مقدّمة المركز :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة على خاتم
المرسلين محمّد وآله الغرّ الميامين
من الثوابت المسلّمة في عملية البناء الحضاري القويم، استناد الأُمّة إلى قيمها السليمة ومبادئها الأصيلة، الأمر الذي يمنحها الإرادة الصلبة والعزم الأكيد في التصدّي لمختلف التحدّيات والتهديدات التي تروم نخر كيانها وزلزلة وجودها عبر سلسلة من الأفكار المنحرفة والآثار الضالة باستخدام أرقى وسائل التقنية الحديثة .
وإن أنصفنا المقام حقّه بعد مزيد من الدقّة والتأمّل، نلحظ أنّ المرجعية الدينية المباركة كانت ولا زالت هي المنبع الأصيل والملاذ المطمئن لقاصدي الحقيقة ومراتبها الرفيعة، كيف؟! وهي التي تعكس تعاليم الدين الحنيف وقيمه المقدّسة المستقاة من مدرسة آل العصمة والطهارة (عليهم السلام) بأبهى صورها وأجلى مصاديقها .
هذا، وكانت مرجعية سماحة آية اللّه العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني ــ مدّ ظلّه ــ هي السبّاقة دوماً في مضمار الذبّ عن حمى العقيدة ومفاهيمها الرصينة، فخطت بذلك خطوات مؤثّرة والتزمت برامج ومشاريع قطفت وستقطف أينع الثمار بحول اللّه تعالى .
ومركز الأبحاث العقائدية هو واحد من المشاريع المباركة الذي أُسس لأجل نصرة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) وتعاليمه الرفيعة.
ولهذا المركز قسم خاص يهتم بمعتنقي مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على مختلف الجهات، التي منها ترجمة ما تجود به أقلامهم وأفكارهم من نتاجات وآثار - حيث تحكي بوضوح عظمة نعمة الولاء التي مَنّ اللّه سبحانه وتعالى بها عليهم - إلى مطبوعات توزّع في شتى أرجاء العالم .
وهذا المؤلَّف - " بيّنات من الهُدى" - الذي يصدر ضمن "سلسلة الرحلة إلى الثقلين" مصداق حيّ وأثر عملي بارز يؤكّد صحة هذا المدّعى.
على أنّ الجهود مستمرة في تقديم يد العون والدعم قدر المكنة لكلّ معتنقي المذهب الحقّ بشتى الطرق والأساليب، مضافاً إلى استقراء واستقصاء سيرة الماضين منهم والمعاصرين وتدوينها في "موسوعة من حياة المستبصرين" التي طبع منها عدّة مجلّدات لحدّ الآن، والباقي تحت الطبع وقيد المراجعة والتأليف، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يتقبّل هذا القليل بوافر لطفه وعنايته.
ختاماً نتقدّم بجزيل الشكر والتقدير إلى كلّ من ساهم في إخراج هذا الكتاب، ونخصّ بالذكر فضيلة الشيخ المحقّق لؤي المنصوري الذي قام بمراجعة هذا الكتاب وتصحيحه ومراجعة كافة استخراجات مصادره، والحمد لله ربّ العالمين .
محمّد الحسّون |
ترجمة المؤلّف
ولد الأخ محمّد الرصافي المقداد في 23 / 8 / 1953م في فطناسة ولاية قَبلى بدولة تونس، وترعرع في أُسرة ملتزمة تعتنق المذهب المالكي.
يقول الأخ محمّد الرصافي حول التعليم الذي تلقّاه منذ الصغر: أدخلني والدي في كتاتيب القرآن، فحفظت منه ما أمكنني حفظه، ثُمّ التحقت بالتعليم الحكومي، مواصلاً دراستي إلاّ أنّني ولعوامل عدة انقطعت عنها دون الحصول على شهادة ختم الدروس الثانوية، ولعلّ أهمّ تلك العوامل انصراف كُلّ اهتمامي بالعربية والتي كنت متفوّقاً فيها مُنذ الصف الابتدائي، فما تَركت لبقية المواد التي كانت تدرّس بالفرنسية شيئاً، وكنت دائم المطالعة ومنها حصلتُ على ثقافة عامّة لا بأس بها.
بداية اندفاعه للبحث عن التشيّع:
يقول الأخ محمّد حول بلورة النواة الأُولى التي دفعته للتعرّف والبحث عن مذهب أهل البيت (عليهم السلام) : بدأت قصة استبصاري عندما انتقلت عام 1980م من شمال تونس وبالتحديد من مدينة "بنزرت" - حيث لا يزال والديّ وإخوتي - هناك، إلى مدينة قابس، للعمل في شركة للصناعات المعدنية . وكنت أعلم قبل ذلك أنّ ابن عمِّ لي يُدعى الشيخ (مبارك بعداش)، يقطن منطقة سيدي أبي لبابة بنفس المدينة، فكان ذلك مدعاة لي بأن آنس بنقلي إليها وأتأقلم مع أجوائها.
ويضيف الأخ محمّد: وكان الشيخ (مبارك بعداش) أحد المؤسسين لحركة الاتجاه الإسلامي، أي إنّه كان سنّياً متعصّباً، لكنّني لمّا زرته بعد استقراري لاحظت انخفاض تعصّبه عمّا كان عليه، فأيقنت أنّ الشيخ قد طرأ على تفكيره تغيير، فاقتربت ذات يوم من مجلسه مسلّماً عليه، فرأيت بين يديه كتابين، الأوّل: كتاب (المراجعات) للسيّد عبد الحسين شرف الدين - قدس سره الشريف -، والثاني: كتاب (فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ) للشيخ المظفر - طيّب الله ثراه -، فالتفتُ إليه بعد أن ردّ عليّ السلام واستفسرت منه الأمر، فذكر لي أنّه في رحلته إلى مدينة قفصة وهو في طريق بحثه عن الحق بعد الخلاف الذي حصل له مع جماعة النهضة، التقى بالدكتور محمّد التيجاني السماوي، وتباحث معه حول مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، ودارت بينهما عدّة مناقشاتٍ من دون أن تسفر عن اقتناع الشيخ التامّ بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، ثُمّ ذكَرَ أنّ الدكتور التيجاني زوّدهُ بهذين الكتابين.
دراسة كتاب المراجعات:
من هذا المنطلق أحبَّ الأخ محمّد أن يشارك الشيخ مبارك بعداش في بحثه، لأنّه وَجد أنّ هذه الفرصة ثمينة للوصول إلى القناعات العقائدية المزودة بالأدلّة والبراهين، فأعلن استعداده للشيخ لمشاركته في البحث من أجل التعرّف على أُصول عقيدة الإسلام النقيّة من كُلّ درن.
ويضيف الأخ محمّد: كان الشيخ آنذاك محاصراً من قبل جماعة حركة الاتجاه الإسلامي، وكانوا قد روّجوا عنه جملة من دعايات مغرضة وأقاويل لا ترقى إلى الحقيقة بشيء، فاستطعت بفضل الله تعالى كسر ذلك الطوق عنه
باستقدام عدد من الأُخوة إليه فعقدنا جلسات للبحث، ولاسيّما من أجل تسليط الأضواء على كتاب المراجعات.
ثمرة البحث في نهاية المطاف:
يقول الأخ محمّد: راجعنا بعد ذلك المصادر المنصوص عليها في كتاب المراجعات، فتأكّدنا أنّ صاحبه ينطِق صدقاً وعدلاً، غير متحيّز ولا متحرّف، وأنّ ديدنه الحقّ وكشف مواطن الصدق، وتبيّن لنا أنّ إقرار الشيخ سليم البشري على أحقيّة أهل البيت (عليهم السلام) ليس إلاّ دليلاً على قوّة البراهين التي أوردها السيد شرف الدين، فأصغت لذلك أفئدتنا وعقولنا، وانغرست باكورة أفكاره في وجداننا، وانصاعت إليه طباعنا، ومن هذا المنطلق قرّرنا جميعاً الالتحاق بمذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، وبالفعل أعلنا ذلك أمام الجميع.
تحمّل مسؤولية الدعوة:
يقول الأخ محمّد: انهالت علينا الأسئلة والاستفسارات من كُلّ حدبٍ وصوب، وكان الجميع يرغب في التعرّف على الأسباب التي دفعتنا لتبنّي فكر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، فكنّا نُجيب على الأسئلة التي نواجهها حسب معلوماتنا، وكنّا نُعاني من قلّة الكتب، فكانت إجابتنا بسيطة ومقتصرة على المعلومات التي اختزنتها عقولنا.
ثُمّ سافرت بعد ذلك إلى معرض الكتاب في دورته الثانية عام 1981، فاشتريت منه كتاب الغدير للشيخ الأميني - رضوان الله تعالى عليه -، ثُمّ واصلت جلساتي مع الشيخ مبارك، فكان ذلك دافعاً إلى المزيد من التعليم والبحث، وبدخول كتاب الغدير في حلقة الدرس توسّعت معارفنا، وقويت
حجّتنا، فكان ذلك حافزاً على المزيد من العمل من أجل نشر فكر أهل البيت (عليهم السلام) .
ويضيف الأخ محمّد: ثُمّ صحبت الشيخ في رحلاته إلى قفصة وغيرها، وبعدها أصبح الشيخ يكلّفني بالسفر للتبليغ أو الاتصال بالأُخوة، وسرعان ما آتى ذلك النشاط أُكُله، وأينعت ثماره، فاستبصر كُلّ مَنْ طهرت سريرته وانطوى مكنونه على بارقة خير، فتشكّلت منهم نواة اقتحمت أسوار الجامعة، وانتشرت دعوتهم في البلاد طُولاً وعرضاً وشمالاً وجنوباً حتّى لم يعد هناك مدينة إلاّ وفيها مؤمنون مستبصرون على منهاج المعصومين (عليهم السلام) قلباً وقالباً.
المضايقات بعد الاستبصار:
يقول الأخ محمّد حول المصاعب والمضايقات التي واجهها بعد اعتناقه لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) : لم يخل طريقي من بعض العراقيل والأشواك، فقد اعتقلت في 7 أوت 1985م وحقّق معي بشأن تشيّعي وأُطلق سراحي بعد 14 يوماً، ثُمّ وقع طردي من العمل في 4 جانفي 1986م، ثُمّ اعتقلت مرة أخرى في 21 أوت 1986 ولم يُطلق سراحي إلاّ في 19 سبتمبر من نفس السنة، ثُمّ وقع إعادتي إلى العمل بعد انقلاب السابع من نوفمبر تهدئة للأجواء في البلاد، ثُمّ اعتقلت سنة 1991م ثلاثة أيّام، تعرّضت خلالها للتعذيب ظلماً وعدواناً، ثُمّ تعرّضت للطرد من عملي هذه المرّة نهائياً سنة 1992، ثُمّ اعتقلت سنة 1994 خمسة أيّام وأُطلق سراحي.
ففكّرت بعد ذلك بالهجرة إلى جمهورية إيران الإسلامية، لكن القدر حال دون ما أُريد، فصبرت محتسباً، ثُمّ بعد مضي فترة فكّرت في السفر من جديد إلى دولة أُخرى، فقد انقطعت سُبل العيش في بلدي، ولم يعدّ بإمكاني أن
استمر على تلك الوتيرة، مسلوب الحريّة مضيّقاً على لُقمة عيشي، ولا علاج لذلك سوى اللجوء إلى إحدى الدول التي تتوفّر فيها بعض الحرية وإمكان العيش الكريم، كما قال تعالى: { .. قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا .. }(1).
ويضيف الأخ محمّد: اللّهم إنّي نويت الهجرة إليك، فيسّر لي فيما نويت، وسخّر لي ما أنت أعلم به منِّي، وافتح عليَّ مِن رحمتك، وبلّغني رضاك، وإجعل ما بقي من عمري خيراً ممّا مضى منه، وهب لي من لدنك ولياً، وهب لي من لدنك نصيراً، برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا الكتاب:
هو عبارة عن عدّة مقالاتٍ، كتبها المؤلّف في أوقاتٍ مختلفة، وبطلب من المركز أعاد النظر فيها وصحّحها، لتخرج في كتاب سمّاه: (بيّنات مِن الهُدى).
وهو يحتوي عدّة مقالات عقائديّة توضّح عقائد الشيعة، وتتبع ما ورد عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) ، ويقارن في بعضها بين ما اعتقده اتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، وهو الإسلام الحق وبين ما اعتقدته اتباع المذاهبُ الأُخرى التي جمعت بين الغثّ والسمين، وقد رأينا هنا - طلباً للاختصار والانسجام - التعريف بأهمِّ ما أوردَه في مقال التوحيد.
أهمية التوحيد في العقيدة الإسلامية:
يبين الكاتب أهميّة التوحيد، فيقول: يمثّل التوحيد في العقيدة الإسلامية
____________
(1) النساء: 97.
رأسها ودَعامتها، ومِن دون توحيد سليم قائمٍ على معرفة صحيحة لا يكون البناء العقائدي قويّاً وثابتاً لدى الفرد المسلم، لذلك حثَّ المولى سبحانه وتعالى مخلوقاته العاقلة على الأخذ بأسباب العلم لبلوغ الغاية من المعرفة في التوحيد، وفي سائر العقائد الإسلامية الأُخرى، فقال في محكم تنزيله: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ } (1) وقال أيضاً: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (2) فالآيتان تشيران إلى أنّ العلم هو الطريق الوحيد، والمسلك الرشيد لبلوغ أركان العقيدة، وأعلى مراتب التوحيد، لذلك لم يجز على كُلّ مسلم أن يكون مقلّداً في التوحيد وفي سائر العقائد، ووجب عليه أن يسلك من أجل تحصيل العلم بذلك سبيل البحث والتأمل، تثبيتاً لدعائم الإيمان وتزكية للفطرة التي فطر الخالق سبحانه وتعالى الناس عليها.
أدلّة التوحيد عند أهل البيت (عليهم السلام) :
يوضّح الكاتب بعض ما قاله أهل البيت (عليهم السلام) بشأن التوحيد فيقول:
إنّ المتأمّل في أُمّهات كتب الإماميّة الاثنى عشريّة، يلاحظ اهتماماً بالغاً ما انفك يولّيه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لكُلّ ما يتعلّق بالدين؛ عقيدة وشريعة. ولقد جاء من آثارهم ما أظهر تصدّيهم لكُلِّ دخيلةٍ عن الدين أو مارقة منه، حتّى إنّهم كانوا يتحسّسون مواضع الداء قبل استفحاله، ففي يوم الجمل مثلا وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) يرد على رجلٍ من جنده عندما سأله قائلاً: " أتقول: إن الله واحد؟
____________
(1) محمّد: 19. (2) آل عمران: 18.
فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : دعوهُ فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم.
قال: يا أعرابي، إنّ القول أنّ الله واحدٌ على أربعة أقسام؛ فوجهان منهما لا يجوزان على الله عزّ وجلّ ووجهان يثبتان فيه.
فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد، يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنّه كفر من قال: ثالث ثلاثة، وقول القائل: هو واحد مِن الناس يريد به النوع مِن الجنس فهذا ما لا يجوز عليه، لأنّه تشبيه، وجلّ ربّنا عن ذلك وتعالى .
أمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبيه كذلك ربّنا عزّ وجلّ، وقول القائل : إنّه ربّنا عزّ وجلّ، أحدي المعنى، يعني أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربّنا عزّ وجلّ "(1).
ومن هذا النصّ نستشف أنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه لم يكن في حُروبه الثلاثة التي أُلجيء إليها مدافعاً عن مركزه كإمام المسلمين أو عن سلطته كولي أمورهم، وإنّما خرج ليدفع عن الدين ما بدا يعتريه من دخيل عليه وغريب عنه، فقوله (عليه السلام) : " دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم" دليل على أنّ وقائع الجمل وصفين والنهروان كانت كُلّها حروب تصحيحية، مصداقاً لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله.
____________
(1) كتاب التوحيد : 83، كتاب الخصال : 2 .
فقيل: مَنْ يا رسول الله؟
فقال: خاصف النعل في الحجرة، وكان علي بن أبي طالب يخصف نعل رسول الله في حِجرته" (1) .
ومثلما سلك الإمام (عليه السلام) في الاستدلال على الخالق والتعريف به، بحيث لا يتطرق إلى أقواله تحريف أو تأويل سلك الأئمة الهداة من بنيه (عليهم السلام) في الذب عن أركان الدين، كُلّما سنحت لهم بذلك الفرصة، فكانوا على مرّ العصور حماة الدين، ورعاة آثار وتراث الرسول(صلى الله عليه وآله)، المبلّغ عن ربّ العالمين، بما استودعوه من علوم صحيحة وأفكار متطابقة صريحة، سأقتصر منها - على قلّة المراجع التي بحوزتي - ما طالته يدي من مأثور أقوالهم ومستصفى آرائهم التي هي امتداد من مركز النبوّة، وهدي من نور الإمامة، فهذا أبو عبد الله الحسين بن علي سيد الشهداء (عليه السلام) يقول في دعائه الشهير في عرفة، الذي أرهفت له آذان السامعين، وتحيّرت له عقول الحاضرين، وهزّ نياط قلوب المؤمنين بما حواه من سبحات القدس، ولواعج الأنس:
" كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟!
أيكون لغيرك من الظُهُور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟!
متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟!
ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟!
عميت عينٌ لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً.." (2).
____________
(1) مسند أحمد 3: 33، سنن الترمذي 5: 298، مجمع الزوائد 5: 186، صحيح ابن حبان 15 : 385 وغيرها من المصادر . (2) بحار الأنوار 95 : 226 .
قوله (عليه السلام) : " عميت عين لا تراك ... " إشارة لطيفة إلى بصيرة النفس لا إلى بصر العين ؛ لاستحالة رؤية المولى سبحانه وتعالى بالعين.
وتعدّدت أدلّة الأئمة من أهل بيت النبوة (عليهم السلام) في إثبات وجود الخالق وبيان معنى صفاته، فجاءت متنوّعة ومتفاوتة المعاني على مقدار عقول السائلين.
جاء رجل إلى الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) فقال له: " دلّني على معبودي.
فقال له: إجلس، وإذا غُلام له صغير وفي كفّه بيضة يلعب بها، فقال (عليه السلام) : ناولني يا غلام البيضة، فناوله إيّاها فقال: يا ديصاني هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة، وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيُخبر عن صلاحها، ولا دخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدرى أللذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس. أترى لها مدبراً؟
قال : فأطرق مليّاً ثُمّ قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وإنّك إمام حُجّة من الله على خلقه وأنا تائب ممّا كنت فيه"(1).
وقيل للإمام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) : " يا بن رسول الله، ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال له (عليه السلام) : إنّك لم تكن ثُمّ كنت، وقد علمت أنّك لم تكوّن نفسك، ولا كوّنك من هو مثلك "(2) .
____________
(1) أصول الكافي 1: 80 . (2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2 : 122 .
وسُئل أمير المؤمنين (عليه السلام) : " بماذا عرفت ربّك؟ قال : بفسخ العزائم ونقض الهمم، لمّا هممت فحيل بيني وبين همّي، وعزمت فخالف القضاء والقدر عزمي علمت أنّ المدبر غيري" (1).
وعن إثبات الصانع قال (عليه السلام) : " البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وأثر القدم تدلّ على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة، لا يدلان على اللطيف الخبير" (2).
وتفرّد الأئمة من أهل بيت النبوة (عليهم السلام) في الاستدلات العقلية والأجوبة المنطقية في التوحيد وغيره من عقيدة الإسلام، مضافاً إلى سبرهم لأغوار الوحي ونيلهم العلوم الإلهيّة ما فاض على اتباعهم معارف وحقائق جعلتهم على بصيرة مِن أمرهم، وجعلت غيرهم من المتنكبين عنهم في حيرة يعبدون الله على حرف أو دونه.
كلام الإمام الرضا (عليه السلام) في التوحيد:
للإمام عليّ بن موسى الرضا ثامن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مناظرات واحتجاجات، ودروس ومحاضرات في شتّى العلوم الإلهية، فيها من الأجوبة الشافية والردود الكافية ما قصم به ظهر الباطل وأعاد الحق إلى نصابه، فقد جاء عنه (عليه السلام) في التوحيد: عن محمّد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (عليه السلام) قال: " دخل رجل من الزنادقة على الرضا (عليه السلام) وعنده جماعة فقال لأبي الحسن (عليه السلام) : أرأيت إن كان القول قولُكم وليس هو كما تقولون ألسنا وإيّاكم شرع سواء، ولا يضرنا ما صلينا وصمنا وزكّينا وأقررنا، فسكت .
____________
(1) الخصال : 33، التوحيد : 288 . (2) روضة الواعظين : 31، بحار الأنوار 3: 55 .
فقال أبو الحسن (عليه السلام) : وإن يكن القول قولنا، وهو قولنا وكما نقول ألستم قد هلكتم ونجونا؟
قال: رحمك الله فأوجدني كيف هو ؟ وأين هو؟
قال: ويلك إنّ الذي ذهبت إليه غلط، وهو أيّن الأين وكان ولا أين، وكيّف الكيف وكان ولا كيف، فلا يعرف بكيفوفيّة ولا بأينونيّة، ولا يدرك بحاسّة ولا يقاس بشيء.
قال الرجل: فإذاً إنّه لا شيء إذا لم يُدرك بحاسّة من الحواس.
فقال أبو الحسن (عليه السلام) : ويلك لمّا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته، ونحن إذا عجزَت حواسنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا وأنّه شيء بخلاف الأشياء .
قال الرجل: فأخبرني متى كان؟
قال أبو الحسن (عليه السلام) : فأخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان؟
قال الرجل: فما الدليل عليه؟
قال أبو الحسن: إنّي لمّا نظرت إلى جسدي فلم يمكّني زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه علمت أنّ لهذا البنيان بانياً، فأقررت به مع ما أرى من دوران الفُلك بقدرته، وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات ؛ علمت أنّ لهذا مقدّراً ومنشأً .
قال الرجل: فَلِمَ احتجب؟
قال أبو الحسن: إنّ الحجاب على الخلق لكثرة ذنوبهم، فأمّا هو فلا يخفى عليه خافية في أناء الليل والنهار.
قال: فَلِمَ لا تدركه حاسّة الأبصار؟
قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين تحركهم حاسّة الأبصار منهم ومن غيرهم، ثُمّ مَن أجلّ مِن أن يدركه بصر أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل .
قال: فحدّه لي.
قال: لا حدّ له .
قال: ولِمَ؟
قال: لأنّ كُلّ محدود متناه إلى حدّ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود ولا متزايد، ولا متناقص ولا متجزّئ، ولا متوهم.." (1) إلى آخر الحديث.
حدّثنا علي بن الحسن بن فضال عن أبيه قال: سألت الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في قوله الله عزّ وجلّ: { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لَّمَحْجُوبُونَ } (2) فقال: إنّ الله تعالى لا يوصف بمكان يحلّ فيه فيحجب عنه فيه عباده، ولكنّه يعني أنّهم عن ثواب ربّهم محجوبون .
قال : وسألته عن قول الله عزّ وجلّ: { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } (3) ؟
فقال: إنّ الله تعالى لا يوصف بالمجيء والذهاب، تعالى عن الانتقال، إنّما عنى بذلك: وجاء أمر ربّك والملك صفّاً صفّاً.
قال: وسألته عن قول الله عزّ وجلّ: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ } (4).
____________
(1) التوحيد : 250. (2) المطففين: 15. (3) الفجر : 22 (4) البقرة : 210 .
قال: يقول: هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله بالملائكة في ظُلل من الغمام.
قال: وسألته عن قوله تعالى: { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } (1) ، وعن قوله: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } (2)، وعن قوله { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ } (3)، وعن قوله: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } (4) فقال إن الله تعالى لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع ولكنه يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً " (5) .
عن الحسن بن سعيد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق وَ يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ} (6) قال حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنين سجداً. وتدمج أصلاب المنافقين لا يستطيعون السجود " (7).
منها قول القائل: كشفت الحرب عن ساق أي أظهرت نتيجتها.
عن محمّد بن عبيدة قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ لإبليس: { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (8) قال (عليه السلام) : يعني بقدرتي وقوتي"(9).
عن الحسين بن خالد قال: " قلت للرضا (عليه السلام) : يا بن رسول الله إنّ الناس يروون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم على صورته؟
فقال: قاتلهم الله لقد حذفوا أوّل الحديث! إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّ برجلين
____________
(1) التوبة: 79. (2) البقرة : 15. (3) آل عمران : 54 . (4) النساء : 142. (5) معاني الأخبار : 13. (6) القلم : 42. (7) التوحيد : 154. (8) ص : 75. (9) التوحيد : 154، بحار الأنوار 4 : 10.
يتسابان، فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك.
فقال (صلى الله عليه وآله): يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك ؛ فإنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم على صورته"(1) .
فيكون الضمير عائداً على الرجل الذي وقع عليه السبّ.
عن الحسين بن خالد قال قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) : " يا ابن رسول الله إنّ قوماً يقولون: لم يزل الله عالماً بعلم، قادراً بقدرة، حياً بحياة، قديماً بقدم، سميعاً بسمع، بصيراً ببصر؟
قال (عليه السلام) : من قال ذلك ودان به فقد اتّخذ مع الله آلهة أُخرى، وليس من ولايتنا على شيء، ثُمّ قال (عليه السلام) : لم يزل عزّ وجلّ عليماً قديراً حياً سميعاً بصيراً لذاته، تعالى عمّا يقول المشركون والمشبّهون علواً كبيراً"(2).
التوحيد عند غير أهل البيت (عليهم السلام) :
لا يمكننا إظهار صحّة ما نحن عليه من توحيد سليم إلاّ بعرض ما يعتقده غيرنا من المسلمين. فنقول: أمّا المنحرفون عن ولاية الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) فقد ذهبت بهم مذاهبهم إلى تبنّي معتقدات أساسها الكذب على الله تعالى وعلى رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله)، بما ابتدعه لهم علماؤهم وفقهاؤهم، وما زكاه حكامهم لهم من أباطيل، لو ثابوا إلى رشدهم منها لبكوا على ما فرطوا في جنب الله تعالى، ولضحكوا على تفاهة عقول مبتدعيها ومنتحليها، وأيّ بناء لا يكون أساسه سليماً مآله السقوط. والعقيدة التي اختلط فيها الغثّ بالسمين
____________
(1) التوحيد : 153، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2: 110. (2) التوحيد : 140، روضة الواعظين : 37 .
والسقيم بالسليم لا يمكن أن تفرز بُعداً غيبياً وتواصلاً إلهيّاً، وهي أقرب إلى الجهالة منها إلى المعرفة. وإلى النفرة منها إلى الحب.
والمتتبع لجملة الأحاديث التي أوردها هؤلاء في إثبات جسمانية الخالق وتفاصيل أجزائه وجلوسه ونزوله وتنكره وضحكه ورؤية المؤمنين له يوم القيامة يلاحظ إصراراً غريباً من حفاظهم على نقل تلك المفتريات المتعارضة مع القرآن، ومع غيرها من الروايات والتي لا يقبلها عقل سليم لم يصب بلوثة التجسيم والرؤية.
ثُمّ تراهم يحثّون اتباعهم على التديّن بها حثّاً، ويحرّمون عليهم معارضتها أو حتّى مجرّد التشكيك في مدى صحّتها، فلم ينشأ بينهم غير التعصب الأعمى والتدين الأعرج، وتولدّت فيهم جراء تلك الروايات الفاسدة عقيدة عقيمة وتوحيد أقرب للوثنية وآلهة الإغريق القدامى منه إلى توحيد الحق تعالى، وحلّت الخرافة في الدين محل العلوم الإلهيّة، والقصاصون محل العلماء، حتّى عجت كتبهم بها، ومع ذلك لا يتحرجّون ولا يتأثّمون منها طالما أنّهم يعتقدونها من أقوال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبما إنّني أتحدث عن مقام واحدً منها فتعرضت لذكر ما هو متعلّق بالتوحيد فقط، على أن يكون لكلِّ بابٍ من بقيتها مقام ومقال:
أخرج البخاري ومسلم وغيرهم من حفاظ العامة ما يلي:
1 - عن صهيب عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: " إذا أُدخل أهل الجنة الجنّة يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئاً أزيدكم؟
فيقولون : ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنّا من النار؟
قال فيكشف الحجاب فما أُعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزّ وجلّ"(1) .
2 - عن أبي هريرة أخبر أنّ أُناساً قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): " يا رسول الله، هل نرى ربّنا يوم القيامة؟
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : هل تضّارون في رؤية القمر ليلة البدر؟
قالوا: لا يا رسول الله.
قال: هل تضّارون في الشمس ليس دونها سحاب؟
قالوا: لا يا رسول الله.
قال: فإنّكم ترونه كذلك " (2) .
3 - عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : " يد الله ملآى لا يغيضها نفقةُ سحّاء الليل والنهار .
وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلَق اللهُ السماواتِ والأرضَ فإنّه لم يغضِ ما في يده.
وقال: وعرشه على الماء وبيده الأُخرى الميزان يخفض ويرفع" (3) .
4 - عن أبي هريرة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " يتنزّل ربّنا تبارك وتعالى كُلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير من الليل فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فاغفر له؟"(4).
____________
(1) صحيح مسلم 1: 112، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربّهم سبحانه وتعالى . (2) صحيح مسلم 1: 114، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة لربّهم سبحانه وتعالى . (3) صحيح البخاري 5: 213، كتاب التفسير، تفسير سورة هود . (4) صحيح البخاري 7: 149، كتاب الدعاء، باب الدعاء نصف الليل .
5 - في حديث طويل عن ابن مسعود جاء فيه: " قالوا: ممّ تضحك يا رسول الله؟
قال: من ضحك ربِّ العالمين "(1) .
6 - وعن جابر بن عبد الله في حديث طويل: " ثُمّ يأتي ربّنا بعد ذلك فيقول: من تنتظرون ؟ فيقولون: ننتظر ربّنا .
فيقول: أنا ربّكم.
فيقولون: حتّى ننظر إليك، فيتجلّى لهم يضحك .
قال: فينطلق بهم ويتبعونه "(2) .
7 - عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " خلق الله عزّ وجلّ آدم على صورته، طوله ستون ذراعاً..." (3) .
هذه الروايات وغيرها تؤيد الرأي العام المتداول عند تلك الطائفة في أنّ الخالق - تعالى عن ذلك - جسماً وجعلوا له صفات وقالوا بأنّها غير ذاته، وأنّ له أعضاء كاليدين، والوجه، والعينين، والرجل، وأنّه ينزل، ويأتي، ويضحك، ويتنكّر إلى غير ذلك من السفسطات والسخافات.
توحيد الأدعياء:
قد سلك الجاحدون للإمامة الشرعية والمنحرفون عن الأئمة الهداة عليهم وعلى جدّهم أزكى السلام وأفضل الصلاة وهم: الوهابيّة اتباع محمّد بن عبد الوهاب، فقد سلكوا مسلك أحمد بن تيميّة وتلميذه ابن القيم واتباعهم حينما
____________
(1) صحيح مسلم 1: 120، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنّة منزلة . (2) صحيح مسلم 1: 122، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنّة منزلة. (3) صحيح البخاري 7: 125، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام .
إدّعوا بأنّهم هم الموحدون حقاً وغيرهم من المسلمين مشركون، وأنّ توحيدهم لله هو التوحيد الصحيح الذي تنبني عليه عقيدة الإسلام، والمتصفح لكتبهم ككتاب التوحيد لابن عبد الوهاب، والعقيدة الحمويّة والواسطيّة وغيرها - وهي رسائل لابن تيميّة - يقف على مدى بطلان عقيدتهم، وفساد رأيهم، وتفاهة عقولهم، فإنّ الذي يثبت لله تعالى جهة الفوق والنزول، والمجيء، والقرب، والوجه، واليدين، والأصابع، والعينين، بمعانيها الحقيقية دون تأويل، مختل الاعتقاد وفاسد التوحيد.
ولم يقفوا عند ذلك الحدِّ في تطاولهم السخيف، بل راحوا يستنكرون ويشنعون على كُلِّ من قال بتنزيه المولى عن كُلّ نقص، ولم تكن إرهاصاتهم ولا شطحاتهم تلك وليدة استنتاج علمي أو بحث فكري، حتّى تصنف في دائرة الاجتهاد، وإنّما هو دليل يخرج به كُلّ ذي بصيرة بعد إطلاعه عليها يعبّر عن سطحيّة وضحالة علوم كُلّ من تبنّى عقيدة هؤلاء الذين أطلق عليهم طواغيت العصور الغابرة (أهل السنّة والجماعة) وهم للبدعة أقرب وأولى بالتسمية.
فعن أيّ سنّة يتحدثون؟
إن كانت سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأهل بيته الذين أذهب عنهم المولى سبحانه وتعالى الرجس وطهّرهم تطهيراً، وقرنهم جدّهم بالكتاب العزيز أولى عقلاً ونقلاً. وسيرهم تنبّئك عن حالهم، ولو ردّ هؤلاء إليهم ما التبس من دينهم لوجدوا عندهم ما يُشفي صدورهم ويجعلهم على بصيرة من أمرهم، وإن كانت سنّة أُخرى كالذي أدخله بنو أُميّة في الدين فإنّها لا تغني عن الحق شيئاً.
طريقان لا ثالث لهما:
يوجه الكاتب خطابه إلى المسلمين، فيقول:
أخي المسلم لا شكّ أنّ الدين قد مرّ قبل وصوله إلينا بقنوات مشبوهة كان لها أثر كبير في تحريف ما وصل إلينا منه، وقد تضررت عقيدة السواد الأعظم من المسلمين بما علق بها من أكاذيب وتآويل خاطئة، وقد حان الوقت لنستأصلها ونُعيد الحق إلى نصابه، والدرّ إلى معدنه بالعود إلى المستحفظين على كتاب الله والناطقين عنه وثقله، كما أحالنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبل بقوله: "تركت فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"(1) .
والمعتصم بهم آمن من الزيغ والانحراف بمنئى التناحر والاختلاف، محفوظاً في كنف المولى من الانصراف إلى أئمة النار، وحزب الشرّ والأشرار، اتباع الشيطان وأوليائه، من الدعاة إلى التعبد بالشكّ والظنّ.
والآن ليس أمامك غير طريقين لا ثالث لهما فإمّا أن تعبد الله الحق، إله الأنبياء والمرسلين .. إله محمّد وآله الطاهرين الذي لا يتجزّأ، ولا يتحيّز، ليس كمثله شيء، ولا يُرى في الدنيا والآخرة، ذو الصفات التي لا تُحصى وهي عين ذاته المقدّسة، أو أن تعبد هذا الذي يعرضه عليك هؤلاء والذي هو على صورة آدم، وإن قالوا بلا كيف فقد كيّفوا نتيجة انصرافهم عن آل طه
____________
(1) الحديث من الأحاديث الصحيحة والثابتة عند الشيعة والسنّة، ويمكن الرجوع إليه في المصادر التالية : مسند أحمد 3: 14 و 17 و 26 و 59، سنن الترمذي 5: 328، مجمع الزوائد 9: 163 و 165، كتاب السنّة : 337، سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 355.
وانحرافهم عن الراسخين في العلم.
نسأل الله تعالى ختاماً أن يلزمنا كلمة التقوى، ولا يحيد بنا عن صراطه المستقيم، ولا يباعد بيننا وبين أوليائه الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، ويهدي أُمّة الإسلام بالرجوع إليهم بعد قرون التيه والضياع، إنّه سميع مجيب والحمد لله ربّ العالمين.
قسم المستبصرين |
الإهداء
إلى كُلّ مسلم أسكن في لبّه وازع الخير، فتذكّر فإذا هو مبصر { وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلبابِ} (1).
إلى كُلّ من ضمَّ بين جوانحه المضغة الصالحة التي تألف الخير وتسكن إليه، والتي أشار إليها النبيّ (صلى الله عليه وآله) بقوله: " ألا وإنّ في الجسد لمضغة، إن صَلُحت صلح الجسد كُلّه، وإن فسدت فسد الجسد كله"(2).
إلى كُلّ أولئك الذين تملكتهم أحاسيس الرحمة، وأخذت بمجامع قلوبهم مشاعر اللطف، فانبروا إلى خالقهم مجردين من ملكات الاستكبار، ودواعي التطاول على الحضرة القدسية، يريدون وجهه وركنه وعروته وحبله المتين.
إلى الذين لم يشربوا عباداتهم بترانيم النفس الأمّارة بالسوء، ولم يقترفوا وهم في سعيهم نحو المعرفة سيئة الاستعلاء، قد وطّنوا أنفسهم في طريق الهجرة إلى الله، على محاربة النفس لا محاربة الناس، وفاضت أرواحهم على الناس خدمة وتواضعاً.
إلى الذين نسوا أنفسهم في جنب الله، وحسبوا له حساباً ولم يحسبوا لها حساباً، فقرّبهم وأدناهم وباركهم.
____________
(1) البقرة : 269. (2) بحار الأنوار 58: 23، صحيح البخاري 1: 19، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه .
إلى عشّاق الحقوق المهضومة، والمتيّمون بحبّ المستضعفين.
إلى أعداء الاستكبار أينما كان وحيثما كان، وكيفما كان.
إلى الذين { إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ } (1).
إلى كُلّ الذين أدبّوا أنفسهم قبل تأديب غيرهم، وجهّزوا أمتعتهم لسفر طويل وشاق لا مفرّ منه، وهم يحملون على أكفّ الضراعة الثقة التامة بالله تعالى.
إلى كُلّ الذين لم تراودهم عقلية التطاول على الخلق، والوصاية على الدين.
إليكم جميعاً إخوتي وأخواتي في الله تعالى، أضع بين أيدي الجميع هذه البيّنات، لعلّها تكون أثراً موصلاً إلى الهداية، ودافعاً قوياً للبحث عن سبيل الولاية؛ لأنّه السبيل الوحيد والصراط الرشيد، لإدراك حقيقة الدين كما أُنزل على النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله).
أملي الأخير في أن تعي الشعوب الإسلاميّة ما يحاك ضدّها، ويعمل من أجل بقائها مشتتة ضعيفة، وأن تعمل بواسطة طلائعها المؤمنة، من أجل يوم تكون فيه كلمة واحدة، وأُمّة واحدة، وحكومة إلهية واحدة، ولن يكون ذلك إلاّ بالبحث عن تفاصيل هذا الدين العظيم، وسط ركام كبير اختلط فيه الحابل بالنابل، والغثّ بالسمين، والسقيم بالسليم، والله ولي التوفيق.
____________
(1) الأعراف : 201.
تقديم
تشكو المجتمعات الإسلامية عموماً من نقيصة سيّئة ظلّت ترافقها منذ زمن طويل، وهي شدّة اهتمامها بالمحسوسات، وإهمالها للغيبيات، وبمعنى أدقّ انجذابها للدنيا وتباعدها عن دينها.
ففي أكثر نواحي حياة أفرادها نجدهم يولون اهتماماً مفرطاً إلى البهرج والزينة، يتحسسون فيهما أنجح الصفقات، وأقوم المكسب، وأجود المتاع، وألذ المأكل، قد يقضي هؤلاء أكثر أوقاتهم من أجل تحصيل شيء زائل، وفي كسب مطلب لا يستحق كُلّ ذلك الجهد والاهتمام والوقت، لكنّك إذا التفت إلى علاقاتهم بدينهم وأسباب بلوغ رضوان الله تعالى في الآخرة، لا تجد منهم نفس الاهتمام والرغبة واللهفة والجهد، بل لا تكاد تجد شيئاً من ذلك كلّه عند أكثر أفراد الأمة، ولا دليل أسوقه هنا أوضح من انصراف أكثر الصحابة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يخطب في صلاة الجمعة، ليجتمعوا بدحية الكلبي وما أتى به معه من تجارة.
ولئن عبّرت تلك الحادثة عن سطحية عقيدة المنفضين عن الله تعالى، إلاّ أنّها في نفس الوقت أشارت إلى أنّ الدنيا يبقى لها أثر لا ينمحي من أكثر النفوس حتى ولو كانت متصلة بأفضل الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله).
ويبقى عامل الدنيا هو المؤثر في عموم الناس، ولكن يمكن تغييره ليكون في صالح الدين ... .
وهي قلة المطالعة، وانصراف همّة أفرادها عن تحصيل المعلومة، إلى
درجة الاتكال على الغير في أخذها وتلقّفها.
وهذه الظاهرة ليست وليدة العصر الحديث بقدر ما هي قديمة قدم مؤسسيها من القصاصين والوعّاظ والرواة من اليهود، قرّبتهم الأنظمة آنذاك، ووسعت لهم في مجالسهم؛ ككعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، الذين وجدوا أمامهم مجالاً لتمرير أفكارهم المسمومة وعقائدهم المحرّفة، ولولا حزب النفاق الذي كان المؤسس الأوّل لوظيفة القاصّ لما كان لهؤلاء وجود داخل منظومتنا الخاتمة، ولا كان لهم أثر سلبي على جانب من الروايات التي تمسّ بجوهر الدين وعقيدته، وكان الوضع الاجتماعي والعلمي للأُمّة في ذلك الوقت دافعاً إلى تلك النتيجة، بحكم قلّة الكتب، وانعدام توفّرها، وتعسّر وصول طالبي العلم إليها، لأنّها نسخ معدودة بعدد أصحابها، الأمر الذي أوجد في أفراد الأُمّة عقليّة التواكل، والعزوف عن تحصيل المعلومة لضنين مواردها، وفسح المجال من جهة أُخرى إلى الطغاة والظالمين ليمرروا سياساتهم الهدّامة، وأفكارهم المريضة إلى عقول الأمة بعناوين إسلامية.
وعوض أن يتفطن الناس إلى ما دُبّر لهم من تضليل وتجهيل إلتفّوا حول أولئك الذين اشتروا آخرتهم بدنيا زائلة لا محالة، فأعطوهم نوافذ عقولهم وأفئدتهم، وأصغوا إليهم بجوارحهم إصغاء الأبله المريض، بينما كان القصاصون من الجهة المقابلة يدسّون السمّ في الدسم، وينشرون ما يقوي الظالمين، ويشدّ أزر سلطانهم، فلم ينتبه إلى الحق إلاّ القليل، ومضي الأمر على ذلك النسق زمناً طويلاً، تربّت فيه الأجيال على ثقافة مشوشة بالكذب والبهتان والزور، وجاء عصر التدوين، فكتب حق وباطل، وأثبت بعد ذلك، ثُمّ وصف
بالصحة، ونودي عليه بالسلامة والنقاوة، وسُمّي سنّة نبويّة، ولو علم الناس انقطاعه عن زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) لما أخذوه وعملوا به.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أستحضر مقالة للإمام علي (عليه السلام) ، تحدّث فيها عن أصناف رواة السنّة النبويّة المطهّرة، استكمالاً للفائدة المرجوّة من وراء ذلك إذ يقول (عليه السلام) :
"إنّ في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، ولقد كُذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عهده حتى قام خطيباً فقال: من كذّب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، وإنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثّم ولا يتحرّج، يكذّب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمداً، فلو علم الناس أنّه منافق كاذب، لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثُمّ بقوا بعده - عليه وآله السلام - ، فتقربوا إلى أئمّة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم الله، فهو أحد الأربعة.
ورجل سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً لم يحفظه على وجهه فوهم فيه، ولم يتعمّد كذباً فهو في يديه يرويه ويعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلو علم المسلمون أنّه وهم فيه لم يقبلوا منه، ولو علم هو أنّه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً يأمر به، ثُمّ نهى عنه وهو لا يعلم،
أو سمعه ينهى عن شيء ثُمّ أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم الناس إذ سمعوه أنّه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يهم، بل حَفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، فحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاصّ والعامّ، فوضع كُلّ شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه..." (1)
لقد كان للعامل السياسي في تفشي ظاهرة الكذب في دين الله تعالى الأثر الأكبر، مضافاً إلى ذلك الإجراء الظالم في منع تدوين الأحاديث النبوية، والذي استمر أكثر من قرن ونيف، حتى إجازة التدوين - التي صدرت من عمر بن عبد العزيز، وبوشر العمل بها بعده - كانت مقيدة ومخصوصة، بحيث لم تشمل جميع من له صلة بالرواية والفقه، وإنّما تعلّق الأمر بالمقرّبين من البلاط الأموي، بينما أُقصي غيرهم باعتبارهم مناوئين للسلطة.
وإذا نحن استعرضنا من جانب آخر تشجيع الأمويين - وعلى رأسهم مؤسّس سلطانهم معاوية بن أبي سفيان الطليق - بعض الصحابة كأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، وإغرائهم بالأموال والأعمال، للكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، في عصر ما زال التدوين فيه بعيداً عن الحصول؛ تكونت لدينا فكرة ثابتة وصحيحة، عن الظروف والأوضاع التي مرّت بها السنّة النبوية التي هي بين أيدينا الآن، أخصّ بالذكر منها ما هو متعلق
____________
(1) شرح نهج البلاغة للشيخ محمّد عبده 2 : 188 ـ 190.
بما يُسمّى بـ(الصحاح) والمسانيد، وبقية الكتب الروائية عند بني مذهبي الذين كنت منهم.
وعلى ذلك حصل لدينا يقين بأنّ الله تعالى الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض لا يمكنه أن لا يكون إلاّ حكيماً دائماً، ومكمّلاً دائماً، ومتمّاً دائماً ومحسنا دائماً، فقد جعل لمسألة حفظ دينه بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله)، مستحفظاً يذب عنه تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وهو الإمام المبين، ومن عنده علم الكتاب، باب مدينة علم الرسول (صلى الله عليه وآله) والهادي إلى سبيل الله تعالى من بعده، وثقل القرآن وعدله، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، الذي لو تأمّلت سيرته، بما فيها من تضحيات في سبيل الحق، وبذل للمهجة من أجل إعلاء كلمة الله تعالى ونوره المبين، وتتبعت كلامه الذي قال عنه جهابذة اللغة وأرباب البلاغة: "إنّه دون كلام الله تعالى وفوق كلام البشر"، واستقصيت دعاءه الذي لم يشهد له الناقلون مثيلاً من حيث العمق المعنوي، والقوّة البلاغيّة، والتناسق الفكري، والبناء العقائدي، ونظرت إلى من كان حوله من أصحابه واتباعه، والتفت إلى من ناوءه وظلَمه وحارَبه وهضم حقه؛ تأكّدت أنّ الحق أبلج كالنور، وأعلى كالقمم الشماء، فليس بعد الحق إلاّ الضلال المبين.
إنّ الإسلام دين خاتم جاء ليصحح ما حرّف من رسالات سابقة، وليقوّم اعوجاج مسار البشريّة، ويوجهها جميعاً إلى التوحيد الخالص الذي لا شرك فيه، وأعني بذلك فصل الدين عن الحياة، واعتبار أنّ الدين شيء والسياسة شيء آخر.
لقد شرّع المولى تعالى دينه الخاتم ليشكل به خلاصة الرسالات السابقة،
فهو مجموعة من الأحكام التي تتعلّق بعلاقة الفرد مع خالقه ومع غيره من البشر والكائنات، وهذه المنظومة تحتاج لاستمرارها إلى أداة تنفيذ وحفظ تكون من جنس التشريع، والقول بغير هذا كلام غير مبني على أساس، ولا يستند على دليل منطقي.
نقطة الخلاف الأساسي بين المسلمين اليوم - بصرف النظر عن بعض الخلافات في التوحيد والنبوة - هي نظام الحكم في الإسلام، علينا أن نبحث بما توفّر لدينا من نصوص عن أصحاب الرأي الأصح، والحجة الأقوى؛ لنكون معهم يداً واحدة بها يتجدّد الدين، ويقوم أساسه الأول وهو (الإمامة).
عليك أيّها المسلم الرشيد أن تعيد حساباتك جيداً، وتبحث بين ذلك الركام الذي وصلنا عبر قرون طويلة، استطال فيها الظلم والبغي، حتى أصبح ديناً يتعبّد به الناس، فتخير سبيل الرشاد، وانظر لنفسك من ستقدم، يوم يدعو الله تعالى كُلّ أناس بإمامهم، وأسأل الله تعالى العون على ذلك، مخلصاً له في كُلّ حركة تقوم بها، وتأكد أنّه لن يتركك سدى.
على طريق الهدى
نشأت في عائلة متديّنة ومحافظة على هويتها رغم محاولات المسخ التي أضفيت على المجتمعات العربية تحت عناوين متعددة، وكان والدي - أبقاه الله تعالى، ومتعه بالصحة والعافية، وثبته على منهاج الحق الذي هداه الله تعالى إليه - مالكي المذهب، حريصاً على أن تتأصّل كُلّ تلك المفاهيم في شخصيتي وتتشبّع بها روحي، فتتشكل كما كان يصبو إليه إنساناً مستقيماً، ومؤمناً صادقاً في كنف المولى تعالى وعلى عينه عزّ وجلّ، لتقرّ بي عينه.
إلاّ أنّني، وإنّ لم أتمكن من تحقيق مبتغاه في أن يكون لي مركز مرموق عند الناس، وفي مجتمع لا يعترف إلاّ بالمناصب والشهادات، دون الالتفات إلى القيم والثوابت التي لا غنىً للبشرية عنها، وهي إن نزعت منها، أو تباعدت عنها، فإنّها مناطة في كُلّ الأحوال بها، لا يستقيم شيء بدونها، لأنّها المقياس الحقيقي، والمجس الذي لا يكذب، والبذرة التي تعطي خيراً.
إلاّ أنّني وفيت حقي لديه، وبلغت أمله في أن أكون رجلاً بالمعنى الإنساني للكلمة، في عصرٍ بدأ فيه النوع ينقرض، وغدا البحث عن المُثل الذي تجسدّ في شخصي غير مجد في كثير من الأحوال.
كانت أمي - أبقاها الله تعالى - المدرسة الأولى التي نحتت شخصيتي وأعطتني من مثالها أخلاقاً وحناناً وعطفاً وحساً مرهفاً، رضعته من ثديها، وتلقفته أذناي من كلماتها الحكيمة، في حين كان والدي - دام ظله - المرشد
والولي الذي كان يحوطني باهتمام بالغ، وكنت فوق ذلك كُلّه مأخوذاً بشخصه، محتمياً بظله، مستشعراً منه مثال الرجل الشجاع، ونموذج الإنسان الأبيّ الذي لا تغيره الخطوب، ولا تؤثر فيه سلباً هزائم المجتمع وخيباته، استنسخت من شخصيته الشجاعة والكرم والإباء، وكان الركن الأكثر إضاءة بالنسبة لي في حياته الكريمة، يوم حمل يافعاً السلاح من أجل استقلال البلاد، فقدّم نفسه فداء للوطن، ولم ينتظر من أحد أن يرشده إلى ذلك أو أن يشكره على ما قدّم، فكنت والحق يقال فخوراً به إلى درجة الإفراط.
كان دائب الاهتمام بشعائره، وكان يحثّني على الطهارة والصلاة منذ أن بدأّت أعي، وقبل أن أبلغ سنّ التكليف، فانطبعت تلك القيم والمفاهيم في نفسي، وكان لها الأثر الأكبر على هدايتي فيما بعد.
وفوق ذلك كنت متميزاً بحضور الذهن، وسرعة البديهة، ورهف الحس. كانت أوقات فراغي دائماً مقسّمة بين مطالعة كتاب، أو تأمّل طبيعة، أو استماع موسيقى، أو ممارسة رياضة، وكانت صحبتي لأقراني مبنيّة على ذلك الأساس.
كما كنت مجبولاً على التلقائية والتطوّع لخدمة الناس، ومنذ أن بدأت ألقف من والديّ كان الظلم بالنسبة لي عدواً بغيضاً، معتبراً أنّ السكوت على الظالمين جريمة كبرى.
لست من الذين يلقون الورود على أنفسهم، لكنّني في هذه الحال ناقل لانطباع كُلّ من عرفني عن قرب، فأحمد الله تعالى على كُلّ ذلك.
أذكر أنّه كانت تستهويني صورة معبرة عن الإمام علي (عليه السلام) وهو يقاتل عمرو بن ودّ الباهلي، في بيت أحد رفاق المدرسة الابتدائية، فكنت أقف
أمامها مراراً وتكراراً، حتى ترسّخت في عقلي وروحي من خلال حصص المشاهدة تلك، ودون إدراك ولا تفسير واضح يعلل وقوفي في كُلّ مرّة أمام تلك الصورة، فانطبعت محبّة ذلك الرجل في نفسي، بحيث لم يبق في قلبي ووجداني ذكر وحبّ لغير الأصول الثلاثة التي عليها مدار الدين كُلّه عقيدة وشريعة وهي: توحيد الله تعالى، والإقرار بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) مع الإقرار بإمامة أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، وإن كنت في سنٍ لا تسمح لي بالتمييز فإنّ فطرتي كانت بالنقاوة والصفاء المطلوبين لانطباع تلك الأصول في داخلي، وهو ما فسّر لي فيما بعد تلقائية تقبلي لخط أهل البيت (عليهم السلام) ، واستيعابي السريع لمنظومتهم التي هي أصل الإسلام وروحه وجوهره.
ولمّا كبرت قرأت في التاريخ الإسلامي كُلّ الأحداث والوقائع بالرواية المذهبية المميّعة للقضيّة، والمحذّرة من مغبّة تناولها، فلم ألتفت إلى حقيقة أهل البيت (عليهم السلام) إلاّ عندما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران، على يد ملهمها آية الله العظمى سيدي ومولاي روح الله الموسوي الخميني - قدس الله تعالى سره وطيب ثراه - ، ذلك الرجل الذي دوّخ العالم وحيّره، وجاء بالإسلام ليجعله طريقة وأسلوب حكم، ونظرية ولاية فقيه مثلى لقيادة الأمّة، وحلّ لجميع مشاكل البشرية، جاء الإمام بالإسلام من جديد ووضعه على بساط الفعل وموقع التأثير، تصديقا لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لو كان العلم متعلّقا بالثريا لتناوله رجال من فارس "(1). كان شغله الشاغل عودة الدين القيّم إلى فاعليّته
____________
(1) قرب الإسناد للحميري: 110، بحار الأنوار 30: 224، وغيرها من المصادر الشيعية والسنيّة.