الصفحة 72

مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟! ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك ولا تزال عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً"(1).

قوله (عليه السلام) : " عميت عين لا تراك" إشارة لطيفة إلى بصيرة النفس لا إلى بصر العين، لاستحالة رؤية المولى سبحانه وتعالى بالعين البصّارة.

وهذا علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) يقول في صحيفة دعائه المسماة بـ (الصحيفة السجادية): " الحمدُ لله الأوّل بلا أوّل كان قبله، والآخر بلا آخر يكون بعده، الذي قصُرت عن رؤيته أبصار الناظرين، وعجزت عن نعته أوهام الواصفين، ابتدع بقدرته الخلق ابتداعاً، واخترعهم على مشيئته اختراعاً، ثُمّ سلك بهم طريق إرادته، وبعثهم في سبيل محبته..." (2).

وتعدّدت أدّلة الأئمة من أهل بيت النبوّة (عليهم السلام) في إثبات وجود الخالق وبيان معنى صفاته، فجاءت متنوعة ومتفاوتة المعاني، على قدر عقول السائلين.

جاء رجل إلى الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) فقال له: " دلّني على معبودي؟

فقال له: اجلس، وإذا غلام له صغير في كفه بيضة يلعب بها، فقال له (عليه السلام) : ناولني يا غلام البيضة، فناوله إيّاها، فقال: يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة، ولا الفضة الذائبة تختلط

____________

(1) بحار الأنوار للمجلسي 95: 226، التفسير الصافي للكاشاني 1: 7.

(2) الصحيفة السجادية: 17.


الصفحة 73

بالذهبة المائعة، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها، ولا دخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدري أللذكر خلقت أم للأنثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبراً؟

قال فأطرق مليّاً ثُمّ قال: أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّك إمام حجّة من الله على خلقه، وأنا تائب ممّا كنت فيه"(1).

وقيل للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) : " يا بن رسول الله، ما الدليل على حدوث العالم؟

فقال له (عليه السلام) : إنّك لم تكن ثُمّ كُنت، وقد علمت أنّك لم تكوّن نفسك، ولا كوّنك من هو مثلك"(2).

وسئل أمير المؤمنين (عليه السلام) بماذا عرفت ربك؟

قال: "بفسخ العزائم، ونقض الهمم، لما هممت فحيل بيني وبين همّي، وعزمت فخالف القضاء والقدر عزمي، علمت أن المدبر غيري"(3).

وعن إثبات الصانع قال (عليه السلام) : " البعرة تدلّ على البعير، والروثة تدل على الحمير، وأثر القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة ألا يدلان على اللطيف الخبير؟"(4).

____________

(1) أصول الكافي للكليني 1: 80، التوحيد للشيخ الصدوق: 124، الاحتجاج للطبرسي 2: 72، بحار الأنوار للمجلسي3: 32.

(2) التوحيد للشيخ الصدوق: 293، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2: 123، الاحتجاج للطبرسي 2: 171.

(3) بحار الأنوار للمجلسي 3: 42، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 19: 84.

(4) روضة الواعظين للنيشابوري: 31، بحار الأنوار 3: 55.


الصفحة 74

وتفرّد الأئمة من أهل بيت النبوة (عليهم السلام) في الاستدلالات العقلية والأجوبة المنطقية في التوحيد وغيره من عقائد الإسلام، مضافاً إلى سبرهم لأغوار الوحي، ونيلهم العلوم الإلهية، ما فاض على اتباعهم معارف وحقائق جعلتهم على بصيرة من أمرهم وجعلت غيرهم من المتنكبين عنهم في حيرة يعبدون الله على حرف أو دونه.

وقد جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) في جواب الزنديق الذي سأله: لم لا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد؟

فقال (عليه السلام) : " لا يخلو قولك أنهما اثنان من أن يكونا قديمين قوييّن أو ضعيفين أو يكون أحدهما قوياً والآخر ضعيفاً؛ فإن كانا قويين فلم لا يدفع كُلّ واحد منهما صاحبه وينفرد بالتدبير؟

وإن زعمت أنّ أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنّه واحد - كما نقول - للعجز الظاهر في الثاني.

وإن قلت: إنّهما اثنان، لم يخل من أن يكونا متفقين من كُلّ جهة أو مفترقين من كُلّ جهة، فلمّا رأينا الخلق منتظماً والفلك جارياً، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر دليل على صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر، على أنّ المدبر واحد، ثُمّ يلزمك إذا ادعيت اثنين فلا بدّ من فرجة بينهما حتّى يكون اثنين، فصارت الفرجة ثالثاً بينهما، قديماً معهما، فيلزمك ثلاثة، وإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلنا من الاثنين حتّى تكون بينهما فرجتان فيكون خمسة ثُمّ يتناهى العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة "(1).

وعنه أيضاً (عليه السلام) عندما سأله هشام بن الحكم: ما الدليل على أنّ الله

____________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق: 244، بحار الأنوار 10: 195.


الصفحة 75

واحد؟ قال: " اتصال التدبير وتمام الصنع، كما قال عزّ وجلّ: { لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا } (1) .

وللإمام علي بن موسى الرضا ثامن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مناظرات واحتجاجات ودروس ومحاضرات في شتى العلوم الإلهية، تضمنت من الأجوبة الشافية والردود الوافية والقناعات الكافية ما ألجم أفواه المشككين، وأثلج صدور المؤمنين، وقصم ظهر الباطل، وأعاد الحق إلى نصابه، وقد جاء عنه (عليه السلام) في التوحيد: " عن محمّد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا (عليه السلام) قال: دخل رجل من الزنادقة على الرضا (عليه السلام) وعنده جماعة، فقال لأبي الحسن (عليه السلام) : أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإيّاكم شرع سواء، لا يضرنا ما صليّنا وصمنا وزكيّنا وأقررنا؟

فقال أبو الحسن (عليه السلام) : وان يكن القول قولنا - وهو قولنا وكما نقول - ألستم قد هلكتم ونجونا؟

قال: رحمك الله فأوجدني كيف هو؟

قال: ويلك إنّ الذي ذهبت إليه غلط وهو أيّن الأين وكان ولا أين، وكيّف الكيف وكان ولا كيف، فلا يعرف بكيفوفية ولا بأينونية، ولا يدرك بحاسة، ولا يقاس بشيء.

قال الرجل: فإذاً إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس؟!

فقال أبو الحسن (عليه السلام) : ويلك لمّا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته! ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنّه ربّنا، وأنّه شيء بخلاف الأشياء.

____________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق: 25، الفصول المهمّة في أصول الأئمة للعاملي: 135.


الصفحة 76

قال الرجل: فأخبرني متى كان؟

قال أبو الحسن: فأخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان؟

قال الرجل: فما الدليل عليه؟

قال أبو الحسن: إنّي نظرت إلى جسدي فلم يمكني زيادة ولا نقصان في العرض والطول، ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه علمت أنّ لهذا البنيان بانياً، فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته، وإنشاء السحاب، وتصريف الرياح، ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت أنّ لهذا مقدراً ومنشأً.

قال الرجل: فلم احتجب؟

قال أبو الحسن: إنّ الحجاب على الخلق لكثرة ذنوبهم، فأمّا هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار. قال: فلم لا تدركه حاسة الإبصار؟

قال: للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الإبصار منهم ومن غيرهم، ثُمّ هو أجلُّ من أن يدركه بصر أو يحيطه وهم أو يضبطه عقل.

قال: فحدّه لي؟ قال: لا حدّ له.

قال: ولم؟

قال: لأنّ كُلّ محدود متناه إلى حدّ، وإذا التحديد احتمل الزيادة، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان، فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزئ ولا متوهم... "(1) إلى آخر الحديث.

حدثنا علي بن الحسن بن فضال عن أبيه قال: سألت الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ? كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ? ؟

____________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق: 252، الاحتجاج للطبرسي 2: 172، بحار الأنوار 3: 15.


الصفحة 77

فقال: " إنّ الله تعالى لا يوصف بمكان يحلّ فيه فيحجب عنه فيه عباده، ولكنه يعني إنّهم عن ثواب ربهم محجوبون".

قال وسألته عن قول الله عزّ وجلّ: { وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } ؟

فقال: " إنّ الله تعالى لا يوصف بالمجيء والذهاب تعالى عن الانتقال، إنّما عني بذلك وجاء أمر ربّك والملك صفّاً صفّاً ".

قال: وسألته عن قول الله عزّ وجلّ: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ } ؟

قال: " يقول هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله بالملائكة في ظُلَل من الغمام ".

قال: وسألته عن قوله تعالى: { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ }، وعن قوله: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ }، وعن قوله: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ }، وعن قوله: { يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ } .

فقال: " إنّ الله تعالى لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع، ولكنّه يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوا كبيراً "(1).

وعن الحسن بن سعيد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ }؟

قال: " حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّداً، وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود"(2) .

ومن ذلك المثل العربي: كشفت الحرب عن ساق، أي أظهرت نتيجتها.

____________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق: 163، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2: 115، الاحتجاج للطبرسي 2: 193.

(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2: 111، الاحتجاج للطبرسي 2: 193.


الصفحة 78

عن محمّد بن عبيدة قال سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ لإبليس: { ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }؟

قال (عليه السلام) : " يعني بقدرتي وقوتي " (1).

وعن الحسين بن خالد قال قلت للرضا (عليه السلام) : يا بن رسول الله، إنّ الناس يروون أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الله عزّ وجلّ خلق آدم على صورته ".

فقال: قاتلهم الله، قد حذفوا أول الحديث، إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّ برجلين يتسابان فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك. فقال (صلى الله عليه وآله) : يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك فإنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم على صورته " (2).

فيكون الضمير عائداً على الرجل الذي وقع عليه السبّ.

وعنه أيضاً قال: قلت للرضا (عليه السلام) : يا بن رسول الله، إنّ قوماً يقولون: لم يزل الله عالماً بعلم، قادراً بقدرة، حياً بحياة، قديماً بقدم، سميعاً بسمع، بصيراً ببصر؟

فقال (عليه السلام) : " لم يزل الله عزّ وجلّ عليماً قادراً حياً سميعاً بصيراً لذاته، تعالى عمّا يقول المشركون والمشبهون علواً كبيراً " (3).

عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) : يا بن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث " أنّ المؤمنين

____________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق: 154، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2: 110، بحار الأنوار 4: 10.

(2) التوحيد للشيخ الصدوق: 152، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2: 110، الفصول المهمّة في أصول الأئمة للعاملي: 260.

(3) التوحيد للشيخ الصدوق: 140، روضة الواعظين للنيسابوري: 37، الاحتجاج للطبرسي 2: 192.


الصفحة 79

يزورون ربّهم في منازلهم في الجنة".

فقال (عليه السلام) : " يا أبا الصلت إنّ الله تبارك وتعالى فضّل نبيّه محمّدا (صلى الله عليه وآله) على جميع خلقه من النبيّين والملائكة، وجعل طاعته طاعته، ومتابعته متابعته، وزيارته في الدنيا والآخرة زيارته، وقال عزّ وجلّ: { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ }، وقال: { إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (1)، وقال النبيّ (صلى الله عليه وآله): " من زارني في حياتي أو بعد موتي فقد زار الله تعالى"، ودرجة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الجنّة أرفع الدرجات، فمن زاره في درجته في الجنّة من منزله فقد زار الله تبارك وتعالى.

قال: وقلت له: يا بن رسول الله، فما معنى الخبر الذي رووه أنّ ثواب لا اله إلا الله النظر في وجه الله تعالى؟

فقال (عليه السلام) : " يا أبا الصلت من وصف الله تعالى بوجه كالوجوه فقد كفر، ولكن وجه الله تعالى أنبياءه ورسله وحججه صلوات الله عليهم، هم الذين بهم يتوجه إلى الله عزّ وجلّ وإلى دينه ومعرفته، قال الله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ * وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرامِ }، وقال عزّ وجلّ: { كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }، فالنظر إلى أنبياء الله تعالى ورسله وحججه (عليهم السلام) في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة، وقد قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): " من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة "، وقال أيضاً - موجهاً خطابه إلى الصحابة - : " إن فيكم من لا يراني بعد أن يفارقني " .

يا أبا الصلت إنّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بمكان، ولا يدرك بالأبصار والأوهام "(2).

____________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق: 117، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2: 106.

(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2: 106، الاحتجاج للطبرسي 2: 190.


الصفحة 80

وعن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) في قول الله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَةٌ } ، قال: " يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها " (1).

وقد جاء في القرآن الكريم ما يفيد هذا المعنى في قوله تعالى: { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } (2)، أي منتظرة بم يرجعون.

وعندما نقارن هذا الفهم الربّاني الذي يتقبله كُلّ عقل سليم، مع ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه عن الحسن بن عبد العزيز الجروي - وهو من شيوخ البخاري - قال سمعت عمرو بن أبي سلمة يقول: سمعت مالك بن أنس (صاحب الموطأ والمذهب) قيل له: يا أبا عبد الله قول الله تعالى: { إلى رَبِّها ناظِرَةٌ ?. يقول قوم: إلى ثوابه}

فقال: كذبوا فأين هم عن قوله تعالى: { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذ لمَحْجُوبُونَ } (3) .

أنظر- أيّها الأخ الكريم - إلى هذا الصلف، وهشاشة الفكر، وبلادة الرد، كيف يتمادى الانحراف والزيغ بأصحابه إلى درجة الإصرار على الخطأ.

على أنّ الآية لا تفيد المعنى الذي قصده أصحاب التجسيم؛ لأنّ المعنى الحقيقي الذي جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن بعده أهل بيته (عليهم السلام) ، لأنّهم أهل الذكر، والراسخون في العلم، والمستحفظون على كتاب الله تعالى وشريعته، يقول: إنّهم محجوبون عن رحمة ربّهم يوم القيامة.

____________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق: 116، روضة الواعظين للنيسابوري: 34.

(2) النمل: 35.

(3) فتح الباري للعسقلاني 13: 355.


الصفحة 81

والتوحيد الذي يصح به الإسلام على أربعة وجوه هي:

أولاً: توحيد واجب الوجود، بكونه لا شريك له في وجوبه ووجوده.

ثانياً: توحيد صانع العالم ومدبر النظام.

ثالثاً: توحيد الإله المستحق للعبادة ونفي الشريك عنه.

رابعاً: توحيد الإله في الخلق والرزق.

أما صفات المولى سبحانه وتعالى فهي قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية.

أما الصفات الثبوتية: وقد يطلق عليها صفات الكمال والجمال، فهي صفات الذات التي لا حصر لها؛ لأنّ الخلو عن الكمال نقص، والنقص منتف عنه تعالى. وهي:

أولاً: القدرة:

وهي أنّه تعالى لا يعجزه شيء في كُلّ ما يريد، إلاّ أنّ المعتزلة خالفوا اتباع أهل البيت (عليهم السلام) ، فقالوا بأن الله لا يقدر على القبيح والشر، لاستلزامه الظلم، ففروا من نسبة الظلم إليه تعالى إلى نسبة العجز له. وقدرته تعالى على القبيح والظلم لا تستلزم وقوعهما منه؛ لأنّه منزّه عن ذلك، فالمؤمن الصالح قادر على فعل المعاصي وأنواع الشرور ولكنّه لا يفعلها مع قدرته عليها لعلمه بقبحها، فلا نقول: إنّه عاجز عنها، قال تعالى: { وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً } .

وقد خالف الأشاعرة (وهم عموم أهل السنّة من اتباع المذاهب الأربعة في الفروع، اختاروا، أو بالأحرى اختير لهم، لأنّ من حصرهم في ذلك الاتجاه هي الأنظمة التي حكمت رقابهم - اتباع أبي الحسن الأشعري في الأصول)


الصفحة 82

أيضاً اتباع ّأهل البيت (عليهم السلام) من الإمامية الاثني عشرية، فنسبوا فعل الشر إليه تعالى ووقوعه منه، وهو قول باطل، لأنّه ظلم، ففروا من الشرك في الخلق ووقعوا في الظلم.

ثانياً: الاختيار:

وهو أنّه تعالى مختار في أفعاله، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل.

ثالثاً: العلم والحكمة:

إنّه تعالى عالم حكيم، يعلم الأشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها.

رابعاً: القدم والأزليّة:

إنّه تعالى أزلي سرمدي قديم غير مسبوق بعلّة ولا يعتريه عدم.

خامساً: السميع البصير:

إنّه تعالى سميع بصير، لا بجارحة، كما يدعي المخالفون لأهل البيت (عليهم السلام) ، بأنّ له عيناً بلا كيف، ذلك مبلغهم من الجهل، بل المراد أنّه تعالى عالم بجميع المسموعات والمبصرات من دون آلة.

سادساً: الحياة:

إنّه تعالى حي ليست له بداية كما ليست له نهاية.

سابعاً: الإدراك:

إنّه تعالى مدرك بلا حاسّة.

ثامناً: الإرادة والكراهة:

إنّه تعالى مريد لأفعاله كاره لها.


الصفحة 83

ومريد بمعنى أنّه خصص إيجاد الحوادث في وقت دون وقت، وعلى صفة دون أُخرى، مع عموم قدرته، وكون الأوقات والصفات كُلّها صالحة للإيجاد بمقتضى قدرته تعالى.

وكاره بمعنى أنّه ترك إيجاد الحوادث في وقت دون وقت، والأوقات كُلّها صالحة للترك بمقتضى القدرة، وهو أيضاً مريد لبعض أفعال عبيده كالطاعات وأعمال الخير، وكاره لبعضها كالمعاصي والظلم والشرور.

تاسعاً: الكلام:

إنّه تعالى متكلّم، بمعنى أنّه موجد للكلام في جسم من الأجسام، كما خلق ذلك في شجرة الطور وكلّم منها موسى، وكذلك طبقات الأفلاك، فتسمع الملائكة، وكذا في قلوب الأنبياء والرسل، وكيف كان وصفه تعالى بالكلام، وقدرته على إيجاد الكلام، كخلق الحروف والأصوات، ونفس الكلام من صفات الفعل الحادثة كالخالقية والرازقية، ويدلّ على حدوثه العقل والنقل.

أما من جهة النقل فلقوله تعالى: { ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } (1) والذكر هو القرآن لقوله تعالى: { إنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } (2) .

وقد وصفه الله تعالى بالحدوث، ولا ريب أنّ الخطاب قبل وجود المخاطب لغو صريح، وهو في حقِّ المولى سبحانه وتعالى غير صحيح، فقوله: { يا نُوحُ } و{ يا إبْرَاهِيمُ } و{ يا يَحْيَى } و{ يا أيُّهَا الرَّسُولُ } و{ يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } و{ يا نِسَاءَ النبيّ } و{ يا أيُّهَا النَّاسُ } و{ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } و{ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } و{ يَسْألُونَكَ عَنِ

____________

(1) الأنبياء : 2.

(2) الحجر: 9.


الصفحة 84

الرُّوحِ }، وغيرها كثير، فلو أنّ الكلام قديم فكيف يحسن الخطاب؟

وقد ذهب الحنابلة إلى أنّ كلامه تعالى حروفاً وأصواتاً قديم، وذهب الأشاعرة وهم بقية أهل السنّة إلى إثبات الكلام النفسي له تعالى، وقالوا: إنّ كلامه تعالى معنىً واحدٍ بسيطٍ قائمٍ بذاته قديم.

وهي أقوال باطلة لأنّها تستلزم ثبوت النفس له تعالى، فيكون جسماً محلاً للحوادث، تعالى الله عن ذلك علّواً كبيراً .

عاشراً: الصدق:

إنّه تعالى صادق لا يجوز عليه الكذب مطلقاً.

وصفاته تعالى هي عين ذاته لسببين:

1- لأنّها لو كانت غير ذاته لكان تعالى محتاجاً في كماليته إلى صفاته، ولو كان محتاجاً لكان ممكناً.

2- لو كانت غير ذاته، فإمّا أن تكون قديمة أو حادثة قائمة لذاتها أو لغيرها، وإذا كانت قديمة، فيلزم تعدد القدماء، فيكون الله تعالى قديماً، وقدرته التي هي غيره قديمة أيضاً، وكذلك بقيّة صفاته، فيكون النصارى أقل شركاً باعتقادهم أنّ الله ثالث ثلاثة، بينما هؤلاء يقولون بقدم الله وصفاته العشرة.

وإن كانت قائمة بغير ذاته تعالى كان الموصوف بها ذلك الغير، فيكون تعالى على حدِّ قولهم عارياً من الكمالات، والقول بأنّها ليست في محلّ حمق، إذ يستحيل وجود صفة إلاّ في محلّ.

فزيادة الصفات مع القول بالحدوث كفر مستلزم لإنكار الواجب، ومع القدم شرك يستلزم تعدد القدماء، فتعين أن تكون صفاته تعالى هي عين ذاته.


الصفحة 85

ولا يمكن حصر الصفات الثبوتية ولا الصفات السلبية؛ لأنّ الحصر حدّ، والحدّ نقص، والنقص منزّه عنه المولى تعالى.

أما الصفات السلبية - وسميت بالسلبية لأنّها سالبة للنقائص عنه تعالى، وإثبات الكمال لا يكون شاملاً إلاّ بنفي كُلّ نقصٍ عنه، ويطلق عليها صفات الجلال، وأصولها التي ذكرها علماء الشيعة الإمامية الاثني عشرية - لا تقف عند حدّ، سوى قصور عقول الناس عن إدراكها والإحاطة بها، كما قال تعالى: { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } (1). وقد ذكروا منها:

أولاً: نفي الشريك عنه تعالى:

لبطلان تعدد الواجب، بل إله واحدٌ أحدٌ فردٌ صمدٌ لا شريك له ولا ندٌّ.

ثانياً: نفي الاحتياج:

كما في الحديث: " كان الله ولم يكن معه شيء"(2).

ثالثاً: نفي التركيب والتجزئة:

إنّه تعالى غير مركب من الأجزاء الخارجية، ولا من الأجزاء الذهنية.

رابعاً: نفي الحوادث والعوارض:

إنّه تعالى ليس محلاً للحوادث والعوارض، كالنوم واليقظة والحركة والسكون والقيام والقعود والطلوع والنزول والفرح والضحك والبكاء؛ لأنّ واجب الوجود لا يمكن أن يكون محلاً للحوادث، لأنّها من لوازم الجسم، والله تعالى ليس بجسم ومنزّه عنها، وهي كُلّها مخلوقة له تعالى وهو منزّه عن الاتصاف بها.

____________

(1) طه: 110.

(2) الفصول المهمة في أصول الأئمة للعاملي: 154.


الصفحة 86

وما ورد من وصفه تعالى بشيء من ذلك في الكتاب والسنّة، كقوله تعالى: { رَضِيَ اللهُ عَنْهُم } (1)، و{ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } (2)، { فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ } (3)، و{ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (4)، و{ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (5). وغير ذلك: إنّ المراد منها غاياتها دون مباديها، فغاية الرضا الإكرام والإحسان وغاية الغضب العقاب والعذاب، لذا قيل خذ الغايات واترك المبادئ.

خامساً: نفي الحلول والاتحاد:

إنّه تعالى لا يحلّ ولا يتحد بغيره؛ لأنّ الحال مفتقر إلى المحلّ الذي يحلّ فيه والاحتياج من خواص الممكن، ولأنّ الحلول في مكان يستلزم الخلو من مكان آخر، وهو تعالى موجود في كُلّ مكان لا بمداخلة، وخارج عنه لا بمزايلة كما في حديث سيد البلغاء (عليه السلام) .

وقد زعم بعض المتنكبين عن صراط الأئمة الأطهار من ذرية خير الأخيار - صلّى الله عليهم - وهم عدد من فرق الصوفية، أنّ العبد إذا بلغ العرفان وفاز بمنزلة الإيقان اتّحد بربه، وسقط عنه التكليف، نعوذ بالله تعالى من شطحات الغارقين في تيه الشيطان وحزبه.

سادساً: نفي الجسمانية:

إنّه تعالى ليس بجسم، لأنّ الجسم من خواص الممكن، ويقبل الأبعاد

____________

(1) وردت في كُلّ من السور التالية: التوبة: 100، الفتح: 18، المجادلة: 22، البيّنة: 8.

(2) المجادلة: 14، الممتحنة: 13.

(3) الزخرف: 55.

(4) الأحزاب: 57.

(5) الفتح: 10.


الصفحة 87

الثلاثة: الطول والعرض والعمق، مع المكان والحيز، وسنعرض لهذه الصفة في مقارنة مع إخوتنا من الأشاعرة (أهل السنّة)

سابعاً: نفي الرؤية:

لأنّه تعالى لا يرى بحاسة البصر لا في الدنيا ولا في الآخرة، وسنعرض لهذه الصفة في مقارنة مع إخوتنا من الأشاعرة (أهل السنة).

ثامناً: نفي فعل القبيح:

إنّه تعالى لا يفعل القبيح.

تاسعاً: نفي الشبه:

إنّه تعالى لا يشبهه شيء.

وخالف الأشاعرة باعتقادهم أنّ الله خلق آدم على صورته.

كما تنقسم صفاته تعالى إلى قسمين: صفات ذات، وصفات فعل.

فالوجود والعلم والقدرة والحياة وغيرها من صفات الذات التي لا حصر لها، هي عين ذاته، والخالقية والرازقية والإحياء والإماتة حادثة باعتبار المخلوق والمرزوق والمحيا والممات، وهي ليست قديمة، فقد كان الله تعالى وحده ولم يكن خالقاً ولا رازقاً ولا محيياً ولا مميتاً، وهي ليست من صفات الكمال حتى يترتب النقص من انتفائها عنه تعالى، بل الكمال في قدرته على الخلق وعلمه بمصلحة وقت إيجادهم.

وخلاصة الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل: إنّ صفات الذات هي ما اتصف بها المولى سبحانه وتعالى وامتنع اتصافه بضدها، فنقول: إنّ الله عالم، ولا يجوز أن نقول: إنّه غير عالم، أو قادر فلا يجوز أن نقول: إنّه غير قادر.


الصفحة 88

وصفات الفعل ما يتصف المولى سبحانه وتعالى بها وبضدها كأن نقول: إنّ الله خلق فلاناً ولم يخلق فلاناً.

ولا يمكن مزيد إظهار صحة ما عليه أهل بيت النبوة من توحيد سليم إلاّ بعرض ما يعتقده غيرهم من المسلمين، والذين كنت منتمياً إليهم بحكم المولد والنشأة، وما استتبعها من تقليد لا يسمن ولا يغني من علم.

فأقول: أما المتنكبون عن صراط الأطهار من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ، فقد ذهبت بهم مذاهبهم إلى تبني معتقدات أساسها الكذب على الله تعالى وعلى رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله)، بما ابتدعه لهم علماؤهم وفقهاؤهم، وما زكاه لهم حكّامهم من أباطيل، لو ثابوا إلى رشدهم منها لبكوا على ما فرطوا في جنب الله تعالى بقية حياتهم، ولضحكوا في قرارة أنفسهم على تفاهة عقول مبتدعيها ومنتحليها.

وأي بناء لا يكون أساسه سليما مآله السقوط، والعقيدة التي اختلط فيها الغثّ بالسمين والسقيم بالسليم لا يمكن أن تفرز بعداً غيبياً ولا تواصلاً إلهياً، وهي أقرب إلى الجهالة منها إلى المعرفة، وإلى النفرة منها إلى الحبّ.

والمتتبع لجملة الأحاديث التي أوردها هؤلاء في إثبات جسمانية الخالق، وتفاصيل أجزائه، وجلوسه ونزوله، وتنكره وضحكه، ورؤية المؤمنين له يوم القيامة، يلاحظ إصراراً غريباً من حفاظهم على نقل تلك المفتريات المتعارضة مع القرآن الكريم، ومع غيرها من الروايات القطعية الدلالة والورود.

وترى هؤلاء المتنكبين عن الصراط المستقيم يحثون اتباعهم على التدين بجملة تلك المعتقدات الفاسدة حثاً، ويخوفونهم من تركها أو التشكيك فيها، بل جعلوها عناوين مذاهبهم، فلم ينشأ بينهم غير التعصب الأعمى والتدين الأعرج، وتولدت فيهم جراء تلك الروايات الفاسدة عقيدة


الصفحة 89

عقيمة وتوحيد أقرب إلى الوثنية وآلهة الإغريق منه إلى توحيد الحقِّ تعالى، وحلت بذلك الخرافة محل العلم الإلهي، وظهر القصاصون محل العلماء العدول، فطفحت كتبهم بها، حتى إنّك لا تجد كتاباً عقائدياً أو روائياً إلاّ وفيه نصيب من ذلك الباطل.

وبما أنني بصدد تناول مقام واحد وهو التوحيد فقد أخرجت ما هو متعلق به على أن يكون للنبوّة مقام آخر منفرداً.

أخرج مسلم وغيره من حفاظ الخط الأشعري ما يلي:

1- عن صهيب عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، يقول الله تبارك وتعالى: " تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنّة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عزّ وجلّ"(1) .

2- عن أبي هريرة أخبر أنّ أناساً قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله): " يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر؟

قالوا: لا يا رسول الله.

قال: هل تضارّون في الشمس ليس دونها سحاب؟

قالوا: لا يا رسول الله.

قال: فإنّكم ترونه كذلك "(2).

3- عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " يد الله ملآى لا يغيضها نفقة،

____________

(1) صحيح مسلم 1: 112، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية.

(2) صحيح البخاري 5: 179، كتاب تفسير القرآن ، باب إن الله لا يظم مثقال ذرة، صحيح مسلم 1: 112، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية.


الصفحة 90

سحاء الليل والنهار، وقال: أرأيتم ما أنفق منذ خلق الله السماوات والأرض، فإنّه لم يغض ما في يده، وقال: وعرشه على الماء وبيده الأُخرى الميزان يخفض ويرفع "(1).

4- عن أبي هريرة أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " يتنزّل ربّنا تبارك وتعالى كُلّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الأخير من الليل فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟"(2).

5- في حديث طويل عن ابن مسعود جاء فيه: " قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟

قال: من ضحك ربّ العالمين "(3).

6- وعن جابر بن عبد الله في حديث طويل أيضاً: " ... ثُمّ يأتي ربّنا بعد ذلك، فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربّنا.

فيقول: أنا ربكم.

فيقولون: حتى ننظر إليك، فيتجلّى لهم يضحك، قال فينطلق بهم ويتبعونه "(4).

7- عن أبي هريرة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: " خلق الله عزّ وجلّ آدم على

____________

(1) صحيح البخاري 5: 213، كتاب التفسير، سورة هود، صحيح مسلم 3: 78، كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة.

(2) صحيح البخاري 8: 197، كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى: ? أنزله بعلمه..? ، صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب الترغيب في الدعاء والذكر.

(3) صحيح مسلم 1: 120، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.

(4) مسند أحمد 3: 383، صحيح مسلم 1: 122، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.


الصفحة 91

صورته، طوله ستون ذراعا... "(1).

8- عن أنس بن مالك أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: " لا تزال جهنّم تقول: هل من مزيد حتى يضع فيها ربُّ العزّة تبارك وتعالى قدمه، فتقول: قط قط وعزتك، ويزوى بعضها إلى بعض "(2).

9- وفي حديث طويل أيضا: " فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم.

فيقولون نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتي ربّنا، فإذا جاء ربّنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم.

فيقولون أنت ربنا، فيتبعونه"، وفي رواية أخرى: "فيتجلى لهم يضحك"(3).

10- عن ابن مسعود قال جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: " يا محمّد إنّا نجد أنّ الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك.

فضحك النبيّ (صلى الله عليه وآله) حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثُمّ قرأ: { وَما

____________

(1) مسند أحمد 2: 315، صحيح البخاري 4: 102، كتاب بدء الخلق، باب قول الله تعالى: ? وإذ قال ربّك للملائكة ..?، صحيح مسلم 8: 147، كتاب الجنة، باب صفات أهل الجنة.

(2) مسند أحمد 3: 230، صحيح البخاري 7: 225، كتاب الإيمان، باب الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته، صحيح مسلم 8: 152، كتاب البرّ والصلة، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء.

(3) مسند أحمد 2: 275، صحيح البخاري 7: 205، كتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، صحيح مسلم 1: 122، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها.


الصفحة 92

قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} (1).

11- وفي رواية أُخرى: " والجبال والشجر على إصبع، ثُمّ يهزّهنّ فيقول: أنا الملك أنا الله "(2).

12- وفي رواية أُخرى: " يجعل السماوات على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع "(3).

13- وعن ابن عمر مرفوعاً: " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثُمّ يأخُذهنّ بشماله، ثُمّ يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"(4).

14- وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمان إلا كخردلة في يد أحدكم "(5).

هذه الروايات وغيرها ممّا لم أتوصل إليه؛ لأنّني استقيتها من مسند أحمد وصحيح البخاري وصحيح مسلم وكتب التفسير مؤيدة للاعتقاد العام المتداول عند تلك الطائفة في أنّ للخالق - تعالى عن ذلك - جسماً، وجعلوا له صفات، وقالوا بأنّها غير ذاته، وأنّ له أعضاء كالوجه واليدين والعينين والرجلين وانه ينزل ويأتي ويضحك ويتنكر إلى غير ذلك من الأعضاء والحركات التي لا تجوز على الذات الإلهية؛ لأنّها كُلّها من مستلزمات الممكن والحادث، وما

____________

(1) مسند أحمد 1: 457، صحيح البخاري 6: 23، كتاب التفسير، تفسير سورة الزمر، صحيح مسلم 1: 119، كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجاً .

(2) مسند أحمد 1: 457، صحيح مسلم 8: 125، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب ابتداء الخلق.

(3) نفس المصدرين السابقين.

(4) صحيح مسلم 8: 126، كتاب صفة القيامة، باب ابتداء الخلق.

(5) جامع البيان للطبري 24: 32، تفسير الثعلبي 8: 253.


الصفحة 93

هي في حقيقتها إلاّ سفسطات وسخافات وتحريفات جاء بها اليهود إلى المسلمين (السنّة)، ليدخلوهم في نفس عقيدتهم التي اختلقوها وعكفوا عليها مذ طلبوا رؤية الله تعالى، وجاءوا بالعجل، متصوّرين أنّ الله تعالى جسم قوي جداً ليس كالبشر، ورأوا أنّ العجل قد يكون أقرب إليه من غيره.

ولكي نناقش هذه المسألة من جميع جوانبها فينعقد البحث في وجهتين:

الوجهة الأولى: نظرة في أسانيد الأحاديث

لم يكن بالإمكان غير مجاراة النسق، بالاعتماد على كتب الجرح والتعديل التي أخذ بها اتباع هذه العقيدة الفاسدة، ولو كان في الإمكان تجنبها لفعلت، لأنّي لم أر فيها غير عجائب الجرح وغرائب التعديل، فهذا الحافظ يجرح الآخر، وذلك الراوي يفسق صاحبه، وهذا لا يرضى عن نظيره، لأسباب تافهة وواهية لا ترقى إلى المقاطعة والتفسيق والترك ورد الحديث. لكن إثبات بطلان عقيدة التوحيد عند ذلك الجانب من المسلمين دفعني إلى أن تكون الحجة من كتبهم المعتمدة كاملة، لعل الله تعالى يجعلنا سبباً إلى هدايتهم، وإعادتهم إلى منهاج الصالحين، وسبيل الأبرار محمّد وآله الأطهار.

ومسألة الجرح والتعديل وحدها تتطلب بحثاً مستقلاً لإماطة اللثام عن تجاوزات أصحابها، لذلك حريّ بنا أن نمضي لنأخذ ما يفي بالحاجة، ويقيم الدليل على بطلان تلك الصفات، وعدم صحة ذلك التمثيل الذي لا يجوز على بديع السماوات والأرض، فنقول:

- حماد بن سلمة بن دينار: قال فيه الذهبي: له أوهام، عن عبد الرحمان بن مهدي: كان حماد لا يعرف بهذه الأحاديث التي في الصفات حتى خرج مرّة


الصفحة 94

إلى عبادان فجاء وهو يرويها، فلا أحسب إلاّ شيطاناً خرج إليه من البحر فألقاها إليه.

قال ابن الثلجي: سمعت عباد بن صهيب يقول: إنّ حماداً كان لا يحفظ وكانوا يقولون: إنّها دست في كتبه، وقد قيل: إنّ ابن لأبي العوجاء كان ربيبه، فكان يدسّ في كتبه، ومن أمثلة أحاديثه غير ما رواه مسلم والبخاري:

1- عن حماد بن سلمة عن أنس أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قرأ: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قال: " أخرج طرف خنصره وضرب على إبهامه، فساخ الجبل "، فقال حميد الطويل لثابت: تحدث بمثل هذا؟

قال فضرب في صدر حميد وقال: يقوله أنس ويقوله رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأكتمه أنا! رواه جماعة عن حماد وصححه الترمذي(1).

2- وقال ابن عدي: حدثنا عبد الله بن عبد الحميد الواسطي، حدثنا النضر بن سلمة شاذان بن عامر، عن حماد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: " أنّ محمّداً رأى ربّه في صورة شابٍّ أمرد دونه ستر من لؤلؤ، قدميه أو رجليه في خضرة "(2).

قال الماوردي: قلت لأحمد بن حنبل: يقولون لم يسمع قتادة عن عكرمة؟

____________

(1) سنن الترمذي 4: 330/5069 وقال: " هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلاّ من حديث حماد ابن سلمة"، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 210، قال محقق الكتاب الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: " 480- إسناده صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.

والحديث أخرجه الطبري في تفسيره (9/37)، وأخرجه الترمذي (2/180)، وابن خزيمة في التوحيد: 75، والحاكم (2/320)، وأحمد (3/125) ... ".

(2) الكامل في التاريخ لابن عدي 2: 261، تاريخ بغداد للبغدادي 11: 214، ميزان الاعتدال 1: 594.


الصفحة 95

فغضب وأخرج كتابه بسماع عكرمة في ستة أحاديث(1).

الحسن بن سفيان حدثنا هدبة قال: " صلّيت على شعبة، فقيل أرأيته؟ فغضب وقال: رأيت حماد بن سلمة وهو خير منه، كان سنياً وكان شعبة رأيه رأي الكوفيين "(2).

أ - ثابت البناني: قال فيه الذهبي: " قال ابن عدي: ما وقع في حديثه من النكارة فإنّما هو من الراوي عنه؛ لأنّه روى عنه ضعفاء وكان يقص "(3).

ب - عبد الرحمان بن أبي ليلى: " قال فيه إبراهيم النخعي: كان صاحب أمراء "(4).

ج - روح بن عبادة القيسي: " قال ابن الديني: نظرت لروح في أكثر من 100 ألف حديث كتبت منها 10 آلاف. تكلم فيه القواريري وقال: لا أحدّث عنه. وقال أحمد بن الفرات: طعن في روح 12 رجلاً فلم ينفذ قولهم فيه.

وروى الكتاني عن أبي حاتم قال: لا يحتج به. وقال النسائي في العتق والكنى: روح ليس بالقوي. وكان عفان لا يرضى أمر روح "(5).

د - معمر بن راشد: قال فيه الذهبي: " له أوهام معروفة. قال أبو حاتم: ما حدّث به في البصرة ففيه أغاليط. وروى الغلابي عن يحيى بن معين قال: معمر عن ثابت ضعيف "(6).

____________

(1) ميزان الاعتدال 1: 594.

(2) ميزان الاعتدال 1: 594، الكامل لابن عدي 2: 258.

(3) ميزان الاعتدال 1: 363.

(4) ضعفاء العقيلي 2: 337، ميزان الاعتدال 2: 584.

(5) ميزان الاعتدال 2: 59، تاريخ بغداد 8: 402.

(6) ميزان الاعتدال 4: 154.


الصفحة 96

? - محمّد بن مسلم ابن شهاب المعروف بالزهري: " كان داعية الأمويين، ولاه يزيد بن عبد الملك القضاء، واختاره هشام بن عبد الملك معلماً ومؤدباً لأولاده، أنهى حياته موصولاً إلى جانب الأمويين ومن أفضل المقرّبين عندهم، وقد استعان به عبد الملك بن مروان لما ضج المسلمون من منعهم عن الحجّ إلى بيت الله الحرام عندما كانت الحجاز تحت سيطرة عبد الله بن الزبير. فوضع له الزهري الحديث المعروف: لا تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس. وروى له أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الصلاة في المسجد الأقصى تعدل ألف صلاة " .

وروى الخطيب البغدادي عن عبد الرزاق بن همام عن معمر بن راشد تلميذ الزهري أن الوليد بن إبراهيم الأموي جاء إلى الزهري بصحيفة وضعها أمامه وطلب إليه أن يأذن بنشر أحاديث منها على أنه سمعها منه فأجازه الزهري على ذلك من غير تردد كبير، وقال له: من يستطيع أن يخبرك بها غيري؟ وحدث معمر عنه قال: لقد اكرهنا هؤلاء الأمراء على أن نكتب أحاديث(1).

هؤلاء بعض رواة أحاديث التجسيم والرؤية، نتوقف عندهم اختصاراً، لأنّ ما ذكر عنهم يسقط روايتهم وروايات غيرهم التي هي على نفس الشاكلة، والمختلفة عنها سنداً، لحصول تدليس فيه، وقد كان التدليس في سند الرواية عنوان أغلب حفاظهم ورواتهم، خاصّة إذا كان قاصاً.

والقاص الذي يجلس في المسجد بجراية وأمر من بني أُمية، ليملأ عقول المسلمين أوهاماً، وصاحب أمراء الظلم والجور، وداعيتهم بكذبه وبهتانه لتبرير

____________

(1) كتاب السنّة ومكانتها في التشريع لمصطفى السباعي: 239.


الصفحة 97

أفعالهم وتقوية أركان ملكهم، حري بمن يخشى الله أن لا يأخذ عنهم، ولا يلتفت إلى مقالاتهم، كما في الحديث المشهور والمروي من طريق الطاهرين والصادقين من ذرية رسول الله - صلى الله عليه وعليهم أجمعين - : " إذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم "(1).

ثم انظر إلى ضيق صدور هؤلاء الذين تراهم يغضبون ويتشنجون ويضربون على صدور الناس، ويطردونهم لمجرد سؤال، فأيّ علم يسمح لهم بذلك؟ وأيّ دين يبح لهم مثل تلك الحركات؟

لكنه في عرف المعدلين عندهم طالما أنّه سنّي منتصر لمذهبه فلا بأس عليه، وإن فعل ما فعل وقارف ما قارف، وجاء بالطامات والغرائب ونسبها إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وإن اتهمه أهل الأرض، وليس 12 رجلاً كما في شأن روح ما نفذوا إلى إسقاطه وتجريحه، عاملين بمثل معزى وإن طارت.

والذي رأيته من خلال تصفحي لكتب الجرح والتعديل أنّ صاحب البدعة والمخالف لسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُضفى عليه لقب (سُنّي) و(صاحب سنّة)، والمتتبع لأقوال رسول الله وأفعاله وتقريراته يلقبونه (صاحب بدعة) أو (رافضي بغيض)!.

هذا من حيث الأسانيد.

أمّا متون الأحاديث المخرجة، ففيها ما ينبئك عن دسها من بين أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو منها براء.

فالأحاديث: 1-2-6-9 تتحدث عن رؤية المؤمنين ربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة.

____________

(1) العدد القوية للحلي: 150، تهذيب الكمال للمزي 5: 88.


الصفحة 98

والأحاديث: 3- 4-5-7-8-10-11-12-13-14 جاءت مجسّمة للمولى سبحانه وتعالى، مجزئة له وجاعلة له أعضاء كالوجه واليد والأصابع، ومحلاً للحوادث كالضحك والتنكر، ومنحازاً في جهة كنزوله، وذهابه بالمؤمنين إلى الجنّة، ووضع قدمه في النار.

كُلّ هذه النعوت والصفات لا تجوز عليه سبحانه حتى وان أطلقها كناية في كتابه العزيز؛ لأنّ كلامه تعالى جاء مسايراً لأسلوب العرب في اللغة وكثرة الأمثال والمجاز فيها من ناحية؛ ولأنّه تعالى خاطبنا في كتابه العزيز على قدر عقولنا، تقريبا للفهم إليها؛ لأنّه لا مجال لاستيعاب حقيقته المطلقة ومن المجاز الذي جاء في القرآن الكريم:

1- { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } (1).

2- { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا } (2) .

3- { وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي } (3).

4- { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا } (4).

5- { وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ } (5).

6- { يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ } (6).

7- { كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ } (7).

____________

(1) الفتح: 10.

(2) هود: 37.

(3) طه: 39.

(4) الطور: 48.

(5) الأنعام: 30.

(6) الزمر: 56.

(7) القصص: 88.


الصفحة 99

8- { يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } (1).

9- { اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ } (2)..... إلى آخره

فأحاديث الرؤية - مثلاً - لا تستقيم؛ لأنّ جميع العقلاء وضعوا للرؤية شروطاً ثمانية لا تتم إلاّ بها، وهي:

أولاً: سلامة الحاسّة.

ثانياً: المقابلة أو حكمها.

ثالثاً: عدم القرب المفرط؛ لأنّ المرئي لو التصق بالعين لا يمكن رؤيته.

رابعاً: عدم البعد المفرط؛ لأنّ المتناهي عن مدى العين لا يمكن رؤيته.

خامساً: عدم الحجاب بين الرائي والمرئي.

سادساً: عدم الشفافية؛ لأنّ الجسم الشفاف لا يمكن رؤيته.

سابعاً: تعمّد الرائي للرؤية.

ثامناً: وقوع الضوء عليه؛ لأنّ الواقع في الظلمة لا يمكن رؤيته.

وقد أكد أئمة الهدى من أهل بيت المصطفى - صلى الله عليه وعليهم - تبعاً لما ورثوه عن جدّهم، وكما قال تعالى: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا } (3).

إنّ المولى سبحانه وتعالى لا يرى بحاسّة البصر، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وتبعهم علماءهم وشيعتهم، واستدلوا على ذلك بأمور هي:

أولاً: إنّ المرئي بحاسّة البصر لا بدّ أن يكون جسماً ومقابلاً وذا مثال وصورة ومكان، والمولى سبحانه وتعالى منزه عن كُلّ ذلك.

____________

(1) النحل: 50.

(2) البقرة: 15.

(3) فاطر: 32.


الصفحة 100

ثانياً: إنّ المرئي محاط بالبصر، والمولى تعالى محيط بكُلّ شيء فكيف يمكن للمُحيط أن يُحاط؟

ثالثاً: تعارض ذلك مع القرآن الكريم، كقوله تعالى: { يَسْألُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } (1).

وقوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (2).

وفي تفسير هذه الآية قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) : " إنّما عني إحاطة الوهم، فالله أعظم من أن يرى بالعين "(3).

وقوله تعالى: { قالَ لَنْ تَرانِي } (4).

واستعماله تعالى للن التأبيدية دليل على عدم إمكانية رؤية المولى سبحانه وتعالى، ولو كانت جائزة لما عد طلبها أمراً عظيماً، ولما أرسل عليهم صاعقة، ولما حكم بظلم الطالبين لها!

عن محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) : " أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولا تدركها ببصرك، وأوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون "(5).

____________

(1) النساء: 153.

(2) الأنعام: 103.

(3) الكافي للكليني 1: 98، ح9، التوحيد للشيخ الصدوق: 112، ح10، وغيرها من المصادر.

(4) الأعراف: 143.

(5) الكافي للكليني 1: 99، ح11، التوحيد للشيخ الصدوق: 113، ح12، وغيرها من المصادر.


الصفحة 101

وعن عاصم بن حميد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) قال: ذاكرت أبا عبد الله (عليه السلام) في ما يروون من الرؤية، فقال: " الشمس جزء من سبعين جزءاً من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزءاً من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزءاً من نور السر، فإن كانوا صادقين فليملأوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب "(1).

أما أحاديث التجسيم، ولكي يستكمل هؤلاء صورة المولى سبحانه وتعالى، بعدما نسبوا له من الأعضاء ما يتطابق مع المخلوق، وجاءوا بفرية أكبر من سابقتها، فقالوا على لسان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): " إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعا "(2).

وبتجميع بسيط لما أخرجوه من روايات متهافتة لحماد بن سلمة، وتأويلات متهالكة لمجاهد بن جبير المقرئ المكي المفسر، صاحب السنّة - حسب زعمهم - أنّه قال في تفسير قوله تعالى: { عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً } : يجلسه معه على العرش "(3).

وطالما أن مبلغ علمهم أوصلهم إلى الاعتقاد بتطابق الخالق مع المخلوق في الشكل فلم لا يجلسه معه على العرش، وأيّ عرش هذا الذي يجول في خاطرهم؟ وأيّ كرسي يتصوّرون حتى يستشفون منه الجلوس، وقد جاء عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ العرش والكرسي علمان من علومه، علم جعله لخاصّته وأوليائه، وجعل منه للناس، وعلم لا يعلمه إلاّ هو. لذلك فإنّ اصطلاح اللغة

____________

(1) الكافي للكليني 1: 98، ح7، التوحيد للشيخ الصدوق: 108، ح3، وغيرها من المصادر.

(2) تقدّم تخريجه.

(3) تفسير مجاهد 1: 36، وعنه جامع البيان لابن جرير الطبري 15: 181.


الصفحة 102

على العالم بالكرسي دارجة عند العرب، ومنها قول الشاعر:

تحف بهم بيض الوجوه كراسي بالأحداث حين تنوب

وقول آخر:

مالي بأمرك كرسي أكاتمه وهل بكرسي علم الغيب مخلوق

ثُمّ تعال إلى من ترعرعت الخرافة في كتبهم، وتقبّلوها بالتسليم، لنسألهم: ما مقدار الذراع التي قاسوا بها آدم (عليه السلام) ؟

فإنّ كانت بمقدار مقاس الذراع اليوم فلن يكون طول آدم أقل من ثلاثون متراً، وإن جارينا هؤلاء الحشاشين في تخيلاتهم واعتبرنا أنّ مقاس الذراع في العصر النبوي أكبر من مقاس ذراع اليوم، فإنّ طول آدم سيكون حتماً أطول ممّا أشرنا إليه، وعليه فإنّ الديناصورات التي اكتشف وجودها علماء الآثار والأحياء ليست إلاّ سحالي وحيوانات صغيرة مقارنة بطول آدم!!

ثُمّ إذا سلمنا بذلك يجب تبعاً له أن نؤمن بنظرية التراجع الفيزيولوجي والتقلّص في أحجام البشر، وأنّه سيأتي يوم يصير الإنسان فيه قزماً بطول الذراع أو أقل، وقد يصل الأمر إلى أن يصبح بحجم لا يرى فيه بالعين المجردة؛ لأنّ القامة الأُولى لآدم تناقصت بسرعة كبيرة توحي بالمآل الذي ذكرناه.

وإنّني إن أسفت على شيء فإنّني لا آسف إلاّ على عقول أودعها المولى سبحانه وتعالى في هؤلاء القوم، وجعلها وعاء العلوم والمعارف كيف انقلب حالها لتصبح أوعية لمعتقدات واهية لا تستند إلى منطق؟!!

إنّ المتتبع للكتب العقائدية والروائية عند عامّة هؤلاء القائلين بتجسيم المولى تعالى يدرك - وهو يتصفح أقوالهم ورواياتهم بالخصوص - مدى


الصفحة 103

إصرار هؤلاء القوم على التمسّك بما لم يثبت بالدليل، وإنّما أخذ بالتقليد الذي لا يجدي نفعاً.

ويتفرّع من الأشاعرة في هذا الاعتقاد خصوصاً المالكية والحنابلة من جاء بعدهم من اتباع ابن تيميّة وتلميذه ابن الجوزيّة، والوهابية من اتباع محمّد بن عبد الوهاب، لم يكتفوا بما أحدثوه من انحراف في عقيدة من اتبعهم، بل قالوا: إنّهم أصحاب الدين السوي، والعقيدة الحقة الخالية من البدع والضلالات التي نسبوها لغيرهم ظلما وعدوانا وافتراء، ليس عن حجة وبرهان، ولا دليل وبيان، سوى ما عكفوا عليه من تعبد بالنصّ المكذوب، وتآويل غريبة عن العقل والمنطق والشرع، والمتصفح لكتبهم، ككتب ابن تيمية ورسائله كـ ( العقيدة الحموية ) و( العقيدة الواسطية )، وكتاب ( التوحيد ) لمحمّد بن عبد الوهاب يقف على مدى ترسخ مسألة التجسيم للمولى تعالى فيهم، بما يعتقدونه من إثبات لجهة وجوده، وما ينسبون إليه من الجوارح والحالات التي تطرأ على الجسم، والقول برؤيته تعالى يوم القيامة.

ولم يقف هؤلاء عند ذلك الحدّ في تطاولهم السخيف، بل راحوا يستنكرون ويشنعون على كُلّ من قال بتنزيه المولى عن كُلّ نقصٍ، ولم تكن إرهاصاتهم ولا شطحاتهم تلك وليدة استنتاج علمي أو بحث فكري حتى تصنف في دائرة الاجتهاد، وإنّما هو دليل يخرج به كُلّ ذي بصيرة بعد اطلاعه عليها، يعبر عن سطحية وضحالة علوم كُلّ من تبنّى عقيدة هؤلاء الذين أُطلق عليهم طواغيت العصور (أهل السنّة والجماعة)!!، وهم للبدعة أقرب وأولى بالتسمية، فعن أيّ سنّة يتحدثون؟ إن كانت سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأهل بيته الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وقرنهم النبيّ الأكرم