الصفحة 29

قال ابن حجر العسقلاني: وأختلف هل كان تحريم الصدقة من خصائصه (صلى الله عليه وآله وسلم) دون الأنبياء أو كلهم سواء في ذلك ثالثها هل يلتحق به آله في ذلك أم لا؟ قال بن قدامة: لا نعلم خلافا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة كذلك قال, وقد نقل الطبري الجواز أيضا عن أبي حنيفة, وقيل عنه يجوز لهم إذا حرموا سهم ذوي القربى حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم, وهو وجه لبعض الشافعية, وعن أبي يوسف يحل من بعضهم لبعض لا من غيهم, وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة الجواز المنع جواز التطوع دون الفرض عكسه, وأدلة المنع ظاهرة من حديث الباب ومن غيره ولقوله تعالى: (قل ما أسألكم عليه من أجر...) ولو أحلها لآله لأوشك أن يطعنوا فيه ولقوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها...) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة أوساخ الناس كما رواه سلم(2).

وأخرج ابن جرير الطبري عن علي بن الحسين عليه السلام أنه قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟

قال نعم.

قال: أفما قرأت في بني إسرائيل: (وآت ذا القربى حقه)؟

قال: إنكم للقرابة التي أمر الله أن يؤتى حقهم؟

قال: نعم.

____________

(1)صحيح مسلم ج:3 ص118 باب: تحريم الزكاة على آل النبي - صلى الله عله وآله وسلم-, ومسند الإمام أحمد ج:4 ص166 حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحرب بن عبد المطلب.

(2)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:3 ص280 كتاب: الزكاة, باب: ما يذكر من الصدقة للنبي صلى الله عليه وسلم وآله.


الصفحة 30

ثم قال: وأخرج البزار, وأبو يعلى, وابن أبي حاتم, وابن مردويه عن أبي سعيد الخذري قال: لما نزلت هذه الآية: (وآت ذا القربى حقه) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فذكا(1).

وفي صحيح البخاري باب: مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى من كتاب: الخراج, عن جبير بن مطعم, قال: لما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب, وترك بني نوفل وبني عبد شمس فانطلقت أنا وعثمان بن عفان حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله!

هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الذي وضعك الله به منهم, فما بال إخوان بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وقرابتنا واحدة؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وبني المطلب لا نفترق(2).

وروى ابن أبي شيبة الكوفي بسنده عن ثابت بن الحجاج قال: بلغني أن رجلين من بني عبد المطلب أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة فقال: لا, ولكن إذا رأيتما عندي شيئا من الخمس فأتياني.

وروى بسنده أيضا عن مجاهد قال : كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس(3).

____________

(1)تفسير فتح القدير للشوكاني ج:3 ص:224, وتفسير الطبري ج:10 ص5.

(2)البخاري ج:4 ص56 باب: ومن الدليل على أن الخمس للإمام وأنه لا يعطى بعض قرابته دون بعض ما قسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب وبني هاشم من خمس خيبر, وسنن ابن ماجة ج:2 ص961 ح2881 كتاب: الجهاد, باب: قسمة الخمس, والسنن الكبرى ج:3 ص45 ح4438 أوائل كتاب: الخمس, والمعجم الكبير للطبراني ج:2 ص140 باب: نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه, وسعد بن المسيب عن جبير بن مطعم , وصحيح ابن حبان ج:8 ص91 كتاب: الزكاة, بيان أن الصدقة لا تحل لآل محمد (صلى الله عله وآله), البداية والنهاية ج:4 ص 228 غزوة خيبر في أولها, فتح حصونها وقسيمة أرضها, المجموع لمحي الدين النووي ج:19 ص371 كتاب: السير والجهاد, باب: قسم الخمس سهم ذوي القربى...).

(3)المصنف ج:3 ص105 ح11 و12, راجع: صحيح ابن خزيمة ج: 4 ص55 باب: الزجر عن استعمال موالي النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة إذا طلبوا العمالة إذ هم ممن لا تحل لهم الصدقة المفروضة, وجامع البيان لابن جريرة الطبري ج:10 ص8 ح12500 و12501 تفسير سورة الأنفال.


الصفحة 31

قال القاضي أبو يعلى: سهم ذوي القربى, وحقهم فيه ثابت وهم بنو هاشم, وبنو المطلب أبنا عبد مناف خاصة, ولا حق فيه لمن سواهم من قريش كلها, يسوى فيه بين صغارهم وكبارهم وأغنيائهم, وفقرائهم , يفضل فيه بين الرجال والنساء, للذكر مثل حظ الأنثيين, لأنهم أعطوه باسم القرابة, ولا حق فيه لمواليهم ولا لأولاد بناتهم.

وقد قال أحمد في رواية حنبل وابن منصور: (إذا وصى لبني هاشم لا يكون لمواليهم شيء) وهذا من كلامه يدل على أنه لا حق لهم في خمس الخمس, لأنه لما أسقط دخولهم في الوصية دل على أنهم لا يدخلون في خمس الخمس. وإنما لم يتبعوا مواليهم في استحقاق الفيء, لأنه مستحق بالقرابة ولا قرابة وتبعوهم في حرمان الزكاة(1).

وقال أيضا تحت عنوان: فأما خمس الفيء والغنيمة: فينقسم ثلاثة أقسام: قسم منه يكون من حقوق بيت المال. وهو سهم الرسول صلى الله عليه وسلم المصروف في المصالح العامة, والموقوف مصرفه على رأي الإمام واجتهاده.

وقسم منه لا يكون من حقوق بيت المال وهو سهم ذوي القربى, لأنه مستحق لجماعتهم فتعين مالكوه, وخرج عن حقوق بيت المال بخروجه عن اجتهاد الإمام(2).

قلت: سوف يجيء في أبحاثنا الآتية إن شاء الله تعالى التفصيل في بيان خمس الغنائم ومستحقيه, وأما القول: بأن الخمس خاص بمن حرموا الصدقة, ليس معناه قد جعل لهم الخمس عوضا عن الصدقة, وإنما تحديد الجهة التي تشترك في الخمس وهم قبيلة بني هاشم وبني المطلب.

____________

(1)الأحكام السلطانية ص: 137.

(2)الأحكام السلطانية ص:115.


الصفحة 32

ولا نسلم إذا لم يقم دليل على أن الله عز وجل جعل الخمس لبني هاشم مكان الصدقة, حتى قال بعضهم: يجوز لهم (أكل الصدقات) إذا حرموا سهم ذوي القربى... وهذا قياس باطل.

والذي نفهمه أن الله سبحانه وتعالى خص رسوله وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام بخمس الغنائم وأتبعهم عامة بني هاشم وبني المطلب للرحم والقرابة من باب الألطاف والرحمة الإلهية بالنبي محمد وآله الأطهار صلوات الله عليهم كما خصه بالفيء الذي لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب, والصفايا, وكاختصاصهم بخصائص كثيرة كالطهارة (إنما يريد الله لذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) والاصطفاء (إن الله اصطفى آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) والصلاة (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذي آمنوا صلوا عليه وسلموا تسلما). وغير ذلك من الخصائص الجمة التي اختصهم الله عز وجل بها.

8 - الفيء خالصا للرسول صلى الله عليه وآله

قال الله عز وجل: (ومآ أفآء الله على رسوله منهم فمآ أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشآء والله على كل شيء قدير)(1).

قال إسماعيل بن حماد الجوهري: والفيء: الخراج والغنيمة, تقول منه: أفاء الله عليه المسلمين مال الكفار يفيء إفاءة. واستفأت هذا المال, أي أخذته فيئا(2).

____________

(1)الحشر: آية 6.

(2)الصحاح ج:1 ص63 الطبعة: الرابعة 1407 الناشر: دار العلم للملايين - بيروت.


الصفحة 33

وقال ابن الأثير: قد تكرر ذكر (الفيء) في الحديث على اختلاف تصرفه, وهو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد. وأصل الفيء: الرجوع. يقال: فاء يفيء فئة وفيوءا, كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم. ومنه قيل للظل الذي يكون بعد الزوال: فيء, لأنه يرجع من جانب الغرب إلى جانب الشرق(1).

وقد ثبت في الشرع المقدس أن الفيء ما حصل من أموال الكفار من غير حرب, وهذه الآية وسورة الحشر كلها نزلت, في قصة بني النضير من اليهود عندما نقضوا عهدهم وأرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فبعث إليهم يخبرهم بغدرهم ويأمرهم بالجلاء فأبوا وتحصنوا خمسة عشر يوما ثم نزلوا على أن لهم ما حملت الإبل غير الحلقة أي السلاح فخرجوا على ستمائة بعير وذهبوا إلى خيبر وغيرها فجعل الله ما خلفوه من سلاح كثير وأرض ونخيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقال عمر: ألا تخمس ما أصبت؟ (أي تأخذ خمسه وتقسم الباقي على المسلمين) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المسلمين بقوله: (ما أفاء الله على رسوله) الآية كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين(2).

وقد روى البخاري بسنده عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله

____________

(1)النهاية في غريب الحديث ج:3 ص482 باب: الفاء مع الياء.

(2)سنن الترمذي ج:3 ص125 باب: ما جاء لا زكاة على المال المستفاد حتى يحول عليه الحول, راجع معالم المدرستين ج:2 ص117.


الصفحة 34
صلى الله عليه وسلم خاصة ينفق على أهله منها نفقة سنته ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله(1).

وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم: قوله: أن الله كان خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره قال الله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله) الآية, ذكر القاضي في معنى هذا احتمالين أحدهما تحليل الغنيمة له ولأمته والثاني تخصيصه بالفيء إما كله أو بعضه كما سبق من اختلاف العلماء(2) .

وقال محمد شمس الحق العظيم آبادي: (مما أفاء الله على رسوله) من بيانية أو تبعيضية أي والحال أنها من جملة ما أفاء الله على رسوله (مما لم يوجف) خبر كانت (كانت لرسول الله خالصا) قال النووي: هذا يؤيد مذهب الجمهور أنه لا خمس في الفيء ومذهب الشافعي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له من الفيء أربعة أخماسه وخمس خمس الباقي فكان له أحد وعشرون سهما من خمسة وعشرين والأربعة الباقية لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل(3).

وقال حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن زيد البغدادي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الحال صابرا على عبادة الله وإتباع طاعته على الضر والجوع والزهد في الدنيا ثم فتح الله الفتوح في آخر عمره فصارت له أموال منها أموال مخيريق اليهودي كان أوصى بماله للنبي صلى الله عليه وسلم لمعرفته بأنه رسول الله ولم يسلم وهي صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ومنها ما فتح الله عليه مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ونزلوا من

____________

(1)صحيح البخاري ج:6 ص: سورة الحشر باب: ما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)

(2)شرح مسلم ج:12 ص75 كتاب: الجهاد والسيرة, حكم الفيء.

(3)عون المعبود ج:8 ص132 كتاب: الخراج والفيء والإمارة, باب: في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأموال.


الصفحة 35
حصونهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير قتال وهم بنو النضير وأهل حصن الكثيبة من حصون خيبر فإنهم نزلوا إليه أيضا بغير قتال وقاتل غيرهم من أهل خيبر ومن ذلك أيضا فدك قال الله تبارك وتعالى: (ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير) فجعل الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك ما لم يجعله لأحد سواه(1).

وروى أبو داود بسنده عن الزهري قال: قال عمر: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب), قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة قرى عرينة فدك وكذا وكذا(2).

وروى البيهقي بسنده عن بشير بن يسار أنه سمع نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ظهر على خيبر فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم فكان النصف سهاما للمسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزل النصف لما ينوبه من الأمور والنوائب (قال الشيخ): وهذا لأنه أفتتح بعض خيبر عنوة وبعضها صلحا فما قسم بينهم هو ما افتتحه عنوة وما تركه لنوائبه هو ما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب(3).

وقال عبد الله بن قدامة (مسألة): قال : ومن أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى بالسوية ولا يجاوز بها أربعة آباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجاوز

____________

(1)تركة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والسبل التي وجهها فيها لحماد بن زيد البغدادي ص: 78 تحقيق: أكرم ضياء العمري, الطبعة الأولى سنة: 1404 هجرية.

(2)سنن أبي داود ج:2 ص22 ح2966 كتاب: الخراج والإمارة والفيء, باب: في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(3)السنن الكبرى ج:9 ص138 جماع أبواب السير, باب: من رأى قسمة الأراضي المغنومة ومن لم يرها.


الصفحة 36
بني هاشم بسهم ذي القربى, وجملته أن الرجل إذا أوصى لقرابة, أو لقرابة فلان كانت الوصية لأولاده, وأولاد أبيه, وأولاد جده, وأولاد جد أبيه ويستوي فيه الذكر والأنثى, ولا يعطى من هو أبعد منهم شيئا, فلو وصى لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أولاده, وأولاد عبد المطلب, وأولاد هاشم, ولم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل شيئا, لأن الله تعالى لما قال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى) يعني قرباء النبي صلى الله عليه وسلم, أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين ذكرناهم, ولم يعط من هو أبعد منهم كبني عبد شمس ونوفل شيئا إلا أنه أعطى بني المطلب, وعلل عطيتهم بأنهم لم يفارقوا بني هاشم في جاهلية ولا إسلام, ولم يعط قرابة أمه وهم بنو زهرة شيئا, ولم يعط منهم إلا مسلما فحمل مطلق كلام الموصى على ما حمل عليه المطلق من كلام الله تعالى وفسر بما فسر به, ويسوى بين قريبهم وبعيدهم وذكرهم وأنثاهم لأن الوصية لهم سواء ويدخل في الوصية الكبير والصغير والغني والفقير ولا يدخل الكفار لأنهم لم يدخلوا في المستحق من قربى النبي صلى الله عليه وسلم(1).

وقال الواقدي وغيره: إنما كان ينفق على أهله من بني النضير, كانت له خالصة, فأعطى من أعطى منها وحبس ما حبس, واستعمل على أموال بني النضير مولاه أبا رافع(2).

قلت: ومن السخافة بمكان أن يدعي البعض ممن شذ أن آية الأنفال منسوخة في قول من نقل عن قتادة أنها منسوخة(3).

قال السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي في الآية: فقد نقل عن قتادة أنها منسوخة, وأنه قال: الفيء والغنيمة واحد وكان في بدو الإسلام تقسيم الغنيمة على

____________

(1)المغني ج:6 ص549 كتاب: الوصايا, فروع في الوصية.

(2)كتاب المغازي للواقدي ص: 363 و378, والمقريزي في إمتاع الأسماع ص: 178, وراجع تفسير الآية عند الطبري.

(3)أنظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس ص: 231.


الصفحة 37
هذه الأصناف, ولا يكون لمن قاتل عليها شيء إلا أن يكون من هذه الأصناف. ثم نسخ الله ذلك في سورة الأنفال, فجعل لهؤلاء الخمس, وجعل الأربعة الأخماس لمن حارب قال الله تعالى: (وأعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه) وقد رفض المحققون هذه القول, وقالوا: إن ما يغنمه المسلمون في الحرب يغاير موضوعا ما أفاء الله على رسوله بغير قتال, فلا تنافي بين الآيتين لتنسخ إحداهما الأخرى. وقال السيد الخوئي: إن ما ذكره المحققون بين لا ينبغي الجدال فيه, ويؤكده أنه لم ينقل من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخص بالغنائم نفسه وقرابته دون المجاهدين. ومما يبطل النسخ ما قيل: من أن سورة الأنفال نزلت قبل نزول سورة الحشر ولا أدنى من الشك في ذلك, ومما لا ريب فيه أن الناسخ لا بد من تأخره عن المنسوخ(1).

9- الصفايا خالصة للرسول صلى الله عليه وآله

قال الله سبحانه وتعالى: (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير)(2).

قال الجوهري: والصفي: المصافي. والصفي: ما يصطفيه الرئيس من المغنم لنفسه قبل القسمة, وهو الصفية أيضا, والجمع صفايا(3).

وقال ابن الأثير: الصفي: ما كان يأخذه رئيس الجيش ويختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة. ويقال له الصفية. والجمع الصفايا. ومنه حديث عائشة : كانت صفية رضي الله عنها من الصفي. تعني صفية بنت حيي, كانت ممن اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم من غنيمة خيبر. وقال: الصوافي: الأملاك التي جلا عنها

____________

(1)البيان في تفسير القرآن ص: 380 الناسخ في القرآن- 36.

(2)الحشر: آية6.

(3)الصحاح ج:6 ص2401.


الصفحة 38
أهلها أو ماتوا ولا وارث لها, واحدها صافية... وبه أخذ من قرأ فاذكروا اسم الله عليها خالصة لله تعالى(1).

قلت: والصفي: ما كان لرسول الله خلصا دون المسلمين من مال منقول وغير منقول من أرض وعقار وما اصطفاه من الحرب قبل القسمة وما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب وغير ذلك , غير سهمه صلى الله عليه وآله سلم في الخمس وحقه في الأنفال.

فعن عمر بن الخطاب أنه قال: كانت لرسول الله ثلاث صفايا: بنو النضير وخيبر وفدك(2).

وقد مر في المصادر السابقة قول عمر بن الخطاب: وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فما اجتازها دونكم... وفي لفظ: وكانت هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم...

وعن الزهري أنه قال: صالح النبي أهل فدك وقرى وهو محاصر قوما آخرين فأرسلوا إليه بالصلح, قال: (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) يقول, بغير قتال, قال: وكانت بنو النضير للنبي خالصا لم يفتحها عنوة (افتتحوها على صلح)(3).

وروى أبو داود بإسناده عن عامر الشعبي, قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي, إن شاء عبدا, وإن شاء أمة, وإن شاء فرسا, يختاره قبل الخمس.

____________

(1)النهاية في غريب الحديث ج:3 ص40 صفا.

(2)سنن أبي داود ج:3 ص141 باب: صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الخراج, والأموال لأبي عبيد ص:9.

(3)المصدر السابق.


الصفحة 39

وروى عن ابن عون, قال: سألت محمدا عن سهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي, قال: كان يضرب له بسهم مع المسلمين وإن لم يشهد , والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء.

وروى عن قتاتدة, قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث شاءه, فكانت صفية من ذلك السهم, وكان إذا لم يغز بنفسه ضرب له بسهمه ولم يخير.

وروى عن هشام بن عروة, عن أبيه, عن عائشة قالت: كانت صفية من الصفي(1).

وروى ابن أبي شيبة الكوفي بإسناده عن أشعث عن محمد قال: في المغنم خمس لله وسهم للنبي صلى الله عليه وسلم والصفي, وقال: ابن سيرين: يؤخذ للنبي صلى الله عليه وسلم خير رأس من السبي ثم يخرج الخمس, ثم يضرب له بسهمه مع الناس غاب أو شهد, وقال ابن سيرين: كان الصفي يوم خيبر صفية بنت حيي(2).

قال ابن حجر العسقلاني: قوله: فاصطفاها لنفسه روى أو داود وأحمد وصححه بن حبان والحاكم من طريق أبي أحمد الزبيدي عن سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كانت صفية من الصفي, والصفي بفتح المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية فسره محمد بن سيرين فيما أخرجه أبو داود وبإسناد صحيح عنه قال: كان يضرب للنبي صلى الله عليه وسلم بسهم مع المسلمين والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شيء ومن طريق الشعبي قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا وإن شاء أمة

____________

(1)سنن أبي داود ج:2 ص30 ح2992 و2993 و2994 وكتاب: الخراج والإمارة والفيء, باب: ما جاء في سهم الصفي.

(2)المصنف ج:7 ص678 ح10 كتاب: الجهاد ما جاء في طاعة الإمام والخلاف عنه, في الغنيمة كيف تقسم.


الصفحة 40
وإن شاء فرسا يختاره من الخمس ومن طريق قتادة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا كان له سهم صاف يأخذه من حيث شاء وكانت صفية من ذلك السهم وقيل أن صفية كان اسمها قبل أن تسمى زينب فلما صارت من الصفي سميت صفية(1).

وروى الإمام أحمد بإسناده عن زيد بن عبد الله بن الشخير قال: كنا بالربد جلوسا فأتى علينا رجل من أهل البادية لما رأيناه قلنا هذا كان رجل ليس من أهل البلد قال: أجل, فإذا معه كتاب في قطعة أديم قال: وربما قال: في قطعة جراب فقال: هذا كتاب كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني زهير بن أقيش وهم حي من عكل أنكم إن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وفارقتم المشركين وأعطيتم الخمس من المغنم ثم سهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي وربما قال: وصيه فانتم أمنون بأمان الله تبارك وتعالى وأمان رسوله فذكر يعني حديث الجريري(2).

قال محي الدين النووي (الرابع) روى ابن القاسم وابن وهب في قوله تعالى: (فما أوجفتم عليه من خيل) الآية هي النضير لم يكن فيها خمس ولم يوجف عيها بخيل ولا ركاب, وكانت صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها بين المهاجرين وثلاث من الأنصار, وقوله تعالى: (ما أفاء الله... ) هي قريظة, وكانت قريظة والخندق في يوم واحد(3).

وقال عبد الله بن قدامة: (مسألة) قال: (فالفيء ما أخذ من مال مشرك بحال ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب والغنيمة ما أوجف عليها) الركاب الإبل

____________

(1)فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج:7 ص368 كتاب: المغازي, باب: غزوة خيبر.

(2)مسند أحمد ج:5 ص: حديث رجل من أهل البادية, وسنن أبي داود ج:2 ص32 ح2999 كتاب: الخراج والإمارة والفيء, باب: ما جاء في سهم الصفي, ومجمع الزوائد للهيثمي ج:3 ص196 كتاب: الصيام, باب: صيام ثلاثة أيام من كل شهر.

(3)المجموع ج:19 ص378 كتاب: السير والجهاد, باب: قسم الخمس سهم ذي القربى…


الصفحة 41
خاصة والإيجاف أصله التحريك والمراد هاهنا الحركة في السير إليه. قال قتادة: (فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) ما قطعتم واديا ولا سيرتم إليها دابة إنما كانت حوائط بني النضير أطعمها الله رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد: الإيجاف الإيضاع يعني الإسراع, وقال الزجاج الو جيف دون التقريب من السير يقال وجف الفرس وأوجفت أنا قال الله تعالى: (ما أفاء على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب) فكل ما أخذ من مال مشرك بغير إيجاف مثل الأموال التي يتركونها فزعا من المسلمين ونحو ذلك هو فيء وما أجلب عليه المسلمون وساروا إليه وقاتلوهم عليه فهو غنيمة(1)...

وقال الحطاب الرعيني (وصفي المغنم والخمس): الخمس معطوف على صفي قال ابن غازي: قال الهروي: إن أعطيتم الخمس وسهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصفي فأنتم أمنون. الشعبي: الصفي علق بتخييره (صلى الله عليه وآله وسلم) من المغنم ومنه صفية. ابن العربي: من خواصه عليه الصلاة والسلام صفي المغنم والاستبداد بخمس الخمس أو الخمس. ومثله لابن شاس وكأنه إشارة إلى قولين فاقتصر المصنف على الثاني, ولو اقتصر على الأول لكان أولى لأنه أشهر عند أهل السير. وفي سماع أصبغ: إنما والي الجيش كرجل منهم له مثل الذي لهم, وعليه مثل الذي عليهم. ابن رشد: لا حق للإمام من رأس الغنيمة عند مالك وجل أهل العلم والصفي مخصوص به عليه السلام بإجماع العلماء(2)

وقال أبو البركات (وصفي المغنم): أي ما يختاره منه قبل القسم وينفق منه على نفسه وأهله ومنه كانت صفية(3).

____________

(1)المغني ج:7 ص298 كتاب: الوديعة, باب: قسمة الفيء والغنيمة والصدقة.

(2)مواهب الجليل ج:5 ص15 كتاب: النكاح, باب: الخصائص.

(3)الشرح الكبير ج:2 ص214 باب: في النكاح وما يتعلق به.


الصفحة 42

وقال شمس الدين السرخسي: كان له (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغنائم ثلاث حظوظ خمس الخمس والصفي والسهم ثم الخليفة لا يقام مقامه في استحقاق الصفي فكذلك في استحقاق خمس الخمس والصفي شيء نفيس كان يصطفيه لنفسه من سيف أو… (بياض) أو جارية كما روى أنه صلى الله عليه وسلم اصطفى ذا الفقار من غنائم بدر وكان سيفا لمنبه بن الحجاج بخلاف ما يزعم الروافض أنه نزل من السماء لعلي رضي الله عنه واصطفى صفية من غنائم خيبر وهذا شيء كان لرأس الجيش في الجاهلية كما قال القائل:

لك المرباع منها والصفايا * وحكمك والنشيطة والفصول

أما سهم ذوي القربى فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه إليهم في حياته وهم صلبية بني هاشم وبني المطلب ولم يبق لهم ذلك بعده عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى هو مستحق لهم يجمعون من أطار الأرض فيقسم بين ذكورهم وإناثهم بالسوية(1).

قلت: كون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اصطفى ذا الفقار هذا لا ينافي بأن للإمام علي عليه السلام سيفا آخر اسمه ذا الفقار كما تزعم الروافض, وقد ثبت بأن الإمام علي عليه السلام قاتل يوم معركة بدر بسيفه ذا الفقار قبل أن يغنم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السيف المزعوم الذي كان يحمل اسم ذا الفقار أيضا وكل سيف له فقرتين يسمى ذا الفقار, وقد ثبت في الأخبار بأنه كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفا اسمه ذا الفقار غير سيف الإمام علي عليه السلام المشهور.

وقال محمد شمس الحق العظيم آبادي: في صفايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأموال جمع صفية, قال في المجمع: الصفي ما يأخذه رئيس

____________

(1)المبسوط ج:10 ص9 كتاب: السير.


الصفحة 43
الجيش لنفسه من الغنيمة قبل القسمة والصفية مثله وجمعه الصفايا, قال الطيببي: الصفي مخصوص به (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس لواحد من الأئمة بعده أنتهى. وقال: وفي الهداية الصفي شيء كان عليه السلام يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل در أو سيف أو جارية وسقط بموته لأنه عليه السلام كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده. قال العيني: ولهذا لم يأخذه الخلفاء الراشدين انتهى(1).

وقال ابن نجيم المصري قوله: (وسهم النبي عليه السلام سقط بموته كالصفي) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده, الصفي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع أو سيف أو جارية. وقال الشافعي رضي الله عنه : يصرف سهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخليفة والحجة عليه ما قدمناه(2).

وقال عبد الله بن قدامة: وقال عليه السلام: (إني لا نقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي في بيتي فأرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها) رواه مسلم وقال: (إنا لا تحل لنا الصدقة, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أشرف الخلق وكان له من المغانم خمس الخمس والصفي فحرم نوعي الصدقة فيرضها ونفلها, وسلم دونه في الشرف, ولهم خمس الخمس وحده فحرموا أحد نوعيها وهو الفرض…

وقال: ولأن الله تعالى قال: (وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) فمفهومه أن باقيها للغانمين ولنا ما روى أبو داود بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى بني زهير بن أقيش: (إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأديتم الزكاة وأديتم الخمس من المغانم وسهم الصفي أنكم أمنون

____________

(1)عون المعبود ج:8 ص : كتاب: الخراج والإمارة والفيء, باب : في صفايا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الأموال ) .

(2)البحر الرائق ج:5 ص154 كتاب: السير, باب: الغنائم وقسمتها.


الصفحة 44
بأمان الله ورسوله), وفي حديث وفد عبد القيس الذي رواه ابن عباس وأن يعطوا سهم النبي صلى الله عليه وسلم والصفي. وقالت عائشة: كانت صفية من الصفي. رواه أبو داود(1).

فمن هذه الأخبار والنصوص وغير ذلك يتبين أنه ليس الصفي ما يصطفى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دار الحرب التي حضرها بنفسه أو لم يحضرها فحسب, بل حتى الأراضي التي فتحها بالرعب يطلق عليها الصفايا, كما هو الحال بالنسبة لأرض بني النضير, وخيبر, وفدك كما في الخبر عن عمر بن الخطاب السالف الذكر, لكن فقهاء العامة من أهل السنة قصروا اسم الصفي على ما يستصفى من المعركة من رأس الخمس قبل القسمة, وأنه سقط بموته صلى الله عليه وآله وسلم على رأي أكثرهم (أي أنه ليس لأحد من بعده) إلا أبا ثور فإنه قال: يجري مجرى سهم النبي صلى اله عليه وسلم, وقد قال بعضهم كما تقدم: الصفي لآله من بعده.

أما كون الصفي سقط بموته صلى الله عليه وآله وسلم فهو اشتباه منهم كبير مقصود أو غير مقصود, لأنهم لم يأتوا بما يدلل على سقوطه, فإن كان دليلهم كونه من اختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقد جعلوا ما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولي الأمر من بعد, كما هو الحال في الأنفال وغير ذلك في الخبر الذي رووه عن أبي بكر بن أبي قحافة, على أن عمر بن الخطاب قد اصطفاء أموال كسرى لنفسه عند فتح بلاد فارس, كما سنبينه في محله إن شاء الله.

____________

(1)المغني ج:2 ص522 كتاب: الزكاة, تحريم جميع الصدقات على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم), وج:7 ص303 كتاب: الوديعة, تقسيم سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح والمصالح.


الصفحة 45

10- الأنفال لله والرسول صلى الله عليه وآله

قال الله عز وجل: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)(1).

قال الخليل الفراهيدي: النفل: الغنم, والجميع: الأنفال. ونفلت فلانا: أعطيته نفلا وغنما. والإمام ينفل الجند, إذا جعل لهم ما غنموا. والنافلة: العطية يعطيها تطوعا بعد الفريضة من صدقة أو صلاح أو عمل خير(2).

وقال ابن منظور: قال أبو منصور: وجماع معنى النفل والنافلة ما كان زيادة على الأصل, سميت الغنائم أنفالا لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل لهم الغنائم(3).

وقال الشيخ فخر الدين الطريحي: قوله تعالى: (ويسألونك عن الأنفال) يعني الغنائم واحدها نفل بالتحريك.

والنفل: الزيادة. والأنفال: ما زاده الله هذه الأمة في الحلال, لأنه كان محرما على من كان قبلهم. وبهذا سيمت النافلة من الصلاة لأنها زيادة على الفرض. ومنه قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) فإنه دعي بإسحاق فاستجيب له وزيد يعقوب نافلة تفضل من الله وإن كان الكل بتفضله. ومنه (ويعد من الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال وكل أرض انجلى عنها أهلها بغير قتال أيضا) وسماها الفقهاء فيئا (والأرضون الموات والآجام وبطون الأودية وقطائع الملوك وميراث من لا وارث له). وهي لله وللرسول ولمن قام مقامه

____________

(1)الأنفال:آية1.

(2)كتاب العين ج:8 ص325 أبواب الثلاثي الصحيح من اللام, باب: اللام والنون والفاء معهما.

(3)لسان العرب ج:11 ص671 فصل النون.


الصفحة 46
يصرف حيث شاء من مصالحه ومصالح عياله. والأنفال: ما لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب, هي لله وللرسول خاصة. وفدك من الأنفال(1).

قلت: وفي الشرع المقدس ما تضافرت به الأخبار في بيان معاني الأنفال إلا أنه قد وقع فيها اختلاف بين العلماء سنحاول معالجة ذلك في ثنايا ما نورده الآن. قال محمد بن علي بن محمد الشوكاني: وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى: ( وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه...) ثم أمرهم بالتقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما وترك الاختلاف الذي وقع بينهم ثم قال: (إن كنتم مؤمنين) أي امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مؤمنين بالله, وفيه من التهيج والإلهاب ما لا يخفى ...

وقال الشوكاني: وقد أخرج أحمد, وعبد بن حميد, وابن جرير, وأبو الشيخ, والحاكم, وابن مردويه, والبيهقي في سننه عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا, فأنتزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقسمه رسول الله بين المسلمين.

وقال أيضا: وأخرج ابن جرير, وابن المنذر, وابن أبي حاتم , وابن مردويه, والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: (يسألونك عن الأنفال) قال الأنفال المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلوا , فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيهم منها شيئا, فأنزل الله: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال - لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها

____________

(1)مجمع البحرين ج:4 ص: باب: النون.


الصفحة 47
شيء - فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) إلى قوله: إن كنتم مؤمنين ثم أنزل الله: (وأعلموا أنما غنمتم من شيء) الآية, ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله, وجعل أربعة أخماس الناس فيه سواء للفرس سهمان ولصاحبه سهم وللراجل سهم(1).

قلت: فقولهم: فقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين, فالمقصود أن الله عز وجل وهب لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم كل نفل, فهو لـه خاصة يفعل فيه ما يشاء, فإنه قسم الذي ببدر بين المسلمين تفضلا منه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم, وليس هو من باب السلب والنهب كما كانوا يفعلونه في الجاهلية, فلما جاء الإسلام حرم السلب والنهب.

قال إسماعيل بن يحيى المزني: قال الشافعي: ما قسم عليه السلام غنائم بدر إلا بسير شعب من شعاب الصفراء قريب من بدر, فلما تشاح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في غنيمتها أنزل الله عز وجل (يسألون عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) فقسمها بينهم وهي له تفضلا وأدخل معهم ثمانية نفر من المهاجرين والأنصار بالمدينة وإنما نزلت (وأعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول) بعد بدر ولم نعلمه أسهم لأحد لم يشهد الوقعة بعد نزول الآية ومن أعطى من المؤلفة وغيرهم فمن ماله أعطاهم لا من الأربعة الأخماس(2).

وقال القرطبي: واختلف العلماء في محل الأنفال على أربعة أقوال, الأول: محلها فيما شد عن الكافرين إلى المسلمين أو أخذ بغير حرب. الثاني: محلها

____________

(1)فتح القدير ج:2 ص283 و284 سورة الأنفال, بحث في الأنفال أول الأمر.

(2)مختصر المزني ص: 271 كتاب: الجهاد, الطباعة والنشر: دار المعرفة - بيروت, وأنظر: كتاب الأم للشافعي ج:7 ص: أول كتاب: سير الأوزاعي.


الصفحة 48
الخمس. الثالث: خمس الخمس. الرابع: رأس الغنيمة, حسب ما يراه الإمام. قال: ومذهب مالك رحمه الله أن الأنفال مواهب الإمام من الخمس, على ما يرى من الاجتهاد, وليس في الأربعة الأخماس نفل, وإنما لم ير النفل من رأس الغنيمة لأن أهلها معينون وهم الموجفون, والخمس مردود, قسمه إلى اجتهاد الإمام. وأهله غير معينين. قال صلى الله عليه وسلم: ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم. فلم يمكن بعد هذا أن يكون النفل من حق أحد, وإنما يكون من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الخمس. هذا هو المعروف من مذهبه وقد روي عنه أن ذلك من خمس الخمس. وهو قول: ابن المسيب, والشافعي وأبي حنيفة(1).

قلت: لقد اختلف فقهاء أهل السنة والجماعة في الأنفال وفي مواردها اختلافا شديدا كما أشرنا إليه قبل قليل, ومن الأسباب التي أدت إلى اختلافهم تعود إلى تضارب الروايات والأخبار المنقول عندهم في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وسيرة الخلفاء وأمراء الجيوش الإسلامية, وغموض موارد الأنفال, والخلط بين معاني الأنفال وبين ما هو حق فرضه الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم, وبين ما تفضل به صلى الله عليه وآله وسلم على أمته من خالص ملكه الذي خصه الله به, وبين حق أهل الجهاد في الغنيمة والذي أوجفوا عليه بالخليل والركاب.

مع أنهم قد اتفقوا بأن الله سبحانه وتعالى قد فرض لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم الأنفال جعلها خالصة وخاصة له لا يشاركه فيها أحد يتصرف فيها كيف شاء ولمن شاء لقوله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول...) فما فرضه الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم من الأنفال فحكمه ثابت, وما

____________

(1)الجامع لأحكام القرآن ج:7 ص361 أوائل سورة الأنفال.


الصفحة 49
كان يتفضل به صلى الله عليه وآله وسلم من الأنفال على أصحابه رضي الله تعالى عنهم وعلى غيرهم فهو غير واجب, فله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبضه عنهم ويبسطه كيف شاء لمن شاء حسب المصلحة التي يراها, لأن ذلك من خالص أملاكه ليس لأحد فيه حق.

وليس في الشريعة نفل مفروض وحق خاص لأحد غير الله ورسوله صلى لله عليه وآله ولسم, وليس واجب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطي من الأنفال لأحد, وإن أعطاء من الأنفال كان ذلك تفضلا منه صلى الله عليه وآله وسلم.

نعم عند أهل البيت عليهم السلام أدلة بأن الأنفال للمعصوم القائم مقامه كما كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومرادنا من النفل المفروض: الأنفال في قوله عز وجل: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول...) الحق الذي خص الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم المذكور في المورد الذي نزلت فيه الآية وحقه في بقية الموارد الأخرى كخمس الغنائم , والفيء الذي لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب, والصفايا.

وليس مقصودنا كل ما يشمله لفظ الأنفال, فإن الغنائم والفيء الذي أوجف عليه المسلمون بخيل وركاب يطلق عليهما أنفال أيضا, وقد أطلق الفقهاء وغرهم هذه التسمية على ما هو خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وعلى ما هو عام, فلا بد من التمييز بينهما حتى يعرف ما هو لله والرسول, وما هو لغيرهما.

قال العلامة السيد الطباطبائي: أن الأنفال بحسب المفهوم وإن كان يعم الغنيمة والفيء جميعا إلا أن مورد الآية هي الأنفال بمعنى غنائم الحرب لا غنائم غزوة بدر خاصة إذ لا وجه للتخصيص فإنهم إذ تخاصموا في غنائم بدر لم يتخاصموا فيها لأنها غنائم بدر خاصة بل لأنها غنائم مأخوذة من أعداء الدين في

الصفحة 50
جهاد ديني ، وهو ظاهر. واختصاص الآية بحسب موردها بغنيمة الحرب لا يوجب تخصيص الحكم الوارد فيها بالمورد، فان المورد لا يخصص، فإطلاق حكم الآية بالنسبة إلى كل ما يسمى بالنفل في محله، وهي تدل على أن الأنفال جميعا لله ولرسوله لا يشارك الله ورسوله فيها احد من المؤمنين سواء في ذلك الغنيمة والفيء.

ثم الظاهر من قوله: (قل الأنفال لله والرسول) وما يعظهم الله به بعد هذه الجملة ويحرضهم على الإيمان هو أن الله سبحانه فصل الخصومة بتشريع ملكها لنفسه ولرسوله، ونزعها من أيديهم وهو يستدعي أن يكون تخاصمهم من جهة دعوى طائفة الأخرى ذلك، ففصل الله سبحانه خصومتهم فيها بسلب ملكهم منها وإثبات ملك نفسه ورسوله، وموعظتهم أن يكفوا عن المخاصمة والمشاجرة، وأما قول من يقول: إن الغزاة يملكون ما أخذوه من الغنيمة بالإجماع فأحرى به أن يورد في الفقه دون التفسير. وبالجملة فنزاعهم في الأنفال يكشف عن سابق عهد لهم بأن الغنيمة لهم أو ما في معناه غير انه كان حكما مجملا اختلف فيه المتخاصمان وكل يجر النار إلى قرصته، والآيات الكريمة تؤيد ذلك(1).

قلت: الملفت للنظر أن الدارس لا يجد عند فقهاء أهل السنة تحديدا واضحا أو تفسيرا جليا لموارد الأنفال المفروضة, ولقد اختلفوا اختلافا عجيبا وغريبا حتى ادعاء بغضهم نسخ الآية بعد غزوة بدر, والبعض خصها في أشياء, والبعض الآخر عمها , وقال آخرون: سقط حكمها بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم, وقوم جعلوها لمن يخلفه يجتهد فيها, ومنع قوم الاجتهاد, إلى غيرها من الأقوال.

____________

(1)تفسير الميزان ج: ص7 تفسير أول سورة الأنفال.


الصفحة 51

روى أبو بداود بإسناده عن يحيى بن حمزة, قال: سمعت أبا وهب يقول: سمعت مكحولا يقول: كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني, فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق، فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النفل, فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشيء، حتى لقيت شيخا يقال له زياد بن جارية التميمي، فقلت له: هل سمعت في النفل شيئا؟ قال نعم، سمعت حبيب بن مسلمة الفهرى يقول: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة(1).

قلت: فحبيبه بن مسلمة ليس عنده علم بالأنفال إلا كونه شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة, وهذا ليس فيه بيان لمعنى الأنفال ولا لموارده, وإنما فيه إخبار لما تفضل به صلى الله عليه وآله من الأنفال على الغزاة, وهو عطاء من ماله الخاص فله أن يعطي كيف شاء, وليس في ذلك قاعدة معينة, يمكن أن يعطي صلى لله عليه وآله وسلم أقل من الربع أو أكثر من الثلث, ويمكن أن لا يعطي أصلا.

وقد سئل الإمام مالك عن النفل، هل يكون في أول مغنم؟ قال: ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام. وليس عندنا في ذلك أمر معروف موقوف، إلا اجتهاد السلطان. ولم يبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل في مغازيه كلها. وقد

____________

(1)سنن أبي داود ج: ص624 كتاب الجهاد, باب: في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى والفرس والسلاح من السلب, والمستدرك للحاكم ج: ص133 كتاب: قسم الفيء , تنفيل الربع في البدأة والثلث في الرجعة, والسنن الكبرى للبيهقي ج:6 ص313 كتاب: جامع أبواب الأنفال, باب: الوجه الثاني من النفل, وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج:7 ص13 إبراهيم بن عبد الله بن صفوان أبو إسحاق العنصري الحداد عم أبي زرعة الحافظ , وسير أعلام النبلاء ج:5 ص 155, 57 - مكحول عالم أهل الشام, والمجموع محيى الدين النووي ج:19 ص351 كتاب: الديات, باب: الأنفال.


الصفحة 52
بلغني أنه نفل في بعضها يوم حنين. وإنما ذلك على وجه الاجتهاد من الإمام، في أول مغنم وفيما بعده(1).

فنقول للإمام مالك ولمن هو على رأيه: وهل في الأنفال حق لغير الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى يجتهد في ذلك الإمام برأيه؟؟!!

فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد تفضل من حقه في الأنفال فأحيانا أعطاء منها الربع والثلث وغير ذلك, وأحيانا لم يعطي شيئا, أما الإمام ليس له حق في الأنفال حتى يعطي كما أعطاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فمن إدعاء أن الأنفال من حق الأئمة فعليه أن يأتي بالدليل من الكتاب أو السنة.

وروى الإمام مالك بإسناده عن القاسم بن محمد, أنه قال: سمعت رجلا يسأل عبد الله بن عباس عن الأنفال ؟ فقال ابن عباس: الفرس من النفل, والسلب من النفل, قال: ثم عاد الرجل لمسألته: فقال ابن عباس: ذلك أيضا, ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب.

وفي لفظ: قال القاسم: فلم يزل يسأله حتى كان أن يحرجه, قال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب(2).

وروى ابن جرير الطبري بإسناده عن القاسم بن محمد, قال: قال ابن عباس: كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال: لا آمرك ولا أنهاك. ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلا زاجرا آمرا محللا محرما. قال القاسم: فسلط على ابن عباس رجل يسأله عن الأنفال, فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه. فأعاد عليه الرجل, فقال له مثل ذلك, ثم أعاد عليه حتى أغضبه, فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر حتى

____________

(1)كتاب الموطأ ج:2 ص 456 ح20 كتاب: الاجتهاد, باب: ما جاء في إعطاء النفل من الخمس.

(2)الموطأ ج:2() ص455 ح19 كتاب: الطلاق, باب: ما لا يبين من التمليك, والمدونة الكبرى ج:2 ص30 كتاب: الجهاد, في النفل.


الصفحة 53
سالت الدماء على عقبيه, أو على رجليه, فقال الرجل: أما أنت فقد أنتقم الله لعمر منك.

وقد قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل والله أعلم(1).

قلت: وهذا ابن عباس أيضا ليس عنده علم في الأنفال غير قوله: الفرس من النفل, والسلب من النفل!! وظاهر الخبر يدل على أن الرجل كان يسأل ابن عباس عن معنى الأنفال التي قال الله تعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) وجواب ابن عباس ليس هو جوابا عما كان يسأل عنه الرجل, ولو كان مطابقا لسؤاله لما كرر عليه السؤال حتى أغضبه, ولا أدري لماذا لم يجبه ابن عباس ويتحرج ويغضب, ويتهدد الرجل الذي كان يسأل عن دينه؟!

ويفهم من قول القاسم: فسلط على ابن عباس رجل يسأله عن الأنفال, واستحضار ابن عباس قصة صبيغ الذي ضربه عمر حتى سالت الدماء على عقبيه, أو على رجليه, أن السؤال عن الأنفال كان خطيرا لسبب من الأسباب, بحيث يتحرج أمثال ابن عباس أن يجيب عن ذلك.

ولعل أحد الأسباب أن السلطة كانت تمنع أن يتعرف الناس على معنى الأنفال الذي هو حق خالص وخاص لله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم تسترا على من استولى عليه من الخلفاء الثالث وملوك بني أمية, ولعل السائل كان في عهد عثمان بن عفان أو معاوية بن أبي سفيان والله أعلم.

____________

(1)جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج:9 ص226 ح12150 سورة الأنفال, تفسير الآية (يسألونك عنالأنفال...), وتفسير القرآن العظيم ج:2 ص294 سورة الأنفال, النهي عن التولي يوم الزحف.


الصفحة 54

وروى ابن أبي شيبة الكوفي بإسناده عن محمد بن عمرو قال: تذاكر أبو سلمة ويحيى بن عبد الرحمن وعبد الملك بن المغيرة - وأنا معهم- الأنفال, فأرسلوا, إلى سعيد بن المسيب يسألونه عن ذلك , فجاء الرسول فقال: أبى أن يخبرني شيئا, قال: فأرسل سعيد غلامه فقال: إن سعيدا يقول لكم: إنكم أرسلتم تسألونني عن الأنفال, وإنه لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم(1).

وهذا سعيد بن المسيب قد قطع الطريق عن المسألة جملة وتفصلا وأسكت السائلين بقوله: إنه لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي قول الإمام مالك ما يوحي أن الأنفال سقطت بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما يدل أيضا على أنها عنده مختص به صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما نفل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما برد القتال, فقال: من قتل قتيلا تقوم له عليه بينة فله سلبه, وفى رسول الله أسوة حسنة, فكيف يقال بخلاف ما قال وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يبلغني أن النبي عليه السلام قال ذلك, ولا عمل به بعد حنين, ولو أن رسول عليه السلام سن ذلك وأمر به فيما بعد حنين كان ذلك أمرا ثابتا, ليس لأحد فيه قول, وقد كان أبو بكر بعد رسول الله عليه السلام يبعث الجيوش فلم يبلغنا أنه فعل ذلك, ولا عمل به, ثم كان عمر بعده فلم يبلغنا عنه أيضا أنه فعل ذلك(2).

وقد ذكر علاء الدين المارديني الشهير بابن التركماني كلام الخطابي, أنه قال: وقد اختلف العلماء في هذا فكان مالك لا يرى النفل ويكره أن يقول الإمام: من قاتل في موضع كذا, أو قتل عددا فله كذا, ويبعث سرية فيقول: ما غنمتم فلكم نصفه, ويكره أن يقاتل الرجل ويسفك دم نفسه في مثل هذا, واثبت الشافعي النفل,

____________

(1)المصنف ج:8 ص519 ح7, كتاب: المغازي, ما ذكر في نجد وما نقل منها.

(2)المدونة الكبرى ج:2ص 31 كتاب: الجهاد, في ندب الإمام للقتال بجعل.


الصفحة 55
وقال به الاوزاعي, واحمد, وقال الثوري: إذا قال الإمام: من جاء برأس فله كذا, ومن اخذ شيئا فهو له, ومن جاء بأسير فله كذا انتهى(1).

قلت: وأما قول مالك: ليس لأحد فيه قول, وقد كان أبو بكر بعد رسول الله عليه السلام يبعث الجيوش فلم يبلغنا أنه فعل ذلك... هذا القول غير صحيح, فقد قال عبد الله بن قدامة: وروى الأثرم بإسناده عن جرير بن عبد الله البجلي أنه لما قدم على عمر في قومه قال له عمر: هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشيء؟ وذكره ابن المنذر أيضا عن عمر, وقال إبراهيم النخعي: ينفل السرية الثلث والربع يرضيهم بذلك, فأما قول عمرو بن شعيب فإن مكحولا قال له حين قال: لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له حديث حبيب بن مسلمة: شغلك أكل الزبيب بالطائف. وما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم ثبت للأئمة بعده ما لم يقم على تخصيصه به دليل(2).

وقال القرطبي: وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي لما قدم عليه في قومه وهو يريد الشام: هل أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وسبي؟ وقال بهذا جماعة فقهاء الشام: الأوزاعي, ومكحول, وابن حيوة وغيرهم.

وقال: ومنع بعض العلماء أن ينفل الإمام ذهبا أو فضة أو لؤلؤا ونحوه. وقال بعضهم: النفل جائز من كل شيء. وهو الصحيح لقول عمر ومقتضى الآية, والله أعلم(3).

وأما من قال بأن الآية منسوخة , فقد قال محمد بن علي بن محمد الشوكاني: وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والنحاس في ناسخه عن مجاهد

____________

(1)الجوهر النقي ج:6 ص316 باب: الوجه الثالث من النفل.

(2)المغني ج:10 ص410 كتاب: الجهاد وفرضه على الكفاية, حكم النفل في الغزو وأقسامه, والشرح الكبير ج:10 ص436 كتاب: الجهاد وفرضه على الكفاية, حكم النفل في الغزو وأقسامه.

(3)الجامع لأحكام القرآن ج:7 ص: أول سورة الأنفال.