الصفحة 32
داود؟ قال جبرئيل: ما سألت ربّك عن ذلك فإن شئت لأفعلنّ، فقال: نعم، ففرح جبرئيل وسجد داود (عليه السلام)، فمكث ما شاء الله ثمّ نزل فقال: قد سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه، فقال: قل لداود إنّ الله يجمعكما يوم القيامة فيقول: هب لي دمك الذي عند داود، فيقول: هو لك يا ربّ، فيقول: فإنّ لك في الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضاً .."(1).

* * *

هكذا جاءت الروايات عن خبر نبي الله داود (عليه السلام) في التفاسير، وفي ما يأتي ندرس أسانيدها:

دراسة أسانيد الروايات

أ ـ وهب بن منبّه:

كان أبوه من أبناء الفرس الذين بعث بهم كسرى الى اليمن، وفي ترجمته بطبقات ابن سعد ما موجزه:

____________

1- بتفسير الآية في تفسير الطبري 23 : 96 ط. دار المعرفة، بيروت; والسيوطي 5 : 300-301.


الصفحة 33
قال وهب: قرأت اثنين وتسعين كتاباً كلّها أُنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلاّ قليل. (ت110 هـ).

وقال الدكتور جواد علي: يقال إنّ وهباً من أصل يهودي، وكان يزعم أنّه يتقن اليونانية والسريانية والحميرية وقراءة الكتابات القديمة.

وذكر في كشف الظنون من تآليفه "قصص الأنبياء"(1).

ب ـ الحسن البصري:

أبو سعيد، كان أبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري، ولد لسنتين بقيت من خلافة عمر، وعاش ومات في البصرة 110 هـ ، وكان غاية في الفصاحة والبلاغة، مهاباً عند الناس وسلطة الخلافة، وإماماً لأتباع مدرسة الخلفاء

____________

1- طبقات ابن سعد 5 : 395 ط. أوربا; وكشف الظنون : 1328; وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 1 : 44.


الصفحة 34
بالبصرة(1).

رأيه:

يظهر من روايات وردت بترجمته في طبقات ابن سعد أنّه كان يقول بالقدر ويناظر فيه، ثمّ رجع عنه، وأنّه كان لا يرى الخروج على السلطة الظالمة كالحجّاج.

قيمة رواياته:

في ترجمته بميزان الاعتدال(2):

كان الحسن كثير التدليس فإذا قال في حديث: عن فلان ضعف لحاجة، ولا سيّما عمّن قيل إنّه لم يسمع منهم كأبي هريرة ونحوه، فعدُّوا ما كان له عن أبي هريرة في جملة المنقطع، والله أعلم.

أي: إنّ الحسن إذا قال في الحديث: "عن فلان" ضَعُفَت روايته عن فلان لحاجته إلى ذلك القول، لا سيّما في

____________

1- ترجمته في وفيات الأعيان لابن خلكان 1 : 354 ط. الأُولى; وطبقات ابن سعد 7 : 1/120 ط. أوربا.

2- 1 : 527 رقم الترجمة 1968.


الصفحة 35
ما يرويه عمّن لم يسمعهم; مثل رواياته عن أبي هريرة ونحوها ممّن روى عنهم في حين أنّه لم يشاهدهم.

وبترجمته بطبقات ابن سعد بسنده عن علي بن زيد أنّه قال:

حدّثت الحسن بحديث فإذا هو يحدّث به، قال: قلت: يا أبا سعيد! من حدّثكم؟ قال: لا أدري! قال: قلت: أنا حدّثتكم.

وروى ـ أيضاً ـ أنّه قيل له: أرأيت ما تفتي الناس أشياء سمعتها أم برأيك؟ فقال: لا والله ما كلّ ما نفتي به سمعناه، ولكنّ رأينا خيرٌ لهم من رأيهم لأنفسهم(1).

تخرّج من مدرسته واصل بن عطاء (ت: 131هـ ) مؤسّس مذهب الاعتزال، وابن أبي العوجاء أحد مشاهير الزنادقة.

قيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت في ما لا أصل له ولا حقيقة! قال: إنّ صاحبي كان مخلّطاً، يقول طوراً

____________

1- الحديثان بطبقات ابن سعد 8 : 120 ط. أوربا 7 : 1/120.


الصفحة 36
بالقدر وطوراً بالجبر، فما أعلمه اعتقد مذهباً فدام عليه.

قتله على الزندقة والي الكوفة سنة 155 هـ ، قال عند قتله: لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أُحرِّم فيه ما أحلّ الله، وأُحلّل فيه ما حرَّم الله، فطّرتكم يوم صومكم وصوّمتكم يوم فطركم(1).

ج ـ يزيد بن أبان الرقاشي:

المحدّث القاصّ البصري والزاهد البكّاء من غير دراية وفقه.

في ترجمته في تهذيب الكمال للمزّي وتهذيب التهذيب لابن حجر ما موجزه(2):

____________

1- ترجمة واصل بن عطاء في وفيات الأعيان لابن خلكان; وترجمة ابن أبي العوجاء في بحث الزندقة والزنادقة في الجزء الأوّل من "خمسون ومائة صحابي مختلق"، والكنى والألقاب 1 : 192 ط. صيدا.

2- راجع ترجمته بتهذيب الكمال للمزي مخطوطة المكتبة الظاهرية مصورة المجمع العلمي الإسلامي 8 : 264 (أـ ب); وتهذيب التهذيب لابن حجر 11 : 309-311.


الصفحة 37

أ ـ عن زهده:

جوّع نفسه وعطّشها، ذبل جسمه ونهك بدنه وتغيّر لونه، كان يبكي ويُبكي جلساءه ويقول ـ مثلا ـ : تعالوا نبكي على الماء البارد يوم الظمأ، ويقول: على الماء البارد السلام بالنهار، قال: وفعل ما لم يقله رسول الله ولم يفعله، وقال الله سبحانه: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).

ب ـ عن رأيه:

كان ضعيفاً قدرياً(1).

ج ـ عن قيمة رواياته:

رووا عن شعبة أنّه قال: لأن أقطع الطريق أحبُّ إليّ من أن أروي عنه، وقال: لأن أزني أحبُّ إليّ من أن أروي عنه.

____________

1- طبقات ابن سعد 7 : ق2/13 ط أوروبا.


الصفحة 38
وقالوا في حديثه: منكر الحديث، متروك الحديث، لا يكتب حديثه!

وقال أبو حاتم: كان واعظاً بكّاءً كثير الرواية عن أنس بما فيه نظر، وفي حديثه ضعف.

وفي تهذيب التهذيب: قال ابن حبّان: كان من خيار عباد الله من البكّائين بالليل، لكنّه غفل عن حفظ الحديث شغلا بالعبادة حتى كان يقلب كلام الحسن فيجعله عن أنس عن النبي (ص)، فلا تحلّ الرواية عنه إلاّ على جهة التعجُّب.

وفاته:

توفّي يزيد بن أبان قبل العشرين ومائة هجرية(1).

دراسة متون الروايات

____________

1- راجع ترجمته في تهذيب التهذيب 11 : 309-311.


الصفحة 39

أولا ـ رواية وهب:

موجز الرواية: أنّ النبي داود (عليه السلام) خلا بنفسه يوماً للعبادة وأكبّ على التوراة يقرؤها، إذْ أقبلت حمامة من ذهب فوقعت بين يديه، فأهوى إليها ليأخذها، فطارَت غير بعيد عنه، فما زال يتبعها حتى أشرف على امرأة جاره أوريا، وكانت عارية تغتسل، فأعجبه جمالها، فلمّا أحسّت به جلّلت نفسها بشعرها، فازداد افتتاناً بها، فدبّر أمر قتل زوجها الذي كان في الغزو، ثمّ تزوّجها، فتسوّر عليه الملكان، وكان من أمرهما ما تحدّث عنه القرآن الكريم.

في هذه الرواية جاء مرّة: قال وهب، وأُخرى: قال في ما يزعم أهل الكتاب، وبذلك خرج من عهدة روايتها.

ولمّا رجعنا إلى التوراة وجدنا في سفر صموئيل الثاني خبر رؤية داود يتشبع زوجة جاره أوريا من سطح داره، وإعجابه بها، وجلبه إيّاها إلى داره، وأنّه ضاجعها فحملت منه سفاحاً، إلى آخر القصة.

ويظهر من مقارنة رواية وهب هذه بما جاء في خبر داود في سفر صموئيل من التوراة أنه أخذ بعض القصة من

الصفحة 40
التوراة وبعضاً آخر منها من كتب إسرائيلية أُخرى كان قرأها ـ كما كان يخبر عن قراءته إيّاها ـ ، وهذا النوع من الروايات سُمّي في علم دراية الحديث بـ : "الروايات الإسرائيلية" أو "الإسرائيليات".

ثانياً ـ رواية الحسن البصري:

إنّ موجز رواية البصري هو موجز رواية وهب نفسه، غير أنّ البصري أضاف في أوّل القصة: أنّ داود كان قد جزّأ الدهر أربعة أيام، ولسنا ندري هل أضافه إليها من خياله وابتكاره، أو أنّه أخذه من راو آخر من رواة الاسرائيليات؟

وعلى أيّ حال، لم يذكر البصري سند روايته هذه، وإنّما أرسلها إرسالا، ولو أنّه حين رواها ذكر مصدرها وقال: إنّه رواها من وهب من منبّه، أو غيره من رواة الروايات الإسرائيلية; لهان الأمر وتمكّن الباحثون من العثور على مصدر الرواية وأدركوا بسهولة أنّها من الروايات الإسرائيلية، وبإرساله الرواية غُمَّ أمر الرواية

الصفحة 41
على الباحثين، وبما أنّه امام الأئمة في العقائد في مدرسة الخلفاء، فقد كان لروايته أثرٌ مضاعفٌ على فهم العقائد الإسلامية.

وجلّ رواة الروايات الاسرائيلية يفعلون ما فعله البصريّ ويرسلون ما يروونه من الروايات الاسرائيلية دون ذكر مصدر الرواية، ومن ثمّ يَغمُّ أمر تلك الروايات على غير أهل دراية الحديث.

ثالثاً ـ رواية يزيد الرقاشي:

إنّ يزيد بن أبان قال: إنّه سمعها من الصحابي أنس الذي سمعها من رسول الله (ص)، وبذلك كذب على أنس وعلى رسول الله (ص)، وهو الزاهد العابد البكّاء، وكم يكون أثر رواية يرويها أمثال يزيد من العُبّاد في وعظهم وقصصهم؟! وهل يعرف غير المتخصِّصين بعلم دراية الحديث أنّ يزيد الرقاشي أسند ما سمعه من الحسن البصري إلى الصحابي أنس إلى رسول الله (ص)، ويأتي بعدهم المفسّرون أمثال الطبري (ت 310 هـ ) الى

الصفحة 42
السيوطي (ت 911 هـ ) ويوردون تلك الأساطير في تفاسيرهم.

والأمر لا يقتصر على من ذكرناهم هنا من رواة الروايات الإسرائيلية، بل يتعدّاهم إلى غيرهم من صحابة وتابعين، مثل:

1 ـ عبد الله بن عمرو بن العاص: الذي أصاب راحلتين من كتب أهل الكتاب في بعض الغزوات، وكان يروي عنهما دونما ذكر لمصدر رواياته.

2 ـ تميم الداري: الذي أسلم بعد أن كان راهب النصارى، وكان يقصّ في مسجد الرسول (ص) يوم الجمعة قبل خطبة عمر بن الخطّاب، ويقصّ يومين في الأسبوع على عهد عثمان.

3 ـ كعب الأحبار: كان قد أسلم على عهد عمر، وأصبح من علماء المسلمين على عهد عمر وعثمان.

ثمّ من أخذ من هؤلاء وألّف تفسير القرآن مثل:

4 ـ مقاتل بن سليمان المروزي الأزدي بالولاء (ت 150 هـ ).


الصفحة 43
كان مشهوراً بتفسير كتاب الله، وقال الشافعي:

الناس كلّهم عيال على ثلاثة: على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الكلام.

كم يا تُرى دسَّ مقاتل من الإسرائيليات في رواياته التي اعتمدوها، وكم اختلق ممّا روى وأسند؟!(1).

نتيجة الدراسة

نقل وهب الرواية المفتراة على نبيّ الله داود (عليه السلام) من كتب أهل الكتاب وصرّح بمصدرها، ورواها الحسن وأرسلها دون الإشارة إلى مصدرها، ودلّس المحدّث القاصّ الزاهد العابد البكّاء يزيد بن أبان وقال: سمعها أنس من رسول الله (ص).

ولا يقتصر هذا النوع من التدليس وإسناد الروايات

____________

1- راجع ترجمة تاريخ بغداد 12 : 160-169 رقم الترجمة 7142; وفيات الأعيان 4 : 240-242 رقم الترجمة 4-7; وتهذيب التهذيب 10 : 279-285; وميزان الاعتدال 4 : 172 رقم الترجمة 7841.


الصفحة 44
الإسرائيلية إلى الصحابة بهذا المورد وحده، وإلى هذا الصحابي وحده، فقد أكثروا في إسناد أمثالها إلى الصحابي ابن عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)عبد الله بن عباس، ونحتاج لدراستها الى بحوث مقارنة مبسوطة، وبمراجعة الصفحة الأخيرة من تفسير السيوطي "الدرّ المنثور" ينكشف لنا بعض الأمر.

* * *

وهكذا نجد منشأ الخبر المفترى على داود (عليه السلام) قصص التوراة، وكذلك تسرَّبت الأخبار الإسرائيلية إلى تفسير القرآن، فكوّنت للمسلمين رؤية غير صحيحة عن سيرة الأنبياء، وكان ذلكم خبر زواج داود (عليه السلام) بأرملة أوريا وما افتروا عليه في ذلك، ومنشأُه، والصحيح من خبره، وفي ما يأتي الصحيح من خبر زواج زينب بنت جحش بزيد ثمّ برسول الله (صلى الله عليه وآله):

خبر زواج الرسول بزينب بنت جحش في الرواية

قال الخازن في تفسير آية: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ ...).

وأصحُّ ما في هذا الباب ما روي عن سفيان بن عُيينة

الصفحة 45
عن عليّ بن زيد بن جدعان، قال: سألني زين العابدين عليّ بن الحسين قال: "ما يقول الحسن ـ أي البصري ـ في قوله تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ)؟" قلت: يقول: لما جاء زيد إلى رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله! إنّي أُريد أن أُطلّق زينب، أعجبه ذلك وقال: أمسك عليك زوجك واتّق الله، فقال عليّ بن الحسين: "ليس كذلك، فإنّ الله عزّ وجلّ أعلمه أنّها ستكون من أزواجه، وأنّ زيداً سيطلّقها، فلما جاء زيد قال: إنّي أريد أن أطلّقها، قال له: أمسك عليك زوجك، فعاتبه الله وقال: لِمَ قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك؟".

قال الخازن:

وهذا هو الأُولى والأليق بحال الأنبياء، وهو مطابق للتلاوة ... .

وتفصيل خبر زواج زينب بزيد أولا ثمّ بالنبي (صلى الله عليه وآله) في الآيات والروايات كالآتي:


الصفحة 46

الآيات في خبر زواج الرسول (صلى الله عليه وآله) بزينب بنت جحش

قال الله سبحانه في سورة الأحزاب:

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلا مُبِيناً * وَإِذْ تَقُول لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسَكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرٌ اللهِ مَفْعُولا * مَا كَانَ عَلَى النَّبِيُّ مِنْ حَرَج فِيَما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً * الَّذِينَ يُبَلَّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً * مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً) (الآيات 36-40).


الصفحة 47

تأويل الآيات في روايات مدرسة الخلفاء

روى الطبري في تأويل الآية عن وهب بن منبّه: أنّ النبي (ص) كان قد زوّج زيد بن حارثة زينب بنت جحش ابنة عمّته، فخرج رسول الله (ص) يوماً يريده، وعلى الباب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر فانكشف وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبي (ص)، فلمّا وقع ذلك كرهت إلى الآخر، فجاء زيد فقال: يا رسول الله (ص) إنّي أريد أن أُفارق صاحِبَتي، قال: ما لك؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا والله ما رابني منها شيء يا رسول الله ولا رأيت إلاّ خيراً ... الحديث(1).

ووردت ـ أيضاً ـ رواية أُخرى في هذا الصدد بالمضمون نفسه عن الحسن البصري، سوف نوردها ضمن روايات أهل البيت في تأويل الآيات إن شاء الله تعالى.

____________

1- تفسير الطبري 22 : 10-11 ط. دار المعرفة، بيروت.


الصفحة 48

دراسة الروايتين

أ ـ سندهما:

نقلوا الروايتين عن وهب بن منبّه والحسن البصري، ونضيف إلى ما أوردناه في ترجمتهما: أنّ كليهما كانا قد ولدا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأعوام، فكيف يرويان عمّا حدث في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويرسلانه إرسالا دونما ذكر مصدرهما؟!

ب ـ متنهما:

محور الخبر أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) أعجبه جمال زينب عندما رآها بغتةً بلا حجاب، ورغب في طلاق زيد إيّاها، وأخفى ذلك في نفسه.

وبيان زَيف ذلك: أنّ زينب كانت ابنة عمّة النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد نزل حكم الحجاب بعد زواج الرسول (صلى الله عليه وآله) بزينب، وكان قد رآها قبل أن يزوّجها من زيد مراراً وتكراراً، وقد افترى على الرسول (صلى الله عليه وآله) من قال ذلك، والصحيح في الخبر ما ننقله عن كتب السيرة في ما يأتي بإذنه تعالى:


الصفحة 49

خبر زواج زينب بزيد أوّلا ثمّ بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد طلاق زيد إيّاها

كان من خبر زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي أنّه أصابه سباء في الجاهلية وبيع في بعض أسواق العرب، فاشتُرِي لخديجة، ثمّ وهبته خديجة للنبي (صلى الله عليه وآله) قبل أن يُبعث وهو ابن ثماني سنين، فنشأ عند النبي (صلى الله عليه وآله)، وبلغ الخبر أهله، فقدم أبوه وعمُّه مكة لفدائه، فدخلا على النبي (صلى الله عليه وآله)وقالا: يا ابن عبد المطّلب! يا ابن هاشم! يا ابن سيّد قومه! جئناك في ابننا عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه! فقال: من هو؟ قالا: زيد بن حارثة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فهلاّ غير ذلك؟ قالا: ما هو؟ قال: أُدعوه وخيّروه فإن اختاركم فهو لكم، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً، قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت، فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله)فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم! هذا أبي، وهذا عمّي! قال: فأنا من عرفت ورأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما. قال: ما أريدهما وما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت منّي مكان الأب والعمّ! فقالا:


الصفحة 50
ويحك يا زيد! أتختار العبوديّة على الحريّة وعلى أبيك وأهل بيتك؟ قال: نعم، ورأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً، فلمّا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله)ذلك أخرجه إلى الحجر ـ في بيت الله ـ فقال: يا من حضر! اشهدوا أنّ زيداً ابني يرثني وأرثه، فلمّا رأى ذلك أبوه وعمّه طابت نفوسهما وانصرفا(1).

ونُسِبَ زيد بعد ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقيل له: زيد ابن محمد (صلى الله عليه وآله)، وزوّجه الرسول (صلى الله عليه وآله) من أمته وحاضنته برّة السوداء الحبشيّة، وكانت قد تزوّجت قبله من عبيد الحبشي، وولدت له أيمن فكُنِّيَتْ بـ "أُمّ أيمن"، فولدت في مكّة أُسامة من زيد(2).

كان ذلكم خبر تبنّي الرسول (صلى الله عليه وآله) لزيد، ثمّ تزوّج النبي(صلى الله عليه وآله) زينب كالآتي خبره:

____________

1- أُسد الغابة 2 : 224-227.

2- ترجمة أُم أيمن في أُسد الغابة 7 : 303; والاستيعاب : 765 رقم الترجمة 2; والاصابة 4 : 415-417 الترجمة رقم 1145.


الصفحة 51

خبر زواج زيد من زينب إبنة عمّة الرسول (صلى الله عليه وآله)

بعد الهجرة إلى المدينة خطب زينب ابنة أميمة ابنة عبد المطّلب عدّة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، فأرسلت أخاها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) تستشيره في أمرها، فقال: فأين هي ممّن يعلّمها كتاب ربّها وسنّة نبيّها؟ فسألت: من هو؟ فقال: زيد! فغضبت وقالت: تزوّج ابنة عمّتك مولاك! لست بناكحته! أنا خير منه حسباً! أنا أيِّم قومي(1)، قأنزل الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلامُبِيناً)(الأحزاب/36)، فرضيت،فزوّجها الرسول(صلى الله عليه وآله)من زيد بعد أمّ أيمن السوداء الحبشيّة، ولها أُسامة بن زيد، فكانت تعلو على زيد وتشتدّ وتأخذه بلسانها، فكان يشكوها إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)ويحاول تطليقها، واقتضت مشيئة الله وحكمته أن يتزوّجها الرسول (صلى الله عليه وآله) بعد زيد ليُلغى بذلك التبنّي بين المسلمين، وأشعره الوحي

____________

1- الأيِّم وجمعه الأيامى: المرأة لا زوج لها والرجل لا زوجة له.


الصفحة 52
بذلك، فخشي الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يقول الناس: تزوّج حليلة ابنه، فكتم الوحي في نفسه وقال لزيد: إتّق الله وأمسك عليك زوجك، ولمّا ضاق زيد ذرعاً بزوجته زينب طلّقها وانقضت عدّتها، فنزلت الآيات على الرسول (صلى الله عليه وآله) مرّة واحدة تخبر عمّا وقع وتبيّن حكم المتبنّي في شريعة الإسلام:

(فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ... * ... مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ... )(الأحزاب/37-40).

وقال عزّ اسمه لسائر المؤمنين: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * أُدْعُوهُمْ لاِبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) (الأحزاب/4-5).

* * *

أوردنا في ما سبق مثالين من آيات أخطأ العلماء في تأويلها بسبب ما ورد في روايات مُفتراة على الأنبياء، ونورد في ما يأتي أمثلة من آيات أخطأ البعض في تأويلها دونما استناد إلى رواية:


الصفحة 53

الصفحة 54

( 5 )
آيات أخطأوا في تأويلها

أ ـ نسبة العصيان إلى آدم (عليه السلام) في سورة طه حيث قال تعالى:

(وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (الآية121).

ب ـ في سورة الأنبياء: حيث قال ابراهيم عن تكسير الأصنام:

(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)، في حين أنّه هو الذي كان قد كسّرها، كما قال سبحانه:

(فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ

الصفحة 55
يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاَءِ يَنْطِقُونَ) (الآيات 58-65).

ج ـ أخبر الله سبحانه في سورة يوسف (عليه السلام)أنّ وَزَعَته(1)قالوا لاخوته:

(إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)، في حين أنّهم لم يكونوا قد سرقوا صواع الملك، حيث قال تعالى:

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعَيْرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِير وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الاَْرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ

____________

1- الوَزَعَةُ: الموظّفون من قبل ولاة الأمر.


الصفحة 56
كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَات مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْم عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ * قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الُْمحْسِنِينَ) (الآيات70-78).

د ـ أخبر الله سبحانه في سورة الأنبياء أنّ النبيّ ذا النون (عليه السلام) ظنّ أنّ الله لن يقدر عليه حيث قال تعالى:

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ )(الآيات86-88).

هـ ـ أخبر الله تعالى في سورة الفتح أنّه سبحانه غفر بعد الفتح ما تقدّ من ذنب خاتم الأنبياء وما تأخّر، وقال سبحانه وتعالى:

(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً *

الصفحة 57
وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (الآيات1-3).

* * *

هذه إلى آيات أُخرى لم يفطنوا إلى تأويلها، وسندرسها بَعْدَ تفسير الكلمات وبعض المصطلحات في ما يأتي بإذنه تعالى:

تفسير بعض الكلمات والمصطلحات

أوّلا: تعريف مصطلحات البحث

أ ـ أوامر الله ونواهيه:

مِنْ أوامر الله ونواهيه ما تظهر آثار مخالفتها في الحياة الدنيا فحسب ولا تتعدّاها إلى الحياة الآخرة، مثل ما ورد في قوله تعالى:

(كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا) (الأعراف/31).

والإسراف تجاوز الحدّ في كلّ فعل يفعله الإنسان، مثل تجاوزه الحدّ في تناول الطّيّبات من المأكول والمشروب، ويرى الإنسان أثر مخالفته لهذا النوع من أوامر الله ونواهيه في الحياة الدنيا ولا يتعدّاها إلى الآخرة،