عقود يتنكّرون لوجود الجهاد الابتدائي في الإسلام ، وأنّ الجهاد المذكور في القرآن الكريم هو جهاد دفاعي ، وليس جهاد ابتدائي ، وقالوا : إنّ هناك فرق بين التشريع الإسلامي ، وممارسة المسلمين ، وقد استدلّوا ما قالوا : بالعديد من الآيات والروايات النبويّة ، وقبل أن نستعرضها نودّ الإشارة إلى أنّ تنصّل هؤلاء مما حصل أثناء الفتوحات ، إقرار بوجود أخطاء ، وتجاوزات قامت بها جيوش الفتح .
ومن الآيات التي استدلّوا بها ، وهي آيات مدنيّة قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}(1) ، واعتبروا هذا النص نصاً مقيّداً لباقي النصوص القرآنية التي تدعوا إلى الجهاد ، واستدلّوا بقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(2) ، وقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْء فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ* وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(3) ، عند كثير من المذاهب أنّ هذه الآية ليست منسوخة ; لأنّ هذه الآية تدلّ على تشريع المهادنة مع الكفار ، وعقد العهد والأمان معهم ، وهذا يدلّ على أنّ قتال الكفار في القرآن الكريم ليس بشكل مطلق ، وقوله تعالى : {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ}(4) ، وهذه السورة من أواخر السور التي نزلت ،
____________
1- البقرة (2) : 190 . 2- الممتحنة (60) : 8 . 3- الأنفال (8): 60 ـ 61 . 4- التوبة (9): 6 .
وقيل : آخر سورة نزلت بالمدينة(1) ، وإن كان الأصح بين المفسّرين أنّ سورة المائدة هي آخر سورة نزلت .
حروب النبي(صلى الله عليه وآله) كلّها دفاعيّة
وطَرْحُ مثل هذه الآيات هدفه التأمّل ، ومراجعه الأحكام الواردة في كتب الجهاد عند المسلمين في تشريع الجهاد الابتدائي ، أمّا بالنسبة لسيرة النبي(صلى الله عليه وآله)فيقولون: إنّنا يجب أن نفرّق بين سيرة النبي ، وسيرة من بعده عموماً ، وأنّ حروب النبي ابتداءً من بدر ، وحتى تبوك لم تكن حروباً تمثّل الجهاد الابتدائي ، بل كلها حروب دفاعيّة ، والشاهد على ذلك أنّ غزوة بدر لم يقم بها النبي(صلى الله عليه وآله) إلاّ بعد أن قامت قريش بالاعتداء على المسلمين ، وعلى أموالهم في مكّة المكرّمة ، بل كانت قريش تعتدي على المسلمين حتّى في المدينة المنوّرة على شكل غارات ليليّة ، فكان هدف النبي(صلى الله عليه وآله) وقف العدوان القرشي ، والاقتصاص من قريش فلذلك هجم على قافلة قريش التي كان يقودها أبو سفيان ، وحينها نزل قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}(2) ، ونجت قافلة أبي سفيان من المسلمين الذين كانوا يبنون على المقاصّة المالية ، والمقاصّد المالية منطق دفاعي ، وليس منطقاً عدوانيّاً ، وليس جهاداً ابتدائياً ، كما هو مطروح في فقه المذاهب الإسلامية ، وأنّ أبا سفيان قد أرسل إلى جيش قريش قائلا : إنّ العير قد نجت ، ولا حاجة للحرب ، إلاّ أنّ قريش بخيلائها وكبريائها أبت الرجوع عن الحرب(3) ، وعتبة قد نصح قريش أن لا تعتدي على النبي(صلى الله عليه وآله) ، وأن لا تحاربه ، وكان النبي(صلى الله عليه وآله) يقول: إن يكن
____________
1- القائل: قتادة ومجاهد ، مجمع البيان 5: 3 ، سورة التوبة . 2- الأنفال (8) : 7 . 3- شرح نهج البلاغة 14: 106 .
في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر(1) ، وكان عتبة هو الراكب على الجمل الأحمر ، حيث كان يريد أن يثنيهم عن ذلك ، إلاّ أنّ أبا جهل قال له : "جبنت وانتفخ سحرك" ، فابتدأ القتال(2) ، ولكن لم يكن الابتداء من طرف النبي(صلى الله عليه وآله) ، بل هو من طرف قريش ، بدءاً بالعدوان المالي والعرضي والأمني ، وانتهاء بساحة المعركة ، إذن هذه هي معركة دفاعيّة ، وفي غزوة أُحد كان الكفّار قد أتوا للانتقام من المسلمين ، وفي غزوة الخندق كذلك ابتدأ الكفّار بالحرب ، وأمّا غزوة تبوك فهي عبارة عن الاستعداد الرادع لطغيان الروم الذين كانوا يهدّدون المسلمين ، وكذلك غزوة مؤتة التي استشهد فيها زيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، وجعفر الطيّار ، والصحيح أنّ جعفر الطيّار هو أوّل من استشهد في هذه المعركة ، وليس زيد بن حارثة ، كما تذكر بعض المصادر(3) ، وكذلك في غزوة حنين ، وما فعلته قبيلة هوازن من تهديد المسلمين ، وعندما دخل النبي(صلى الله عليه وآله)إلى مكّة فاتحاً أخذ الراية أحد الصحابة قائلا : "اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة" فأمر النبي(صلى الله عليه وآله) علياً أن يأخذ الراية ، ويقول: "اليوم يوم المرحمة اليوم تحفظ فيه الحرمة"(4) حتى إنّ النبي عامل البيت الذي طالما ناصبه العداء والحقد ، وهو بيت أبي سفيان برفق ، حيث قال(صلى الله عليه وآله) : "من دخل دارك يا أبا سفيان فهو آمن" ، وعندما قال لهم(صلى الله عليه وآله): "ما تظنّون وما أنتم قائلون؟" قال سهيل: "أخٌ كريم وابن عمّ كريم"(5) .
____________
1- كنز العمال 10: 180 ، الحديث 29927 ، كتاب الغزوات والوفود. 2- مناقب آل أبي طالب 1: 239 ، فصل في غزواته(صلى الله عليه وآله) . 3- تاريخ اليعقوبي 2: 42 ، "غزاة مؤته" . الكامل في التاريخ 2: 236 . 4- السيرة الحلبية 3: 118 ، باب ذكره مغازية(صلى الله عليه وآله). المبسوط للسرخسي 10: 45 ، كتاب السير ، باب معاملة الجيش مع الكفار . 5- تاريخ اليعقوبي 2: 38 ـ 39 ، فتح مكة .
هذه إجابات هؤلاء الباحثين ، وبين الفينة والأُخرى نرى بعض الدراسات التي تحاول إثبات أنّ الجهاد الابتدائي لا تدلّ عليه النصوص الشرعية القرآنية أو النبويّة .
أمّا رأينا في هذه الإجابات هو أنّها تحمل بعض اللفتات الصحيحة ، والاستدلالات المحقّة إلاّ أنّها لا تصلح أن تكون جواباً للإشكال المطروح .
الجواب الصحيح عن إشكال الجهاد الابتدائي
الجواب الصحيح عن هذا الإشكال : أنّ الجهاد الابتدائي ليس معناه الابتداء بالعدوان ، وإن كانت كلمة "الابتدائي" توحي للسامع هذا المعنى ، والمعنى الصحيح لهذا المصطلح ، هو بدء إظهار القوّة العسكرية ، وإظهار لغة القوّة ، ولكن هذا المصطلح لا يتضمّن البدء بالحرب ، بل يعني : استعمال الأسلوب الضاغط ، وأسلوب القوّة في معالجة عدم خضوع الدولة الأُخرى أو الجهة الأُخرى التي تعادي المسلمين لميزان العدالة في التعامل مع المسلمين .
الجهاد الابتدائي له خلفيّة حقوقية دفاعيّة
وفي الواقع أنّ الجهاد الابتدائي له خلفيّة حقوقية دفاعيّة ، بمعنى إذا تعرّضت حقوق المسلمين للانتهاك ، كما لو نكث الطرف الآخر العهد معهم ، وأقيمت الحجّة على الطرف الآخر ، ولم يستجب للغة الإنصاف والعدل ، فمن الواضح أنّ الإسلام لن يبقى على طبيعته الأوّليّة ، وهي الحوار والتعقّل والرفق واللّين ; لأنّ المفترض أنّ الحجّة قد أُقيمت ، ولم ينفع الخطاب العقلاني مع الطرف الآخر ، ولم يبق مجال إلاّ لمنطق القوّة ، والساحات العسكرية ، واستخدام لغة القوّة يهدف إلى كبح جماح النزوات الغريزيّة الحيوانية في الطرف الآخر المعتدي ، ولا يتضمّن استخدام القوّة في المفهوم الإسلامي ، إهلاك الحرث والنسل ، فالقرآن الكريم يبغض ، وينهى عن
إهلاك الحرث والنسل .
القرآن الكريم ينهى عن إهلاك الحرث والنسل
قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الاَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ}(1) ، فليس من المنطق الإسلامي أن تحرق مكتبة الإسكندريّة ، وتبقى مدّة طويلة تلتهمها النيران ، هذا ليس منطق النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ولا منطق الإمام علي(عليه السلام) ، وهذه أوراق يجب أن تبحث بصراحة .
أمّا منهج أهل البيت(عليهم السلام) فيعتمد على الانفتاح على العلوم البشرية ، وتهذيبها وترشيدها ، والاستفادة من الخبرات البشرية ، والإنجازات التي حققها الآخرون في تدبير المعيشة ، وخدمة العلوم الدنيوية ـ فضلا عن العلوم الأُخروية ـ .
الإسلام يكرّم بني آدم
الأصل الأوّلي في الإنسان عموماً ، هو أن يكون مكرّماً ، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(2) ، وهذا يشمل المسلمين وغير المسلمين ، هذا هو الأصل الأوّلي ، وكما يقول الإمام علي(عليه السلام): "إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق"(3) والتي رفعها شعاراً الأمين العام للأُمم المتّحدة كوفي عنان ، وقال : إنّها يجب أن تكون شعاراً لحوار الحضارات .
إذن ، الجهاد الابتدائي ، يعني : التلويح بالقوّة لحفظ حقوق المسلمين المسلوبة ، ولا يعني : الاعتداء على دولة أُخرى بدون سبب ، أو ترويع شعب مسالم آمن .
____________
1- البقرة (2): 205 . 2- الإسراء (17): 70 . 3- ميزان الحكمة 8: 3691 ، الحديث 22799 .
المحاضرة السادسة
الخلفيّات الحقوقية للجهاد الابتدائي
محاور المحاضرة:
أوّلا: الجهاد الابتدائي والإرهاب .
ثانياً : قوى الاستكبار وآيات الجهاد .
ثالثاً : الإسلام ليس مسؤول عن المخالفات الشرعية التي يقوم بها المسلمون .
رابعاً : لا يصح أن نحمل اصطلاحات علم على اصطلاحات علم آخر .
خامساً : الجهاد الابتدائي يستند إلى خلفيّة حقوقية .
سادساً : الجهاد الابتدائي جهاد دفاعي في المصطلح الحقوقي .
سابعاً : لايوجد مصطلح الجهاد الابتدائي في النصوص الشرعية .
ثامناً : مبررات القتال في القرآن الكريم .
تاسعاً : الجهاد الابتدائي له شروط خاصّة ، وله أهداف محدّدة .
عاشراً : الفيتو عند الإمامية الاثني عشرية لايكون إلاّ عند المعصوم .
الجهاد الابتدائي والإرهاب
كان الكلام في ما سبق ، هو الإثارة المطروحة الآن في محافل بشريّة عديدة ، من أنّ الدين الإسلامي يحمل في طيّاته لغة الإرهاب ، وما يتمسك به القائلون بهذه الدعوة المضادّة ، هو وجود مفهوم الجهاد الابتدائي في القرآن الكريم والتشريع الإسلامي .
طبعاً أصل هذه الإثارة حول الجهاد الابتدائي أو جهاد الدعوة ، لها منشأ مرتبط بالموروث التاريخي المتعلّق بالفتوحات الإسلامية ، وهذا البحث يتصل بالفتوحات ، كما يتصل بموقف علي(عليه السلام) ، حيث انكفأ في حكومته على الإصلاح الداخلي ، والتركيز على السياسة الداخلية ، وترتيب أوراق الوضع الداخلي .
ذكرنا في الليلة الماضية مجمل الأدلّة التي استند إليها بعض الكتّاب في نفي وجود لغة العنف في الدعوة الإسلامية ، وأنّه ليس هناك ما يدعو للقتال والعنف والقوّة وقهر الآخرين وإجبارهم على الدخول في الدين الإسلامي .
قوى الاستكبار وآيات الجهاد
هذا الأمر جدّيٌ جدّاً ، وملحّ في الوسط الدولي ، ونحن نلاحظ أنّ أمريكا والعالم الغربي يريدون إقناع العالم بأنّ هذا الأمر يعتبر أمراً إرهابيّاً ، ولابد من الضغط على المسلمين من أجل حذف هذه الآيات من القرآن الكريم والشريعة الإسلامية والفقه الشرعي .
فالمسألة من الخطورة بمكان بحيث تتجاوز مرحلة التنظير والبحث النظري ، بدل يراد لها أن ترسوا على خطوات خطيرة جدّاً ، إذ ينبغي على فقهاء الشريعة أن يفهموا هذه الإشكالية بعمق ، وأن تتمّ دراستها دراسة مستفيضة ، والردّ عليها بشكل قوي ، لأنّ هذه المسألة ليست مسألة نظرية ، وليست ثرثرة فكرية ، بل هي مسألة قد أخذت طابعاً عمليّاً إلى درجة أنّ بعض البلدان الآن تمنع قراءة آيات الجهاد في الإذاعة والتلفزيون والمحافل العامّة ، وأنّ هناك توصية غربية مفروضة على بعض البلدان الإسلامية لكي تمنع قراءة آيات الجهاد ، وحذفها من المناهج الدراسية .
الإسلام ليس مسؤول عن المخالفات الشرعية التي يقوم بها المسلمون
في البدء لابد أن نستعرض التنظير العلمي لهذه القضية ، وهناك فرق بين البحث
النظري والتطبيق العملي ، بمعنى أنّ النظرية الإسلامية غير مسؤولة عن الممارسات الخاطئة التي قام بها المسلمون ، وأنّها ليست مسؤولة إلاّ عن ما يستند إلى التشريع الإسلامي الصحيح ، فليس من العدل أن نحمل النظرية ، التطبيقات الخاطئة ، والممارسات غير المسؤولة لمن يعتقد بهذه النظرية .
لا يصح أن نحمل اصطلاحات علم على اصطلاحات علم آخر
النقطة الأُخرى التي نريد الإشارة إليها ، هي أنّ جهاد الدعوة أو الجهاد الابتدائي ليس مطروحاً في الفقه الإسلامي ، بمعنى ابتداء العدوان أو الحرب العدوانيّة ، وبعبارة أُخرى : من الخطأ الفادح أن نحمل اصطلاحات في علم معيّن على اصطلاحات أُخرى في علم آخر ، ومن الخطأ أيضاً أن يقرء باحث في بيئة معيّنة ، مفاهيماً معيّنة ، ويطبّقها على بيئة أُخرى ، لأنّ لكل بيئة مفاهيمها وأفكارها الخاصّة بها .
الجهاد الابتدائي يستند إلى خلفيّة حقوقية
وما ذكره الفقهاء من أنّ الجهاد الابتدائي بند من بنود الشريعة الإسلامية ، ليس المراد منه العدوان واستخدام لغة القوّة ، وقد يفهم السامع لكلمة "الابتدائي" معنى العدوان ، بينما هي ليست كذلك في الفقه الإسلامي ، بل إنّ معنى الجهاد الابتدائي هو المبادرة العسكرية التي تحمل في طيّاتها غطاءً حقوقياً ، وهذا باتفاق جميع المذاهب الإسلامية ، وإن كان هناك خلاف في بعض التفاصيل بين مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، والمذاهب الأُخرى إلاّ أنّ جميع المسلمين يعتقدون أنّ الجهاد الابتدائي يتضمّن غطاءً حقوقياً فيكون جهاداً دفاعيّاً في المصطلح الحقوقي ، وليس حرباً عدوانيّة ، كما ترجمة البعض .
الجهاد الابتدائي جهاد دفاعي في المصطلح الحقوقي
إذن ، كل الجهاد يرجع إلى الجهاد الدفاعي ، كما أشار إلى ذلك : الشيخ جعفر آل كاشف الغطاء والشيخ الكليني ، وقد قسّم الفقهاء الجهاد إلى قسمين : جهاد ابتدائي وجهاد دفاعي ، والمقصود من الجهاد الدفاعي ، هو استخدام لغة القوّة ردّاً على استخدام العدو للغة القوّة ، أمّا الجهاد الابتدائي فهو جهاد دفاعي أيضاً مع فارق أنّ فيه مبادرة باستخدام القوّة العسكرية مع وجود الغطاء الحقوقي ، وبالتالي يكون جهاداً دفاعياً في المصطلح الحقوقي .
وتطبيقاً لما ذكرنا يتّضح أنّ معركة بدر وحنين ومؤتة كانت جهاداً ابتدائياً بالمصطلح الفقهي ، وحروباً دفاعيّة بالمصطلح القانوني .
لايوجد مصطلح الجهاد الابتدائي في النصوص الشرعية
الجهاد الابتدائي مصطلح فقهي ، ولا يوجد هذا اللفظ في النصوص الشرعية ، نعم بعض الروايات عبّرت عنه بجهاد الدعوة(1) وإذا استعرضنا المبررات الشرعية لهذا الجهاد فلن يكون حرباً عدوانيّة ، بل سيكون جهاد إصلاح وإنماء وإرساء للعدالة .
الجهاد الابتدائي بين الفطرة الإنسانية والنظام العالمي
ولو تساءلنا هل للجهاد الابتدائي ـ في المصطلح الفقهي وليس الحقوقي ـ أو جهاد الدعوة منشأ في الفطرة الإنسانية ، وفي البحوث العقليّة باعتبار أنّ الشريعة الإسلامية توافق الفطرة الإنسانية؟
____________
1- وسائل الشيعة 15: 42 ، باب وجوب الدعاء إلى الإسلام قبل القتال إلاّ لمن قوتل على الدعوة وعرفها .
نعم، العقل يرجّح نصرة المظلوم ، والوقوف في وجه الظالم ، وعلى الصعيد الدولي نرى أنّ المجتمع الدولي يرفع شعار مكافحة الإرهاب حتّى لولم يكن ذلك الإرهاب في نفس الدولة التي رفعت الشعار .
أمّا في إطار النظام العالمي الموحّد نرى أنّ أمريكا تعطي لنفسها الحق في التدخل في شؤون الدول بعنوان مكافحة الإرهاب أو حقوق الإنسان ، وحتّى البنك الدولي يفرض شروطه ، ويتدخل في الشؤون والسياسات الداخلية للبلد التي تطلب منه قرضاً مالياً ، فلا يدعمها ويقرضها إلاّ إذا أذعنت لشروطه وضغوطه .
إذن ، أصل استخدام لغة القوّة لدفع ظاهرة عدوانيّة وإن كانت في بلد آخر أمر موجود عقلا ومعمول به دوليّاً ومتعارف عليه من قبل المجتمع الدولي
إذن ، الكلام كل الكلام ليس في استخدام القوّة ، وإنّما الكلام في الخلفيّة الحقوقية ، والتبرير الحقوقي لاستخدام القوّة .
ما هو الإرهاب؟
ولذلك ترى جدلا كبيراً في تحديد مفهوم الإرهاب ، وإلى الآن لم يرسُ هذا على مفهوم متفق عليه على طاولة الجدل البشريّة .
الإرهاب بما هو مفهوم يعتبر مفهوماً مذموماً ، لا يساوي المبادرة بالقوّة العسكرية ، فربما يبادر الشعب المظلوم باستخدام القوّة اتجاه الجهات التي تظلمه ، وهذا يتم في غياب أجواء الحوار ، وعندها تعطي تلك الجهة الظالمة لنفسها الحق في استخدام القوّة اتجاه تلك القوّة الضعيفة ، وتعتبر أيّ فعل يشكّل مبادرة عسكرية من قبل تلك الجهة الضعيفة إرهاباً ، ومن الإجحاف اعتبار هذا العمل إرهاباً ، بل هو مقاومة مشروعة لاسترداد الحق ، كما هو حال المقاومة في جنوب لبنان .
مبررات القتال في القرآن الكريم
العنف واستخدام القوّة ليس من طبيعة الإنسان الأوليّة لا في التقنين ولا في التشريع ، ولكنّها تكتسب الشرعية من خلال بعض الظروف المحيطة بها.
نحن نرى أنّ التشريع الإسلامي والآيات الكريمة تحمل شعاراً يتناغم مع الفطرة ، فمن الآيات المحكمة قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً}(1) ، والقرآن الكريم بيّن أنّ هدف الجهاد وغرضه وغايته هو تثبيت شرع الله تعالى ، ونصرة المظلومين والمستضعفين .
إذن : جهاد الدعوة يحمل في طيّاته نصرة المظلومين، وانجاز حقوق اللّه على عباده، والاستضعاف تارةً يكون استضعافاً مالياً وماديّاً، وتارةً يكون استضعافاً عقائدياً وفكرياً وهو من أشدّ الاستضعاف ، قال تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلا}(2) ، فهنا {لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً}، هو الاستضعاف المالي والمادي ، ولا يهتدون سبيلا هو الاستضعاف الفكري والعقائدي .
دور الإعلام في استضعاف الشعوب
الآن الأعراف الدولية والقوانين البشرية تقرّأنّ الشعوب المستضعفة مقهورة ، وتقع تحت التضليل الإعلامي للدول القويّة باعتبار أنّ الإعلام هو السلطة الرابعة ، بل قد يكون أخطر من السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة ; لأنّ الإعلام
____________
1- النساء (4): 75 . 2- النساء (4): 98 .
هوالذي ينشر الفكر أو يجمّده هنا وهناك .
ويقال : أنّ الشعوب المستضعفة أكثر وعياً في الجانب السياسي من غيرها من الشعوب ، لأنّها تقع تحت الظلم ، وهذا الظلم يجعلها تتابع الأحداث حتى تتوصل إلى نقطة الخلاص ، والإعلام له دور كبير في تضليل الرأي العام ، وقلب الحقائق .
تعاليم القرآن وممارسات بعض المسلمين
ومن آيات الجهاد الابتدائي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}(1) .
هذا على سبيل النظرية ، أمّا على سبيل التطبيق فهناك من الممارسات الخاطئة في ما يسمى بالفتوحات الإسلامية ما يقرح القلوب .
صفات المجاهدين في القرآن الكريم
كذلك اشترط الدين الإسلامي في المجاهدين صفاتاً خاصّة فضلا عن القائد لهؤلاء المجاهدين الذي يقوم بالوصاية على جهاد الدعوة ، ولم يرض الإسلام بتأهيل أي شخص لهذه الوصاية .
قال تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالاِْنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(2) ، ثم يصف الله تعالى المجاهدين بقوله : {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ
____________
1- النساء (4): 94 . 2- التوبة (9): 111 .
الاْمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}(1) .
وفي رواية لطيفة عن الإمام السجاد(عليه السلام) حينما كان متوجّهاً إلى الحج ، حيث التقى به عبّاد البصري ، فقال له : يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته ، وأقبلت على الحج ولينه ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ}(2) الآية ، فقال علي بن الحسين صلوات الله عليه : أتم الآية فقال {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآية ، فقال علي بن الحسين(عليه السلام) : إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج(3) .
الجهاد الابتدائي له شروط خاصّة ، وله أهداف محدّدة
إذن جهاد الدعوة : والجهاد الابتدائي بالمصطلح الفقهي ليس مفتوحاً لكل من هبّ ودبّ ، وإنّما كان مفتوحاً لفئة خاصّة تتميز بصفات معيّنة في التشريع الإسلامي .
إذن غرض جهاد الدعوة هو نصرة المظلومين ، وانجاز حقوق اللّه على الناس، وقد يتسائل البعض هل لله حقوق على البشر؟ وهذه جدليّة كتبت فيها الكتب ، وأنّ أيّ مصدر من مصادر الحقوق لله ، فيها حق كحق الحاكميّة الذي تقرّ حتى المسيحيّة به ، ولكنّهم يقولون : أنّ الله قد أعفى عباده من هذا الحق .
الجهاد الابتدائي من حقوق الإمام المعصوم الخاصّة
المبرر الحقوقي لجهاد الدعوة هو إنجاز حقوق الله على الناس ، والنقطة الثانية التي نريد الإشارة إليها هو أنّ الذي جعله الله وصيّاً على البشرية هو ليس أيّ فرد
____________
1- التوبة (9): 112 . 2- التوبة (9): 111 . 3- وسائل الشيعة 15: 46 ، الحديث 19956 .
من الأفراد ، وإنّما هناك أشخاص معيّنون للجهاد ، ليس كل من ربّى لحيته أو وضع على رأسه عمامة فهو مؤهّل لهذا الجهاد ، وأنّ جهاد الدعوة حق للمعصوم ، وهذا ما عليه إجماع الإمامية إلاّ من شذّ .
وأنّ جهاد الدعوة هو صلاحية خاصّة للمعصوم علماً وعملا ، وهو الإنسان الكامل ، حتى أنّ الإمام الخميني(رحمه الله) رغم أنّه يرى صلاحيات أوسع للفقيه ، أي : ولاية الفقيه المطلقة ، استفتى عدّة استفتاءات ، وإلى آخر أيام حياته كان يرى أنّ الجهاد الابتدائي هو حق للمعصوم لا غيره ، وهذا ما تظافرت عليه الروايات .
وفي رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى : {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}(1) ، إنّ الله هو أوّل داع لنفسه ، ثم الرسول(صلى الله عليه وآله) ، حيث قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}(2) ، ثم يستعرض الإمام الصادق(عليه السلام) صلاحية الدعوة بعد ذلك ، فيبيّن أنّ الذي يصلح للدعوة والجهاد هو من يكون ملتزماً بشرع الله عزّ وجلّ في الجهاد ، ومن لم يكن ملتزماً بشرع الله في الجهاد فليس بمأذون له في الجهاد والدعوة إلى الله حتّى يحكم في نفسه ما أخذه الله من شرائط الجهاد(3) .
أمريكا والتناقض بين الشعار والواقع
في زماننا أمريكا أو الأُمم المتحدة ترفع شعار مكافحة الإرهاب ، وكل ما يعكّر صفو الأمن البشري أو ما يتناقض مع حقوق الإنسان ، ولكن هل تحقق أمريكا أو الأُمم المتحدة العدالة ، ففي أمريكا هناك امتيازات للجنس الأبيض على
____________
1- يونس (10): 25 . 2- النحل (16) : 125 . 3- وسائل الشيعة 15: 34 ، الحديث 19949 .
الجنس الأسود ، وهذا هو الواقع وإن كانت القوانين المدوّنة لا تعترف بهذه الحقيقة .
الإسلام يدعو إلى العدالة ويطبّقها
ولكن عند المسلمين دالأمر يختلف فالكل سواسية كأسنان المشط ، بينما عند المسيحيين لا يمكن للأسود أن يكون باباً للكنيسة هذا هو الواقع ، وهذا هو المتعارف عندهم وإن لم يكن مدوّناً ، ولكنّهم أشدّ التزاماً بالأعراف من القوانين ، بينما نرى الإسلام يفتح المجال أمام الأبيض والأسود لكي يصل إلى أعلى المناصب ما عدا الإمامة المعصومة التي تعتمد على الاصطفاء الإلهي ، وهي "ارستقراطية إلهية" لا يستطيع أحد أن يعارضها .
إذن ، الإسلام عندما يدعو إلى العدالة فإنّه يطبّق هذه العدالة ، والتشريع الإسلامي يمتاز بهذه الميزة التي تفتقر إليها الديانات المحرّفة ، والمدارس الوضعية الأُخرى ، نحن نتكلم عن النظرية ، وليس عن التطبيق .
الفيتو عند الإمامية الاثنى عشرية لا يكون إلاّ عند المعصوم
قانون الفيتو يجب أن يكون له مبرر حقوقي ، وهو سيطرة الأعقل على العاقل ، ووصاية الأخبر على من هو أقل خبرة منه .
في مذهب الإمامية لا يسمح للفقيه والمرجع أن يكون له حق النقض "الفيتو" ، ولا يمتلك هذا الحق إلاّ الإمام المعصوم المتصل علمه بعلم الله تعالى ، وهو صاحب العلم اللدني ، بينما نرى ـ في القانون الغربي ـ أنّ حق النقض "الفيتو" متاح للقوي الذي يخضع بدوره إلى مصالحه الخاصّة ونزواته وغرائزه وشهواته فيكون هذا الفيتو باب من أبواب تكريس الظلم في المجتمع البشري .
النزوع الفطري نحو العصمة
كيف نبرر مفهوم "الفيتو" في المنطق الغربي على المستوى القانوني والحقوقي ، إذن لا بد لقيمومة الأعدل والأعلم على غيره ، وهذا الأعلم والأعدل والأخبر والأعقل هو المعصوم في مذهب أهل البيت(عليهم السلام) ، والتسليم بهذا المبدأ يعني : النزوع الفطري نحو العصمة ; لأنّ الإنسان بفطرته يريد أن يعطي حق الفيتو للمعصوم الذي لا يخطأ على المستويين العلمي والعملي .
المحاضرة السابعة
الرد على شبهة الرق وحقوق الإنسان
محاور المحاضرة :
أوّلا : مسألة الرق وحقوق الإنسان .
ثانياً : قراءات جديدة تفسّر النصوص الشرعية .
ثالثاً : الحداثيّون : أحكام الإسلام ليست أبديّة .
رابعاً : الدين يتناسب مع كل الأزمان وكل البيئات .
خامساً : كرامة الإنسان في التشريع الإسلامي .
سادساً : هناك فرق بين الكفار في الفكر الإسلامي .
سابعاً : الجزء الوافر من الشريعة الإسلامية مستمد من الفطرة الإنسانية .
ثامناً : معنى الرق في الفقه الإسلامي .
تاسعاً : الإسلام شجّع على تحرير العبيد ومعاملتهم بالحسنى .
عاشراً : نيويورك مدينة بيضاء .
مسألة الرق وحقوق الإنسان
من الأمثلة التي يعترض بها المعترضون على الإسلام ، هي مسألة الرق والاستعباد المذكورة في القرآن الكريم وفي التشريع الإسلامي ، وهي مسألة قديمة حديثة ، وهناك مخطط أمريكي يستهدف فرض الوصاية على الإرشاد الديني ، والمناهج في الدول الإسلامية باعتبار أنّ بعض تعاليم الإسلام تحرّض
على الإرهاب ، وتناقض حقوق الإنسان ، وتحاول أمريكا الضغط على الدول الإسلامية من أجل التخلّي عن مفاهيم بعض الآيات القرآنية التي تدّعي أنّها تحرّض على الإرهاب أو تناقض حقوق الإنسان .
قراءات جديدة تفسّر النصوص الشرعية
وهناك بعض الحداثيّين من العالم الإسلامي يحاول أن يجد إجابة عن هذه التساؤلات ، ويوجد الحل بأن يقول : أنّ جملة من التشريعات القرآنية والنبويّة هي تشريعات كانت مقنّنة ومؤسسة على ضوء البيئة العربية الجاهلية ، أو البيئة البشرية في أعراف ذلك الزمن ، وبعضهم يتمادى في هذا المجال ، ويسمّيه قراءة حديثة للقرآن الكريم ، ويقول : حتّى الحجاب بهذا التشدّد الوارد في التشريع الإسلامي ، إنّما كان باعتبار أنّ المرأة العربية السابقة كانت تعيش في مجتمع عربي بدوي كان فيه العطش الجنسي شديد ، وكان أيّ بريق من جمال المرأة يثير ذلك المجتمع ، فلذلك أمرها القرآن بالجلباب(1) ، وهو ما يسمى بـ "العباءة والخمار" ، وهو الربطة التي في الرأس أو الحجاب ، وللأسف الشديد أنّ المرأة قد تركت العباءة ، واستبدلتها بما يسمى بـ "البالطو" الذي يتفنّن مصمّموا الأزياء في تشكيله بشكل يظهر مفاتن المرأة من الخصر والصدر والبطن ، فتمشي المرأة بهذا اللباس ، وكأنّها في استعراض لمفاتتها .
الحداثيّون : أحكام الإسلام ليست أبديّة
في الرد على هذه القراءة ، أقول: أنا لست بصدد الرد على مثل هذه القراءات الحداثية ، وبيان أُصول الاستنابط الشرعي ، لأنّ هذا موضوع قائم بنفسه ، ويحتاج
____________
1- محمد شحرور في كتابه الكتاب والقرآن .
إلى سلسلة بحوث كثيرة ، ولكن من الواضح أنّ من يدّعون أنّهم يقرأون القرآن قراءة حداثيّة أو قراءة جديدة يحاولون إثبات أنّ بعض الأحكام الإسلامية ليست أحكاماً أبديّة ، وإنّما كانت تناسب بيئة معيّنة ، كما هو الحال في الرق والاستعباد ، لأنّ هذا الموضوع مرفوض عند البشرية جمعاء في زماننا الحالي ، أمّا في العرف القانوني في الزمان الذي رافق ظهور الإسلام كان العرف القانوني يقر الأسر والسبي والرق والاستعباد ، أمّا الآن وبعد أن أُلغي الرق في الأعراف البشرية ، آن الأوان أن تُعاد قراءة هذا الباب ، وأن نقرأه قراءة جديدة تغيّر بعض الأحكام الواردة فيه ـ كما يقولون ـ .
الدين يتناسب مع كل الأزمان وكل البيئات
أمّا نحن فنقول: إنّ الدين باعتباره ديناً ربّانياً إلهياً فهو يغطّي كل الأجيال ، وكل أشكال وأنواع النظام الإجتماعي ، وهو يقدّم موقفاً قانونياً ونظاماً يتناسب مع كل المجتمعات ، سواء ذلك المجتمع مجتمعاً قبلياً أو حضرياً أو مدنياً أو قروياً ، وهناك ثابت ديني ومتغيّر ديني ، ولكنّنا لسنا في مقام تفصيل هذه المصطلحات الآن .
كرامة الإنسان في التشريع الإسلامي
وهنا علامة استفهام : هل أنّ الرق والعبودية المطروحة في الشريعة الإسلامية تستند إلى الخشونة والقساوة وعدم احترام حقوق الإنسان أم أنّ الأمر ليس كذلك؟
هناك قاعدة أُصولية ، وهي من القواعد الأُم في التشريع الإسلامي ، ألا وهي : "أنّ الطبيعة الأوّلية هي كرامة الإنسان في التشريع الإسلامي" يعني : أنّنا في كل مورد من الموارد لا نجد فيه نصاً خاصّاً أو تعبّداً خاصّاً على الاستثناء أو التخصيص أؤ الرفع عن هذه الطبيعة الأوّلية التي هي كرامة الإنسان في التشريع
الإسلامي ، فإنّنا نعتمد على هذه القاعدة في التشريع ، وقد صرّح بهذه القاعدة في تطبيقاتها الفرعية في الأيواب ، كحرمة التمثيل بالميت ولو كان عدوّاً وأيضاً حرمة قتل النساء والشيوخ والصبيان . الكثير من علماء الإمامية الاثني عشرية ، وربما جملة من بقيّة المذاهب الإسلامية الأُخرى ، وتستند إلى الكثير من النصوص القرآنية ، منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(1) ، وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الاِْنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم}(2) ، وقوله تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الاَْنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}(3) ، وهذه الآيات هي قواعد قانونية ، ولا تندرج تحت فقه المقاصد ، أو روح الشريعة ، أو أنّها ثقافة قرآنية عامّة ، وأنّ أكثر ما خلقه الله إنّما سخّره للإنسان ، إذن فالأُمور التي توجب إهانته أو سلبه للكرامة الإنسانية ، هذه الأُمور بما إنّها منافية للكرامة الإنسانية فهي أُمور مرفوضة في الشريعة ، والقرآن لم يخصص المؤمنين أو المسلمين ، بل قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}(4) ، إذن الإنسان بما هو إنسان ، لا الإنسان بما هو مادي أو ملحد أو مجرم ; لأنّ هذه عناوين أُخرى ، الطبيعة الفطرية للإنسان كريمة عند الله ، قال تعالى: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(5) ، أو بتعبير قرآني آخر : {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللهِ صِبْغَةً}(6) ، وهذا ليس من باب فلسفة التشريع ، بل هو قالب قانوني قرآني ، وفي
____________
1- الإسراء (17) : 70 . 2- التين (95) : 4 . 3- إبراهيم (14) : 32 ـ 33 . 4- الإسراء (17) : 70 . 5- الروم (30) : 30 . 6- البقرة (2) : 138 .
تعبير الإمام علي(عليه السلام) : "إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"(1) ، أو قول الإمام الحسين(عليه السلام) : "إن لم يكن لكم دين ، وكنتم لا تخافون المعاد ، فكونوا أحراراً في دنياكم"(2) ; لأنّ نبع الفطرة لها مقتضيات قانونية يحترمها التشريع الإسلامي تؤكّد على كرامة الإنسان ، والذين ينادون اليوم بكرامة الإنسان قد سبقهم الإسلام بأربعة عشر قرناً بالمناداة بكرامة الإنسان ، وأنّها الأصل ، ولا تهتك كرامة الإنسان إلاّ بموجب .
هناك فرق بين الكفار في الفكر الإسلامي
أمّا بالنسبة للكفار فالقرآن الكريم يفرّق في التعامل بينهم فهناك كافر عدو وكافر ليس بعدو ، انظروا إلى التعبير القرآني الوارد في قصّة إبراهيم مع آزر : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لاَِبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَة وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاََوَّاهٌ حَلِيمٌ}(3) ، لاحظوا أنّه كان يعلم أنّه كان كافراً ، ولكن فرق بين الكافر العدو والكافر غير العدو ، وهناك مصطلح الكافر ومصطلح المشرك ، والكافر الذي يستحق النار والكافر الذي لا يستحق النار ، وقد يستغرب البعض من الكفار الذي لا يستحق النار ، نعم الكافر الذي هو في معرض الهداية ، وفي طريق البحث عن الحقيقة لا يستحق النار .
الجزء الوافر من الشريعة الإسلامية مستمد من الفطرة الإنسانية
الجزء الوافر من الشريعة الإسلامية مستمد من الفطرة الإنسانية ، وهي الفطرة التي أودعها الله في الإنسان ، وهي قواسم مشتركة بيننا وبين باقي أبناء البشر ،
____________
1- ميزان الحكمة 8: 3691 ، الحديث 22799 . 2- بحار الأنوار 45 : 51 ، باب ما جرى عليه بعد بيعة الناس ليزيد . 3- التوبة (9): 114 .
وهذا مصدر مهم في التشريع ، وفي مذهب الإمامية بشكل بارز ربما أكثر من المذاهب الأُخرى ، وأنّ أحد المصادر والحجج الربّانية هو العقل ، والعقل يرجع إلى الفطرة ، سواءً كان العقل النظري أو العقل العملي ، على الأقل في البديهيّات التي ليست نظريات مختلف عليها بين أصحاب العقول ، وهي نقطة اشتراك بين الأصوليين والأخباريين ، كما يذهب إلى ذلك الشيخ يوسف البحراني(رحمه الله)(1) ، وقد ورد في روايات أهل البيت(عليهم السلام) : أنّ العقل رسول باطني كما أنّ النبي رسول ظاهر(2) ، إذن فنحن ندور في دائرة اللغة الثابتة الشاملة للمتغيّرات ، وهي اللغة العقليّة الفطرية نحن مع الأُمم الأُخرى .
معنى الرق في الفقه الإسلامي
أمّا بالنسبة لظاهرة الرق والسبي وما شابه ذلك ، فلنعرف ما معنى العبودية أوّلا؟ حيث تصاحب هذه اللفظة معاني التقزّز والتنفّر ، وهذا صحيح ، ولكن عبودية شخص لشخص آخر لها عدّة معاني وعدّة درجات، إذا لم يدركها الإنسان قد يستبشع العنوان في نفسه أو يحصل له الاشتباه في هذا المفهوم ، ونحن عندنا أنّ الأجير إذا أجّر نفسه صار سخرة للمستأجر ، بمعنى : أنّ نتاج جهده يكون لمصلحة المستأجر ، وهذا يفرض نوع من طاعة الأجير إلى المستأجر ، ومطلق الطاعة من المطيع إلى المطاع هو نوع من الخضوع
الإسلام شجّع على تحرير العبيد ومعاملتهم بالحسنى
وقد وردت الكثير من النصوص الشرعية عند المسلمين ترغّب الإنسان في
____________
1- الحدائق الناظرة 1: 155 . 2- ميزان الحكمة 5: 2036 ، الحديث 13358 .
تحرير العبيد بالثواب الجزيل(1) كما أنّ التشريع الإسلامي جعل بعض الكفارات عتق رقبة عبد ، بل الكثير من الكفارات لا تقع إلاّ بتحرير رقبة لأجل تطويق ظاهرة الرق ، كما أنّ الإسلام قد حثّ على معاملة العبيد بالرفق والحسنى(2) ، إذن الإسلام كان عنده برنامج للقضاء على هذه الظاهرة ، قد تحمل لون العقوبة في الكفارة على الشخص المخالف للحكم الشرعي ، ولكنّها تحمل في طرفها الآخر تحرير للعبد ، كما أنّ التشريع قد أوجب على السيد الذي يملك الأسير نفقته وضمانه الصحي وضمانه الاجتماعي ومسؤوليته الجنائية ، وسيتحمّل الكثير من أجل أن يبقى هذا العبد تحت عهدته .
فالأحرى بالغربيين الذين يتّهمون الإسلام أن يقرّوا بما فضحهم به مؤتمر مكافحة العنصرية الذي عقد في جنوب أفريقيا أشهر أو في العام الماضي بأنّ ضمانات العبيد الذين استعبدوا بأشنع وأفضع وأشد وأقمع وأقبح طريقة بشرية من قبل البيض لهؤلاء السود ضمانات ضائعة .
نيويورك مدينة بيضاء
حتى اليوم ليس الأبيض كالأسود في الدول الغربية ، وفي خطابه الأخير بكل وقاحة وقلّة حياء ، يصرّح الرئيس الأمريكي : أنّ مدينة نيويورك يجب أن ترجع مدينة بيضاء ، أي : فقط للجنس الأبيض ، فهل هذا منطق إنسان يحترم حقوق الإنسان ، بينما الإسلام يجعل من الرق نظام ضمان وكفالة للعبد أو الأسير مقنّنة ومشروطة ، ومع ذلك يخطط للقضاء على الرق بشكل كلي في عدّة تشريعات فقهية.
____________
1- وسائل الشيعة 23: 9 ، باب استحباب العتق . 2- جامع أحاديث الشيعة 24: 373 ، باب وجوب نفقة المملوك ورعاية حقوقه واستحباب البرّبه .
الرق يعني الخدمة في التشريع الإسلامي
يجب أن نحذّر من الانسياق وراء العناوين القانونية ، حيث يتم الخداع والمغالطات وخدمة المصالح وترجيح طرف الباطل على طرف الحق ، ولابد من الالتفات إلى نفس المعنى مهما حاولوا تسميته وبأيّ تسمية .
الرق في التشريع الإسلامي ، يعني : الخدمة وملكيّة الخدمة ليس إلاّ ، ولا يعني : القهر والظلم ، والآن لازالت الكثير من الدول لا يتمتع الخادم فيها بالضمان الذي يضمن الحماية لهذا العبد أو الخادم ، والموجود في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية ، والتاريخ رصد لنا ماذا فعل الجنس الأبيض بالجنس الأسود ، والمفروض أن يطرحوا هذه الإشكالات على حضارتهم التي تستنقص العنصر الأسود ، وتمنعه من الوصول إلى العديد من المناصب .
استئصال الغدّة السرطانية
هناك العديد من الاعتراضات على التشريع الإسلامي سأجيب عنها إجابات عامّة ، ولن أخوض في تفاصيلها لضيق المقام .
منها : أنّه لو فسد عضو من أعضاء الإنسان بسبب مرض مّا كمرض السكري بحيث لا تسلم بقية الأعضاء إلاّ إذا بتر ذلك العضو ، فمن الواضح أنّ بتر ذلك العضو بتر مستساغ ، ولا يعد بتره مخالفاً للإنسانية والحق الطبيعي أو خلاف التشريع الديني ، بالعكس هو من صلب الإنسانية والتشريع الديني والحق الطبيعي ; لأنّه سيحفظ حياة إنسان .
ولكم في القصاص حياة
وهذا ما ينطبق على الشخص أو الجماعة التي تهدّد نظاماً اجتماعياً من خلال الجريمة والتعدّي على المجتمع وتهديد الأمن والاستقرار وسلب الأموال