الصفحة 104

(صلى الله عليه وآله) بالكتاب العزيز، أقرب وأولى عقلاً ونقلاً، وإن كانت سنّة الظالمين والمحرفين الكلم عن مواضعه، كحكام بني أمية ومن جاء بعدهم، فإنّها لا تغني عن الحق شيئاً.

قال أبو حاتم (أحمد بن محمّد الرازي) في معرض بيانه لهؤلاء الذين يعتقدون أنّ الله تعالى جسم: " ويطلق على بعضهم الصفاتية والحشوية، وقد لقبوا بذلك لاحتمالهم كُلّ حشو روي من الأحاديث المختلفة والمتناقضة، ولروايتهم أحاديث كثيرة مما أنكره عليهم أصحاب الرأي وغيرهم من الفرق في التشبيه وغير ذلك، ويقال لهم: المشبهة، لروايتهم الأحاديث الكثيرة في التشبيه، واحتمالهم الأخبار المنكرة عند غيرهم مثل قولهم: إنّ الله عزّ وجلّ ينزل إلى السماء الدنيا في قفص من الملائكة " .

وعلى ذكر القفص من الملائكة، فقد روى آخرون من نفس الفريق الذي يدعي تبنيه لسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّ الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا على ظهر حمار، فقد يكون في اعتقاد أصحاب رواية القفص أنّهم وضعوا الله تعالى على وسيلة أفضل!! لكن الذي جاء من بعدهم لم يستسغ مسألة النزول بذلك الشكل وعلى تلك الحال، فأقرّ بالنزول وأنكر الكيفية، لذلك فإنّك عندما تتصفح كتبهم الروائية المعتمدة، فإنّك تجد روايات النزول بغير كيف، ولا يمكنك أن تعثر على النزول بالكيف إلاّ في الكتب التي ألفت في الفرق الإسلامية ككتاب (الفرق بين الفرق) وكتاب (الملل والنحل) من اتباع تلك المذاهب.

ويطلق عليهم السلف لقول الشهرستاني: " اعلم أنّ جماعة كبيرة من السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزليّة.. ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات


الصفحة 105

الفعل، بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً، وكذلك يثبتون صفات خبرية، مثل: اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك، إلاّ أنّهم يقولون: هذه صفات قد وردت في الشرح فنسميها صفات خبرية. ولمّا كانت المعتزلة ينفون الصفات، والسلف يثبتون الصفات، سمّي السلف (صفاتية)، والمعتزلة (معطلة) فبالغ بعض السلف في إثبات الصفات، إلى حد التشبيه بصفات المحدثات "(1).

أمّا ابن تيمية فيقول: " وأصحاب الحديث ليسوا جميعاً على كلمة واحدة، وإنّما كان لبعضهم آراء لم يوافقه عليها غيره، فيضطر أحدهم أحياناً للوقوع بالبدعة في رده على البدعة، كما وقع الإمام أبي القاسم عبد الرحمان بن مندة في قوله: خلو العرش إذا نزل الله إلى السماء الدنيا، وكتب في ذلك مصنف سماه: الرد على من زعم أنّ الله في كُلّ مكان، وعلى من زعم أنّ الله ليس له مكان، وعلى من تأوّل النزول على غير النزول "(2).

وابن تيمية نفسه على ما حكى عنه ابن بطوطة في رحلته، قد سمعه يخطب على منبر الجامع الأموي بدمشق: " إنّ الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا " ونزل مرقاة(3).

وذلك هو الرأي السائد لدى فرق السنّة والجماعة، بكُلّ تفرعاتها، ولم ينج من براثن معتقدهم هذا إلاّ قلّة ممّن كان يستنجد بعلوم أهل البيت (عليهم السلام) .

ويظهر من خلال ذلك كُلّه أنّ واضعي أحاديث النزول لم يكونوا من الذين يعتقدون بكروية الأرض، بل الظاهر هو اعتقادهم بتسطحها، لأنّ الثلث الأخير من الليل لا ينتهي من السماء الدنيا إلاّ بانتهاء الدنيا نفسها، ولو فكّر ابن تيمية

____________

(1) الملل والنحل للشهرستاني 1: 92.

(2) مجموع الفتاوى الكبرى 21: 240 .

(3) رحلة ابن بطوطة: 90.


الصفحة 106

وابن مندة وأبا الفراء ومن تبعه من الحنابلة ومالك واتباعه، وأعطوا لعقولهم مجال السؤال والبحث والإجابة: لردوا حديث النزول؛ لاستحالة إمكانه.

وإلى الذين لا يزالون يعتقدون بصحة أحاديث النزول نقول لهم: إذا سلّمنا بمقالتكم تلك في نزول الباري تعالى فمتى يكون الصعود؟

وقد عرض حديث النزول على الإمام علي بن موسى الرضا ثامن أئمة أهل البيت (عليه السلام) فقال: " لعن المحرفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذلك، إنّما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله تبارك وتعالى ينزل ملكاً إلى السماء الدنيا كُلّ ليلة، في الثلث الأخير، وليلة الجمعة أوّل الليل فيأمره، فينادي: هل من سائل فأعطيه ؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟"(1).

لأن المولى تعالى ليس في حيز ولا في جهة ولا هو محتاج إلى فعل كي يفعله: { إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شيئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } (2).

أما التجسيم في عمومه فإنّ الشيخ إسماعيل بن عبد الرحمان النيسابوري الصابوني قد قال: " ويثبتون له جلّ جلاله ما أثبت لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله (صلى الله عليه وآله)، فيقولون: إنّه خلق آدم بيديه، وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن الكريم، ووردت به الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه... والفرح والضحك وغيرها - ويضيف الشيخ - : ويعتقد أهل الحديث ويشهدون أنّ الله سبحانه وتعالى فوق سماواته على عرشه، ويثبتون نزول الربّ سبحانه إلى السماء الدنيا من غير تشبيه له.

____________

(1) التوحيد للشيخ الصدوق: 176، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) للشيخ الصدوق 2: 116، الاحتجاج للطبرسي 2: 193، بحار الأنوار 84: 163.

(2) ياسين: 82.


الصفحة 107

ويوكلون علمه إلى الله، وكذلك يثبتون المجيء والإتيان المذكورين في قوله عزّ وجلّ: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ } . و: { وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } (1).

ولأهل السنّة في فرارهم من الاعتراف بالتقصير وقلّة العلم وفقدان الحجّة طريق يسمّونه (ترك التأويل وتوكيل العلم فيه إلى الله تعالى)، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: { وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا } (2). وقد ردّ عليهم الشيخ محمّد حسن المظفر - طيب الله ثراه - بقوله: " إنّ الآية الكريمة التي يعتبر هؤلاء نصّ على أنّ الراسخين في العلم جاهلون بالمتشابهات، ويوكلون علمها إلى الله تعالى بدعوى أن قوله تعالى: { وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ } جملة مستأنفة، ولا أظن عارفاً يرضى به، وينكر أن يكون الراسخون عطفاً على لفظ الجلالة.

كيف وذلك يستلزم مخالفة الظاهر في أن يكون علم التأويل مختصاً بالله تعالى، فيكون النبيّ (صلى الله عليه وآله) مرسلاً بما يجهله، وما يخلو من الفائدة له ولأمته، وخطئاً في حق أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه عالم علم الكتاب؟!!

وظنّي أنّ الداعي لهم إلى مخالفة الظاهر والتزام هذه المحاذير هو إنكار فضل آل محمّد - صلى الله عليهم - فإنّهم لو أقرّوا بأنّ قوله ? وَالرّاسِخُونَ ? عطف على لفظ الجلالة لم يمكنهم إنكار فضل آل محمّد، العالمون بمتشابه القرآن بعد أن أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّهم قرناء القرآن، لا يفارقونه، حتّى يردا عليه الحوض، فإنّه يقتضي علمهم بكُلّ ما فيه، وإلاّ لفرق بينهم وبينه الجهل به.

____________

(1) الفجر: 22.

(2) آل عمران: 7.


الصفحة 108

فالحقّ أنّ الراسخون في العلم عالمون بالمتشابه كُلّه، وأنّهم مخصصون بالعترة الطاهرة، وإذا خصهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعدم المفارقة للقرآن أوجب على أمته التمسك به وبهم "(1).

وعلى ذلك فإنّ دعوى اختصاص المولى بعلم متشابه القرآن باطلة عقلاً ونقلاً، لأنّه تكليف بما لا يطاق من جهة، ولا يستند إلى أساس منطقي من جهة أُخرى، كما لا يدخل المتشابه من القرآن في علم الغيب، حتى ينصرف الاعتقاد به مجملاً.

عن إسحاق بن راهويه قال: قال لي الأمير عبد الله بن طاهر: " يا أبا يعقوب هذا الحديث الذي ترويه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينزل ربّنا كُلّ ليلة إلى السماء الدنيا كيف ينزل؟

قال: قلت أعزّ الله الأمير لا يقال لأمر الرب كيف؟ إنّما ينزل بلا كيف "(2).

وعن محمّد بن سلام: " سألت عبد الله بن المبارك عن نزول ليلة النصف من شعبان؟

فقال عبد الله: يا ضعيف ليلة النصف، ينزل كُلّ ليلة.

فقال الرجل: يا أبا عبد الله كيف ينزل؟ أليس يخلو ذلك المكان منه؟

فقال عبد الله: ينزل كيف يشاء، ثُمّ قال: وخبر نزول الربّ كُلّ ليلة إلى السماء .. خبر متفق على صحته، مخرج في الصحيحين من طريق مالك بن أنس، عن الزهري وابن سلمة، عن أبي هريرة "(3).

____________

(1) عقيدة السلف وأصحاب الحديث: 161 ـ 200.

(2) توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيّم 1: 516.

(3) الغنية عن الكلام وأهله 1: 22 ــ 23.


الصفحة 109

وأخرج البيهقي في الاعتقاد عن يحيى بن يحيى يقول: " كنّا عند مالك بن أنس، فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله، قوله تعالى: { الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى } كيف استَوى؟

فأطرق مالك رأسه، حتى علاه الرمضاء ثمّ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، فأمر به أن يخرج "(1).

واستمر ترسيخ عقيدة التوحيد المحرفة بذلك الشكل، والتي تتطابق إلى حدّ بعيد مع عقيدة اليهود والنصارى في التجسيم ومن قبلهم قدماء الإغريق والبربر وعرب الجاهلية، إلى أن جاء أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (270/324) بآرائه التي خرج بها إلى الناس في العقيدة، وقد كان من قبل مائلاً إلى الاعتزال، وانصرف عامّة اتباع تلك المذاهب التي لا ترى عن الصحابة بما فيهم من برّ وفاجر بديلاً عن أخذ الدين والعقيدة، إلى الأخذ بأقواله وآرائه في العقيدة، ومن جملة ما جاء به الأشعري في التوحيد قوله: " إنّ الله علا على عرشه كما قال: { الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى } ، وأن له يدين بلا كيف، كما قال: { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ }، وأنّ له عينين بلا كيف، كما قال: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنا }، وأنّ له وجهاً بلا كيف، كما قال: { وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ }، وأنّه يجيء يوم القيامة هو ملائكته كما قال: { وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }، وأنّه يقرب من عباده كيف يشاء، كما قال: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } .. ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا.. "(2).

____________

(1) الاعتقاد للبيهقي: 210.

(2) أقاويل الثقات 1: 145.


الصفحة 110

قال ابن بطال: " ذهب جمهور أهل السنّة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله في الآخرة .. لإمكان رؤية الشيء من غير إحاطة بحقيقته "(1).

قال القرطبي: " وأهل السنّة لا يشترطون شيئاً من ذلك سوى وجود المرئي، وإنّ الرؤية إدراك يخلقه الله تعالى للرائي فيرى المرئي، وتقترن بها أحوال يجوز تبدلّها "(2).

وقال النووي أيضاً: " مذهب أهل السنّة أنّ رؤية المؤمنين ربّهم ممكنة، ونفتها المبتدعة من المعتزلة والخوارج، وهو جهل منهم، فقد تضافرت الأدلّة من الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة وسلف الأمة على إثباتها في الآخرة للمؤمنين، وأجاب الأئمة عن اعتراضات المبتدعة بأجوبة مشهورة، ولا يشترط في الرؤية تقابل الأشعة ولا مقابلة المرئي وان جرت العادة بذلك فيما بين المخلوقين "(3).

انظر هداك الله تعالى إلى هذا الهوس! وتأمّل بعقلك مدى اجتراء تلك الفرق على الله تعالى؟! كأنّهم في ذلك يتّبعون بني إسرائيل، وأن ضرب الله تعالى بهم مثلاً، قال تعالى: { أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أو تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (4).

ولم يقفوا عند هذا الحد فجوزوا رؤية المولى سبحانه وتعالى في المنام، قال ابن حجر في فتح الباري: " وجوزوا رؤية الباري عزّ وجلّ في المنام مطلقاً، ولم يجروا فيها الخلاف في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأجاب بعضهم عن ذلك

____________

(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 13: 356.

(2) المصدر السابق.

(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 11: 389.

(4) الزخرف: 40.


الصفحة 111

بأمور قابلة للتأويل في جميع وجهوها، فتارة يعبّر بالسلطان، وتارة بالوالد، وتارة بالسيّد، وتارة بالرئيس، في أيّ فنٍ كان "(1).

وقال الغزالي: " ليس معنى قوله: (رآني) أنّه رأى جسمي وبدني، إنّما المراد أنّه رأى مثالاً، صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسي إليه، وكذلك قوله: "فسيراني في اليقظة"، ليس المراد أنّه يرى جسمي وبدني، وقال: والآلة تارة تكون حقيقة، وتارة تكون خياليّة، والنفس غير المثال المتخيل، فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى ولا شخصه، بل هم مثال له على التحقيق.

قال: ومثل ذلك من يرى الله سبحانه وتعالى في المنام، فإنّ ذاته منزّهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره، ويكون ذلك المثال حقاً في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي رأيت الله في المنام لا يعني أني رأيت ذات الله تعالى كما يقول في حق غيره ".

وقال أبو القاسم القشيري ما حاصله: " إنّ رؤياه على غير صفته لا تستلزم إلا أن يكون هو، فإنّه لو رأى الله على وصف يتعالى عنه، وهو يعتقد أنه منزّه عن ذلك، لا يقدح في رؤيته "(2).

هكذا إذاً تراهم يتشبثون بكُلّ حبل ويلوذون بكُلّ ناحية في الاعتقاد بالله والتقرّب منه، دون أن يحتملوا - ولو بنسبة ضئيلة - وساوس الشيطان وألاعيبه وخدعه التي لا تكاد تحصى، ومنها الأحلام التي سقط في شراكها أكثر

____________

(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 12: 342.

(2) المصدر السابق.


الصفحة 112

الناس، ولو كان الله تعالى يرى في المنام - كما يزعم هؤلاء الذين تسنموا علياء المراكز العلميّة عند عامّة المسلمين ظلماً وزوراً - لأمكن للصفوة الطاهرة من أنبياء ورسل وأئمة أن يروه كذلك، وأن يأتينا الخبر اليقين عن طريقهم وبواسطتهم.

في تفسيرهم للاستواء:

فقد قال ابن حجر: " قال مجاهد: استوى علا على العرش.. قال ابن بطال: اختلف الناس في الاستواء المذكور هنا، فقالت المعتزلة: معناه الاستيلاء بالقهر والغلبة، واحتجوا بقول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق

وقالت الجسميّة: معناه الاستقرار، وقال بعض أهل السنّة: معناه ارتفع وبعضهم معناه علا، وبعضهم الملك والقدرة، واختلف أهل السنة هل الاستواء صفة ذات أو صفة فعل؟ "(1).

وقال ابن حجر: " وأخرج البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال: كُلّ ما وصف الله نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه "(2).

وبذلك قال شهاب الدين السهروردي في عقيدة كتابه أرباب التقى: " أخبر الله في كتابه وثبت عن رسوله (صلى الله عليه وآله) الاستواء، والنزول، والنفس، واليد، والعين، والأصابع "(3).

____________

(1) المصدر السابق 13: 342.

(2) المصدر السابق 13: 343.

(3) المصدر السابق 13: 330.


الصفحة 113

وقال البيهقي: " ومنهم من قال: العين صفة ذات كما تقدم في الوجه "(1).

وقال ابن حجر: " استدل ابن قتيبة بذكر الصورة على أنّ الله صورة لا كالصور، كما أنّه شيء لا كالأشياء "(2).

قال الشهرستاني في كتابه الملل والنحل: " اعلم أنّ جماعة كبيرة من السلف ] السنّة والجماعة[ كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من: العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، والجلال، والإكرام، والجود، والإنعام، والعزّة، والعظمة، ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقا واحداً، وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل: اليدين، والوجه، ولا يؤولون ذلك، إلاّ أنّهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية. ولما كان المعتزلة ينفون الصفات والسلف يثبتون، سمي السلف صفاتية والمعتزلة معطلة، فبالغ السلف في إثبات الصفات إلى حد التشبيه بصفات المحدثات.

ثُمّ إنّ جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف، فقالوا: لا بدّ من إجرائها على ظاهرها، فوقعوا في التشبيه الصرف "(3).

وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته، وعند استعراضه لنشأة علم الكلام قوله: " إنّ القرآن ورد فيه وصف المعبود بالتنزيه المطلق، الظاهر الدلالة من غير تأويل، في آي كثير، وهي سلوب كلها صريحة في بابها، فوجب الإيمان بها ووقع في كلام الشارع - صلوات الله عليه - ، وكلام الصحابة والتابعين

____________

(1) المصدر السابق 13: 330.

(2) المصدر السابق 13: 357.

(3) الملل والنحل للشهرستاني 1: 93.


الصفحة 114

تفسيرها على ظاهرها، ثُمّ وردت في القرآن آي أخرى قليلة توهم التشبيه، وقضوا بأنّ الآيات من كلام الله، فآمنوا بها ولم يتعرضوا لمعناها ببحث ولا تأويل، وهذا معنى قول الكثير منهم: اقرأوها كما جاءت، أي آمنوا بأنّها من عند الله ولا تتعرضوا لتأويلها ولا تفسيرها لجواز أن تكون ابتلاء، فيجب الوقف والإذعان له، وشذّ لعصرهم مبتدعة اتبعوا ما تشابه من الآيات، وتوغلوا في التشبيه، ففريق شبّهوا في الذات باعتقاد اليد والقدم والوجه، عملاً بظواهر وردت بذلك، فوقعوا في التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق... ثُمّ يفرّون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام ... وفريق منهم ذهبوا إلى التشبيه في الصفات، كإثبات الجهة والاستواء والنزول والصوت والحرف، وأمثال ذلك، وآل قولهم إلى التجسيم، فنزعوا مثل الأولين إلى قولهم: صوت لا كالأصوات، جهة لا كالجهات، نزول لا كالنزول... وقام بذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط بين الطرق ونفى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية، وقصر التنزيه على ما قصر عليه السلف وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه، فاثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق النقل والعقل "(1).

ولو أنك تصفحت بقية كتبهم الكلامية، وجالت عيناك في صفحاتها، لأمكنك أن تقف على ضحالة الفكر والمعتقد عندهم، بحيث يختلقون الأعذار والتبريرات عند العجز عن الجواب، ويفرون من جهلهم إلى نسبة النقص في دين الله، وتكليفه لخلقه بما لا يعلمون، وبالتالي بما لا يستطيعون، وهو مخالف لقوله تعالى: { لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَها } (2).

____________

(1) تاريخ ابن خلدون 1: 463 ــ 465.

(2) البقرة: 286.


الصفحة 115

ولا أخال عاقلاً يقول بأنّ الله تعالى أرسل نبيه (صلى الله عليه وآله) بما يجهل، وكلّف الناس بما لا يعرفون، وتركهم في حيرة من أمرهم بين سائل ومسلم، وبين منزّه ومجسّم، وبين قدري ومرجئ، وجبري ومفوّض.

أخيراً وبعد أن أحلتك أيّها القارئ العزيز على جملة من مقالات أصحاب هذا الاعتقاد في التوحيد، ممن ينتسب إلينا عقيدة وشريعة، بل لعلهم من الذين يعتقدون أنّهم على خير كثير، كيف لا وهم في تصورهم اتباع الرسول وسنّته، وغيرهم بعيدون عن إسلامهم، متنكبون عنه.

أخيراً أقول: حريّ بي وبك أن نقف على رداءة ذلك الاعتقاد والتصور، وسخافة ما ساقوه من تبريرات واهية، وهم الذين يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً، يقذفون البيوت التي أذن الله تعالى أن ترفع بكُلّ بليّة وفريّة، وبيوتهم لا تكاد تحصى عوراتها، وتخبطهم في التوحيد وصفات الله تعالى كالمحتضر حال النزع، موقوف بين عالمين، فمن جهة تراهم يتهربون من التجسيم ليس إلى تنزيه المولى سبحانه وتعالى، كما هو شأن أئمة أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، بل إلى تجسيم عجيب وغريب، اخترعته عقولهم، وتفتقت به أذهانهم، فقالوا: بعدم الكيف، وأبطلوا السؤال مع إثبات صفات الجسم والحال!! وعدوا غيرهم ممن دان بالتوحيد الصحيح ورفض الإذعان لخرافات سلاطين الظلم والجور مبتدعة ورافضة.

أخي المسلم: لا شك أنّ الدين قد مرّ قبل وصوله إلينا بقنوات مشبوهة، كان لها أثر كبير في تحريف ما وصل إلينا منه، وقد تضررت عقيدة السواد الأعظم من المسلمين، بما علق بها من أكاذيب وتآويل خاطئة، وقد حان الوقت لنستأصلها ونعيد الحقّ إلى نصابه، والدر إلى معدنه، بالعود إلى


الصفحة 116

المستحفظين على كتاب الله، والناطقين عنه، ثقله الأصغر، كما أحالنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قبل بقوله: " تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وأنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما "(1).

والمعتصم بهم آمن من الزيغ والانحراف، وبمنأى عن التناحر والاختلاف، محفوظاً في كنف المولى تعالى من الانصراف إلى أئمة النار وحزب الشر والأشرار، اتباع الشيطان وأوليائه من الدعاة إلى التعبد بالشك والظن.

والآن وبعد أن عرضت عليك العقيدتين، وأبنت لك الخيارين، وظهرت من خلال ما قلته رايات الهدى خفاقة على رايات الضلالة، ليس أمامك غير طريقين لا ثالث لهما: فإمّا أن تعبد الله الحقّ، إله الأنبياء والمرسلين، إله محمّد وآله الطاهرين (صلى الله عليه وآله)، الذي لا يتجزّأ ولا يتحيّز، ليس كمثله شيء، لا يرى في الدنيا يقظة أو مناماً، ولا يرى في الآخرة، لامتناع الإحاطة بالمحيط، ذو الصفات التي لا حصر لها، وهي عين ذاته المقدسّة، آياته وآثاره دالّة عليه، وقدرته في خلقه إثبات على أنّه موجود، وكُلّ ما ورد علينا في كتابه العزيز وما جاءنا من صحيح كلام سيّد المرسلين بخصوص خالق الكون، ما هو في

____________

(1) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة، المتفق عليه بين الفريقين، وارجع إلى المصادر التالية للاطلاع عليه:

مسند أحمد بن حنبل 3: 14 و 17 و26 و59، 5: 182 و328 و329، فضائل الصحابة للنسائي: 15، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 163 و 165، 10: 363، مسند ابن الجعد: 397، ما روي في الحوض والكوثر لابن مخلد القرطبي: 88، السنّة لعمرو بن عاصم: 327 و 629 و 630، السنن الكبرى للنسائي 5: 45 و 130، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 93، مسند أبي يعلى الموصلي 2: 297 و 303 و 376، المعجم الأوسط للطبراني 3: 374، 4: 33، 5: 89، المعجم الأصغر للطبراني 1: 131، المعجم الكبير للطبراني 3: 65 و 66 و 67 و 180، 5: 154 و 166 و 170.


الصفحة 117

حقيقته غير تقريب للذهن، وإشارات للعقل، وإلاّ فإنّ تركيبة التحصيل في البشر الضعيف عاجزة عن الوصول إلى حقيقة المعرفة، وليس أدلّ على ذلك من قوله (صلى الله عليه وآله): " إنّ الله تعالى قد احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وإنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه "(1) أو أن تعبد هذا الذي يعرضه عليك هؤلاء التائهين، الذين اتخذوا من عنوان سنّة سيّد المرسلين مطية لتمرير الكذب والبهتان على أنّه سنّة، ومن ذلك ما جاؤوا به في التوحيد من أنّ الله تعالى على صورة آدم، وإن قالوا: بلا كيف، فقد كيّفوا نتيجة انصرافهم عن آل طه، وانحرافهم عن الراسخين في العلم.

نسأل الله تعالى ختاماً أن يلزمنا كلمة التقوى، ولا يحيد بنا عن صراطه المستقيم، ولا يباعد بيننا وبين أوليائه الذين اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، ويهدي أُمّة الإسلام بالرجوع إليهم بعد قرون التيه والضياع، إنّه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

____________

(1) بحار الأنوار للمجلسي 66: 292، مشرق الشمسين للبهائي: 396.


الصفحة 118

الصفحة 119

حاكمية الله أم حاكمية الناس

توطئة:

عندما بدأت أتعرّف على الدين الإسلامي وأحاول فهم تعاليمه وتطبيق أوامره ونواهيه، كان العامل الوراثي هو المحدد لخياراتي والمثبت لقناعاتي، فسلكت طريقي بين مورثات عديدة لم أقف على حقيقة انتمائها للدين إلاّ بعد أن اصطدمت بالواقع المعاش، وبحال الأمّة كيف تردّت إلى حضيض الأُمم وأصبحت مطمع الطامعين.

تساءلت يوم بدأت الشكوك تساورني والظنون تتقاذفني، لتلقي بي على ساحل من الأسئلة التي تبحث عن قراءتها من الأجوبة الشافية: لماذا هذا الضياع والانحطاط الأخلاقي والعلمي؟

لماذا أصبحت أغلبية الأمة غثاء كغثاء السيل؟

ما هي الأسباب التي أدّت بصاحبة أعظم دين وأكمل شريعة إلى أن يصبح حالها كقطيع شارد في ليلة مظلمة مطيرة بلا راع وحام؟

منذ بدأت أعي شيئاً من السياسة كنت أرى العرب المنتسبين إلى الإسلام بالاسم، وحتّى الذين يطبقون منه بعض الأحكام يتقافزون مع كُلّ صيحة ويتّبعون أثر كُلّ ناعق، ويستهويهم كُلّ بهرج، وتفتنهم كُلّ زينة، مذبذبين في ولاءاتهم، متحيرين في حركاتهم، أي طريق يسلكون، وإلى أي ركن يلجأون، بعد ما تنافرت روايات الحكومة وتباينت، كأنّما أُفرغت شريعة المصطفى (صلى الله عليه وآله) من سياسة الناس! وخلت من منصب القيادة حتى انثال


الصفحة 120

المسلمون على الأدعياء، وسلكوا طريق الغرباء، لمجرّد شعارات زائفة، وكلمات براقة، ومظاهر خداعة!! هل هو بسبب عجز الدين وقصوره بحيث لا يفي في مجموع تشريعاته بحاجة الناس أم أنّ المسلمين هم الذين أفضوا بتفريطهم إلى هذه النتيجة من التردي والانحطاط؟

وجاء الجواب بحكم اطلاعي على أهم الأحداث التي شكلت واجهة تاريخ الأمة: ومحصل حالها إنّ هذا الدين الخاتم ليس فيه ما يفيد العجز والقصور، ولا يستشف من مجمل مفاهيمه غير الكمال والتمام فضلاً عن شموليته وعالميته، فالمولى سبحانه وتعالى أفادنا في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وعن طريق نبيه قائد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) فضلاً عن الناس بأنّ الإسلام الذي هو بشارة الأنبياء ورسالاته السابقة هو الدين الأوحد والقيم على كُلّ دين، وجوهره فيه خلاصة التوحيد، وصفوة الأحكام، وعظمة الحاكمية. تضافرت بيناته، واستحكمت آياته، فلم يجد أحد من أعدائه فيه مغمزة، ولا ثلمة، ولا نقيصة حتى يحكم الطعن، ولو كان غير ذلك لأبانوه وأجهزوا عليه، ولألقي على رف النسيان، غير أنّ الذي ألقاه فرق من أهله وأحزاب من المنتسبين إليه قال تعالى: { ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ } (1).

وقال أيضا: { وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ } (2) وقال كذلك: { وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ } (3).

تشير الآيات الثلاث إجمالاً إلى أنّ القرآن جامع لكُلّ ما يحتاجه الناس لدنياهم وآخرتهم، وعلى ذلك يمكنهم القول بأنّ التصريح الإلهي يندرج

____________

(1) الأنعام: 38.

(2) النحل: 89.

(3) الأنعام: 59.


الصفحة 121

ضمن الإعجاز الذي جاء في مضمون الكتاب، ولقائل أن يقول: طالما أنّ الكتاب فيه تبيان كُلّ شيء وأنّ المولى سبحانه وتعالى لم يفرط فيه من شيء فأين تكمن معالم الحكومة الإسلامية أو الإلهية؟

لكن قبل أن يصل بحثنا ويفضي إلى مبتغاه لا بدّ من الإشارة ولو بإيجاز إلى أنّ بيان الأحكام لا يكون إلاّ من نظير القرآن وعدله، وهو الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وعترته الطاهرة (عليهم السلام) من بعده حفظة وقائمين عليه.

لقد أشار الباري تعالى في محكم كتابه إلى حكومته وحدد معالمها، فجاء قسم منها شاملاً وعاماً لمعناها، ناسباً إليه مقاليد جعلها، باعتباره خالق الكون والحياة، ومنشئ كُلّ النواميس والقوانين المثلى فقال: { إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (1)، وقال أيضاً: { أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ } (2). وقال أيضا: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ } (3)، وقال أيضا: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } (4)، وقال أيضا: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ } (5).

فيفهم من هذه الآيات وغيرها أنّ مسالة الحاكمية لله تعالى بصفته المشرع الأوحد، منه تبتدأ واليه تنتهي، فلا يحق لمخلوق أن يدّعي الحاكمية على الناس إلاّ إذا كان مستمداً ذلك من حاكمية المولى سبحانه وتعالى.

ولئن انتهى دور الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) بمجرّد وفاتهم بصفتهم حكاماً

____________

(1) يوسف: 40.

(2) الأنعام: 62.

(3) المائدة: 44.

(4) المائدة: 45.

(5) المائدة: 47


الصفحة 122

مرشدين إلى الحق، فقد بدأ بعدهم مباشرة دور الحاكمة الهادية التي لا تنفك بزوال النبيّ (صلى الله عليه وآله) بل تتواصل في إطار آخر وهي الإمامة والتعبد إلى الله تعالى بحكومة، والتقرب منه بواسطته التي جعلها بينه وبين الناس، يرجعون ويحتكمون إليها، ويسلّمون لها في أسمى معاني العبودية والقرب منه تعالى، لذلك عنون المولى تلك العلاقة واعتبرها ديناً قيماً.

وقسم ثانٍ خاصّ ومعدد في معناه دالاً على أنّ الحُكم الذي هو لله تعالى بالأصالة موكول إلى أشخاص معينين، اصطفاهم وزكاهم واختارهم دون غيرهم، لعلمه بحقيقتهم الباطنة، وإمكانياتهم التي يعجز المخلوق عن إدراكها؛ لأنّ المعرفة عند المخلوق في عمومها تقف عند بعض ظواهر المخلوقات.

في إحدى تأملاتي وبينما أنا جالس قريباً من البحر لاحت لمرآي سفينة تشق عبابه، قد تملكها الماء وأحدقت بها الأمواج، بمجرّد أن شاهدت موقعها ولاحظت محيطها ابتدرني سؤال ألح عليَّ في الإجابة يقول: هل يمكن لسفينة أن تسير بلا ربان وهي تحمل في بطنها نفائس المتاع وطبقات الناس؟

وطبيعي لا يتأخر الجواب؛ لأنّ العقل والمنطق يقولان عكس ذلك اذ يستحيل على أي سفينة أن تكون بلا ربان يقودها ويحركها وسط ذلك العباب الزاخر، من مرفأ إلى آخر، سالكاً بها طريق الأمان. والسفينة بلا ربان كالأعمى بلا دليل، تتلاطمها الأمواج وتحملها إلى حيث تتكسر وتغرق.

وفي يوم آخر، بينما أنا استعد لمغادرة منطقة جبلية، استرعى انتباهي تناثر عدد من بيوت النحل البيضاء تحت الأشجار، وإذا بطنين نحلها يملأ الفضاء، كُلّما اقتربت منها، هناك أيضاً ألح علي سؤال يقول: هل يمكن لهذه الأُمم من النحل أن تعيش أو تنتج عسلاً من دون تلك التركيبة التي أودعها


الصفحة 123

المولى سبحانه وتعالى فيها؟

ويأتي الجواب بلا تردد وانتظار: لا يمكن ذلك، لأنّها مجتمعات عجيبة التركيب، منظمة بشكل يأخذ اللب، ويحير العقل.

يعيش النحل على شكل تجمعات دقيقة التنظيم، يتمحور أفرادها حول (إمامة) الملكة التي من دونها لا يمكن لأسراب النحل العامل أن تجتمع لتكون وحدة واحدة متماسكة، بحيث لا يمكن لأيّ نحلة من خارج تلك الوحدة أن تكون ضمنها مهما حاولت، وإن تناقص عدد تلك الخلية.

وصادفني في كثير من الأحيان أن شاهدت في السماء سربا أو أسراباً من الطير أو البجع، يتقدمها دائماً قائد يتحكم في بقية السرب ويحدد وجهته... ولو أنني غصت في أعماق البحار لما وجدت حيوان البحر مختلفا عن حيوان البرّ في شيء من تركيبته الاجتماعية، كذلك الجمادات فإنّ الذرة لها قطب يشكل نواتها ومحور تفاعلاتها، وأيضاً فإنّ الأرض والمجموعة الشمسية حول الشمس وكذا بقية المجرات بشكل دقيق يكشف عن مدى أهمية القطب لتوازن الحياة وانتظامها.

والمتأمّل في نفسه وما حواه جسمه واشتملت عليه جوارحه يدرك القيمة الحقيقية للإمامة والقيادة ولا يرى عنها محيصاً، وكما أنّ الخالق تعالى قد بثّ الإمامة في الحيوان وجعلها أساس انتظامه وجامعة كيانه، وبثّها في الجمادات من أبسط الذرّات إلى أعظم المجرّات؛ فإنّ هذا الإنسان الذي أودع فيه العقل، مستودع الإحساس والعلوم؛ حري بها (الإمامة) وهي من مستلزمات بقائه. وجودها من تمام نظام الملة، وانعدامها فوضى واضطراب، وبذلك يقرّ كُلّ عاقل، ومن شذ عن هذه القاعدة لا يعتد بقوله كما فعل الخوارج في بدأ نشأتهم، ثُمّ عادوا إلى الإقرار بضرورة الإمامة، لمّا اصطدموا بخطورة


الصفحة 124

فكرتهم واستحالتها في الواقع.

وفي إحدى قراءاتي استوقفتني رواية استدلالية عجيبة لأحد أساطين العلماء، هشام بن الحكم، تلميذ الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) .

تتضمن الرواية حواراً جرى بين عالمنا المذكور وهو شاب، وشيخ المعتزلة عمرو بن عبيد البصري وهي:

قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك عليّ، فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة، فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متّزراً بها من صوف، وشملة مرتدياً بها والنّاس يسألونه، فاستفرجت النّاس فأفرجوا لي، ثمّ قعدت في آخر القوم على ركبتيّ ثمّ قلت: أيّها العالم إنّي رجل غريب تأذن لي في مسألة؟

فقال لي: نعم.

فقلت له: ألك عين؟

فقال: يا بنيّ أيّ شي‏ء هذا من السّؤال؟ وشي‏ء تراه كيف تسأل عنه؟

فقلت: هكذا مسألتي.

فقال: يا بنيّ سل وإن كانت مسألتك حمقاء.

قلت: أجبني فيها.

قال لي: سل.

قلت: ألك عين؟

قال: نعم .

قلت: فما تصنع بها؟

قال: أرى بها الألوان والأشخاص.


الصفحة 125

قلت: فلك أنف؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أشمّ به الرّائحة.

قلت: ألك فم.

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أذوق به الطّعم.

قلت: فلك أذن؟

قال: نعم.

قلت فما تصنع بها؟

قال: أسمع بها الصّوت.

قلت: ألك قلب؟

قال: نعم.

قلت: فما تصنع به؟

قال: أميّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح والحواسّ.

قلت: أو ليس في هذه الجوارح غنًى عن القلب.

فقال: لا .

قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة.

قال: يا بنيّ إنّ الجوارح إذا شكّت في شي‏ء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردّته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشّكّ.


الصفحة 126

قال هشام: فقلت له: فإنّما أقام اللّه القلب لشكّ الجوارح.

قال: نعم.

قلت: لا بدّ من القلب وإلاّ لم تستيقن الجوارح.

قال: نعم.

فقلت له: يا أبا مروان، فاللّه تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتّى جعل لها إماماً يصحّح لها الصّحيح ويتيقّن به ما شكّ فيه ويترك هذا الخلق كلّهم في حيرتهم وشكّهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً يردّون إليه شكّهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك تردّ إليه حيرتك و شكّك؟!

قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً (1).

الإمامة هي القيادة في المنظومة الإسلامية.. هي رأس الأُمة وروحها التي تحركها، وعينيها اللتين تبصر بهما وتميز، ومن دونها تفتقد الدليل الموصل إلى الهدف، والمرشد الراعي للمصلحة العليا، وقد يصطلح عليها البعض لفظ الخلافة والخليفة.

الإمام هو القائد الذي أنيط به عهدة هداية الأمة وإرشادها والسير بها وفق تعاليم الإسلام الحنيف.

اختلف القائلون بوجوب نصب الإمام إلى قولين أساسيين:

القول الأول:

وقد اعتمده جانب من المسلمين وتتلخص رؤيته: في أنّ الإمام لطف واجب على الله تعالى لحفظ دينه وتطبيقه في الناس. يكون تعيينه بالنصّ منه تعالى ويكون على النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر البلاغ والتنصيب.

____________

(1) الكافي للكليني 1: 170، الأمالي للشيخ الصدوق: 686، الاحتجاج للطبرسي 2: 127.


الصفحة 127

القول الثاني:

وقد اعتمده جانب آخر من المسلمين، وتتلخص رؤيته: في أنّ الخليفة قائد الأمة يوكل أمر تعيينه للمسلمين، ويرون أن السياق التاريخي للخلافة وما وقع في الحقيقة دليل على أن الشورى هي المبدأ الواقعي في اختيار الخليفة؛ لأنّه لا نصّ يرونه في اختيار الخليفة من قبل الباري تعالى.

وباعتبار أنّ هاتين المدرستين تشكلان الغالبية العظمى من المسلمين فإنّ استعراض أدلة كُلّ منهما، في مسعى لمعرفة القول الأصح والنظرية المثلى التي تتطابق مع ما جاء من أحكام لأجل استنهاض الأمة وتحريكها من الجمود وحالة التيه واللامبالاة التي تهيمن على أفرادها.

وباعتبار عظم خطر الإمامة، وجسامة دورها، وثقل مسؤوليتها، وفداحة فقدها في الأمة، كان لا بدّ من المقارنة بين الرأيين، لترجيح الأولى، مساهمة في بيان تجربتي ودراساتي التي وضعتني على أعتاب البيوت التي ذكرها الباري تعالى في كتابه العزيز فقال: { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (1).

عندما نتأمل أراء القائلين بمبدأ الشورى في اختيار الإمام بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) نرى أنها مشوشة ومضطربة ولا تكاد تقف على أساس سليم، فلا النصوص التي شحذوا أسنتها لتكون أبلغ في إصابة الهدف وفت بما أمّلوه منها، ولا النتائج التي حصلت من جراء تطبيق ذلك المبدأ أفرزت نظرية يمكن الاستئناس بها، والاعتماد عليها، فقد طغى على جميعها تضارب وتناقض فيما بين النصوص والتطبيقات .

ولقائل أن يقول: هل كانت الشورى طريقاً إلى اختيار الإمام؟ وإذا كانت

____________

(1) البقرة: 189.


الصفحة 128

كذلك لماذا لم نجد بين أيدينا نصوصاً تحدد كيفيتها؟ هل هي مبدأ عام يشمل كُلّ المسلمين؟ أم هو خاص بخاصتهم ووجهائهم؟ وما هي خصائص الإمام حتى يكون مؤهلاً لاختيار الناس؟ أم ترى أنّ القوة هي ديدن المتسلّقين لكرسي الإمامة؟

ومع ما أهمله المؤرخون من أحداث وحقائق، تبعاً لانتمائهم الفكري والعقائدي، وتحت تأثير السلطة الحاكمة في رقابهم زمن حياتهم فإنّه قد مرّ إلينا من النصوص ما يقيم الدليل على أحقية الفكرة دون الأخرى، وعلى صحّة هذا الرأي دون الآخر، كُلّ ما هو مطلوب منّا شيء واحد فقط أن ننزع عن أنفسنا غائلة التعصب الأعمى الذي ظل مكبلاً لعقولنا وقلوبنا، مستحكماً طوقه على آبائنا قرون عديدة، أنا واحد من الذين هداهم الباري تعالى إلى إماطة هذا الداء العضال عن قلبي وعقلي، فأبصرت كثيراً من الحقائق التي كنت من قبل أمر عليها مرور الكرام دون التفات إلى جواهرها السنية ومعانيها التي لا تحتاج إلاّ إلى وقفة تأمل.

أوّل الحقائق التي لا تخفى عن عين البصير هي: أنّ ما جاءنا من تراث تحمله بطون كتب التاريخ والسير والحديث قد اختلط فيه الغث بالسمين، والسليم بالسقيم، والصحيح بالمفترى. وهذا ليس استنتاجاً حاصلاً لديّ فقط، وإنّما هو قرار من السواد الأعظم من الحفاظ وأصحاب الدراية بعلم أحوال الرجال (الجرح والتعديل)، فقد طفحت كتب روايات الحديث والسير والتاريخ بعدد من المرويات التي لا علاقة لها بالرسول (صلى الله عليه وآله)، أخضعها المتزلّفون للسلاطين، واخترعها المتنكبون عن الدين، وقد بلغ بهؤلاء الأمر لتمرير بدعهم وأهوائهم إلى اختلاق شخصيات وهمية لا وجود لها، وألبسوها جلباب الصحبة وجعلوهم جميعاً عدول الأمة وثقات العصر النبوي.


الصفحة 129

استند القائلون بحرية اختيار الخليفة أو القائد على نقطتين:

الأولى: الآيتين القرآنيتين { وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (1) و{ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ} (2) .

والثانية: إنّ الصحابة اختاروا أبا بكر خليفة بعد مشورة، وباعتبار أنّ فهمهم لمبدأ الاختيار كان جماعياً فإنّ عملهم حجّة مطابقة لما جاءت به.

أمّا بخصوص الآيتين:

فليس هناك ما يدل على أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) أخذ بمشورة أحد من الصحابة لان الآية الأولى أشارت إلى أنّ العزم راجع إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله)، كُلّ ما في الأمر أنّه كان يحاول أن يربيهم على مبدأ متعلق ببعض المصالح دون الحاكمية.

أمّا الآية الثانية فتحدثت عن الأمر العائد إلى المسلمين، وهو في ظاهره غير متعلق بأي أمر من أمور التشريع، لأنه من اختصاص الباري تعالى.

أمّا ما روي من أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أخطأ في التقدير، ثُمّ أخذ بتصويبه عدد من الصحابة؛ كالحباب بن المنذر في نزول بدر، وعمر بن الخطاب في الأسرى، مضافاً إليها رواية تأبير النخل؛ فهي روايات لا تقوم مع الحقيقة القرآنية التي وضعت الرسول (صلى الله عليه وآله) في مقام العصمة المطلقة والتنزيه التامّ عن ترهات وموبقات ونقائص لو كانت موجودة فيه لما وصلنا من الدين شيء.

وبصرف النظر عن أسانيدها الواهية فقد تصدى لتلك المفتريات على الرسول (صلى الله عليه وآله) عدد من العلماء كشفوا فيه زيف تلك الدعاوي وبطلان تلك المفتريات.

____________

(1) آل عمران: 159.

(2) الشورى: 38.


الصفحة 130

أمّا ثانياً فإنّ عدداً لا يستهان به من الصحابة لم يكن حاضراً في السقيفة حتى تتحقق فكرة الشورى، وفيهم من امتنع عن البيعة زمناً. أمّا المكان الذي وقعت فيه ما سمي بالشورى وهو سقيفة بني ساعدة فإنّه في حقيقته محل شبهة يدعو إلى التساؤل لماذا حصلت عملية الاختيار تلك في مكان لم يعهد فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا ربى جيل الصحابة على ارتياده، وقد كان دأبه جمع الناس وإقامة العقود وإبرام العهود في المسجد الذي أُسس على التقوى؟

والمتأمّل لتلك الحادثة يتساءل: أيّهما أولى، تجهيز ووداع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أم تجاهله حتى دفن ليلا؟

وهل كانت الإمامة تستحق كُلّ ذلك الاهتمام وسرعة التنصيب من قبل الناس ولا تستحق ذلك من قبل المولى سبحانه وتعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله)، والدين آخر الأديان وخاتمها؟

إذاً لم يجد القائلون بالشورى في اختيار ولي أمور المسلمين غير الانصياع إلى الواقع القائم، وإقرار ما وقع من اختيار، رغم أنّه لا يمت إلى الشورى بصلة وهو إلى المنازعة والاغتصاب أقرب منه إلى الطواعية والرضا.

وعمر المؤسس لذلك الاختيار وقف في خلافته قائلاً: كانت بيعة أبى بكر فلتة وتمت ألا وإنها وقد كانت كذلك ولكن الله وقى شرّها، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه، تغرة أن يقتلا "(1)، وحكم بالتالي على بطلان اختياره.

أنّنا كُلّما تأمّلنا في روايات القائلين بمبدأ الشورى في اختيار الخليفة كُلّما

____________

(1) صحيح البخاري 8: 26، كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى من الزنا، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي 7: 615، ح4، الاستذكار لابن عبد البر 7: 258، التمهيد لابن عبد البر 22: 154.


الصفحة 131

انكشفت لدينا ملامح التحريف، وعلامات الدس، بتضارب الروايات، وتنافرها لحد التناقض والافتضاح، أخرج الشيخان: عن ابن عمر في حديث أنه جاء أباه فقال له: " إنّي سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك، زعموا أنّك غير مستخلف، وأنّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثُمّ جاءك وتركها رأيت أنّه قد ضيع، فرعاية الناس أشد؟

قال: فوافقه قولي فوضع رأسه ساعة ثُمّ رفع إلي فقال: إنّ الله عزّ وجلّ يحفظ دينه، وإنّي لئن لا استخلف فإنّ رسول الله - صلى الله عليه ]وآله[ وسلم - لم يستخلف، وإن استخلف فإنّ أبا بكر قد استخلف.

قال: فوالله ما هو إلاّ أن ذكر رسول الله - صلى الله عليه ]وآله[ وسلم - وأبا بكر فعلمت أنّه لم يكن ليعدل برسول الله - صلى الله عليه ]وآله[ وسلم - أحداً، وأنّه غير مستخلف "(1).

إنّ المتأمّل لهذه الرواية يلاحظ حرص عبد الله بن عمر على الأمة، لما علم أنّ أباه غير مستخلف، فأراد تذكيره بخطورة عدم الاستخلاف عندما ضرب له مثل الراعي للإبل والغنم، بل لعل حرص ابن عمر أقوى وأكثر من الله ورسوله، لتفريطهما في أمر الأمة الإسلامية مقابل تفطنه هو، وسعيه للتضحية وتدارك الأمر! فهل خفيت الإمامة على الله ورسوله حتى تتجلى أهميتها لابن عمر؟! ولعلّ أغرب ما أتت به الرواية هو قول عمر نفسه: " وإنّي لئن لا استخلف فإنّ رسول الله - صلى الله عليه ]وآله[ وسلم - لم يستخلف، وإن استخلف فإنّ أبا بكر قد استخلف"، فهل إنّ رسول الله لم يستخلف حقاً وإن

____________

(1) صحيح مسلم 6: 5، كتاب الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها، سنن أبي داود 2: 15 ح 2939، مسند أبي يعلى 1: 182، البداية والنهاية لابن كثير 5: 271، إمتاع الأسماع للمقريزي 14: 478.


الصفحة 132

أبا بكر أحرص منه على الأمة؟

النصوص التي بين أيدينا والروايات بالخصوص تقول غير ذلك، ولعلّ أوّلها دأبه في استخلاف الصحابة على المدينة كُلّما خرج منها، فكيف يكون أحرص على الاستخلاف في حياته منه حين وفاته، مع علمه بأنّه آخر المرسلين، وأنّ النصح للأمة يقتضي أن يختار لها الأصلح ؟! وقد فعل، فحديث المنزلة وحديث الولاية وحديث الثقلين وحديث الخلفاء الاثني عشر وحديث الغدير وغيرها دالة في مضامينها على الاستخلاف.

وهل إنّ استخلاف أبي بكر حجة حتى يوضع مقابل دعوى عدم استخلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!

هل يعتبره هؤلاء شريكاً مع الرسول (صلى الله عليه وآله) فيكون الأخذ بقول أبي بكر والترك لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) مبرئ للذمة؟!

ثُمّ من أين علم ابن عمر أنّ أباه غير مستخلف حتى يرجح كفة عدم الاستخلاف؟ فكل ما قاله عمر هو إنّه مخير بين أمرين.

وهل إنّ عمر لم يستخلف فعلاً ؟

الحقيقة غير ذلك، فعمر اصطدم بحقيقة مرّة بالنسبة إليه وهي: إنّ صاحبيه الذين أسسا السقيفة وأراد استخلافهما وهما: أبو عبيدة عامر بن الجراح حفار القبور، وسالم مولى أبي حذيفة، قد ماتا، لذلك قال: " إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته"(1).

وقال: " لو أدركني أحد رجلين ثُمّ حملت هذا الأمر إليه لوثقت به سالم

____________

(1) مسند أحمد 1: 18، فتح الباري 13: 106، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 25: 460، تاريخ الإسلام للذهبي 3: 173.


الصفحة 133

مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة الجراح "(1).

وعوضاً من أن يستخلف واحداً آخر ممّن قد يحسم مادة الفتن والخلاف استخلف ستة، في عملية نسبها القائلون بمبدأ حرية اختيار الناس للإمامة إلى الشورى .

وأي شورى تلك وهي التي اذكت الأحقاد وأوغرت الصدور، وكثر الحارصين على الحكومة، فقامت بينهم الحروب، وسفكت دماء المسلمين في مواجهة بعضهم، حرصاً وطمعاً في الحكم.

ولئن أفضينا إلى القول بأنّ الحاكمية هي من اختصاص المولى سبحانه وتعالى، عائدة إليه في كُلّ متعلقاتها وجب علينا أن نستأنس بعدد من روايات الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، تناولت مسألة الإمامة العامة، لتكون متضافرة مع آيات الكتاب العزيز، وكيف لا تكون كذلك وهي الشارحة لمعانيه، والمفصّلة لأحكامه.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا يزال الدين قائماً حتى يكون اثنا عشر خليفة من قريش "(2).

____________

(1) مسند أحمد 1: 20، مجمع الزوائد للهيثمي 4: 220 وقال: "رواه أحمد، وفيه علي بن زيد بن جدعان وحديثه حسن، وفيه ضعف"، الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 343، سير أعلام النبلاء للذهبي 1: 170، تاريخ الإسلام للذهبي 3: 56.

أقول: وعلي بن زيد بن جدعان من رجال مسلم، فحديثه صحيح طبقاً لقاعدة تصحيح الرواة الواردين في الصحيحين .

(2) مسند أحمد 5: 88، وقال محقق الكتاب شعيب الارنؤوط "حديث صحيح، وهذا إسناد حسن". المعجم الكبير للطبراني 2: 196، وورد بألفاظ مختلفة، بلفظ "يكون اثنا عشر أميراً" صحيح البخاري 8: 127، كتاب الأحكام، و" يمضي فيهم اثنا عشر خليفة" و "لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً" صحيح مسلم 6: 3، كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش، و"لا يزال أمر الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة" سنن أبي داود 2: 309 ح4279، و"يكون بعدي اثنا عشر أميراً" سنن الترمذي 3: 340 ح2323، وغيرها من المصادر الكثيرة .


الصفحة 134

أجمع الحفاظ كُلّهم على صحة الحديث، وأخرجوه في كتبهم كُلّهم دون استثناء، أخصّ بالذكر منهم ما يسمى بأصحاب (الصحاح الستة)، والحديث جاء مفصلاً وشارحاً لآية: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (1). ومحدداً أن أولي الأمر المقصودين هم الاثني عشر إماماً، المشار إليهم في الحديث.

وبقطع النظر عن تسمية الإمام بالخليفة أو توسيع نسبة الأئمة (عليهم السلام) في قريش فإنّ ما يهمنا في الحديث عددهم، وما يعنيه من أبعاد غيبية فنقباء بني إسرائيل - مثلاً - اثنا عشر، والأعين التي انبجست لموسى (عليه السلام) اثني عشر عيناً، وعدة الشهور اثنا عشر شهراً، وعدة بروج السماء اثنا عشر برجاً، إلى غير ذلك من التوافقات والتطابقات التي لا تصدر إلاّ عن حكيم عليم.

وعدد الأئمة هذا لم يجد له إخوتنا من الأشاعرة (أهل السنّة والجماعة) حلاً، بحيث لم يرسوا فيه على ساحل، ولعل أقواهم فيه الحافظ جلال الدين السيوطي الذي وصفه أحد العلماء بأنّه في هذا الخصوص كحاطب ليل، حيث خلط الحابل بالنابل، والبرّ بالفاجر، ووصل تعداده إلى عشرة، وقال بعد ذلك: " أما الآخران الباقيان فأحدهما المهدي المنتظر ".

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كُلّما هلك نبي خلفه نبي، وإنّه لا نبي بعدي، وستكونوا خلفاء فيكثرون.

قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟

قال: فوا ببيعة الأول فالأول "(2).

____________

(1) النساء: 59.

(2) صحيح البخاري 4: 144، كتاب بدء الخلق، صحيح مسلم 6: 17، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء، إرواء الغليل للألباني 8: 127 ح1373 وقال: "صحيح متواتر .. أخرجه البخاري (2/371) ومسلم (176) وابن ماجة (2871) وأحمد (2/297).


الصفحة 135

في هذا الحديث دلالة على أنّ هناك ترتيب في الأئمة لا بدّ من مراعاته واعطائه حقه، فقوله (صلى الله عليه وآله): " فوا ببيعة الأول فالأول " إشارة واضحة إلى ذلك الترتيب، ويؤيده حديث عدد الأئمة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من كنت مولاه فعلي مولاه "(1)، وقال كذلك مخاطباً علياً (عليه السلام) : " أنت مني بمنزلة هارون من

____________

(1) حديث متواتر الكناني نظم المتناثر من الحديث المتواتر: 194، مسند أحمد 1: 330 بتعليق شعيب الأرنؤوط وقال: "من كنت مولاه فعلي مولاه له شواهد كثيرة تبلغ حدّ التواتر". وقال بتواتره الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4: 333، وقال ابن حجر في فتح الباري 7: 74: " وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد وكثير من اسانيدها صحاح أو حسن" ، وأما المصادر التي خرجت الحديث فهي كثيرة جداً نذكر منها: سنن الترمذي 5: 633، قال الشيخ الألباني: "صحيح"، سنن ابن ماجة 1: 45 و قال الشيخ الألباني: "صحيح"، مسند أحمد 1: 84 و 118 و 119 و 152 و 330، 4: 281 و 468 و 370 و 372، 5: 347 و 366 و 370 و 419، صحيح ابن حبان 15: 419، المستدرك للحاكم وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وسكت عنه الذهبي في التلخيص و 3: 119، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وسكت عنه الذهبي في التلخيص، و3: 126 و 143 و 419 و 613 وقال: "هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه" وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك، المعجم الكبير للطبراني 3: 179 و 180 و، 4: 16 و 173، 5: 166 و 170 و171 و 175 و 192 و 193 و 194 و 195 و 202 و 204 و 212، 12: 97 و291، المعجم الأوسط للطبراني 1: 111، 2: 24 و 275 و 324 و 369، 6: 218، 7: 70، 8: 213، مسند أبي يعلى الموصلي 1: 428، 11: 307، مسند البزار 2: 133، 3: 34، المصنف للصنعاني 11: 225 ح 20388، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي 6: 366 ح 32072 وح32073 وح32078، 368 ح32091، 369 ح32092، 372 ح32118، 374 ح32132، سنن النسائي الكبرى 5: 45 ح8145، 108 ح8399، 130 ح8466 وح8467، 131 ح8468 وح8469 و ح8470 و ح8471 و ح8472 و 132 ح8473 و 134 ح8478 و 136 ح8484، حلية الأولياء 4: 23 و 5: 27 و 364، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2: 569 ح959 و 572 ح967 و 584 ح989 و 991 و 586 ح992 و 692 ح1007 و 596 ح1016 و 597 ح1017 و598 ح1021 و 613 ح1048 و 643 ح1093 و682 ح1167 و ح1168 و ح1206، خصائص النسائي 1: 38 ح 12 و 99 ح82 ح83 و100 ح84 و85 و101 ح86 ح87 و102 ح88 و113 ح93 و117 ح99، مجمع الزوائد للهيثمي 7: 80 ح10978 و 9: 128، باب قوله 2 : "من كنت مولاه فعلي مولاه"، ونقل تحته الأحاديث بالأرقام التالية: ح 14610 و 129 ح14611 و ح14612 و130 ح14613 و 14614 و ح14615 و ح14616 و ح14617 و 131 ح14617 و132 ح14618 و ح14619 و ح14621 و ح14622 و ح14627 و ح14628 وح14629 وح14630 وح14631 وح14632 وح14633 وح14634 وح14635 وح14636 وح14696 و ح14965 و ح 14966، سلسلة الاحاديث الصحيحة 4: 330 ح1750 وصرح بتواتره، ظلال الجنة للألباني 2: 338 و401 و402 و403 و 404 و 405 و 406 و 407 و 408 و 409 و 412، صحيح سنن الترمذي للألباني 3: 213 ح2930، صحيح ابن ماجة للألباني 1: 26 ح98، الاستيعاب لابن عبد البر 1: 338، أُسد الغابة لابن الأثير 1: 233 و 234 و 565 و 683 و 704 و 714 و 898 و 1055 و 1182 و 1184 و1230 و 1303، الاصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2: 15، 164، 609 و 3: 597 و 4: 266 و 328 و 359 و 568 و 6: 401 و7: 161 و 330، الطبقات الكبرى لابن سعد 5: 319، تهذيب الكمال للمزي 3: 441 و 6: 87 و 9: 199 و 11: 90 و 99 و 19: 405 و 20: 484 و22: 306 و397 و 398 و33: 283 و 368، تذكرة الحفاظ للذهبي 1: 10و 3: 1042 و1043، والحديث صحيح لا غبار عليه، وفيه زيادة اختزلها المؤلف وهي ضرورية والحديث بتمامه كالتالي: قال النبي (صلى الله عليه وآله): "اللهم من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاده، وانصر من نصره وأخذل من خذله" فقد صححه بهذا اللفظ كُلّ من: شعيب الارنؤوط في تعليقه على مسند أحمد 1: 118 ح951، المعجم الكبير للطبراني 4: 16 ح3514 و 5: 192 ح5059، مسند البزار 3: 34، سنن النسائي 5: 136 و 154، فضائل الصحابة 2: 599، خصائص النسائي 1: 117 و 167، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 130 وقال: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة، وهو ثقة" و 132 وقال: "رواه الطبراني ورجاله وثقوا"، فيض القدير في شرح الجامع الصغير للمناوي 6: 217، البداية والنهاية لابن كثير 5: 210 وقال: "رواه شعبة عن ابن اسحاق، وهذا إسناد جيد"، السيرة لابن كثير 4: 414، ثمار القلوب 1: 637، وغيرها من المصادر الأخرى .