الصفحة 40

وشموليّته وعالميّته، كان خطابه موجهاً إلى جميع الناس، مختزلاً الثقافة الثورية الجديدة، ومبيناً معاني الاستضعاف والاستكبار، وموضحاً لحقائق الأحكام ومعاني الحكم في الإسلام العظيم، فكنت مشدوداً إليه، مأخوذاً إلى شخصه، بحيث جاءت صورته الحاضرة لتلتصق بصورة الإمام علي (عليه السلام) التي كنت شاهدتها في صغري وانطبعت في ذاكرتي.

تساءلت يوم رأيت أول مرة صورة الإمام القائد - قدس سره الشريف - : أيمكن أن يكون رجل بهذه الملامح، وذلك السرّ، وتلك الشخصيّة، وذلك النور في هذا العصر الذي كِدنا نفقد فيه كُلّ أمل في الرجولة ومثلها العليا؟

في يومها كنت منتسباً إلى حركة الاتجاه الإسلامي، معتقداً بأنّ الإسلام لا بدّ أن يقود الحياة رغم أُنوف من يأبى ذلك، وحملت على عاتقي مسؤولية الظهور بمظهر الاستقامة، وتمثيل الأخلاق والمبادئ الإسلامية تمثيلاً صحيحاً وصادقاً، فموضعي من المجتمع لا يحتمل التواني، ولا إعطاء الانطباع المعاكس والسيئ لتجربة ما تزال في بداياتها، وتبحث لها في المجتمع عن موقع صلب لا تزحزحه الخطوب.

أولى مقارناتي جاءت من صورة الإمام الراحل تساءلت عن ذلك المحيا الملكوتي: لماذا لا يوجد لدينا ما يشبهه في مجتمعاتنا السنيّة، والحال أنّ تسميتنا بالسنّة معناها أنّنا أقرب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) من غيرنا؟

وتعجّبت من العمامة السوداء التي وضعها الإمام على رأسه وطريقة لفها، وقلت في نفسي: لماذا لبس ذلك الرجل الوقور عمامة سوداء؟ ولماذا لفّها بذلك الشكل على خلاف علماء أهل السنّة والجماعة؟

ألا يكون اللون الأبيض أقرب للدين من غيره من الألوان؟


الصفحة 41

لماذا يخيم الحزن على ملامح هؤلاء؟

وفهمت بعدها أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كانت له عمامة سوداء، وكان يلبسها في حروبه وأسفاره، اسمها (السحاب)، أعطاها لأخيه بالمؤاخاتين الإمام علي بن أبي طالب، فلم تفارقه حتى استشهد، وتوارثت ذريته الطاهرة ذلك الرمز الذي به يعرف علماؤهم إلى العصر الحاضر.

محيا الإمام الخميني(ره) أخذ مجامع قلبي، وشدّني إلى ذلك الرجل الذي غيّر التاريخ، وطوّع دوران عجلته إلى حيث إرادة قائد وشعب ترسخت فيهم تقاليد العشق الإلهي، فكان الدافع الخفي نحو البحث في تفاصيل الثورة وأصولها، وزانهم حب وولاء أهل البيت (عليهم السلام) ، فاكتملت شخصيّة المؤمن عندهم، وخطت ملامحها حقيقة التوحيد والولاية.

وباعتباري أنتمي إلى مجتمع سنّي منغلق على نفسه، شديد الحساسيّة في مقاربة غيره، موالياً منذ نشأته للحكام بمختلف تصانيفهم؛ لأنّ تلك المذاهب جاءت بتزكية وتثبيت منه، والتاريخ يشهد على ذلك، فقد كانت الأخبار التي تروج على الإمام الراحل وثورته والجمهورية الإسلاميّة في إيران زائفة في معظمها، موجهة من طرف الاستكبار العالمي الذي تقوده أمريكا المهزومة والمجروحة، بعد هزيمة عميلها الشاه، واقتحام وكر التجسس في طهران من قبل شباب الثورة، التواق إلى لقاء الله تعالى بلا أدنى خوف أو وجل من أيّ كان، وتفاقم الأمر عند العدوان البعثي الصدامي التكريتي - عليهم لعائن الله جميعاً - بحيث أصبح المرء يواجه تركيبة من الأبواق الدعائية الكاذبة لتغطية العدوان، والإعفاء عن الجريمة النكراء التي تقترف ضدّ الإسلام والشعب الإيراني المسلم الذي لبّى نداء الإمام في أن ينخرط في التجربة الإسلامية


الصفحة 42

الجديدة، وتحت غطاء القومية العربية كانت صحافتنا وأخص بالذكر منها الشروق والصباح اللتين كانتا من النافخين في صورة صدام وعصابته المجرمة إلى أن أصبح بطلاً عند العامّة في شمال أفريقيا.

كيف لا! وهو الذي ضرب الكيان الصهيوني في عقر داره!! لم يدر في خلدهم وقتها وقد أسكرتهم نشوة تلك التمثيلية المفضوحة أن الصواريخ التي أطلقها صدام لم تكن تحتوى على أية حشوة، وأن اتفاقاً كان يقضي بحفظ ماء وجهه من الهزيمة التي تلقاها فيما بعد، ودعماً للكيان الغاصب للقدس بالأموال التي اتفق على أن تعطيها العراق من عائداتها النفطية، وإلاّ إن كان هناك عدل وإنصاف، لماذا لم يطبل هؤلاء المهرجون لانتصار الثلّة المؤمنة من حزب الله في جنوب لبنان البطل على كيان مازال يدوّخ أكثر من عشرين دولة عربية؟

من أجل ذلك الخيار وقف الجميع ضد الإمام الراحل والثورة الفتية، وحوربت بكل الأشكال التي يتصورها عاقل، حتى ذوي الميولات الإسلامية، وأصحاب الأفكار التي تعتمد طرح الدين كبديل لإنقاذ المجتمعات الإسلامية من التفسخ وفقدان الهوية، سقطوا في فخّ الدعاية، ووقفوا موقفاً سلبياً من الإمام والثورة على اعتبارها طائفية لا تلبي طموحاتهم، ولا تستوعب ما عداها من أفكار إسلامية.

في ذلك الإطار أذكر أنّه قد نشر مقال صغير عن الثورة الإسلامية تحت عنوان: " الرسول ينتخب إيران للقيادة " على صفحات مجلة المعرفة التابعة لحركة الاتجاه الإسلامي في تونس .

أثار فيه صاحبه بأنّ الثورة بقياداتها وتفاصيلها هي من نبوءات القرآن الكريم، وتوضيحات النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فقد اعترف كاتب المقال السنّي


الصفحة 43

المذهب بما أخرجه المفسّرون والحفّاظ من أسباب نزول الآية التي في سورة الجمعة وهي قوله تعالى: { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1). عندما أخرج أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) سُئل عن الذين لما يلحقوا بهم؟ فقال مشيراً إلى سلمان الفارسي: " هم من قوم هذا والله لو كان الدين في الثريا لأنزله رجال من فارس"(2) .

غير أنّ توجه التأييد والاعتراف بإسلامية الثورة تقلّص سريعاً تحت ضربات الاستكبار، وتزايد نفوذ داء الوهابيّة الذي استغلته أمريكا لقضاء مأربين:

الأوّل: جندت ما أمكنها تجنيده من المسلمين التواقين إلى الجهاد والشهادة من عرب إفريقيا والشرق الأوسط من ذوي الأصول الأشعرية، على يدي أسامة بن لادن في بيشاور الباكستانية، وفي مكتبه الذي كان يستقبل الوافدين عليه، على الحدود الأفغانية في محاولة لهزم الاتحاد السوفييتي الغازي لأفغانستان، لحماية نظام حكم نجيب الله اليساري الموالي للمعسكر الشرقي، أثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة أمريكا، والشرقي بقيادة السوفييت.

والثاني: لمّا تأكّدت نخب الحركة من التوجّه الفكري للثورة الإسلامية في إيران سارعت إلى الوقوف على رابية أبي هريرة، بل فيها من باشر محاربة الثورة وركوب ظهر الدعاية المغرضة ضدّها.

____________

(1) الجمعة : 3 .

(2) زاد المسير لابن القيّم 7: 157، جامع البيان للطبري 26: 86، الدر المنثور للسيوطي 6: 67، تفسير الآلوسي 26: 2، فتح القدير للشوكاني 5: 43، تفسير ابن أبي حاتم الرازي : 3299.


الصفحة 44

لقد كان لانتقالي من مدينة بنزرت - حيث يقطن إلى الآن والداي وإخوتي - إلى مدينة قابس للعمل بأحد مصانعها، الأثر الأكبر في استبصاري ومعرفتي لطريق الحق، وهي السفرة التي غيّرت مجرى حياتي، وجعلت منّي إنساناً مفكراً وباحثاً عن الحقيقة في البداية وكاتباً لما وقفت عليه من قناعات بعد ذلك.

وصلت إلى مدينة قابس فوجدت ابن عمي الشيخ مبارك بعداش في وضع لا يحسد عليه، بعد الخلاف الذي دبّ بينه وبين حركة الاتجاه الإسلامي والتي عرفت فيما بعد بحركة النهضة، وكان أحد مؤسسيها وقائداً من قياداتها، محاصراً في منطقته بشتى الدعايات التي حيكت ضدّه لتنفير الناس منه، فكان عليَّ أن أسعى بما أمكنني إلى فكّ ذلك الحصار من جهة، والدفاع عنه برد الدعايات على أصحابها من جهة أُخرى.

كنت أذهب إليه بعد العصر وفي المساء، بعد ما ألفت جلساته ومسامراته، حتى أصبحت لا أطيق فراقه والابتعاد عن مجلسه.

في أحد الأيام جئت إليه فوجدت بين يديه كتابين، سألته عنهما؟ فقال لي: إنّهما جاءاه من طريق شخص ألحّ على أن يقرأهما، ويبدي رأيه في محتواهما، لم يخف الشيخ عدم تحمّسه للفكرة، لكنّه كان في النهاية مقتنعاً بأنّه لا بدّ من الاطلاع على تصورات وأفكار وعقائد فريق من المسلمين، ظلّت طروحاته مغيّبة قرون طويلة بدافع عصبية الأطراف المقابلة.

الكتاب الأول هو: كتاب (المراجعات) للسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، والثاني هو: كتاب (دلائل الصدق) للشيخ المظفر طيّب الله ثراهما. فاستحسنت الفكرة، سيّما وشغفي بالمطالعة لازال يلازمني كظلّي، واتّفقت مع الشيخ أن نبدأ بكتاب المراجعات، فاستأذنته في أن آتي معي ببعض الأصدقاء،


الصفحة 45

ممّن يروم جلسات الحوار وتبادل الأفكار والنقاش العلمي في المسائل التي لها علاقة بالدين.

ومن الغد جئت ومعي مرافقان، وبدأ المجلس الأول بالمراجعة الأولى، ثُمّ الثانية، ثُمّ الثالثة حسمت بالنسبة لي مسألة الاتباع والأحقية، باعتبار أنّه لا دليل على رجحان المذاهب في مقابل خط الإسلام الصحيح الذي يمثله أهل البيت (عليهم السلام) ، لا من حيث تقليد الناس لهم؛ لتأخره عن القرون الثلاثة الأولى التي عاش فيها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، ودلّ أخذ مالك وأبا حنيفة العلوم عن الإمامين (محمّد بن علي بن الحسين بن أبي طالب الملقب بباقر العلوم وابنه الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليهما السلام))، على أنّ الناس كان توجههم إلى الأئمة الهداة بلا فصل، ممّا دفع بالأنظمة الحاكمة في رقاب المسلمين ظلماً وعدواناً إلى اتخاذ إجراءات النفي والسجن في خصوص الأئمة (عليهم السلام) واتباعهم.

وإن كنّا قد ثبّتنا النصوص الخاصّة التي جاءت في الأئمة الهداة (عليهم السلام) فإنّ النصوص العامّة التي تحدّثت عن انقسام الأمة، والنصّ الذي قال فيه النبيّ (صلى الله عليه وآله): "لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحقّ لا يضرّهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله"(1). واضح الدلالة على أنّ الطائفة هي: (شيعة محمّد وآله الأطهار صلى الله عليهم)، لأنّه لم يثبت في غيرها حقيقة الإسلام الصافي النقي، وجلاء النصوص، وتميّز الخط بالعلم والحياة، والتضحية والفداء، والتقوى، بينما لم تأت بقية الخطوط بغير التنازع والاختلاف، ولم تقدّم عن الإسلام صورة واضحة ونظيفة .

____________

(1) صحيح مسلم 6: 53، كتاب الإمارة ، باب قوله2: لا تزال طائفة من أُمّتي، المستدرك للحاكم 4: 449، السنن الكبرى للبيهقي 9: 226، فتح الباري لابن حجر العسقلاني 13: 74، وغيرها من المصادر الأُخرى الكثيرة .


الصفحة 46

وتوالت الجلسات والمراجعات إلى أن حصلت لدي قناعة بأنّ الحقّ لا يمكنه أن يحيد عن أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله)؛ لما توفر من نصوص حاسمة وواضحة وجلية لمن ألقي السمع وهو شهيد .

ولم يمرّ عليَّ يوم وتطوي الظلمة فيه سدولها إلاّ وقد ازددت يقيناً بأحقية هؤلاء الأطهار في قيادة الأمّة الإسلاميّة، وتحقيقاً للنصوص التي كان السيّد المجاهد عبد الحسين شرف الدين الموسوي يقدّمها للشيخ سليم البشري، شيخ جامع الأزهر في ذلك الوقت، كنت أعود إلى مراجعة تلك الأحاديث بما توفّر لديّ من مراجع كفتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني وجامع الأحاديث لمسلم النيسابوري، وزيادة للاطمئنان كنت أذهب إلى المكتبة العامّة بالمدينة عند فقد المراجع التي لا توجد عند الشيخ مبارك.

ولعلّ هذا أبلغ ما يمكن أن يحتج به: أن يأتي صاحب الاحتجاج بحجته من كتب الطرف الآخر، ولا أرى من وصلته الحجة فبقي في مستنقعه إلاّ لئيماً خبيثاً أو جاهلاً لا يعي شيئاً.

ومن خلال قراءتنا للمراجعات كانت تتوارد علينا من حين لآخر أسئلة واستنتاجات على هامش الموضوع المتناول، ففي السيرة مثلاً وبعد النظر في أبوابها تبيّن لنا أنّ هناك سياسة متبعة في تدوين السيرة، تعتمد على تجاهل الأحداث المتصلة بأهل البيت (عليهم السلام) ، وإن مرّ حافظ منهم على شيء من ذلك فمرور الكرام، وإلاّ لماذا يقع تجاهل مبيت الإمام علي (عليه السلام) على فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله)؟ ولا يُعطى المسألة حقّها الذي تستحق، بينما تقرع طبول التضخيم لصاحب الغار؟!


الصفحة 47

ولماذا تعفى هجرة علي (عليه السلام) بالفواطم كأنّما الحادثة في منتهى البساطة، والحال أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) مكث في قبا ثلاثة أيام ولم يدخل يثرب؟

ولماذا تعفى علاقة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعلي (عليه السلام) قبل البعثة وأثناء البعثة، وطيلة عمره الشريف، فلا نقرأ غير جاء النبيّ ومعه أبو بكر وعمر، والحقيقة غير ذلك تماماً، لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) ليس له وزير ولا أخ ولا صاحب لم تتغير علاقته به إلى أن مات غير علي (عليه السلام) .

لماذا تمرّ بطولات علي (عليه السلام) وأعماله العظيمة للإسلام من الباب الصغير، بينما تبنى الصروح لأوهام ما كان لها أن تجد طريقاً إلى الكتب الإسلامية لولا سياسة المكر والدهاء التي مورست على المسلمين دهراً طويلاً .

لا زلت أستشعر تلك الفرحة التي تملكتني، وأنا أقف على أعتاب علي وفاطمة - عليهما الصلاة والسلام - مدفوعاً بوصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي قال فيها: " إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي"(1). لا الحديث المحرَّف الذي كان مالكاً أوّل ناقليه:

____________

(1) حديث الثقلين من الأحاديث الصحيحة، بل المتواترة التي اتفقت عليها الأمّة الإسلامية جمعاء، وقد ورد بصيغ وألفاظ مختلفة، وإن كانت النتيجة التي يحملها في طياته واحدة وهي: اتباع الكتاب وأهل بيت النبيّ2، والذين حددهم الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) بحديث الكساء والاثنى عشر، وارجع لحديث الثقلين في المصادر التالية: صحيح مسلم 7: 123، كتاب الفضائل، باب فضائل علي(رضي الله عنه)، السنن الكبرى للبيهقي 2: 148 و 7: 31، مجمع الزوائد للهيثمي 5: 220، صحيح الجامع الصغير للألباني 1: 482، مسند أحمد 16: 28 تحقيق أحمد حمزة الزين ، المستدرك للحاكم 3: 109 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله"، البداية والنهاية لابن كثير 5: 228، وقال: "قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي صحيح"، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4: 357، وقد ذكر الكتب والمصادر التي أوردت الحديث وصححته.


الصفحة 48

" كتاب الله وسنّتي "(1)، لأنّ الخلاف ليس في السنّة وإنّما فيمن ينقل عنه، ولعل عدم اطمئنان مالك لصحّة سنده جعله ينقله بلاغاً. وقوله (صلى الله عليه وآله) أيضا: " إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق"(2). بحيث لم يترك هذا المثل الذي ضربه النبيّ (صلى الله عليه وآله) على ذي وجهة وجهته، فالحالة التي وصفها النبيّ (صلى الله عليه وآله) والتي ألمّت بالأمة هي طوفان كطوفان نوح، وحيث لا جبل يعصم من الماء غير سفينة أهل البيت (عليهم السلام) ، فمن ركب السفينة فقد نجا من الغرق في متلاطم الفتن، وغياهب التحريف والضلالة، ومن أحجم عن الركوب ذهبت به مذاهبه في أبحر الغي والجهل كما يقول الشافعي.

يومها فقط فهمت أنّ السنّة التي هي بيان لكتاب الله تعالى لا يمكن أن تترك للناس يفعلون بها ما يشاؤون، وفهمت أنّ الإمامة ليست حكراً على الصلاة فقط، بل إنّ منصبها جسيم وخطير؛ لأنّها في الحقيقة تجسيد للدين، ومثال حي لكل ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله)، وحاجة الناس على اختلاف عقولهم وتباين أفئدتهم في أن يكون لهم مثال ونموذج يهتدون به ويقتدون بشخصه.

لم يكن للوقت الذي نقضيه في جلساتنا وزن ولا قيمة، طالما أنّه يحمل إلينا في كُلّ جلسة هدياً جديداً وعلماً حقيقياً لا غبار عليه ولا تزوير فيه، كانت كُلّ النصوص التي استدل بها السيد صاحب (المراجعات) من كتبنا ومن صحاحنا، فلم نستطع ردّها، ولا أمكن مجارات التستر على مضامينها، على طريقة سدّ عين الشمس بالغربال المعتمدة عند وعاظ السلاطين الذين

____________

(1) راجع ميزان الاعتدال للذهبي 2: 302.

(2) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2: 785، المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503، استجلاب ارتقاء الغرف للسخاوي 2: 484.


الصفحة 49

نهلنا من مائهم الآسن دهراً، فلم نجن منهم غير الخيبة والبعد عن الله تعالى، واتباع مسالك الظلم والظالمين الذين عملوا طويلاً في منظومتنا الإسلامية تحت مظلة التسامح وغطاء الطاعة العمياء، ولكن هيهات أن يستمر مسلك الشيطان في غواية من في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

حتى أشباه المشايخ والعلماء الذين كان يقصدهم البعض تثبيتاً لما وصل إليه من أدلة عقلية ونقلية، لم يكن في حوزتهم ما يدرؤون به عن مذاهبهم، ولا تركوا انطباعاً حسناً لمن قصد مجالسهم، وأذكر في هذا الخصوص أنّ إمام مسجد الصحابي أبي لبابة الأنصاري بمدينة قابس كان يلقي درساً بعد صلاة المغرب حتى صلاة العشاء (ساعة ونصف بين الصلاتين) في الفقه، سأله أحد الحاضرين عن الذين يمسحون أرجلهم في الوضوء، فثارت ثائرة الرجل، وتوعد من الغد أنّ يأتي بالدليل على أن حكم الرجلين هو الغسل في الوضوء.

لم أكن حاضراً ذلك اليوم، لكنّني علمت عشيّة اليوم التالي من الشيخ مبارك الذي أعطاني الجزء الأول من كتاب فقه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) للشيخ محمّد جواد مغنية، وطلب منّي أن أذهب لحضور الدرس ومناقشة إمام الجمعة بخصوص حكم الأرجل في الوضوء، دفاعاً عن الحق، وتقوية لوضع الإخوة المستبصرين الجدد، فما كان منّي إلاّ أن قصدت المسجد المذكور، فصلّيت فيه المغرب، وجلست أنتظر قدوم الإمام، لم يدم انتظاري طويلاً إذ جاء الرجل يحمل قفة من الكتب، وما أن وصل إلى المكان الذي يلقي منه درسه حتى وضع القفة وجلس، ثُمّ انطلق يقرأ حكم غسل الرجلين من كتب التفسير التي جاء بها معه في القفة، كان يردّد بعد كُلّ كتاب تناوله: هذا ما قاله الطبري في تفسيره، هذا ما قاله الرازي في تفسيره، هذا ما قاله القرطبي في


الصفحة 50

تفسيره، هذا ما قاله ابن كثير في تفسيره...

وما إن انتهى الرجل من استعراضه للحجج القائلة بالغسل، رفعت يدي طلباً للكلام، حتى انبرى قائلاً: أقم الصلاة، فصلّيت وراءه مع من صلّى، ولمّا فرغنا من الصلاة والتعقيب، تقدمت إليه وهو يستعد للخروج، ولا مفرّ له من أن يستمع إليّ وهو محاط بكوكبة من المصلّين، فقدمت له الكتاب، فلم يتمالك من التأخر خطوة إلى الوراء قائلاً: أنا مكتف بما عندي.

فقلت له: سبحان الله، إنّ الذي قدّمته لك كتاب فقه لإمام من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أقرّ له الجميع بالفضل والأعلمية، ودرس من درس على يديه علوم الدين، منهم الإمام مالك بن أنس صاحب مذهبك وأبو حنيفة وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكرهم.

ولما أصرّ الرجل على موقفه وامتنع من تناول الكتاب حضرني سؤال على البداهة فقلت: أتسمح لي بسؤال؟

فقال: تفضل.

فقلت له: باعتبار أنّ مذهبكم والذي كنت منتمياً إليه يجوز المسح على الخفين والجوارب حال السفر، فهل يجوز لي أن أمسح على القفاز في إحدى يدي؟

لم يكن إمام المسجد ينتظر سؤالاً كالذي ألقيته عليه، لذلك لم يتمالك من القول بأنّه لا يدري ما يقوله لي.

فقلت له: أنا أقول لك إنّه لا يجوز؛ لأنّ حكم اليدين هو الغسل، فلا يمكن مسحهما، وجوز فقهاءك المسح على الحائل في الرجلين باعتبار أنّ الحكم الأصلي هو المسح لا الغسل، كما إنّني ألومك - أيّها الشيخ - لأنّك لم تقرأ


الصفحة 51

للناس أقوال العلماء بخصوص مسح الرجلين في الوضوء من نفس الكتب التي قرأت منها.

تحرّج الرجل من كلامي فأنهى الحوار الغير متكافئ بقوله: إن كنت مقتنعاً بالمسح فإمسح.

وكان ردّي قاسياً ودون إرادة منّي: لست محتاجاً إلى تزكيتك ورأيك حتى أستمر في منهجي التعبدي .

ليلتها خرجت من المسجد وأنا في قمة الرضا وفي تمام اليقين بأنّ الإسلام الحقّ ليس له مكان ولا وجهة غير البيت الذي أذهب الله تعالى عنه الرجس وطهّره تطهيراً.

إمام من أئمة أهل السنّة في المنطقة يكتم الحقّ ويتستر على أقوال من أجل نصرة الرأي الذي تبناه طيلة حياته، كأنّما يرفض الإذعان للحق، وقد عرف الرجل فيما بعد بموالاته للوهابية، ذلك لأنّ ابن عمّه الدكتور كان من الذين تفسحوا في الحجاز وجمعوا البيترودولار ما شاء لهم أن يجمعوا.

وأذكر أيضاً أنّ أحد أقارب الرجل قد اقتنع بأحقية أهل البيت في إمامة الأمة، فأراد أن يكشف جزءً من الحقيقة للإمام والمسألة التي أثارها هي رزية الخميس، مستدلاً بها من البخاري، فاستنجد الإمام بالدكتور ابن عمّه، وكانت المفاجئة في أنّ الدكتور أنكر وجود الرواية في البخاري (في الحقيقة أخرج البخاري أكثر من طريق لتلك الحادثة الأليمة).

ولمّا قدم إليه المحتج البخاري وقرأ الرواية لم يتمالك من القول: وأنت أصبحت منهم؟

وانطلقت مع الشيخ في حملة دعوية رغم قلّة الكتب والمصادر، وبإمكاناتنا


الصفحة 52

الخاصّة وبعون الله تعالى انتشر التشيع في ربوع تونس من الشمال إلى الجنوب بعد أن كان محصوراً في مدينة قفصة فقط، وبين عدد لم يتجاوز العشرة أفراد .

لمّا التقيت بهم مع الشيخ مبارك في بيت أحد الفضلاء - حفظه الله تعالى ورعاه - وفي فترة وجيزة تمكنّا من إيصال التشيّع إلى الجامعة، ومنها انطلق يحشد الموالين للحقّ وأهله، لم يكن لنا التأثير الذي تركته الثورة الإسلامية المباركة في إيران، فكلّنا كان يحتمي بإشعاعها ويقدمها على أنّها العنوان المادي الذي يؤكّد صحّة الدعوى التي أطلقناها، كما كان حزب الله في لبنان وانتصار ثلّته المؤمنة على العدو الصهيوني، وقناة المنار الفضائية وقناة سحر معها، المادة التي بها توسع التشيع في تونس، ذلك أنّ الناس ملت الوعود الفارغة، وسئمت من أصحاب المنابر الجوفاء، بحيث لم يعد لهم متسع من الوقت ليستغرقوا في أحلام لا يسفر ليلها عن صبح الحقيقة وبلوغ الغاية التي يصبو إليها كُلّ مسلم غيور على دينه، فرأى المتكلّمون منهم والمتحيرون ومن بداخلهم حمية لا تطفأ على الدين وأهله أنّ النموذج الحقّ والمثال الصادق حل بأفقهم، فبادروا إلى الإقرار به، والالتزام بمنظومته، والسعي قدر الإمكان إلى نشره بين المسلمين ولم يبق لنا من عمل، غير التوجيه والإرشاد والإجابة على بعض الإشكالات التي كانت تطرح من حين لآخر هنا وهناك.

لم تجد قيادات حركة النهضة بداً من محاربة ذلك المد العقلاني في صفوف المتدينين في تونس، فسعت بما توصّلت إليه من إمداد وهابي إلى محاربة تلك الظاهرة الفتية، فروّج قياداتها كتاب الثورة البائسة لموسى الموسوي وكتب إحسان الهي ظهير (الشيعة والقرآن) وغيرها من الإصدارات


الصفحة 53

التي لا تحمل بين طياتها غير السراب والكذب والبهتان والدعاية المغرضة، ورغــم أنّ كُلّ تلك الإصدارات قد وقـع الردّ عليها من طرف العلماء الأجــلاء - رضوان الله تعالى عليهم - ولم تكن بحوزتنا، فقد كنّا متيقنين من ثبات موقفنا وسلامة طريقنا، لأنّه طريق الطاهرين من آل محمّد - صلى الله عليهم جميعاً - ، فلم تحرّكنا تلك الشطحات، بل زادت من عزيمتنا في المضي قدماً من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أفراد هذه الأمة المستخف بها.

وجاءت كلمة زعيم حركة النهضة إجابة على سؤال طرح عليه بخصوص ظاهرة التشيع في تونس فقال: لقد أعلمنا السلطة بحقيقة الشيعة، ولا بدّ من التصدي لهذه الظاهرة، لأنّه ليس لها مكان في شمال أفريقيا!

والكلام مسجل على الرجل في شريط منذ أن نطق به .

لقد كان يرى أنّ الشيعة والتشيّع قد قضي عليهما في مجازر جماعية في أواسط القرن الخامس على يدي من أسموهم بقادة حركة الإصلاح وزعماء الاعتدال، وما هم في الحقيقة غير عصابة من المجرمين المنفذين لرغائب أعداء الله تعالى، وقتلة الأنفس المحترمة بغير وجه حق، وعليه فلا عودة للتشيّع بعد الإبادة .

كأنّما يريد القول بأنّ تلك الظاهرة قد ماتت ولفتها بطون كتب التاريخ بدون ذكر ولا إشارة إلى خطورة ذلك الجرم المقترف في حقّ أصحاب رأي هم أحرار في النهاية بتبنيه والاعتقاد به، وعليه فإنّ عودة التشيّع من جديد إلى هذه الربوع يعتبر شذوذاً يجب التصدّي له، فدعا الرجل إلى قمع الفكرة من وضع القمع الذي هو مسلط عليه، فهل في ذلك عقل وتعقّل؟

أمّا تصوّره بأن التشيّع لن ينجح في تونس، باعتباره حالة غريبة عن تقاليد


الصفحة 54

البلاد، مقايساً صعوبة نقل السنّي المالكي من التقليد الأعمى المنغلق إلى الانفتاح على الأفكار ومجاراة العصر، فالحاصل الآن يفند قراءته، ويؤكد أنّ الفكرة الصائبة تنمو في كُلّ مكان حتى لو كان جدباً.

أمّا ادعاؤه بأنّ عقائد الشيعة فاسدة، فإنّ الكلام ليس كلامه وإنّما هو متبع في ذلك لأقوال من سبقوه كابن تيمية وابن الجوزية. آثر إتيان البيوت من ظهورها، فضل وأضلّ.

لم تكن مسألة الإمامة التي عليها مدار الخلاف الجوهري بين الفريقين لتحجب عنا بقية العقائد وخصوصاً التوحيد والنبوّة، فكان كتاب دلائل الصدق الموسوعة التي أعطتنا التصور الصحيح لمعاني التوحيد، بعيداً عن شرك بقية الفرق في اعتقاد أنّ صفات الله تعالى هي غير ذاته، وتجسيم المولى بالادعاء عليه بأنّ له أعضاء وجوارح، ونزوله إلى السماء الدنيا، ووضع رجليه في النار، ورؤيته يوم القيامة، والاعتقاد بقدم القرآن .. وغير ذلك من الشطحات التي لا تقف على دليل سليم.

كما في نبوة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) خلاف، فمن ينتسبون لسنته يعتقدون بعدم عصمته في ما عدا الوحي، بينما يعتقد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ومن ورائهم شيعتهم بعصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله) مطلقاً ودون تخصيص، ذلك أنّ حياة المصطفى كلّها تشريع ووحي، وهي بالتالي محكومة بملكة العصمة التي لا مناص منها لتحقيق الثقة والتسليم لدى الناس في تلقيهم من النبيّ (صلى الله عليه وآله).

أذكر كذلك في بداية تشيعنا أننا وفي إطار حملتنا الدعوية قد فتحنا باب الحوار والنقاش مع كُلّ الشرائح الإسلامية المتواجدة على الساحة الداخلية، غير أنّ أطرف ما يمكن ذكره هنا أنّ أحد قيادات حركة النهضة قد استنجد


الصفحة 55

بأحد عناصر حزب التحرير لمواجهتنا وإفحامنا، وقد كنّا ناقشنا قبل ذلك قياداته، أذكر منهم: الأستاذ (محمّد سعيد) الذي كان منغلقاً جداً على كتابات شيخه تقي الدين النبهاني، أعطيناه كتاب الغدير للشيخ الأميني فلم يقرأه، وإن بحث فيه فعن سابق نيّة بعدم قبول شيء منه؛ لأنّه بعد ذلك جاء ليستنكر وجود نجمة سداسية بين صدر وعجز الأبيات الشعرية في الكتاب، ولسان حاله يردد أنّ اليهود يقفون وراء هذه الكتب!!

فقلت له هذا ما وجدت من عيب في الكتاب، وهو ممّا لا يعاب عليه الكاتب! ثُمّ إنّ النجمة الخماسية والسداسية والسباعية والثمانية وغيرها أشكال هندسية لا علاقة لها بالعقيدة، وإن نسبت السداسية للنبي داود (عليه السلام) فليس فيها ما يعيب كاتباً ولا كتاباً ولا مطبعة.

كانت المناظرات مع ذلك الرجل رتيبة ثقيلة، لأنّه لم يترك لنا مجالاً لمقارعة الحجّة بالحجّة، والدليل بالدليل، والبرهان بالبرهان، ليس لديه غير ما قاله النبهاني، حتّى أنّه تجرّأ ورد حديث الغدير واعتبره موضوعاً وأنّ الحادثة من اختلاق الشيعة، لأنّ علياً (عليه السلام) كان باليمن ولم يلحق بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى الحج!!

وهو من خلال كلامه ذلك ناقل لما كتبه النبهاني في كتابه (الشخصية الإسلامية)، باب (الشرع لم يعين خليفة).

وكانت إجابتنا أن أصحاب السير والتاريخ كُلّهم قد أجمعوا على وقوع الحادثة وصدور الحديث من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وموافاة علي (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله) في حجّة الوداع، وحجّه لتلك الحجّة قارناً كحجّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بينما حج بقيّة الناس حج تمتع، وذلك القرآن يفيد معانٍ عدّة منها: أنّ النبوة والإمامة مقامين مقدسين في الأمّة يجب وضعهما موضع الطاعة المطلقة والولاء الذي لا


الصفحة 56

يخالطه شك في ارتباطهما ببعضهما من حيث التكليف الإلهي المتمثل في الحفظ والتطبيق.

ولما جابهنا الأستاذ بحجج حضور علي (عليه السلام) لحجّة الوداع، وظهر كذب النبهاني، تظاهر بتسجيل تلك المعلومة، لمزيد البحث ولا أراه فعل ذلك.

وقد وجدت في إحدى المكتبات المحسوبة على حركة النهضة بمدينة قابس عدداً من الكتب التي تتهجّم على التشيّع وعلى الثورة الإسلامية في إيران، فما كان منّي إلاّ أن توجّهت باللوم إلى أحد القيادات المعروفة، وكان متواجداً في تلك اللحظة، فما كان منه إلاّ أن أمر البائع بسحب الكتب، لكنّني لما عدت في اليوم التالي وجدتها معروضة من جديد .

أجمل الذكريات التي لا تزال عالقة بذاكرتي - ولن تنمحي يوما - إنّني في بداية تشيّعي سنة1981 رأيت في منامي أنّ في يدي رسالة من الإمام علي (عليه السلام) أحملها وأنا داخل إلى بيت الله الحرام لأسلّمها إلى صاحب الزمان الإمام المهدي - عليه السلام وعجّل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه - جعلني الله وإيّاكم من جنده وأنصاره وأعوانه والمستشهدين بين يديه.

فكانت تلك الرؤيا دافعا كبيراً وحافزاً على مزيد العمل والبذل من أجل إعلاء كلمة الله تعالى.

وإنّني إن نسيت شيئاً فإنّني لن أنسى أخي وحبيبي ورفيق دربي عبد الله السويلمي الذي كان رجلاً قلّ أن التقيت بمثله في حياتي، الذي سهّل عليَّ استبصاره، هو انقياده لفطرته وعيشه في الحياة بدون أدنى زينة .. كان تلقائياً بما في الكلمة من بعد، وكان إنساناً بما في اللفظ من معنى، تعرّفت عليه في عملي، فلم أتمالك من الاقتراب منه والتودد إليه، وكانت استجابته أسرع،


الصفحة 57

فاتخذته صديقاً وأخاً، أردت منذ البداية أن أعرّفه بإسلام أهل البيت (عليهم السلام) ، فوجدت في داخله مخزوناً خاماً لروح التشيّع، ومكمناً في ثنايا وجدانه لمعانيه السامية، وجدت ذلك كله لديه ولكن بلا مسميات ولا عناوين، ممّا سهّل عليَّ عملية إخراج ما يختزله من قيم ومعانٍ، وإعطائها العنوان الذي تقبله بكل فرح وسرور، ومن اليوم الذي حدثته فيه عن أهل البيت (عليهم السلام) ، كانت رؤاه وأحلامه تصب في إطار واحد، لقد كان عبد الله يعيش جزءاً من ليله مع أعداد كبيرة من أصحاب العمائم السود والبيض، وفي اليوم التالي يأتيني منشرحاً ليحكي لي حلمه الجميل والرائع.

رجل حمل الصدق في قلبه وانطلق في هذه الدنيا غريباً يبحث عن رفيق يقاسمه الصحبة والطريق، لم يجد غيري في وحشته على هذه الحياة الفانية، ولم أجد غيره مؤمناً خالصاً لله تعالى، وكان له الأثر البالغ في تشيّع ثلة مؤمنة بإحدى جهات الجنوب الغربي التونسي، أسأل الله تعالى له ولكُلّ مؤمن الفرج وقبول الأعمال ومرافقة محمّد وآل محمّد دنياً وآخرة.

لعلّ أطرف ما يمكن ذكره هنا: أنّني في إحدى سفراتي إلى إحدى مدن الجنوب التونسي، مرفوقاً بالشيخ أو وحدي، حصلت نادرة وجب ذكرها للإخوة، تمثّلت في أن الشخص الذي كنا نذهب إليه لدعوته كان يقبل منّا الحديث والكتب، ويظهر إصغاء يعبر عن قناعة تامة بكُلّ ما نحدّثه به، والأخ الكريم وإن لم يحصل لديه في واقع الأمر يقين كامل بصحة كُلّ ما ننقله إليه، فإنّه كان مقتنعاً ببعضه على الأقل، الأمر الذي جعله يفاتح أحد أقاربه من كبار السن، ذلك الرجل لم ينم ليلته تلك وبات متقلباً على فراشه إلى أن قارب الفجر عندها أحسّ بيد توقظه، وصوت يناديه قائلا: " قم فإنّ أهل السنّة على باطل " .


الصفحة 58

وما إن انبلجت تباشير الصباح حتى هرع الشيخ إلى قريبه، راوياً له ما وقع في الليلة السابقة، مختتماًُ قوله: علّمني الآن فقه أهل البيت (عليهم السلام) في الوضوء والصلاة، لتكون عبادتي صحيحة، وموالاتي لهم تامّة، فكان ذلك الدافع والحافز لتشيّع الأخ الثاني.

وكان الابتلاء أسرع إليّ من أيّ شيء تصديقاً لقول الإمام علي (عليه السلام) عندما جاءه رجل فقال له: إني أحبك يا أمير المؤمنين .

فقال له: " استعد للبلاء جلباباً ".

فقد تمّ اعتقالي ثلاثة مرات تحت عناوين مختلفة، ووقعت مداهمة بيتي بحجّة التفتيش والتثبت، وأخرجت من عملي بدعوى إعادة هيكلة المؤسسة، والحقيقة تقول غير ذلك، فأحمده تعالى على السرّاء والضرّاء وأفوّض إليه أمري، وألجئ ظهري، وأسأله تعالى أن يلهمني في مواقف الشدّة والبلاء صبراً، إنّه سميع مجيب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلّي العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.


الصفحة 59

التوحيد بين تنزيه أهل البيت (عليهم السلام)
وتشبيه غيرهم

المقدّمة

يمثّل التوحيد في العقيدة الإسلامية رأسها ودعامتها، ومن دون توحيد سليم قائم على معرفة صحيحة لا يكون البناء العقائدي قوياً وثابتاً لدى الفرد المسلم، لذلك حثّ المولى سبحانه وتعالى مخلوقاته العاقلة على الأخذ بأسباب العلم، لبلوغ الغاية من المعرفة في التوحيد وفي سائر العقائد الإسلامية الأُخرى، فقال في محكم تنزيله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ} (1)، وقال ـ أيضاً ـ : {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (2) .

فالآيتين تشيران إلى أنّ العلم هو الطريق الوحيد والمسلك الرشيد لبلوغ أركان العقيدة وأعلى مراتب التوحيد، لذلك لم يجز على المسلم أن يكون مقلّداً في التوحيد وفي سائر العقائد، ووجب عليه أن يسلك من أجل تحصيل العلم بذلك سبيل البحث والتأمّل، تثبيتاً لدعائم الإيمان، وتزكية للفطرة التي فطر الخلق تعالى الناس عليها.

وطبيعي أن ينتهج الناس في قناعاتهم وانتماءاتهم العقائدية كُلّ طريق

____________

(1) محمّد: 19.

(2) آل عمران: 18.


الصفحة 60

ممكن، تبعاً لما ألزموا به أنفسهم، ووطنوا عليه عقولهم وأفئدتهم، لذلك فإنّك قد لا تجد مخلوقين متساويين في المعرفة - عموماً - وفي إدراك كنه الخالق - خصوصاً - وتوحيده، كما جاء في الأثر: " الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق "(1). على أنّ هنالك حداً أدنى لا تستقيم العبادة إلاّ به، ولا يقبل المولى تعالى إلاّ ببلوغه، وهو أن لا تطرأ على الفطرة التي فطر الناس عليها شيء من التبعيّة أو التقليد السقيم الذي ابتليت به الأمّة.

وحسب قراءتي للحقبة الأولى من تاريخ الإسلام فإنّه لم تنشأ في المسلمين فرقة تبنت رأيا شاذاً عن المسار العام للعقيدة، إلاّ ما صدر من تساؤل حول القضاء والقدر، والذي أوجد الإرجاء المزكى من طرف حكومات بني أميّة، التي مارست الظلم والقهر في أبشع مظاهره، ثُمّ كتبرير لتلك المظالم نسبتها إلى الله تعالى، أرجأت بذلك محاسبة مقترفيها إلى يوم القيامة.

نعم، قد كان هناك خلاف حول مسألة الإمامة الكبرى هل: هي من مشمولات الباري تعالى كالنبوة أم أنّها تخص الناس، لهم وحدهم الحقّ في اختيار من يحكمهم بعيداً عن الوحي وأحكامه؟

وقد أثّر ذلك الخلاف في وحدة المسلمين وتماسكهم، فانقسموا، وظهرت عليهم أعراض الضعف والوهن، وخرجت من بينهم فرق إسلامية المظهر، منحرفة الجوهر.

وزاد في تعميق الانحراف وتأصيل الاختلاف إصرار أنظمة الظلم والجور على التمادي في تغريب الأئمّة الشرعيين والقادة الهداة الربانيين عن الأمّة، وفصلهم عن دورهم بالسجن والإقامة الجبرية، وقتلهم صبراً أو دسّ السُّم لهم

____________

(1) مقولة ذكرها الحكماء، راجع شرح الأسماء الحسنى للسبزواري: 245.


الصفحة 61

غيلة وغدراً، ومقابل ذلك سعت إلى تشجيع أشباه علماء وفقهاء بلاطاتها، فخرجوا للناس بتصورات بعيدة عن الدين، تخدم مصالحها وتشد ازر سلطانها، محرمة الخروج عليها وملزمة الناس باتباعها، فأخذها العامّة وعملوا بها، والناس على دين ملوكهم.

وكان أشد للدين ضرراً من ذلك المنحى الجانب العقائدي، وباعتبار أنّ صحّة الدين متعلّقة بصحّة المعتقد، فقد كان توجه المناوئين للدين والدخلاء عليه للإيقاع به من ذلك الباب، فنجحوا في التمويه على جم غفير من المسلمين بوضع أحاديث نسبوها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واختلاق تأويلات غريبة لكثير من الآيات القرآنية، فأخذ جانب من المسلمين تلك المرويات أخذ المسلم بصحة صدورها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتعبدوا بها، وتقربوا بها إلى الله زلفى، وهم يعتقدون صدورها عن الوحي والنبيّ (صلى الله عليه وآله)، فلم تزدهم من الإسلام الحقّ إلاّ بعداً وانحرافاً، وعن المولى تعالى إلاّ تنكّباً وانصرافاً.

وكيف يكون لهم حظ من معرفة صحيحة وقد بهتوا دينهم وقوضوا عقيدتهم بأخذها عن كُلّ من هب ودب، بعنوان صحابة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، تاركين الأولى بالاتباع، والأخذ عنهم، والتعلم منهم؛ لأنّهم الباب الذي أمروا بإتيانه والدخول منه إلى الدين الحق، وكُلّ من جاء من غير الباب فقد خالف أمر الله تعالى، وحتّى يتسنّى لنا إماطة اللثام عن تلك المعتقدات الباطلة، وينصرف بحثنا نحو وجهته الصحيحة لا بدّ من الانطلاق من البداية فنقول:

لا يختلف عاقلان في القول بأنّ خالق الكون والحياة موجود، وآياته وآثاره خير شاهد عليه، فإذا تأمّلنا في حالنا وما يحيط بها من أجرام وما يتخللها من حالات الطلوع والأفول، وما يحيط بها من هواء، ورياح وغازات


الصفحة 62

وسحاب، وأمطار وجبال وبحار، وما بث فيها من الذرات إلى أعظم المخلوقات؛ لعلمنا أن خالقها مبتدع الكون كُلّه، ظهر ببديع صنعه لخلقه فلا شيء أجلى من آثاره، وليس أدّل منها على وجود المؤثر وعظمته.

ولو أمعنت الفكر في السماء ومن بناها، وزينها بما يصل إلى بصرك من ضوء كواكبها، منها ما قد يكون اندثر قبل وصوله إليك، ومن أمسك تلك الكتل العظيمة في مواقعها، وأجرى لها مجاري ثابتة ومتحركة، وما استقرت عليه قدماك من فلك الأرض، من يمسكها بقدرته ويجريها بألطافه ورحمته، هل تحس لها من حركة وهي تدور حول نفسها في اليوم والليلة بسرعة تفوق الألف والستمائة كيلومتر في الساعة!! غير سرعتها التي حول الشمس، فسبحان من لطف السرعة، وخفف الكثافة، وشدّ إليها ما ليس مركوزاً فيها.

والمتأمّل في خلق نفسه كيف لم يكن شيئاً ثُمّ أودع في الأصلاب، وقرّ في ظلمات ثلاث، نطفة امتزجت ببويضة، فصارت علقة، ثُمّ تحولّت إلى مضغة، ثُمّ تكوّنت عظاماً، ثُمّ كسيت لحماً، فتبارك الله أحسن الخالقين.

وفي اختلاف الخلق آيات للعالمين، منهم: من جعل له شهوة بلا عقل، ومنهم: من جعل له عقلاً بلا شهوة، ومنهم: من أودع فيه العقل والشهوة، وميّزهم على بعض، فقدّم من أودع فيه الشهوة والعقل لتكون صفوته المفضلة على جميع مخلوقاته، منهم: الظاهر، ومنهم: المستتر، ومنهم: من يمشي على قدمين، ومنهم: من يمشي على أربع، ومنهم: من يزحف على بطنه، ومنهم: الطائر في الجو، تعدّدت مخلوقاته وتنوعت أصنافها، فتبارك خالقها وجلّ مبتدعها.

قال تعالى: { وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً


الصفحة 63

وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِلْعالِمِينَ * وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} (1).

وإيمان المخلوقات بوجود الخالق فطري أودعه فيها، ليكون منطلقا للمعرفة وأساسا لها.

قال تعالى: { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها } (2) قال الإمام أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) في تفسير معنى الآية: " فطرهم على التوحيد "(3) .

وذلك الإيمان الفطري يشمل جميع الكائنات العاقلة وغير العاقلة، حتى الجمادات التي لا نتصور فيها حياة، توحد الخالق وتعبده وتسبّحه، قال تعالى: { وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ } (4) وقال أيضا: { وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }.(5) وقال أيضا: { وَإِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (6).

____________

(1) الروم : 20 - 25.

(2) الروم : 30 .

(3) الكافي للكليني 2: 13، التوحيد للشيخ الصدوق : 329، مختصر بصائر الدرجات: 160.

(4) البقرة : 74.

(5) الأنعام : 38 .

(6) الإسراء : 44 .


الصفحة 64

ولم تكن الفطرة وحدها دالّة على الخالق سبحانه وتعالى، فقد جعل في خلقه أثراً موصلاً له، ثُمّ اصطفى منهم أدلاء عليه، جعلهم أبواباً إلى معرفته، وطريقاً إلى رحمته، وسببا لرضوانه، فمن تمسك بهم وعمل بهديهم، وعرفهم فعرفوه، فقد عرف ربّه حق المعرفة، ومضى إلى دينه على بصيرة من أمره، ومن حاد عنهم، واتبع املاءات أئمة سلاطين الجور، وإيحاءات فقهاء حكام الفجور، فقد جهلهم وجهلوه، ولم يهتدِ إلى سبيل الرشد وسبب النجاة، لم يعرف له رباً غير الوهم الذي صور له، يعبده فلا يجد له حقيقة.

وتوجه البشر نحو معرفة الخالق تعالى، كتوجه سائر المخلوقات العاقلة، كما في الحديث المأثور عن الأئمة الهداة - عليهم وعلى سيدهم أفضل الصلاة وأزكى السلام - : " إنّ الله قد احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وإنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه".(1)

وكُلّ ما علمناه من أصناف الملائكة وفرق الجان، وما لم نعلمه من مخلوقات الخالق الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، سالكون طريق المعرفة، باحثون عن كنه الخالق تعالى. وليس هناك كائن أقرب إلى تمام المعرفة وكمالها، بل وهو حائز على لبها وجوهرها، غير سيد الكائنات، ومجتبى الخلق من المخلوقات، أفضل من وحد، وسيد من عبد وحمد، إمام المرسلين أبي القاسم محمّد (صلى الله عليه وآله)، فعروجه إلى السماوات العلى، وبلوغه إلى ما قصر عنه روح القدس، دليل على أنّه لا يوجد مخلوق بلغ الغاية من معرفة الخالق غيره، ويتلوه شاهده ووزيره وأخيه في مرتبة المعرفة، أمير المؤمنين ووارث علمه وعلوم النبيّين، وقائد الغر المحجلين، ومن بيده الشريفة لواء

____________

(1) بحار الأنوار 66: 292، حق اليقين في معرفة أصول الدين للسيد عبد الله شبر 1: 97.


الصفحة 65

الحمد يوم الدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .

ولكي لا نقع فيما وقع فيه غيرنا من انحراف وزيغ عن أسس الدين وثوابته، وجب علينا الاقتصار في أخذ معالم الدين، عمن جعلهم المولى - سبحانه وتعالى - أبوابه والأدلاء عليه، والناظر في تراثهم يدرك حقيقة علومهم، وصدق ما ورثوه عن جدّهم، ويرى باقي المسلمين عيالاً عليهم.

ولو أنّ كُلّ المسلمين ثابوا إلى رشدهم من بهرج الظلمة، وسراب سنّة الصحابة، التي لا يزالون يعتمدون على مجملها، بما حوته من سقيم وموضوع، لوجدوا فيمن أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ملاذاً وعصمة؛ لأنّهم وحدهم من امتلك حقائق هذا الدين ظاهراً وباطناً، وإليهم رجع المنقطعون، وبهم نجا المتحيرون، كما كان شأن أصحاب القرون الثلاثة الأولى.

وفي هذه الدراسة دليل على أنّ من أوكل إليهم المولى أمر دينه، وأعطاهم ولاية أمر المسلمين، أحق بالطاعة والاتباع من مجهولي الحال، أو متعاوني أئمة الجور والضلال، فماذا قال أهل البيت (عليهم السلام) في التوحيد؟

وماذا قال غيرهم ممن ينتسب للإسلام انتساباً ويتخذ من مظهره جلبابا؟

هذه الحقيقة لم يكن من السهل على وارث للخط السني (الأشعري) مثلي أن يصل إلى فك رموزها، ومعرفة دقائق أمورها، لولا ألطاف الباري تعالى وعنايته لمّا أدركت طريق الهداية، ولما استمسكت بحبل الولاية، عندها تيقنت أنّ مسيرتي العبادية الأُولى كانت سراباً ووهما في شكل معرفة لا أثر لها على النفس، ولا رابطة، بينها وبين الرب تبارك وتعالى. ولما غصت في مصفى نبع علوم أهل البيت (عليهم السلام) ، بما فيه من عقائد وشرائع وعبادات وأخلاق،


الصفحة 66

وسير عطرة بمعاني الإسلام النقي الصافي، أيقنت بالنجاة، وانفتح قلبي وعقلي نحو آفاق رحبة من المعارف الحقّة لعقائد الدين وأحكامه.

إنّ المتأمّل في أمّهات كتب الإمامية الاثني عشرية، يلاحظ اهتماماً بالغاً ما انفك يوليه أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) لكل ما يتعلق بالدين عقيدة وشريعة، وقد جاء من آثارهم ما أظهره تصديهم لكُلّ دخيلة في الدين جاء بها متفيقه لم يحصل غير اللعق، حتى إنّهم كانوا يتحسسون مواضع الداء قبل استفحاله، فيولوه اهتمامهم ويمنحوه الأولوية في الإصلاح، ففي يوم معركة الجمل التي أبتلي بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقف يردّ على رجلّ من جنده عندما سأله قائلاً: أتقول إن الله واحد؟

فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابي، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : " دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم، ثُمّ قال: يا أعرابي إنّ القول: أنّ الله واحد على أربعة أقسام؛ فوجهان منهما لا يجوزان على الله - عزّ وجلّ - ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد، يقصد به بابّ الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنّه كفر من قال ثالث ثلاثة.

وقول القائل: هو واحد من الناس، يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه؛ لأنّه تشبيه، وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك.

أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد، ليس له في الأشياء شبيه، كذلك ربّنا عزّ وجلّ، وقول القائل إنّه ربنا عزّ وجلّ أحدي المعنى، يعني


الصفحة 67

أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا عزّ وجلّ" (1) .

ومن هذا النصّ نستشف أنّ أمير المؤمنين - سلام الله عليه - لم يكن في حروبه الثلاثة التي ألجئ إليها بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) مدافعاً عن مركزه كإمام للمسلمين، وإنّما خرج ليدفع عن الدين ما بدأ يعتريه من دخائل غريبة عنه وليست منه، فقوله (عليه السلام) : " دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم " دليل على أنّ وقائع الجمل وصفين والنهروان كانت كُلّها حروب تصحيحية، من أجل الحفاظ على نقاوة الإسلام المحمّدي النبوّة, العلوي الإمامة، مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وآله): " إنّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر، قال أبو بكر: أنا هو، قال: لا، قال عمر: أنا هو، قال: لا، ولكن خاصف النعل يعني علياً، وكان علي - سلام الله عليه - يخصف نعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الحجرة، قال أبو سعيد الخدري: فأتيناه فبشرناه، فلم يرفع رأسه كأنّه قد كان سمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)"(2) .

والتصفح لنهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام) يلاحظ تعدّد الخطب التي تحدث فيها عن الخالق عزّ وجلّ، مضمناّ إياها معالم التوحيد وأساس الاعتقاد السليم، سأقتصر منها على أربع خطب، ومن شاء المزيد فلييمم وجهه شطر البيوت التي أذن الله أن ترفع، وليقصد القرى التي قدّر فيها تعالى أمن الدنيا

____________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق: 83.

(2) أخرجه الحاكم في المستدرك 3: 123 واعترف الذهبي بصحة الحديث في تلخيصه ، مسند أحمد بن حنبل 3: 33 و 82، مجمع الزوائد للهيثمي 5: 186 و6 : 244 و 9: 123، السنن الكبرى للبيهقي 5: 154، مسند أبي يعلى 2: 341، صحيح ابن حبّان 15: 385، موارد الضمآن للهيثمي 7: 146، تاريخ الإسلام للذهبي 3: 643، الوافي بالوفيات للصفدي 27: 64، البداية والنهاية لابن كثير 6: 243 و 7: 338 و 398، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني مج5: 639.


الصفحة 68

والآخرة فإنّه حتماً سيجد سؤله، ويعتصم بحبل الله المتين وعروته الوثقى التي لا انفصام لها، وسيكون في حصن الله تعالى وحرزه، طالما أنّه قد اهتدى إلى أبرار الأمة، وهداة الدين ومستحفظي الشريعة، عدل القرآن وكرائمه.

يقول إمام المتقين وقائد الغر المحجلين صاحب لواء الحمد يوم القيامة في الخطبة الأولى:

" الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادّون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعدُ الهمم، ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حدّ محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه.

أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كُلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كُلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله - سبحانه - فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه، ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كُلّ شيء لا بمقارنة، وغير كُلّ شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده "(1).

____________

(1) نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) 1: 14، الخطبة الأولى.


الصفحة 69

ويقول (عليه السلام) في الثانية:

" الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور، ودلت عليه أعلام الظهور، وامتنع عن عين البصير، فلا عين من لم يره تدركه، ولا قلب من أثبته يبصره، سبق في العلو فلا شيء أعلى منه، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به، لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى الله عما يقول المشبهون به والجاحدون علّواً كبيراً "(1).

وقال (عليه السلام) في الثالثة:

" الحمد لله الذي أعجز الأوهام أن تنال وجوده، وحجب العقول عن أن تتخيل ذاته، لامتناعها من الشبه والشكل، بل هو الذي لا تتفاوت ذاته، ولا تبتعض بتجزئة العدد في كماله. فارق الأشياء لا باختلاف الأماكن، ويكون فيها لا على ممازجة، وعلمها لا بأداة لا يكون العلم إلاّ بها وليس بينه وبين معلومه علم غيره كان عالماً لعلومه. إن قيل: كان! فعلى تأويل أزلية الوجود، وإن قيل: لم يزل! فعلى تأويل نفي العدم"(2).

وقال (عليه السلام) في الرابعة:

" الحمد لله الذي لا من شيء كان، ولا من شيء كوّن ما قد كان، المستشهد بحدوث الأشياء على أزليته، وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه، لم يخل منه مكان فيُدرك بانيته، ولا له

____________

(1) نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) 1: 99، الخطبة 49.

(2) نهج السعادة للشيخ المحمودي 1: 49.


الصفحة 70

شبح مثال فيوصف بكيفيته، ولم يغب عن شيء فيعلم بحيثيته، مباين لجميع ما أحدث من الصفات، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات، خارج عن الكبرياء والعظمة من جميع تصرف الحالات، محرّم على بوارع ناقبات الفطن تحديده، وعلى غوامض ثاقبات الفكر تكييفه، وعلى غوائص سابحات النظر تصويره، لا تحويه الأماكن لعظمته ولا تدركه المقادير لجلاله، ولا تقطعه المقائس لكبريائه، ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه، وعن الأفهام أن تستغرقه، وعن الأذهان أن تمثله، وقد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم، ورجعت بالصغر عن السمو إلى وصف قدرته لطائف الخصوم.

واحد لا من عدد، دائم لا بأمد، وقائم لا بعمد، ليس بجنس فتعادله الأجناس، ولا بشبح فتضارعه الأشباح، ولا كالأشياء فتقع عليه الصفات.

قد ضلّت العقول في أمواج تيار إدراكه، وتحيّرت الأوهام عن إحاطة ذكر أزليته، وحصرت الأفهام عن استشعار وصف قدرته، وغرقت الأذهان في لجج أفلاك ملكوته، مقتدر بالآلاء، وممتنع بالكبرياء، ومتملك على الأشياء، فلا دهر يخلقه، ولا زمان يبليه، ولا وصف يحيط به وقد خضعت له الرقاب الصعاب في محل تخوم قرارها، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها، مستشهد بكلّية الجناس على ربوبيّته وبعجزها على قدرته، وبفطورها على قدمته، وبزوالها على بقائه، فلا لها محيص عن إدراكه إيّاها، ولا خروج من إحاطته بها، ولا احتجاب عن إحصائه لها، ولا امتناع عن قدرته عليها.

كفى بإتقان الصنع لها آية، وبمركب الطبع عليها دلالة، وبحدوث الفطر


الصفحة 71

عليها قدمة، وبإحكام الصنعة لها عبرة فلا إليه حدّ منسوب، ولا له مثل مضروب، ولا شيء عنه محجوب، تعالى عن ضرب المثال والصفات المخلوقة علوا كبيرا "(1).

إنّ المتأمل فيما أطلقه أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين، سيد من علم وعبد بعد النبيّ أبي القاسم محمّد - صلى الله عليهما كما هما أهل لذلك، وكلّما أوجب ذلك - يدرك حقيقة التوحيد الذي عليه هذا الرجل الذي لم يظلم أحد في التاريخ مثل ظلامته، ولو أنّك جمعت الشعراء والأدباء والخطباء والعلماء والفلاسفة من الأوّلين والآخرين على أن يأتوا بمثل أقواله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وتلك حقيقة أقرّ بها كُلّ من اطّلع على ما جمع من خطبه (عليه السلام) ، ورأى فيها ذخيرة لمن يسعى للمعرفة.

ومثلما سلك الإمام (عليه السلام) في الاستدلال على الخالق والتعريف به، بحيث لا يتطرق إلى أقواله تحريف أو تأويل، سلك الأئمة الهداة من بنيه (عليهم السلام) مسلكه في البيان والذب عن أركان التوحيد والدين، كلما سنحت لهم فرصة، فكانوا على مرّ العصور حماة الدين، ورعاة آثار وتراث الرسول (صلى الله عليه وآله) المبلّغ عن ربِّ العالمين بما استودعوه من علوم صحيحة، وأفكار متطابقة صريحة، سأقتصر منها على قلّة المراجع التي بحوزتي ما طالته يدي من مأثور أقوالهم، ومستصفى آرائهم التي هي امتداد لمركز النبوّة، وهدي من نور الإمامة، فهذا أبو عبد الله الحسين بن علي سيد الشهداء (عليه السلام) يقول في دعائه الشهير يوم عرفة، الذي أرهفت له آذان السامعين، وتحيّرت منه عقول الحاضرين، وهزّ نياط قلوب المؤمنين، بما حواه من سبحات القدس، ولواعج الأنس: " كيف يستدّل عليك بما هو في وجوده

____________

(1) نهج السعادة للشيخ المحمودي 2: 9.