الصفحة 136

موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي "، أخرجاهما كُلّ الحفاظ بدون استثناء(1).

____________

(1) هذا الحديث متواتر أيضاً، وإليك المصادر التالية: نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكناني: 195، مسند أحمد 1: 170 و 173 و 175 و 177 و 179 و 182 و 184 و 1852 و 331 و 3: 32 و 3: 338 و 6: 369 و 438، وصرّح محقق المسند الشيخ شعيب الارنؤوط بصحة أكثرها .

صحيح البخاري 4: 208، كتاب المناقب، باب مناقب المهاجرين و 5: 129، كتاب المغازي، باب غزوة تبوك، صحيح مسلم 7: 120، كتاب الفضائل، باب فضائل علي، صحيح ابن حبان 15: 15 و 369 و 370، المستدرك للحاكم 3: 117 وصححه، وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك، 3: 143، وصححه، وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك، مسند الطيالسي 1: 28 و 29، المعجم الكبير للطبراني 1: 146، 148 و 2: 247 و 4: 17 و 184 و 5: 203 و 220، 11: 74 و 75 و 12: 18 و 97 و 291 و24: 146 و 147، المعجم الأوسط 2: 126 و 3: 138 و 4: 296 و 5: 287 و 6: 77 و 7: 311 و 8: 39، المعجم الصغير 2: 84 و 137، مسند أبي يعلى 1: 285 وقال محققه: "اسناده صحيح" و 2: 73 وقال محققه: "اسناده صحيح" و 86، وصححه ، و99 وصححه و 132 وصححه، مسند البزار 3: 59 و 276 و 278 و 283 و 284 و 324 و368 و 4: 32 و 38 ، المصنف للصنعاني 5: 405 و 11: 226، المصنّف لابن أبي شيبة 6: 366 و 7: 424 و 9: 40، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2: 566 و 567 و 568 و 569 و 592 و 598 و 610 و 611 و 2: 633 و 638 و 642 و 643 و 663 و 666، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 138 وصححه و 139 وصححه و 140 و 141 وصححه و 157 وصححه ، تخريج أحاديث الإحياء 2: 144 وقال: "متفق عليه"، إرواء الغليل للألباني 5: 11، مشكاة المصابيح 3: 327 وقال: "متفق عليه"، سلسلة الأحاديث الصحيحة 3: 548 ح 1368، ظلال الجنة 2: 337 ح1188، صحيح الترمذي للألباني 3: 214، صحيح ابن ماجة 1: 25، الاستيعاب لابن عبد البر 1: 338، أُسد الغابة 1: 797 و1057، الإصابة في تمييز الصحابة 4: 564 ت 5693، وغيرها من المصادر الكثيرة .


الصفحة 137

ومنزلة هارون من موسى أشهر من نار على علم في كتاب الله حيث يقول تعالى: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } (1).

ويقول ايضا: { وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } (2).

واذا نحن استثنينا النبوة عن علي (عليه السلام) فإنّ بقية المنازل هي بحسب المنظور القرآني - الأخوة - الوزارة - الاشراك في الأمر، والخليفة في القوم، وليس الأهل كما يحاول البعض ممن عميت قلوبهم.

____________

(1) طه: 29 ـ 32.

(2) الأعراف: 142.


الصفحة 138

إنّ الاصطفاء سنّة إلهية متعلقة بأصل الوجود، وخيار رباني لا مفر منه وتغيير يطرأ عليه، منذ آدم إلى يوم الدين، يكفيك أن تراجع القرآن الكريم لتقف على تلك الحقيقة الربانية.

قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (1).

حتى الملائكة لا يخلوا منهم مبدأ الاصطفاء، قال تعالى: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ } (2).

وقال بخصوص آل إبراهيم { فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً } (3).

ولئن آتي المولى تعالى آل إبراهيم ما آتاهم في هذه الآية فإنّ آل محمّد (صلى الله عليه وآله) أفضل من آل إبراهيم وأولى بالمراتب الإلهية والخصائص الربانية.

وقال بخصوص الرسول يحيى (عليه السلام) : { يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } (4).

وقال بخصوص الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (5).

ثم توجه بالنداء والأمر إلى الأمة فقال تعالى: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ

____________

(1) آل عمران: 33 ـ 34.

(2) الحجّ: 75.

(3) النساء: 54.

(4) مريم: 12.

(5) المائدة: 42.


الصفحة 139

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (1).

الخطاب في مستهل الآية متّجه إلى المسلمين، حيث طلب منهم المولى سبحانه وتعالى طاعته وطاعة رسوله وطاعة أُولي أمره. غير أنّ الآية لم تفصل طاعة أولي الأمر عن طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وجعلتها راجعة إليه بالأصالة؛ لأنّ دورهم يتلخص في الهداية والقيام على الشريعة حفظاً وتطبيقاً، فهم الناطقون عن كتاب الله، وهم المبيّنون لعلوم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والمستودعون لِكُلّ ما يتعلق بالإحكام، والمستحفظون على كُلّ ذلك.

وحتى نرفع اللبس عن أولئك الذين يعتقدون خطأ أنّ الآية عامة وليس فيها تخصيص، وأنّ التنازع ممكن مع أولي الأمر بدليل الآية.

نقول: لقد جاءت الآية مخاطبة للمؤمنين، آمرة إياهم بطاعة الله تعالى وطاعة الرسول وأولي الأمر، ثُمّ عادت لتوجه الخطاب إلى المؤمنين بحصر التنازع بينهم، لأنّ الآية صريحة المعنى بوجوب طاعة سلسلة الولاية، ومخالفة ذلك انحراف ومعصية كبيرة، والرد المقصود في الآية يقع الالتجاء إليه عبر أداته وهي الرسول (صلى الله عليه وآله) أو من يقوم مقامه من الأئمة (عليهم السلام) .

ثُمّ تأتي الآية التي في سورة النساء والتي تقول: { وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أو الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } (2) فكيف يمكن إذاً أن تنازع معهم إذا كان أمر بالرد إليهم؟

____________

(1) النساء: 59.

(2) النساء: 83.


الصفحة 140

والآيتان تشيران إلى خاصيّة في أولي الأمر غير موجودة في غيرهم لحاجة الدور إلى ملء الفراغ الذي سيتركه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهي العصمة، ومن هنا نفهم أنّ المولى سبحانه وتعالى لم يأمر بالطاعة التي تترتب عليها معصية، لاستحالة اجتماع الضدين أو النقيضين في أحكامه، بل أمرنا بالطاعة التي تنتج طاعة ورضى، وعليه لا بدّ ان يكون أُولو الأمر المشار إليهم في الآيتين معصومون.

أما متعلق الآية فيتحدث عن إمكانيات أولي الأمر التي هي مساوية لإمكانات رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كُلّ ما يتعلق بالسلم والحرب (الأمن والخوف)، وقد اختزلت الآية حاجات الناس ومطالبهم في كلمتين.

وهنا لا بدّ من طرح سؤال يتمحور حول البحث وفي سياق الحديث وهو ما معنى العصمة؟ وهل يجب أن يكون الواسطة بين الخالق تعالى ومخلوقاته من بني البشر معصوماً؟

ساء فهم كثير من المسلمين للعصمة لسببين:

الأول: عدم القدرة على استيعاب المعنى الحقيقي لها.

الثاني: سعي الظلمة والمناوئين للائمة الشرعيين إلى طمس تلك الخاصية وحتى يتساوى الناس في طلب الإمامة.

الثالث: الاعتقاد الخاطئ بأنّ العصمة محصورة في النبيّ (صلى الله عليه وآله) عند التبليغ عن الخالق تعالى وما عداها من أقوال وأفعال صادرة عنه (صلى الله عليه وآله) غير مشتملة عليها، إلا إننا عندما نحاول أن نقترب من هذا المفهوم لنستجلي المعنى المراد للكلمة نجد أنّ الدور - وأعني به النبيّ أو الإمام (عليهما السلام) - يستوجب ملكة تمنع القائم من الوقوع فيما يترتب عنه العيب والتقصير.


الصفحة 141

لنأخذ مثلاً على ذلك: المؤمن وهو في طريقه المعرفي يحاول أن يتطور كُلّ يوم باتجاه إدراك الحقائق الكُلّية، واستيعاب المقاصد الشرعية، ويسعى إلى تفادي الكبائر فضلاً عن الصغائر، وقد يصل في يوم أو في عدد من الأيام إلى أن تصافحه الملائكة؛ لأنّه قد عصم نفسه من الوقوع في أخطاء ما، وهو بذلك قد وصل إلى تحقيق ما هو مطلوب منه لمزيد القرب من الله تعالى.

إذا تمكّـنّا أن نعرف العصمة بأنها استعدادات روحية وعقلية انطبعت عليها أوامر الخالق تعالى ونواهيه بحيث صارت الدافع والمحرك نحو فعل الخير والامتناع عن الشر، وشكلت دائماً وأبداً حضوراً ذهنياً وقلبياً ووعياً بقيمة الفعل وأثره، وقد دللّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على ذلك بقوله: " ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وبعده "(1).

يمكن الاستدلال على العصمة من وجهتين شرعية وعقلية.

أما الشرعية:

فآية التطهير: قال تعالى: { إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (2).

وقد أجمعت الروايات على أنّ المراد من أهل البيت أصحاب الكساء الخمسة: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام) (3).

____________

(1) شرح أصول الكافي 3: 98.

(2) الأحزاب: 33.

(3) صحيح مسلم 7: 130، كتاب الفضائل، باب فضائل زيد، سنن الترمذي 5: 30، المستدرك للحاكم النيسابوري 2: 416، 3: 133، مجمع الزوائد للهيثمي 7: 91، فتح الباري 7: 104، و11: 147، مسند الطيالسي: 274، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي 7: 501 و 527، مسند أبي يعلى 7: 59، صحيح ابن حبان 15: 433، الذرية الطاهرة للدولابي : 150.


الصفحة 142

ولم تدع واحدة من أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) دخولها في معنى الآية، بل أُم سلمة وعائشة روتا خصوصها بالخمسة ولم تثبت لإحداهما عصمة كما ثبتت لأهل البيت (عليهم السلام) ، فعائشة - مثلاً - خالفت القرآن عندما أمرها بأن تقر في بيتها، وخرجت محاربة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، فقتل بسببها آلاف المسلمين(1).

إنّ المدقق في الآية والمتدبر لها يدرك أن إذهاب الرجس، وهو كُلّ عمل شيطاني، مع تأكيده تعالى على شدّة تطهير أصحاب الكساء دليل على عصمتهم.

حديث الثقلين: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض "(2).

أخرج الحديث كُلّ من مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود وأحمد بن حنبل وغيرهم مما لا يسع المجال لعدهم.

____________

(1) قتل في معركة الجمل ما يقرب من عشرين آلف .

(2) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة، ومصادره كالتالي: مسند أحمد بن حنبل 3: 14 و 17 و26 و 4: 371 وصحح محقق الكتاب شعيب الأرنؤوط الأحاديث ، سنن الدارمي 2: 524 وصحح محقق الكتاب الحديث، صحيح ابن خزيمة 4: 62، المستدرك للحاكم 3: 118وصححه و 3: 160، وصححه، وصححه الذهبي في تلخيص المستدرك، المعجم الكبير للطبراني 3: 65، المعجم الأوسط 4: 374، مسند أبي يعلى الموصلي 2: 297، مسند البزار 3: 89، المصنف لابن أبي شيبة 6: 133، شعب الإيمان 2: 327، فضائل الصحابة 2: 572 و 779، خصائص أمير المؤمنين للنسائي 1: 96، آداب الصحبة 1: 118، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 257، مشكاة المصابيح 3: 338، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4: 330 ح 1750،ظلال الجنة 2: 477، الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 194.


الصفحة 143

وفي حديث دلالة واضحة على عصمة الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، لاقترانهم بالقرآن واعتبارهم ثقلاً له، فهو لا يأتيه الباطل وهم كذلك، باعتبارهما عاصمين من الضلال لكل من تمسك بهما.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا "(1).

في هذا الحديث بيان لاسمين من أسماء الأئمة الاثني عشر، ودليل على أنّ منصب الحكومة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يمكن أن يترك شاغراً، لخلو الحكمة من ذلك الترك المزعوم.

أمّا قوله (صلى الله عليه وآله) إمامان قاما أو قعدا ففيه إشارة بليغة إلى معنى اللطف الإلهي في تحديد واختيار واصطفاء الأشخاص لمنصب الإمامة، فالمولى تعالى يحدد لطفه وعلى الناس أن يستجيبوا ويمتثلوا، وإن لم يفعلوا فقد ظلموا أنفسهم واضروا دنياهم وآخرتهم.. ويبقى الإمام إماماً تسلم مقاليد الإمامة الظاهرة أم لم يتسلم، لا يمنعه شيء من إمامته الظاهرة والباطنة، المتمثلة في الاستحفاظ والبيان للناس والعلاقة بالخالق تعالى.

لم تكن معالم الحكومة الإسلامية ولا تركيبتها غائبة عن المولى سبحانه وتعالى وعن رسوله الأعظم (صلى الله عليه وآله) حتى تكون حاضرة عند الشيطان وأوليائه، وكما أشرنا فإنّ الوحي أولاها أهمية كبرى، وخصص لها حيزاً في منظومته التشريعية، لأنّه لا معنى لقانون بدون حكومة، ونسبة النقص والتقصير إلى الله تعالى في هذا الإطار مساس بجوهر التوحيد، وطعن في جنب الله تعالى، لا يمكن لموحد عاقل أن يقبله، وإنما السياسة وما اقتضته في أوّل فجر الإسلام

____________

(1) روضة الواعظين للنيسابوري: 156، الارشاد للشيخ المفيد 2: 30، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 163.


الصفحة 144

من صرف للإمامة عن أصحابها إلى غيرهم بعدد من الدعاوي التي لا أساس لها، سرعان ما نقضوها وهدموا دعائمها. فالسقيفة نظر لها بأنّها صفوة الشورى رغم أنّ صاحبها قال: إنّها فلتة! والخليفة الأوّل نصّ على الثاني كتابة، والثاني وضع أساس الملك الأموي. ولو كان صاحباه في السقيفة احياء وأعني بهما (أبو عبيدة بن الجراح حفار القبور، وسالم مولى أبي حذيفة) لما عدل بهما أحدا!! ثُمّ حدد الشورى المزعومة في ستة، زادت في عدد الطامعين لمنصب الإمامة.

لقد تسالم الناس منذ غابر الأزمنة على الانضواء تحت تركيبة حكومية معينة، تراوحت بين الحكم القبلي أو العشائري إلى الحكم الملكي إلى النظم الديمقراطية المعمول بها اليوم، وكانت حاجتهم إلى من ينظم أمرهم هي التي دفعتهم إلى الدخول تحت كُلّ غطاء متاح، طوعاً أو كرهاً. ولئن تعددت المسميات في الحاكمية إلاّ أنّ الطابع الاستبدادي هو الذي كان طاغياً على عمومها، والمتأمّل في سياقها لا يجد في رحلة الإنسانية منذ بداية الخلقة محطة عدل وقسط سوى إمدادات الخالق تعالى في إنقاذ البشرية وتقويم انحرافها.

لقد أشار الكتاب العزيز إلى حالتين ناشئتين في الأمة الإسلامية، وهي في خطوات نموها الأولى وفي الأمم السابقة من باب التنبيه والتحذير. فقال: { وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } (1) .

____________

(1) آل عمران: 144.


الصفحة 145

وقال ايضا: { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } (1).

فالانقلاب كما أشارت الآية الكريمة حصل في غزوة أُحد عندما فَرّ جُلّ الصحابة إن لم نقل كُلّهم عدا الإمام علي (عليه السلام) وعدد من بني هاشم، وفي الآية إيحاء بتكرار حدوث الانقلاب في قوله { أَفَإِنْ ماتَ } بعد موته (صلى الله عليه وآله)، وقد حصل فعلاً. ليس فيما روّج له من حروب الردة، لأنّ تلك الحروب في معظمها كانت إخضاعاً بالقوة لعدد من القبائل التي رفضت الانصياع إلى الحكومة التي قدمها حزب النفاق الأموي، لتكون الممهد لسلطانهم الذي انتزعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) منهم، ويريدون استرجاعه بالمكر والخديعة.

والاختلاف حصل أيضاً بفعل بغي البعض على البعض الآخر، فالسقيفة وما أعقبته من حروب وويلات محصلة ذلك البغي، ويؤكد ذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لتركبن سنن من كان من قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه "(2).

وفي الحديث إشارة متناهية في الدقة إلى أنّ أُمّة الإسلام ستسلك مسلك الأُمم السابقة في الانحراف والاختلاف وتجاهل الأحكام وتعطيل الإمامة، وما حصل لهارون (عليه السلام) عندما تركه قومه بعدما نصبه موسى (عليه السلام) خليفة فيهم، واتبعوا بدله السامري والعجل حصل للإمام علي (عليه السلام) .

لم يترك المولى سبحانه وتعالى مسألة القيادة في الأُمة للناس، يفعلون بها

____________

(1) آل عمران: 19.

(2) تفسير ابن كثير 4: 523، تفسير القرطبي 19: 279، جامع البيان لابن جرير الطبري 10: 225، تفسير ابن أبي حاتم 6: 1834، تفسير الثعالبي 5: 66، فتح القدير للشوكاني 2: 380.


الصفحة 146

ما يرونه، بل إنّه قننها ضمن تشريعاته، وجعل لها حيزاً في منظومته، علماً منه تعالى بجسامتها وخطورة خلوها في زمن من الأزمنة، ذلك اللطف الإلهي المؤهل لملئ الفراغ الحاصل في مقام النبوة.

إذ لم تكن مسألة الحاكمية غائبة عن الإطار التشريعي بقدر ما كانت مهيمنة عليه، وجاءت معالمها في أرق تركيبة عرفها الناس، فهي الأصل الذي لا يتبدل، وفي الآية التي في سورة المائدة والتي تقول: { إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ} (1).

إثبات لرأينا في الإمامة، لقد اقتضت حكمة الخالق تعالى في اختيار الحاكمين بأمره بعد الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) على اعتماد مرحلتين:

المرحلة الأولى:

وهي مرحلة تعيين الاختيار على الاسم والشخص، حيث كانت تقتضي بأن يكون القائد أو الإمام منصوصاً عليه معيناً على وجه التحديد شخصاً بعينه، مؤهلاً لأداء الدور المناط به، لأسباب أهمها:

1- علمه تعالى بمكنونات مخلوقاته يقتضي أن يحسم بذلك التعيين حيرة الناس في اختيار الأولى والأقدر من بينهم، وهو لطف منه لا يمكن أن يتأخر عنه.

2- حداثة عهد الجيل الأول من المسلمين المعبر عنه بالصحابة، وعدم إلمامهم بالدين فضلاً عن فهمه وتطبيقه، وحتى لا يتهمني أحد بالتجني على الصحابة والتطاول على مقامهم لا بدّ لي من أن أشير مختصراً على صحة

____________

(1) المائدة: 44.


الصفحة 147

دعواي، بما أخرجه حفاظ هؤلاء من مرويات تحكي مستوى فهمهم، البداية تكون من الكتاب العزيز، قال تعالى: { وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً } (1).

ولو لم يكن هناك غير هذه الآية المعبرة على المستوى الفكري والعقائدي للصحابة لكفى.

وقد كنا أشرنا إلى آية الارتداد والتي تخص في أسباب نزولها الصحابة الفارين والذين تستر على معظمهم الحفاظ.

أما الأحاديث النبوية فإنّي أحيلك على أحاديث الحوض، لتتأكد من تطابق مدلول الآيات على الأحاديث، وقد أخرجها كُلّ الحفاظ بلا تحفظ، ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع.

المرحلة الثانية:

وهي مرحلة الاختيار على الصفات والشروط { وَالأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ.. } ، " وأما من كان من فقهائنا حافظا لنفسه صائنا لدينه مخالفا لهواه متبعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه " .

بمعنى أنّ المرحلة اقتضتها ظروف وعوامل عديدة لعل أهمها: تفريط الناس وتقصيرهم، ممّا ساهم بشكل مباشر في تحييد الإمام وتغييبه عن دوره.

دور العلماء يكون في زمن الغيبة منحصراً في مرجعيتهم للناس وتصديهم لبيان الأحكام وإرشادهم إلى معالم دينهم.

لقد وقف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) في أكثر من مرة وأكثر من مناسبة ليشدد على قيمة الإمامة وولاية الأمر ويؤكد على أهميتها التي تفوق العبادة

____________

(1) الجمعة: 11.


الصفحة 148

بتفاصيلها قائلاً: " من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية "(1). أو ما روي عنه من قوله: " من مات وليس في عنقه بيعة فميتته جاهلية ". وما روي عنه في نفس الإطار: " من خلع يداً من طاعة لقي الله تعالى يوم القيامة لا حجّة له "(2). ولئن لم نكن هنا بصدد الموازنة بين الروايتين لمعرفة أيّهما أصح من الأخرى فإنّ المعنى الذي تحتويه يصب في إطار واحد وهو: القيادة وعظم مكانتها ولازمها الذي هو البيعة، تماماً كحديث الثقلين الذي تقوى به رواية كتاب الله وسنتي المقطوعة السند؛ لأنّ السنّة النبوية المطهّرة لا تكون إلاّ عند من اذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، لأنّ القرآن كتاب والسنّة كتاب كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لقد أوتيت القرآن ومثله معه "(3).

وهما رغم محاولة فصلهما عن بعضهما شيء واحد لا يتجزأ، القرآن هو المجمل الجامع للأحكام، والسنّة المطهّرة هي المفصل المبين لتفاصيل تلك الأحكام.

____________

(1) مسند أحمد 4: 96، صحيح مسلم 6: 22، كتاب الامارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين، التفتازاني في شرح المقاصد 2: 275، وورد بألفاظ مختلفة في كتب الحديث والتجريح من شاء فليرجع إليها.

(2) صحيح مسلم 6: 22، كتاب الإمارة ، باب حكم من فرق أمرالمسلمين، مجمع الزوائد للهيثمي 5: 218، فتح الباري 13: 5، كتاب السنة لابن أبي عاصم، 500، سنن البيهقي 8: 156، الجامع الصغير 1: 1118 وصححه الشيخ الألباني، مشكاة المصابيح 2: 336 وصححه الشيخ الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 2: 677 ح984، ظلال الجنة 2: 263 ح1081 وصححه الشيخ الألباني .

(3) مسند أحمد 4: 131، وصحح محقق الكتاب شعيب الأرنؤوط سنده، و 4: 130 وصحح المحقق المذكور سنده، سنن الدرامي 2: 432 وصرح محققه بصحة سنده، سنن أبي داود 2: 610 ح4604، مسند الشاميين (صلى الله عليه وآله): 137، مشكاة المصابيح 1: 35، وصرح محققه الشيخ الألباني بصحته، الإيمان لابن تيمية 1: 36 وصرّح محقّقه الشيخ الألباني بصحته، منزلة السنة في الإسلام 1: 14.


الصفحة 149

لقد تناول القرآن الكريم مسألة الإمامة من عدة زوايا، وأولاها أهمية قصوى بالنظر إلى حاجة الناس الماسة إليها فقسمها قسمين:

القسم الأول: إمامة الهداية: قال تعالى: { وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا } (1).

القسم الثاني: إمامة الغواية: قال تعالى: { وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } (2).

ثُمّ جاءت الآية الثالثة لتبين نتيجة وجدوى الإمامتين بقوله تعالى: { يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ } (3).

بمعنى أنّ الإمام هو في الدنيا قائد ودليل وهاد، وفي الآخرة أحد رموز الشهادة.

والشهداء هنا هم الذين يشهدون يوم القيامة أمام الباري تعالى على أعمال أممهم، قال تعالى: { وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } (4).

فالأئمة (عليهم السلام) هم الأمة الوسط والأمة من منظور قرآني، لا تخضع لعدد بقدر ما تخضع للقيمة الفكرية والعقائدية، كما هو حال إبراهيم (عليه السلام) : { إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ } (5).

هناك أيضاً عدد من الآيات التي ترمز إلى خط الولاية، تتضمن معنى

____________

(1) الأنبياء: 73.

(2) القصص: 41.

(3) الإسراء: 71.

(4) البقرة: 143.

(5) النحل: 120.


الصفحة 150

الاتباع والاقتداء والولاء.

فقد جاء الخط بمعنى البيوت، قال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالآصالِ * رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } (1).

والبيوت هنا هي بيوت الانبياء (عليهم السلام) والرجال هم عناصر الولاية.

قال تعالى: { وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } (2). وقال أيضا: { إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } (3).

وجاء خط الولاية بمعنى القرى قال تعالى: { وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } (4).

القرى المعرفة في الآية هم الأنبياء، والقرى الظاهرة هم الائمة (عليهم السلام) ، والظهور هنا يدل على وضوح المقام والشخص.

أمّا السير وتقدير السير فهو كناية لأعمال الناس وآجالهم كما اصطلح القرآن الكريم على خط الولاية بمعاني أُخر كالعروة الوثقى، وحبل الله، وسمّاهم رجال الأعراف يوم القيامة قسماء الجنّة والنار، ونواب الباري تعالى في الدنيا وفي الآخرة يوم الحساب.

إنّ من مستلزمات بقاء الأُمة وجود قانون إلهي متكامل تتفاعل معه، بحيث يكون أساس كُلّ حرية فيها. كما أنّ مستلزمات استمرار التواصل والتفاعل بين

____________

(1) النور: 36 ــ 37.

(2) يونس: 87.

(3) الأحزاب: 33.

(4) سبأ: 18.


الصفحة 151

القانون والأمة وجود مرجع يحسم مادّة الخلاف فيها، ويسهر على تطبيقه بكل أبعاده وبمجموع هياكله، والذي عليه أغلب المجتمعات الإسلامية اليوم أنّ الدين وصل إلى مرحلة الاكنسة، بمعنى أنّه تحول من دين كامل جاء ليحل مشاكل البشرية إلى مجرد طقوس عبادية محصورة بين الخالق والمخلوق في زاوية المسجد أو المعتكف.

القيادة هي ركيزة النظام الذي أراده الخالق تعالى، والقائد الرباني من منظور آخر هو الشخص الذي اطلع المولى سبحانه وتعالى على سريرته، فوجدها قابلة لانطباع إرادته فيه، فزكاه واصطفاه وجعل منه القدوة والهاد، وليست هذه النظرية مخصوصة بالبشر فقط، بل الكون كُلّه مستودع للقيادة، ولولاها لما صح نظام.

والقانون الذي لا يراعي مسألة القيادة والمرجعية في تركيبته هو قانون منقوص بلا رأس، لا يمكنه الاستمرار في الحياة والعطاء والتطبيق، شأنه شأن الجسد الذي فصل منه رأسه فهو ميت في طريقه للتحلل والاندثار.

كُلّ عاقل يرى أنّ كُلّ دستور ليس فيه حاكمية لا يمكنه أن يقوم بنفسه، وإن قام بغيره فهو هجين، وجب علينا أن ننزّه المولى سبحانه وتعالى عن التفريط في شريعته وأن نَرُد على القائلين بترك مسألة قيادة الأمّة للناس، يفعلون فيها ما يريدون، كما حصل في السقيفة بأنّ قولهم لا يستند إلى دليل واحد يقوي جبهتهم، ناهيك أنّ الشواهد التاريخية والنصوص الإلهية تصب كُلّها في دائرة الإقرار بأنّ تجربة القيادة التي مرت بها الأمّة هي بشرية من صنع فئة أرادت أن لا يتم التعيين الإلهي لأنّه يتعارض ومصالحها.

ونتج عن تلك التجربة ضياع الحاكمية الإلهية بحصول انقلاب السقيفة


الصفحة 152

وانهيار نظرية الشورى بانقلاب الحكم الشوروي إلى ملك وجبروت وتسلط، جنت منه الأمة الإسلامية الويلات ولا تزال إلى الآن تكتوي بحر ناره.

ونلخص في الخاتمة ما جئنا به:

فنقول: يستلزم على الله تعالى تعيين قائد على أمة الإسلام، إمام مستخلف من قبله، ناصاً عليه عن طريق رسوله (صلى الله عليه وآله) لاسباب عديدة:

أولاً: لأن مسألة الاختيار تلك هي من ألطافه تعالى ورحمته، فعلمه بالأولى والأصلح يحتم ذلك التعيين الذي يدخل في دائرة الاصطفاء.

ثانياً: لأن الإمامة أو القيادة هي من مستلزمات القانون الالهي وطرف فيه.

فهي وعاءه وحافظته ودعامته ومن دونها يتلاشى ذلك القانون ويكون عرضة لعبث العابثين، ومن هنا وجب حفظ الشريعة بها.

ثالثاً: حداثة عهد الشريعة ومعتنقيها تستوجب أن يكون اختيار الإمام أو القائد من قبل الأولى بالاختيار، لقصور الناس عن إدراك أبسط المسائل المتعلقة بالدين فضلاً عن الإمامة.

رابعاً: الخطر المحدق بالنظام الناشئ من الداخل، وهو حزب المنافقين الذين حاولوا مرات عديدة وبطرق مختلفة اطفاء جذوة الإسلام وتصفية الرسول (صلى الله عليه وآله) وحتى قتله، يحتم اختياراً مسبقاً ومدروساً.

خامساً: الخطر المحدق بالنظام الناشئ من الخارج وهما الروم والفرس يستوجب التنبه لهما، خاصّة وأنّ قد شرع في محاربة الروم فكيف يعلن حربهم ثُمّ يترك لهم أمة بلا قائد.

سادساً: خلو منصب النبوة وانقطاع الوحي باعتبار أنّ الرسالة الإسلامية هي الخاتمة يتطلب خلوص أصحابها - الله والرسول - إلى الطريقة المثلى في


الصفحة 153

اختيار الوارث - ليس بالمعنى البشري - ، بعد ما جاءنا من أنباء الأمم السابقة في القرآن ما يفيد ذلك الاختيار.

سابعاً: إنّ القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو معجزة الرسول (صلى الله عليه وآله) ودستور الأمّة، فيه المحكم وفيه المتشابه، وفيه العام وفيه الخاص، وفيه الناسخ وفيه المنسوخ، وكُلّ ذلك لا بدّ له من عالم به مدرك له تمام الإدراك، ومن العبث على عاقل - مثلاً - أن يترك نفائسه ودرره بين أيدي صغار له، لم يدركوا بعد معانيها الكاملة، وقد رحل عنهم إلى عالم الملكوت.

ثامناً: إنّ بيان وتفصيل الشريعة والمعبر عنه بـ(السنّة النبوية) لهما في حقيقتها جزءان لا يتجزءان، القرآن والوحي. هذه السنة هي من الحجة والبرهان بما كان لم يأمر الرسول الأعظم كما جاء في روايات جمهور المسلمين بكتابتهما، كما كان يفعل في القرآن، ليس تفريطاً منه، بل لأنّ الله تعالى اودعها في صفوته وخاصته الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

تاسعاً: تأكيداً على ما أوردناه من أسباب نخلص إلى فشل نظرية القائلين بحرية الناس في اختيار الإمام وسقوطها بعد ربع قرن من التجربة، انتهت على حروب دامية كادت تأتي على بارقة الإسلام، انتقل بعدها الناس طوعاً وكرهاً إلى الرضا والتسليم بالملك المتسلط الذي لا يستند على شريعة أو دين إلا بضرب من التسويف والكذب.

ولو قبلوا اختيار المولى سبحانه وتعالى لكان أصلح لهم في معاشهم ومآبهم، ولكنهم حادوا عنه بدعاوى مختلفة، فنالهم من ذلك العصيان ما نال سابقيهم.


الصفحة 154

بزوغ النور

رغم أنّني لا أنكر أن فطريتي في حب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) هي التي دفعتني دفعاً وأنا أتصفح الورقات الأولى من كتاب المراجعات على معانقة الولاء الحق، وتبني النظرية الإسلامية التي طرحها أئمة أهل البيت (عليهم السلام) للناس، والتي تشكل في مضامينها مطابقة الحجة لدليلها. رغم ذلك فإنّ ما لفت انتباهي وشدّ اهتمامي قوة الادلة التي في حوزة المسلمين الشيعة وعلى وجه الخصوص منهم الإمامية الاثني عشرية، تلك النصوص التي حفلت بها كتب مخالفيهم قبل كتبهم. وهل توجد حجة أقوى من أن يحتج صاحب الدعوى على خصومه من كتبهم؟! لكن لماذا لا يدرك هؤلاء الخصوم بأنّ الدين الحقيقي والصحيح لا يقوم إلاّ على الحجّة والبرهان والدليل والبيان لا على التبعية العمياء والتوارث البغيض؟

حقيقة واحدة حالت دون بلوغ هؤلاء لإدراك الصواب وهي قصورهم عن البحث والاطلاع، واقتصارهم على ما قرره علماؤهم - إن صحت التسمية - بخصوص التشيع وأهله، دون التثبت فيما جناه هؤلاء المتقولون لطمس الحقيقة والنأي بها عن عقول الناس.

ولكن للحق صولة، وتبرق من بين ثنايا ظلمات الباطل بارقة الحق، فتدحض الدعاوى الزائفة والترسبات الغريبة بوميض صدقها، وقوة دلالتها، واستقامة برهانها.

تعرفت في عملي على أحد الزملاء، وبمرور الأيام اصطفيته لنفسي أخاً وصديقاً، فتثبتت العلاقة وتوطدت أواصر المودة بيننا حتى صرنا قليلي الافتراق عن بعضنا، حدثته عن التشيع لأهل البيت (عليهم السلام) فوجدته متهيأ سابقاً،


الصفحة 155

رد علي قائلاً: في يوم من الأيام بأنّه تشيع بفضل آية واحدة وهي { بسم الله الرحمان الرحيم }، كان الرجل مالكياً بالوراثة، شأنه عموم اتباع المذاهب الأربعة (الحنفية المالكية الشافعية الحنابلة)، استوقفته الآية تساءل عن عزوف المالكية عنها، واعتبارها مكروهة في القراءة أثناء الصلاة، وهي تكاد تكون الاسم الأعظم، حسب ما جاء من روايات بخصوص عظم قدرها وعلو مقامها، كان ذلك أول الخيط الذي أمسك بطرفه ليدرك الحقيقة، أخبرته بعدها بأنّ معاوية ومن تبعه من حكام بني أُميّة على ذلك هو أوّل من منع البسملة في الصلاة، كما صدع بذلك في تفسيره بهامش تفسير الطبري حيث تعرف لاختلاف روايتي أنس بخصوص البسملة منعا وإجارة فقال: وكان بنو أمية.

إذاً تلك دلالة قوية تقول بأنّ الدين الإسلامي الذي جاء به خاتم الأنبياء والمرسلين وقع تحت طائلة الطغاة والظالمين، وحسب أهوائهم ومصالحهم ونزواتهم يجيزون للناس ما يرونه ويمنعون عنهم ما لا يرغبونه، حتى وإن كان لا يشكل عليهم خطراً، كالبسملة التي منعها معاوية لا لشيء سوى أنّ علياً (عليه السلام) كان يستفتح بها في كُلّ صلاة يصليها، إمعاناً منه في إبطال آثاره. كأنّما علي (عليه السلام) مبتدع، ومعاوية الطليق بن آكلة الأكباد مصحح ومرجع!! وهل علي (عليه السلام) سوى نفس رسول الله بمنطوق آية المباهلة التي تقول { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ } (1) اتفقت الروايات على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخرج لمباهلة وفد

____________

(1) آل عمران: 61.


الصفحة 156

نصارى نجران علياً (أنفسنا) وفاطمة (نساءنا) والحسن والحسين (أبناءنا) عليهم الصلاة والسلام.

وهل علم علي (عليه السلام) إلاّ باب لعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما في الحديث المشهور " أنا مدينة العلم وعلي بابها "(1)، ولم يكن هناك بشر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعلم منه، حتى ابن عمه عبد الله بن عباس الذي حاول البعض جعله بديلاً للإمام علي (عليه السلام) فمنحوه ألقاباً لا تستقيم له مع وجود علي والحسن والحسين (عليهم السلام) . فقالوا بأنه (حبر الأمّة) و(ترجمان القرآن) وأين علمه من علم علي فكان رافعاً لكُلّ شبهة ( كقطرة ماء في البحر المحيط ).

وهل صلاة علي (عليه السلام) معه والناس عاكفون على أصنامهم يعبدونها، فعرف الله تعالى وتقرب له اقتداءً وتأسياً وتعلماً من ابن عمه وأخيه بالمؤاختين في مكة والمدينة. كان (عليه السلام) يقول: " أنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب، صلّيت قبل الناس بسبع سنين"(2).

فكيف تستقيم مقايسة التبر بالتبن والثريا بالثرى { فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ

____________

(1) المستدرك للحاكم 3: 126 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد" و 3: 127 وقال: "قال الحسين بن فهم: حدثناه أبو الصلت الهروي عن أبي معاوية. قال الحاكم: ليعلم المستفيد لهذا العلم أن الحسين بن فهم بن عبد الرحمن ثقة مأمون حافظ"، المعجم الكبير للطبراني 11: 65، ح11061، حلية الأولياء لأبي نعيم 1: 64، فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2: 634 ح1081، كشف الخفاء للعجلوني 1: 634 وقال بعد كلام له عن أبي سعيد العلائي الصوان: "إنه حديث حسن باعتبار تعدد طرقه"، الاستيعاب لابن عبد البر 1: 339، أُسد الغابة 1: 794, تهذيب الكمال 18: 77 .

(2) سنن ابن ماجة 1: 44 وقال محققه: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، رواه الحاكم في المستدرك عن المنهال وقال: صحيح على شرط الشيخين"، مستدرك الحاكم 3: 112، المصنف لابن أبي شيبة 7: 498، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 584، خصائص الإمام علي للنسائي 1: 25، ظلال الجنة للألباني 2: 391، تهذيب الكمال 22: 513.


الصفحة 157

وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (1).

لقد كانت فترة المراجعة التي قمت بها لتمييز الحق من الباطل كافية لابراز عدد من العلامات الدالة على صحة دعوى المسلمين الشيعة بأنّهم الفرقة الناجية، وأنّها هي على الحق، لا تزال تتمسك بحبل الله المتين، وتستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وأنّها على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم: علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) ، أذهب الله تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

من بين تلك العلامات أيضاً على سبيل الذكر لا الحصر:

العلامة الأولى:

لماذا عزف رواة الأشاعرة عن الرواية عن الإمام علي (عليه السلام) واستدلوا بغيره ممن لا وجه لمقارنته معه؟

حتى الآيات التي نقلوها عنه من باب التلفيق عليه، والكذب الخسيس الذي روجوه عنه، بأمر من الطغاة والظالمين، فعلى سبيل المثال نجد أنّهم يفترون عليه القول بتحريم المتعة والحال أنّه قد تسالم الجميع على أنه صاحب القول بأنّه: " لو لا أن نهى عنها عمر ما زنى إلا شقي "(2).

ينقلون في كتبهم بأنّه باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وينقلون عنه (عليه السلام) قوله: " سلوني قبل أن تفتقدوني ولن تسألوا بعدي مثلي "(3)، وكان يشير إلى

____________

(1) الحج: 46.

(2) ورد بألفاظ مختلفة: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 253 و 20: 25، جامع البيان لابن جرير 5: 19، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 2: 36، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5: 130، الإكمال في أسماء الرجال: 124.

(3) تفسير الطبري 7: 451، المستدرك للحاكم 2: 352 وقال: " حديث صحيح عالٍ"، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 286، دفع الارتياب عن حديث الباب: 16، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 17: 335، تهذيب الكمال 5: 79، السنن الواردة في الفتن 4: 838، مجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4: 302.


الصفحة 158

صدره فيقول: " إنّ ها هنا لعلما جماً "(1).

ورغم كُلّ ذلك نجد أنّه لا حظّ له بين أكثر الرواة عندهم أمثال: أبي هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عمر، وغيرهم ممّن عدت رواياتهم بآلاف فهل أنّ علم هؤلاء فاق علم باب مدينة العلم أم لسياسة كانت متبعة في العصر الأموي لأجل دفع أهل البيت (عليهم السلام) عن مقامهم ومنزلتهم ؟!

لماذا تتمحور جل رواياتهم في أسانيدها على أسماء لم تعرف بالعلم ولا بالسبق خاصّة، ولدينا قرينة تقول بتأخر عصر التدوين عندهم إلى القرن الثاني، فهل كان ذلك للتمييز بين تلك الأسماء ومن أذهب الله تعالى الرجس عنهم وطهرهم تطهيراً أم أن تأخر التدوين كان مراد منه تكبيل الشريعة وتعطيلها إن لم نقل محقها وتضييعها؟! والباحث المنصف يقف أمام حقيقة دفع الحق عن أهله، وتغييب مضامين الدين القيم عن الناس ليستمر العمل على هدمه دون رد فعل.

العلامة الثانية:

لفت انتباهي وأنا في مرحلة المقارنة والبحث عند تصفحي لكتاب جامع الروايات الملقب بـ (الصحيح) لمسلم النيسابوري القشيري، وأنا أتصفح باب الإمارة عدداً من الروايات التي يتوقف عندها كُلّ عاقل ولا يتجاوزها حتى يدرك شيئاً من الحقيقة:

____________

(1) تاريخ بغداد 6: 376، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 27: 99، دفع الارتياب عن حديث الباب: 18، نظم درر السمطين: 126، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12: 202.


الصفحة 159

الرواية الأولى: التي صرح فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّ الأمّة سيكون عليها اثنا عشر خليفة أو إماماً(1).

الرواية الثانية: والتي قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ستكون خلفاء فيكثروا.

فقالوا: فما تأمرنا؟

قال: فوا ببيعة الأول فالأول "(2).

الرواية الثالثة: التي قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية "(3).

الروايتين الأولى والثانية اللتين في مسلم تحدثتا عن عدد محدد من الخلفاء الذين سيكونون في الأمّة ولم أجد تفسيراً لذلك العدد غير ما يعتقده المسلمون الشيعة الإمامية الاثني عشرية، ولعل وصية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بأنّ نفي ببيعة الأول فالأول دالة على أن الاختيار خارج عن اطار الناس، وإنّما هو تعيين الهي بحت علينا فيه بالسمع والطاعة والبيعة لمن رتبهم الله ورسوله أولاً بأوّل، وهم الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وآخرهم الحجة المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجوراً.

أمّا الرواية الأخيرة مبيّنة لأهمية الإمامة في الأمّة، ومدى عظم شأنها، بحيث يموت فاقدها ميتة جاهلية وإن قام ببقية واجباته الدينية.

إنّ نظم أمر الحاكمية يستتبع نظم أمر الأمّة، وفقد الرأس يطيح ببقية الجسد، لأن الإمامة رأس الدين وروحه التي بها يحيا، ومن تتبع سيرة الرسول

____________

(1) صحيح مسلم 6: 4، كتاب الإمارة، باب الاستخلاف وتركه.

(2) صحيح مسلم 6: 17، كتاب الإمارة، باب الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء.

(3) صحيح مسلم 6: 22، كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين .


الصفحة 160

الأعظم (صلى الله عليه وآله) في هذا الخصوص لاحظ حرصاً شديداً منه على أن لا يترك أمراً جزئاً من الأمّة بلا قائد، فما بالك وهو يستعد لرحيل طويل؟!

العلامة الثالثة:

بعد البسملة التي أتينا على ذكرها، قال تعالى: { قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى } (1).

مودة آل محمّد (صلى الله عليه وآله) راجين بمنطق الآية ولم أرَ فريقاً من المسلمين يودّ آل محمّد يتطابق والآية غير المسلمين الشيعة الذين جعلوها شعارهم وتقربوا بها إلى الله تعالى. هم من حافظوا على الصلاة الكاملة عليهم، وهم من يحيي إلى الآن آثارهم وسنتيهم ومواليدهم ووفياتهم، يفرحون لفرحهم، ويحزنون لحزنهم، وغيرهم إما غافل أو غير عابئ.

العلامة الرابعة:

الصلاة على النبيّ (صلى الله عليه وآله) خرج عن أدائها عامة المسلمين وأقام عليها المسلمون الشيعة، فعندما يذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلي المخالفون عليه بقولهم صلى الله عليه وسلم أو عليه الصلاة والسلام، مخالفين النصّ الدال، ومجانبين نهيه (صلى الله عليه وآله) عن الصلاة عليه مفرداً ويمسك، في حين أنّ المسلمين الشيعة يصلون عليه الصلاة الكاملة التامة، وهي الصلاة عليه وآله بقولهم: صلى الله عليه واله وسلم، دونما كلل ولا ملل امتثالاً لأمره تعالى في أداء هذه الشعيرة تامة غير منقوصة، كما يريد هو، لا كما يصر على أدائه الظالمون واتباعهم ممن لم يستسغ إدراج آل محمّد في الصلاة.

____________

(1) الشورى: 23.


الصفحة 161

العلامة الخامسة:

والتي سرعان ما وضعت الصحابة على طرفي نقيض واختلاف في أبسط الشعائر وأكثرها وضوحا وبساطة وهي: عدد تكبيرات الصلاة على الميت، فهل يعقل ان يختلف هؤلاء في مسألة بسيطة في متناول كُلّ فرد يؤتي بها فرض كفاية؟!

ولو أنّك تسأل من يكبر أربعاً: لماذا تكبر أربعاً على الميت؟ لما أجابك!

ولو أنّك تعيد طرح السؤال نفسه على أبسط مسلم شيعي لقال لك: إنّها بعدد أركان العقيدة وعدد الصلوات اليومية، ولقال لك - أيضاً - إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يصلي على كُلّ المسلمين مؤمنين كانوا أم منافقين، غير أنّه كان يكبر على المؤمن خمساً باعتبارهم مسلمين ومؤمنين، ويكبر أربعاً على المنافقين، إلى أن نزلت الآية التي جعلت الصلاة عليهم مستحبة، فاختلط الأمر على المسلمين، مما دفع بالخليفة إلى جمع الناس على أربع تكبيرات، ولو أنّهم أرجعوا الحق لأصحابه لما التبس عليهم الأمر في مسألة كالصلاة على الميت.

العلامة السادسة:

من المسائل التي كان من المفترض أن لا يقع فيها خلاف بين المسلمين، ولكن السياسة دوليتها العصبية المذهبية وما اقتضتها من أسباب دعت إلى تعريف تلك العبادة، وتفريق المسلمين بين مطبّق للآية كما جاءت وبين معرف لها بدعوى واهية، وظنون لا تقوم على أساس، أمّا دعاوي النحو وعطف الأرجل فقد بخع لها الرازى بالاعتراف، وصرّح بأنّ القرائتين حكمها المسح، ولكنه في خاتمة اعترافه اتبع الظن بميله إلى ترجيح الجهل على العلم والشك على اليقين، فعاد إلى القول بالغسل في حكم الرجلين من خلال اعتماده على روايات نسبت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) تقول: الويل للأعقاب من النار.


الصفحة 162

ظاهر تلك الروايات لا علاقة له بالموضوع ولا بالصلاة، بل لعل المقصد منها المتقلّب على عقيبيه من المسلمين في مواجهة المشركين.

وبمقارنة بسيطة يتضح حكم الرجلين في الوضوء، لقد كان رسول الله يتوضأ بمد (والمد ثلاث أكف)، وهي لا تكفي لغسل رجل واحدة لو كان حكم الرجلين الغسل، في حين أن الأكف الثلاثة للأعضاء المغسولة وهي الوجه واليد اليمنى واليد اليسرى ومسح الرأس والرجلان ببلل اليدين

مقارنة التيمم بالوضوء على الروايات التي أخرجها الطبري وغيره عن ابن عباس والتي تقول: ألا ترى أنه ما كان مغسولا في الوضوء يمسح في التيمم، وما كان ممسوحاً في الوضوء يسقط في التيمم، فسقط الرأس والرجلان.

ذلك هو دين العلم وعبادة المعرفة لا دين الوراثة والاتباع الأعمى.

العلامة السابعة:

الجمع في الصلوات: هل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجمع في صلاته؟ وهل هناك دلالات على ذلك؟ ولماذا يتغافل عن ذلك عدد هام من المسلمين؟

لقد كتب الذين لا يجمعون في صلواتهم بالروايات التي تشير إلى كون رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع بين صلاتي الظهر والعصر وبين صلاتي المغرب والعشاء ومن ناحية صرّح بذلك القرآن الكريم حيث ذكر للصلوات الخمس ثلاثة أوقات وهي:

- { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ.. } (1).

- { أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ.. } (2).

____________

(1) الإسراء: 78.

(2) هود: 114.


الصفحة 163

- ومع ذلك بقي شاهد آخر يقوي صحة الدعوى وهي: جمع الحجاج لصلاتي الظهر والعصر من ناحية، والمغرب والعشاء من ناحية أخرى.

العلامة الثامنة:

إسقاط الخمس رغم أنه حكم من أحكام الله في القرآن الكريم وحصره في غنائم الحرب، والحال أنّ الآية تشير إلى مطلق الغنم.

ليس هناك سبب يبرر ذلك سوى أنّ أهل البيت (عليهم السلام) يعود إليهم التصرف في الخمس، دون الزكاة التي حرمها على نفسه وعليهم، لذلك فإنّ بصمات أعدائهم جلية في إسقاط الخمس، لكي لا تصل تلك الأموال إليهم لتكون لهم عوناً على من ظلمهم.

العلامة التاسعة:

الدعاء أو القنوت في الصلاة: هذا السلاح الرهيب الذي جعله الله تعالى وسيلة للمناجاة بين العبد وبينه، وسبباً من أسباب ديمومة الرحمة والخير، قال تعالى: { قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ } (1).

أرجئت من موقعها في الصلاة فأضحت ببقية أجزائها جوفاء فارغة بلا روح، فمن جهة يقولون: بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقتصر القنوت على صلاة الصبح فقط، والحال أنّ الصلاة واحدة في مفهومها وروحها وأركانها وسنتها وصدق من قال في الجامع المسمى بـ(صحيح البخاري): يقول الزهري: " دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت "(2).

____________

(1) الفرقان: 77.

(2) صحيح البخاري 1: 134، كتاب الصلاة، باب ستر المصلي.


الصفحة 164

فأين هؤلاء القوم من قوله (صلى الله عليه وآله) " الدعاء مخ العبادة "(1)، " الدعاء معراج المؤمن "(2) وغيرها من الروايات التي تحث على الدعاء في الصلاة وتدعو إلى التمسك به باعتباره مخاً ومعراجاً وأساساً ولباً للعبادة.

قيل للإمام علي (عليه السلام) : لِمَ نرفع أيدينا إلى السماء عند القنوت في الصلاة؟ فقال: " وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ " .

العلامة العاشرة:

توقيت الإفطار في يوم الصيام: يتملكك العجب عندما تقرأ الآية التي في سورة البقرة والتي تتحدث عن الصوم وهي: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ } (3).

عندما ترى السواد الأعظم من المسلمين كيف يتحرى في إمساكه للصيام ويبدأ صيامه ليلاً وقبل الفجر بوقت طويل.

فيقطع صيامه وضوء النهار مازال يعم الأرجاء، والله تعالى يؤكد على إتمام الصيام إلى الليل، أي إلى غسقه كما في آية توقيت الصلاة، أي على دخول الليل.

والمعبر عنه بذهاب الحمرة المشرقية وقت دخول صلاة المغرب، فهل لهذا تفسير سوى أنّ الناس أجمعت على التقليد الأعمى، وسلوك منهج غير علمي؟!

لا يخضع إلى قوة الدليل في اعتماد الأحكام والسنن الإلهية. ومقابل تلك

____________

(1) سنن الترمذي 5: 125، فتح الباري 11: 79، المعجم الأوسط للطبراني 3: 293.

(2) تفسير الفخر الرازي 1: 266، تفسير الآلوسي 12: 168.

(3) البقرة: 187.


الصفحة 165

الدلالات الواضحة نجد في تصرف الكثير من هؤلاء إصراراً على المضي إلى الباطل قدماً، وتمسكاً بعكس سنن سيّد المسلمين (صلى الله عليه وآله) فمن ذلك مثلا وكنموذج على التعصب الأعمى والانغلاق المقيت الذي قوض صرح الإسلام العظيم وجعله في مقام متدن لا يليق به: إنّ هؤلاء المتعصبين يخالفون السنّة في كثير من الموارد بدعوى تسنين غيرهم بها.

على الرغم من انتسابهم لها، فالتختم في اليد اليمنى سنة يقرون بها ولا يتقيدون بها، بل ويذهبون إلى التختم باليسار مخالفة للمسلمين الشيعة، ونرى كذلك تسنيمهم للقبور في حين أنّ السنّة تسطيحها مخالفة للمسلمين الشيعة ... إلى غير ذلك من التجاوزات التي يرون فيها المساس بالنصّ ومخالفته أفضل من اتباعه والتشبه فيه بالمسلمين الشيعة، وإن كان فرضاً أو سنّة.

أخيراً هل أتاك خبر رضاعة الكبير؟ وهل مررت به في باب الفقه من كتب هؤلاء القوم، لعل موطأ مالك أولها ثُمّ ما يسمى بـ(الصحاح).

العلامة الحادية عشر:

أسماؤهم (عليهم السلام) : فإنّ الملتفت إلى هذه الإشارة يدرك جيداً مدى عمقها، ودلالتها على أحقية هؤلاء الصفوة في قيادة الأمّة، فعلي (عليه السلام) والحسن والحسين (عليهما السلام) أسماء لم تكن معروفة قبل في قريش ولا في بلاد العرب قبل ولادة هؤلاء، بل إنّنا قد نجد في الروايات والأحاديث التي تشير إلى أنّ تلك التسميات الإلهية بحتة، كُلّها مشتقة من الأسماء الحسنى، ففي الحديث القدسي الذي خاطب فيه المولى سبحانه وتعالى نبيه الأعظم (صلى الله عليه وآله) بقوله: " إنّي قد اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتك منها، واشتققت لك اسما من أسمائي، فأنا المحمود وأنت محمّد، ثُمّ اطلعت ثانية فاخترت علياً واشتققت له


الصفحة 166

اسما من أسمائي، فأنا الأعلى وهو علي "(1).

هذه اشارة لطيفة لمن ألقى السمع وهو شهيد، قد تعيد من لم تتلوث فطرته بآراء أشباه العلماء والفقهاء والمتكلمين، ممن باعوا ضمائرهم وآخرتهم، تزلفاً لملوكهم وسلاطينهم، أو استكباراً من عند أنفسهم.

العلامة الثانية عشرة:

وإنّ فاتك إدراك كُلّ هذه المعاني والإشارات فلا تفوتك سيرة هؤلاء الذين لم يسجل لهم التاريخ غير المكارم والفضائل التي لا يدانيها أحد من العالمين.

إن شئت هذا علي نفس الرسول الأعظم - صلى الله عليهما - قد أخذ بمجامع العلوم، فكان الأصل الذي عاد إليه كُلّ صغير وكبير حتى عدّ أصل كُلّ علم بعدما عده النبيّ باب مدينة علمه.

أما أخلاقه وسيرته فهي تنبئك على أنّ الذي وقعت عليه كان سفينة النجاة، وباب حطة، منه تعلم العارفون التعامل مع الدنيا والعيش فيها، فكان بحق سيد الزاهدين، وأفضل العابدين بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ونحا نحوه ذريته وصفوته الطاهرة، يسلكون نهجه وقلوبهم وجلة من خشية الله، لم تداخلهم الطمأنينة في جنب الله تعالى حتى يستأنسوا بالرضا، فكانت حياتهم كُلّها تضحية وعطاء.

العلامة الثالثة عشرة:

استمرار العمل بالاجتهاد من عصر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) لدى المسلمين الشيعة، فهو متّصل بعصر النبوّة والإمامة، متواصل في أداء دور بيان

____________

(1) الغيبة للنعماني: 95.


الصفحة 167

الأحكام الشرعية إلى عصرنا هذا لم ينقطع أبداً رغم محاربة الأعداء والظالمين لهم، بينما لم يكن فقه غيرهم ولا علومهم متصلة بعصر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فهذان أقدم فقهائهم: أبو حنيفة ومالك لم يعاصرا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا أخذا عمّن عاصره، ولولا تتلمذهما على يدي الإمام السادس لأهل البيت (عليهم السلام) لما كان لهما ذكر يتردد بين الفقهاء.

ثُمّ جاء من الحكام من منع الاجتهاد وحرمه على الناس، فأوقفوا دينهم وفقههم على مذاهب أربعة، هي - إضافة إلى ما ذكرت - : الشافعي وابن حنبل، وكُلّ من جاء بعدهم لم يتجرأ على الاستقلال بفتواه، فكانت في غالبيتها مطابقة لأصول أصحابها الأربعة.

العلامة الرابعة عشرة:

الظهور على الحق: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث أخرجه حتى المخالفون كمسلم والبخاري: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله "(1).

فأيّ فرقة من المسلمين ظلت ظاهرة على مدى التاريخ بعلومها ومواقفها وتاريخها وقلة عددها - لأنّ الكثرة غثاء مذموم عند الله وعند رسوله - غير هؤلاء الذين لهم في كُلّ زمن شاهد على حضورهم.

____________

(1) صحيح مسلم 6: 52، كتاب الإمارة، باب قوله (صلى الله عليه وآله): " لا تزال طائفة من أمتي .. " .


الصفحة 168