل) و (الصّراة) بمعجم البلدان.


الصفحة 21
علي (عليه السلام): "إنّ ببابل أرضاً خُسفَ بها فحرِّكْ دابّتك لعلّنا نصلّي العصر خارجاً منها". قال: فحرّك دابّته وحرّك الناس دوابّهم في أثره، فلمّا جاز جسر الصراة نزل فصلّى بالناس العصر(1).

وفي رواية راو آخر:

قطعنا مع أمير المؤمنين جسر الصّراة في وقت العصر، فقال: "إنّ هذه أرض معذّبة لا ينبغي لنبيّ ولا وصيّ نبيّ أن يصلّي فيها"(2).

هكذا كان للبركة انتشار من الزمان الذي بارك الله فيه لعبد من عباده المخلصين، وللشؤم انتشار من الزمان الذي غضب فيه على عبيده الأشقياء.

____________

1- صفّين : 135.

2- في البحار 41 : 168; عن علل الشرائع : 124; وبصائر الدرجات : 58.


الصفحة 22

( 3 )
عصمة خلفاء الله عن المعصية

إنّ لأعمال النّاس آثاراً خالدةً في الدنيا وفي الآخرة تتجسّد لتخلد ناراً وقودها الناس والحجارة، أو نعيماً في جنّات عدن، وكلّ ذلكم الانتشار وتلكم الآثار يراها عباد الله المخلَصون ويدركونها، فتدفعهم إلى الاجتهاد في أداء الأعمال الصالحة واجتناب الأعمال السيّئة من الفحشاء والسوء والمنكر.

وتلكم الرؤية هي برهان الله الذي يؤتي الله من عباده من تزكّى وآثر رضى الله على هوى النفس الأمّارة بالسوء، ومن ثمّ لا تصدر من عباده المخلَصين معصية موبقة، ومثلُهُم في ذلك مثل إنسان بصير وآخر ضرير يسيران معاً في

الصفحة 23
طريق واحد كثيرة العثرات والمهاوي المردية، يتجنّبها البصير وينبّه صاحبه الضرير ليتجنّبها، أو كمثل أُناس عطاشى أمامهم ماء تتوقّ أنفسهم إلى شربه ليبرّدوا به حرارة عطشهم، وفيهم طبيب معه مجهر نظر من خلاله الى ذلك الماء وأبصر فيه أنواعاً من الجراثيم المهلكة، وأخبر صحبه بلزوم تصفية الماء قبل الاستفادة منه.

هكذا مثل عباد الله المخلَصين في رؤيتهم البرهان وتبصُّرهم بحقائق الأعمال وآثارها السيّئة أو الحسنة، فهم مع تلك الرؤية لقبح فعل المعصية وشناعتها في الدنيا وتجسّده ناراً محرقة خالدة في الآخرة، لا يمكن أن يُقدموا على العمل بها مختارين وغير مجبورين على تركها، أو ممنوعين من قبل الله من إتيانها.

وما يوردون من شبهات حول عصمة الأنبياء مستشهدين بآيات متشابهة، أخطأوا في تأويل بعضها وفسّروا بعضها الآخر بروايات زائفة.

ولكي لا يطول البحث نكتفي بإيراد أمثلة من النوعين في ما يأتي:


الصفحة 24

( 4 )
روايات مكذوبة على نبيّ الله داود
وعلى خاتم الأنبياء

ندرس من هذا النوع الروايات التي وردت في خبر زواج داود بأرملة أوريا، وزواج خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) بمطلّقة زيد كالآتي:

زواج داود (عليه السلام) في القرآن الكريم

قال الله سبحانه في سورة ص:

(اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الاَْيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالاِْشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ * وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ

الصفحة 25
وَفَصْلَ الْخِطَابِ * وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الِْمحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغى بَعْضُنَا عَلى بَعْض فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْض إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآب * يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ... )(الآيات17-26).

تأويل الآيات في روايات مدرسة الخلفاء

الروايات بمدرسة الخلفاء في تأويل آيات خبر حكم داود (عليه السلام) كثيرة، ونحن نكتفي في ما يأتي بايراد ثلاثة نماذج منها بإذنه تعالى:


الصفحة 26

أ ـ رواية وهب بن منبّه:

روى الطبري في تأويل الآية عن وهب أنّه قال:

لمّا اجتمعت بنو إسرائيل على داود، أنزل الله عليه الزَّبور، وعلّمه صنعة الحديد، فألانه له، وأمر الجبال والطير أن يسبّحن معه إذا سبّح، ولم يعط الله ـ فيما يذكرون ـ أحداً من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور ـ فيما يذكرون ـ تدنو له الوحوش حتى يأخذ بأعناقها، وإنّها لمصيخة تسمع لصوته، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلاّ على أصناف صوته، وكان شديد الاجتهاد، دائب العبادة، فأقام في بني إسرائيل، يحكم فيهم بأمر الله نبيّاً مستخلفاً، وكان شديد الاجتهاد من الأنبياء، كثير البكاء، ثمّ عرض من فتنة تلك المرأة ما عرض له، وكان له محراب يتوحَّد فيه لتلاوة الزَّبور وصلاته إذا صّلى، وكان أسفل منه جُنَينة لرجل من بني إسرائيل، كان عند ذلك الرجل المرأة التي أصاب داود فيها ما أصابه.

وأنّه حين دخل محرابه ذلك اليوم، قال: لا يدخلنّ عليّ محرابي اليوم أحد حتى الليل، ولا يشغلني شيء عمّا

الصفحة 27
خلوت له حتى أُمْسِي، ودخل محرابه ونشر زبوره يقرؤه، وفي المحراب كُوَّة تطلعه على تلك الجنينة، فبينا هو جالس يقرأ زَبوره، إذ أقبلت حمامة من ذهب حتى وقعت في الكوّة، فرفع رأسه فرآها فأعجبته، ثمّ ذكر ما كان قال: لا يشغله شيء عمّا دخل له، فنكّس رأسه، وأقبل على زبوره، فتصوّبت الحمامة للبلاء والاختبار من الكوّة، فوقعت بين يديه، فتناولها بيده، فاستأخرتْ غير بعيد، فأتبعها، فنهضت إلى الكوّة، فتناولها في الكوّة، فتصوّبت إلى الجُنينة، فأتبعها بصره أين تَقَع، فإذا المرأة جالسة تغتسل، بهيئة الله أعلم بها في الجمال والحُسن والخلق.

فيزعمون أنّها لما رأته نقضت رأسها فوارت به جسدها منه، واختطفت قلبه، ورجع إلى زبوره ومجلسه، وهي من شأنه، لا يفارق قلبه ذكرها، وتمادى به البلاء، حتى أغزى زوجها، ثمّ أمر صاحب جيشه ـ فيما يزعم أهل الكتاب ـ أن يقدّم زوجها للمهالك، حتى أصابه بعض ما أراد به من الهلاك، ولداود تسع وتسعون امرأة، فلمّا أصيب زوجُها خطبها داود، فنكحها، فبعث الله إليه وهو في محرابه

الصفحة 28
ملَكين يختصمان إليه، مثلا يضربه له ولصاحبه، فلم يُرَعْ داود إلاّ بهما واقفين على رأسه في محرابه، فقال: ما أدخلكما عليّ؟ قالا: لا تخف، لم ندخل لبأس ولا لريبة (خَصْمَانِ بَغى بَعْضُنَا عَلى بَعْض) فجئناك لتقضي بيننا (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ) أي: احملنا على الحق، ولا تخالف بنا إلى غيره، قال الملك الذي يتكلّم عن أوريا بن حنانيا زوج المرأة: (إِنَّ هذَا أَخِي) أي: على ديني (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا)أي: احملني عليها، ثمّ (عَزَّنِي فِي الْخِطَابِ )أي: قهرني في الخطاب، وكان أقوى منّي هو وأعزّ، فحاز نعجتي إلى نعاجه، وتركني لا شيء لي.

فغضب داود، فنظر إلى خصمه الذي لم يتكلّم، فقال: لئن كان صدقني ما يقول، لأضربنّ بين عينيك بالفأس، ثمّ ارعوى داود، فعرف أنّه هو الذي يُراد بما صنع في امرأة أوريا، فوقع ساجداً تائباً منيباً باكياً، فسجد أربعين صباحاً صائماً لا يأكل فيها ولا يشرب، حتى أنبت دمعه الخُضَرَ تحت وجهه وحتى أندَبَ السجود في لحم وجهه،

الصفحة 29
فتاب الله عليه وقبل منه.

ويزعمون أنّه قال: أي ربّ هذا غفرت ما جنيت في شأن المرأة، فكيف بدم القتيل المظلوم؟ قيل له: يا داود ـ فيما زعم أهل الكتاب ـ أما إنّ ربّك لم يظلمه بدمه ولكنّه سيسأله إيّاك فيعطيه، فيضعه عنك، فلمّا فرّج عن داود ما كان فيه رسم خطيئته في كفّه اليمنى: بطن راحته، فما رفع الى فيه طعاماً ولا شراباً قطّ إلاّ بكى إذا رآها، وما قام خطيباً في الناس قطّ إلاّ نشر راحته فاستقبل بها الناس ليروا رسم خطيئته(1).

ب ـ رواية الحسن البصري:

روى الطبري والسيوطي في تفسير الآية عن الحسن البصري أنّه قال:

إنّ داود جَزَّأ الدهر أربعة أجزاء: يوماً لنسائه، ويوماً لعبادته، ويوماً لقضاء بني إسرائيل، ويوماً لبني إسرائيل،

____________

1- تفسير الطبري 23 : 95-96 ط. دار المعرفة، بيروت.


الصفحة 30
يذاكرهم ويذاكرونه، ويُبْكيهم ويُبْكونه، فلمّا كان يوم بني إسرائيل قال: ذكِّروا، فقالوا: هي يأتي على الإنسان يوم لا يصيب فيه ذنباً؟ فأضمر داود في نفسه أنه سيطيق ذلك، فلما كان يوم عبادته، أغلق أبوابه، وأمر أن لا يدخل عليه أحد، وأكبَّ على التوراة، فبينما هو يقرؤها، فإذا حمامة من ذهب، فيها من كلّ لون حسن، قد وقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، قال: فطارت، فوقعت غير بعيد من غير أن تُؤْيسه من نفسها، قال: فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة تغتسل، فأعجبه خلقها وحُسنها، قال: فلما رأت ظلّه في الأرض، جلّلت نفسها بشعرها، فزاده ذلك أيضاً إعجاباً بها، وكان قد بعث زوجها على بعض جيوشه، فكتب إليه أن يسير إلى مكان كذا وكذا; مكان إذا سار إليه لم يرجع، قال: ففعل، فأُصيب، فخطبها فتزوّجها(1).

____________

1- تفسير الطبري 23 : 96 ط. دار المعرفة، بيروت; والسيوطي 5 : 148 واللفظ للأول.


الصفحة 31

ج ـ رواية يزيد الرّقاشي عن أنس بن مالك:

أخرج الطبري والسيوطي بتفسير الآية بسندهما عن يزيد الرقاشي ما موجزه:

عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك، سمعه يقول: سمعت رسول الله (ص) يقول: "إنّ داود (عليه السلام) حين نظر الى المرأة قطع على بني إسرائيل وأوصى صاحب الجيش، فقال: إذا حضر العدو تضرب فلاناً بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو ينهزم منه الجيش، فقتل وتزوّج المرأة، ونزل الملكان على داود (عليه السلام)، فسجد فمكث أربعين ليلة ساجداً حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه، فأكلت الأرض جبينه وهو يقول في سجوده: ربّ زلّ داود زلّة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب، ربّ إنْ لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنوبه جعلت ذنبه حديثاً في المخلوق من بعده.

فجاء جبرئيل (عليه السلام) من بعد أربعين ليلة فقال: يا داود إنّ الله قد غفر لك وقد عرفت إنّ الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: يا ربّ دمي الذي عند