الصفحة 83
الله عليه وآله يقول لسعد: (إرم فداك أبى وأمي) فرمى حيان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن...

وروى عبد الرزاق عن هشام, عن ابن سيرين قال: خرجت أم أيمن مهاجرة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهي صائمة، ليس معها زاد، ولا حمولة، ولا سقاء، في شدة حر تهامة، وقد كادت تموت من الجوع والعطش، حتى إذا كان الحين الذي فيه (يفطر) الصائم، سمعت حفيفا على رأسها، فرفعت رأسها، فإذا دلو معلق برشاء أبيض، قالت: فأخذته بيدي، فشربت منه حتى رويت، فما عطشت بعد، قال: فكانت تصوم وتطوف لكي تعطش في صومها، فما قدرت على أن تعطش حتى ماتت.

وروى عبد الرزاق أيضا عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي جعفر قال: أعطى أبو بكر عليا جارية، فدخلت أم أيمن على فاطمة فرأت فيها شيئا كرهته، فقالت: ما لك؟ فلم تخبرها، فقالت: ما لك؟ فوالله ما كان أبوك يكتمني شيئا، فقالت: جارية أعطوها أبا حسن، فخرجت أم أيمن فنادت على باب البيت الذي فيه علي بأعلى صوتها، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ في أهله، فقال: ما هذا الصوت؟ فقالوا: أم أيمن تقول: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفظ في أهله، فقال علي: وما ذاك؟ قالت: جارية بعث بها إليك، فقال علي: الجارية لفاطمة.

وحتى لا نخرج عن الغرض فلا نطيل في ترجمة أم أيمن المرأة الصالحة التي احتضنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أمه فكانت له أما بعد

أمه(1)...

____________

(1)راجع إن شئت ما ذكرناه في شأن أم أيمن رضي الله تعالى عنها: المصنف لعبد الرزاق الصنعاني ج:4 ص309 ح7900 كتاب: الصيام, باب: فضل الصيام, وأيضا ج:7 ص 302 ح13271, ومسند الإمام أحمد بن حنبل ج:3 ص212 مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه, والطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ج:8 ص223 من قريش وحلفائهم ومواليهم وغرائب نساء الحديث, أم أيمن, والمصنف لابن أبي شيبة الكوفي ج:8 ص 327 ح17 وح18 كتاب: الجهاد, باب: أول ما فعل ومن فعله, وصحيح مسلم النيسابوري ج:5 ص163 كتاب: الجهاد والسيرة, باب: رد المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح , وأيضا ج:7 ص144 كتاب: فضائل الصحابة رضي الله عنهم, باب: من فضائل أم أيمن, والعجم الأوسط للطبراني ج:2 ص206, والمستدرك للحاكم النيسابوري ج:3 ص132 كتاب: معرفة الصحابة رضي الله تعالى عنهم, قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): علي النذر وأنا الهادي, أيضا ج:4 ص64 كتاب: معرفة الصحابة رضي الله تعالى عنهم, ذكر أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, والسنن الكبرى للبيهقي ج:7 ص93 كتاب: النكاح, وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج:40 ص25 ح864 عثمان بن محمد بن عثمان بن محمد بن عبد الملك بن سليمان بن عبد الملك ابن عبد الله بن عنبسة بن عمرو بن عثمان بن عفان أبو عمرو العثماني البصري, والمجموع لمحي الدين النووي ج:4 ص185 كتاب: الضمان ومعناه, إذا أراد من عنده الوديعة أن يسافر, والشرح الكبير لابن قدامة ج:7 ص280 باب: الوديعة, والسيرة النبوية لابن كثير ج:4 ص546 ما وقع بعده من الفتن, وفتح الباري شرح صحيح البخاري ابن حجر العسقلاني ج:4 ص268 كتاب: البيوع, باب: ذكر القين والحداد.


الصفحة 84

قال ابن شبة النمير: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير, قال: حدثنا فضيل ابن مرزوق, قال: حدثني النميري بن حسان, قال: قلت لزيد بن علي رحمة الله عليه وأنا أريد أن أهجن أمر أبي بكر: إن أبا بكر رضي الله عنه انتزع من فاطمة رضي الله عنها فدك. فقال: إن أبا بكر رضي الله عنه كان رجلا رحيما, وكان يكره أن يغير شيئا تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتته فاطمة رضي الله عنها فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني فك. فقال لها: هل لك على هذا بينة؟ فجاءت بعلي رضي الله عنه فشهد لها, ثم جاءت بأم أيمن فقالت: أليس تشهد أني من أهل الجنة؟ قال: بلى , - قال أبو أحمد يعني أنها قالت ذلك لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما- قالت: فأشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها فدك(1).

وقال أبو جعفر الإسكافي محمد بن عبد الله المعتزلي المتوفى سنة:220 هجرية : وقد عارضتكم الرافضة في حديثكم، فقالت: كيف قبلتم قول عائشة في الصلاة وجعلتموها حجة، ولم تقبلوا قول فاطمة في فدك، وشهادة أم أيمن لها وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة. فإن قلتم: إن الحكم في الأصول لا تجب بشهادة امرأة! قلنا لكم: وكذلك

____________

(1)تاريخ المدينة المنورة ج:1 ص199 ذكر فاطمة والعباس وعلي رضي الله عنهما وطلب ميراثهم من تركة النبي صلى الله عليه وسلم.


الصفحة 85
الحجة في الدين لا يثبت بقول امرأة، ولئن كانت صلاة أبي بكر بالناس توجب له التقدم على من صلى خلفه، فصلاة عمرو بن العاص بأبي بكر وعمر توجب له التقدم عليهما، ولعمرو مع صلاة الولاية الجامعة للصلاة وغيرها وهذا الخبر مجمع عليه، فلم يكن عند أحد منهم علة يدعيها في تقديم أبي بكر على علي رضي الله عنه(1).

وقال أحمد بن يحيى بن جابر المعروف بالبلاذي: وحدثني روح الكرابيسي, قال: حدثني زيد بن الحباب, قال: أخبرنا خالد ابن طهمان, عن رجل حسبه روح جعفر بن محمد أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: أعطني فدك, فقد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لي. فسألها البينة. فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبي صلى الله عليه وسلم فشهدا لها بذلك. فقال: إن هذا الأمر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل وامرأتين(2).

وقال الحاكم الحسكاني: وروى البلاذي في عنوان (فتح فدك) من كتاب فتوح البلدان ص:40 قال: وحدثنا عبد الله بن ميمون المكتب, قال: أخبرنا الفضيل بن عياض عن مالك بن جعونة عن أبيه, قال: قالت فاطمة لأبي بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فدك فأعطاني إياها وشهد لها علي بن أبي طالب فسألها شاهدا آخر فشهدت لها أم أيمن, فقال: قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا تجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين! فانصرفت (عنه فاطمة عليها السلام)(3).

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: قال أبو بكر: وحدثني محمد بن زكريا, قال: حدثني ابن عائشة, قال: حدثني أبي, عن عمه قال: لما كلمت فاطمة أبا بكر

____________

(1)المعيار والموازنة ص:42 بد بيعة أبي بكر وبيانه عن نفسه, تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي.

(2)فتوح البلدان للبلاذري ج:1 ص35 ح114.

(3)وشواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ج:1 ص444 تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي, الطبعة الأولى: سنة 1411.


الصفحة 86
بكى, ثم قال: يا بنت رسول الله, والله ما ورث أبوك دينارا ولا درهما, وإنه قال: إن الأنبياء لا يورثون, فقالت: إن فدك وهبها لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, قال: فمن يشهد بذلك؟ فجاء علي بن أبي طالب عليه السلام فشهد, وجاءت أم أيمن فشهدت أيضا, فجاء عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف فشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسمها, قال أبو بكر: صدقت يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصدق على, وصدقت أم أيمن وصدق عمر, وصدق عبد الرحمن بن عوف, وذلك أن مالك لأبيك, كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ من فدك قوتكم , ويقسم الباقي, ويحمل منه في سبيل الله, فما تصنعين بها؟ قالت: أصنع بها كما يصنع بها أبي, قال: فلك علي الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك, قالت: الله تفعلن! قال: الله لأفعلن, قالت: اللهم أشهد, وكان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم, وقسم الباقي, وكان عمر كذلك, ثم كان عثمان كذلك: ثم كان علي كذلك, فلما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان أقطع مروان بن الحكم ثلثها, وأقطع معمرو بن عثمان بن عفان ثلثها, وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها, وذلك, بعد موت الحسن بن علي عليه السلام(1)...

وأما قول الراوي في ذيل الخبر: وكان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم, وقسم الباقي, وكان عمر كذلك, ثم كان عثمان كذلك إلى آخر ما هنالك, سوف يجيء بأن أبا بكر لم يلتزم بهذا القول: بل لقد خلاف فعله قوله وأستأثر بكل التركة خاصة فدك تحت غطاء الولاية, وقد وهب عثمان فدك بعد ذلك لمروان بن الحكم .

____________

(1)وشرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج:16 ص214 و216 الفصل الثاني في النظر في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يورث أم لا؟.


الصفحة 87

ولا شك أن من تدبر هذه الأخبار في رد شهادة أم أيمن التي شهد لها رسول الله صلى الله عليه وآله بالجنة يعلم علم اليقين بأن عصابة قريش وعلى رأسها الخليفة الأول والثاني كانت مصممة على حرمان فاطمة عليها السلام من نحلتها فدك, وحرمانها من تركة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم, وحرمانها من حقها في خمس الغنائم وغر ذلك.

والحقيقة إن في هذه الأخبار أدلة قائمة بنفسها لأهل الإنصاف , والله سبحانه وتعالى المستعان.

20- رد شهادة الإمام علي عليه السلام من أعظم الرزايا

إنما جاءت فاطمة عليها السلام بأم أيمن ورباح بعد مارد أبو بكر شهادة أمير المؤمنين علي عليه السلام بزعمه إنه يجر النار إلى قرصه إلى غير ذلك من التهم.

وقد مر عليك حواره مع أبي بكر وعمر في بداية الأمر.

وفي المرة الثانية عندما ذهب مع فاطمة عليها السلام والعباس, وقد ذهب مع زوجته مرات عديدة, يحاجج أبا بكر ليسترد حقه وحق زوجته المغتصب, لكن أبن أبي قحافة كان في كل مرة يرد شهادة علي أمير المؤمنين عليه السلام!!

فإن ذلك من أعظم الرزايا التي أصيبت بها الأمة الإسلامية, حيث فتح بذلك باب الطعن في أهل بيت النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم في كتابه مع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم تطهيرا.

وقد قرنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالكتاب, وجعلهم قدوة لأولي الألباب.


الصفحة 88

وقد روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لم تضلوا بعدي أبدا وأحدهما أفضل من الآخر كتاب الله, هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض وأهل بيتي عترتي ألا وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. وهذا الأحاديث المتواترة وقد روي بألفاظ كثيرة(1).

فالطعن في شهادة أمير المؤمنين عليه السلام, بدون شك طعن في السنة المحمدية, وتوهين للثقل الأصغر.

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وساير أمته بالرجوع للثقل الأصغر والتمسك به مع كتاب الله.

فهل يمكن لأمير المؤمنين عليه السلام بعد هذا, أن يخطو خطوة واحدة في معصية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؟؟

وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام من أزهد المسلمين وأتقاهم, وأعظمهم صلابة في الدين الله, وأكثرهم خشية من الله عز وجل, وأشدهم احتياطا وتوقيا من الوقوع في الشبهات.

وقد قال صلوات الله عليه وآله سلم: علي مع الحق, والحق مع علي, يدور معه كيف دار.

فهل هناك شهادة أعظم من شهادة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم, تشهد بصدق أمير المؤمنين عليه السلام, وأنه دائما مع الحق والحق معه يدور كيف دار؟؟

____________

(1)رواه بهذا اللفظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ج:2 ص376 ح166, ونقله المتقي الهندي في كنزل العمال ج:1 ص381 ح1657عن ابن جرير, ونقله أيضا أبو بكر السرخسي في أصوله ج:1 ص314 ومن الناس من يقول لا إجماع إلا لعترة الرسول صلى الله عليه وسلم.


الصفحة 89

فرد أبو بكر لشهادة أمير المؤمنين عليه السلام رد لشهادة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم, وتلاعبا بالنصوص الشرعية لصرف العترة عن حقها. بل كيف يطلب أبو بكر شهودا من الصديقة الكبرى عليها السلام وهي الطاهرة المطهرة بشهادة القرآن الكريم, وهي صاحبة اليد.

وقد جاء في السنة: (البينة على المدعي, واليمين على المدعى عليه)(1).

لكن أبا بكر قد خالف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعمل بهذه القاعدة الشرعية, بل عمل بنقيضها تماما, فجعل نفسه صاحب اليد, وفاطمة عليها السلام مدعية عليه!!

ونحن لا ننسى قول عمر بن الخاطر في أول الأمر لما جاء ومعه صاحبه ووقفا على باب علي أمير المؤمنين عليه السلام وقال له: أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير فلا... وقد مر هذا الخبر.

قلت: ما تراء لي, والله أعلم, حسب الوثائق التي وصلت إلينا, فإنني أستبعد جدا, أن تكون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم جاءت بالشهود إلى أبي بكر, أو طلب هو منها ذلك, إلا أن يكون من باب المراوغة وإلقاء الشبهة وما إلى ذلك.

أما أمير المؤمنين عليه السلام فقد شهد لها من باب الدفاع عن الحق, وليسترد حقه وحق زوجته, كما توحيه الأخبار التي ذكرناها, وأن أم أيمن ورباح قد تبرعا بالشهادة لنصرة فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون أن يطلب منهما ذلك, وقد رد أبو بكر شهادتهم بلباقة ومكر.

هل من المعقول أن لا يعلم بالنحلة إلا رجل وامرأة وعبد؟؟!!

____________

(1)سنن أبي داود ج:3 ص419 باب: القضاء باليمين والشاهد.


الصفحة 90

ثم إن أبا بكر كان قد استولى على الترك, وعلى فدك, وما تبقى من خمس خيبر وغير ذلك, كاستيلائه على حق أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة, ولم يكن يجهل حق فاطمة عليها السلام, أو يرتاب في صدقها , لكنها السياسة يوم ذاك قد جرته إلى مخالفة النصوص الشرعية, كدأبه في كل ما من شأنه أن يقوض سلطانه وينسف كيانه من أمثال هذا القبيل.

ويكف يجهل مسألة النحلة!! وقد نزل فيها قرآنا يتلى أناء الليل وأطراف النهار ( فآت ذا القربى حقه...).

فقد روي عن أبي سعيد الخذري وغيره, عندما نزلت هذه الآية المباركة أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابنته فاطمة عليها السلام فدكا وسلمه إليها.

وقد أجمع أهل البيت عليهم السلام وأوليائهم على ذلك, بالإضافة لما رواه غيرهم عن رجالات أهل السنة(1).

قال ابن أبي الحديد المعتزلي : وقد روي من طرق مختلفة غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب : أنه لما نزل قوله تعالى : ( فآتي ذا القربى حقه ) دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فأعطاها فدك , وقد تواترت الأخبار أنه صلى الله عليه وآله وسلم لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك, فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصالحوه على النصف من فدك(2).

فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: (فآت ذا القربى حقه...) ثم أوحى إليه أن أدفع فدك إلى فاطمة عليها السلام, فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها: يا فاطمة, إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك.

____________

(1)راجع الدر المنثور للسيوطي ج:4 ص177 وقد مر ذلك مفصلا في مباحث التركة.

(2)شرح نهج البلاغة ج:16 ص210.


الصفحة 91

فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك.

فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما ولي أبو بكر أخرج عنها وكلاءها(1)...

فمحال حينئذ أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قصر في شأن بيان مما انزل إليه من ربه.

فلو وهب صلى الله عليه وآله وسلم في حياته نخلة لأحد من الناس لشاع وداع ذلك بين العام والخاص من أصحابه , فكيف بفدك وقد كان نخليها يضاهي نخيل الكوفة, وكان واردها السنوي ضخما جدا؟!

فهل يمكن أن يجهل الوكيل موكله, والعامل من استعمله, وتنفق كل تلك الأموال الطائلة في موارد, وجهات مختلفة ولا يعر ف المنفق ولا المنفق عليه؟؟

لكن السلطة الحاكمة ما كانت تبيح لأحد إظهار الحقائق التي من شأنها أن تقوض سلطانها وتزعزع أركانها فعمدت إلى إيهام الناس بأن الخليفة كان لا يعلم شيئا عن النحلة, وأن فدك في نظره داخلة في صدقات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ونحن نقول لهم: وهل يخفى على مثل أبي بكر أمر النحلة فضلا أن يخفى ذلك على غيره من الصحابة, بل هل يخفى عليه ما كان يجري داخل البيت النبوي, وعائشة وحفصة هناك لم تغيبا عنه؟؟

فلا شك أن أبا بكر وقسم من الصحابة كانوا على الأقل يعلمون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منح ابنته فاطمة عليها سلام فدكا, لكنهم تجاهلوا ذلك كعادتهم في تجاهل نصوص الخلافة, واغتصبوها كاغتصابهم التركة والخمس بما في ذلك خمس خيبر.

____________

(1)أنظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور ج:4 ص177.


الصفحة 92

والواقع أن أبا بكر عندما انتزع حقوق فاطمة عليها السلام لم يكن ينوي إرجاعها البتة, وإلا كيف جاز له أن يتصرف في تلك الحقوق قبل فصل الخصومة, وإيضاح ملكيتها؟؟

فالموالي والمخالف يعلم, بأن فاطمة عليها السلام عندما طالبته بحقها, قال لها: إني جعلته في الكراع والسلاح...!!

ولا ننس قول عمر بن الخطاب في بداية الأمر: أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير فلا...

وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: فشحت عليها نفوس قوم, وسخت عنها نفوس قوم آخرين...

فأهل البيت عليهم السلام وأوليائهم يعلمون بأن السلطة الحاكمة عقدت العزم على اغتصاب حقوقهم, وخصوم أهل البيت عليهم السلام يعلمون أيضا بأن فدك من حقوق فاطمة وبعلها وبنيها عليهم السلام وليست بحاجة لبينة أو شاهد.

وهل تنفع شهادة الأمة الإسلامية بأكملها بعد أن ردوا شهادة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بردهم لشهادة أهل البيت عليهم السلام؟؟

فإن مطالبة أصحاب الكساء عليهم السلام بحقوقهم تغني عن إحضار الشهود, لمن كان يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله واليوم الآخر, لأن الله سبحانه وتعالى قد طهرهم مع نبيه وجعلهم شهودا على الناس, وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته بإتباعهم والإقتداء بهم في الدين, ونهى عن مخالفتهم وإيذائهم.

ثم إن أهل البيت عليهم السلام لا يجوز الاستظهار عليهم في كشف ما يدعونه بالشهادات والأيمان والبيينات لخروجهم بما اختصوا به من النصوص الجلية عن سائر الناس وهم في ذلك كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا فرق


الصفحة 93

بينهم على الإطلاق, فهل يجوز في الشريعة أن يطلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البينة فيما يدعيه وإن حدث ذلك في سيرته فإنه من باب: تبيان التشريع ليس إلا, كما هو معلوم بالضرورة.

وقد أحتج بهذا المعنى أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر كما في الخبر , قال عليه السلام: يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله؟

فقال أبو بكر: هذا فيء للمسلمين, فإن أقامت شهودا أن رسول الله - صلى الله عيه وآله وسلم- جعله لها, وإلا فلا حق لها فيه.

فقال عليه السلام: يا أبا بكر, تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلين؟

قال: إياك أسأل البينة.

قال عليه السلام: فما بال فاطمة سألتها البينة على ما فيها في يديها. وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وبعده ولم تسأل المسلمين بينة على ما أدعوها شهودا, سألتني على ما ادعيت عليهم؟

فسكت أبو بكر.

فقال عمر: يا علي دعنا من كلامك فانا لا نقوى على حجتك, فان أتيت بشهود عدول, وإلا فهو فيء للمسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه.

فقال الإمام علي عليه السلام: يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟

قال: نعم.

قال عليه السلام: اخبرني عن قول الله عز وجل (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فمن نزلت, فينا أو في غيرنا؟

قال: فيكم.


الصفحة 94

قال عليه السلام: فلو أن شهودا شهدوا على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفاحشة ما كنت صانعا بها؟

قال: كنت أقيم عليها الحد, كما أقيمه على نساء المسلمين.

قال عليه السلام: إذن كنت عند الله من الكافرين.

قال: ولم؟

قال عليه السلام: لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة, وقبلت شهادة الناس عليها, كما رددت حكم الله وحكم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن جعل لها فدكا قد قبضته في حياته.

ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبيه عليها وأخذت منها فدكا, وزعمت أنه فيء للمسلمين.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (البينة على المدعي, واليمين على المدعي عليه) فرددت قول رسول الله صلى الله عليه وآله...

قال الراوي: فدمدم الناس وأنكروا ونظر بعضهم إلى بعض, وقالوا: صدق والله علي بن أبي طالب عليه السلام(1)...

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: سألت علي بن الفارقي مدرسة الغربية ببغداد, فقلت له: أكانت فاطمة عليها السلام صادقة؟

قال: نعم, قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة؟

فتبسم, ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته, قال: لو أعطاها اليوم فدكا بمجرد دعواها لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة, وزحزحته عن مقامه, ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء, لأنه يكون قد

____________

(1)كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي ج:1 ص90.


الصفحة 95

أسجل على نفسه أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا شهود.

وهذا كلام صحيح, وإن أخرجه مخرج الدعابة والهزل(1).

قلت: لو لم تكن فاطمة عليها السلام ملكت فدكا بالنحلة حياة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمآ كلفت نفسها عناء خصومة الخليفة, ولا كتفت بالمطالبة بإرثها من أول الأمر, على أنها بعد اليأس من الحصول على فدك, عاودت المطالبة من جهة الإرث, فأبى أن يعطيها ارثها من تركة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومعلوم أن استيلاء عصابة قريش على تركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الحقوق المالية لأهل البيت عليهم السلام فرع الاستيلاء على الخلافة من صاحبها الشرعي وهو أمير المؤمنين عليه السلام, فتدبر وأفهم تهتدي والله الموفق إلى سبيل الرشاد.

21- كلمة السيد المرتضى في صدق فاطمة عليها السلام

قال المرتضى رضوان الله عليه: نحن نبتدئ فندل على أن فاطمة عليها السلام ما ادعت من نحل فدك إلا ما كانت مصيبة فيه, وأن مانعها ومطالبها بالمبينة متعنت, عادل عن الصواب, لأنها لا تحتاج إلى شهادة وبينة.

أما الذي يدل على ما ذكرناه فهو أنها معصومة من الغلط, مأمونا منها فعل القبيح, ومن هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى شهادة وبينة.

____________

(1)شرح النهج ج:16 ص274 الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله صلى الله() عليه وآله.


الصفحة 96

فإن قيل: دللوا على الأمرين, قلنا: بيان الأول قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) والآية تتناول جماعة منهم فاطمة عليها السلام بما تواترت الأخبار في ذلك, والإرادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد.

وأيضا فيدل على ذلك قوله عليه السلام: (فاطمة بضعة مني, من آذاها فقد أذاني, ومن آذاني فقد أذى الله عز وجل), هذا يدل على عصمتها لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال, بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد عليها, وإن كان الفعل يقتضيه سارا له ومطيعا, على أنا لا نحتاج أن ننبه هذا الموضع على الدلالة على عصمتها, بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته, وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين, لأن أحدا لا يشك أنها لم تدع ما ادعته كاذبة, وليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة, وإنما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها تسليم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك, قال: الذي يدل على الفصل الثاني أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعى, ألا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات لما كانت مؤثرة في غلبة الظن, وإذا قدم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده, فأولى أن يقدم العلم على الجميع, وإذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف منع القوي لا يحتاج أيضا مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البيينات والشهادات.

والذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضا أنه لا خلاف بين أهل النقل في أن أعرابيا نازع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ناقة, فقال الأعرابي: من يشهد لك بذلك؟

فقال: خزيمة بن ثابت: أنا أشهد بذلك , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أين علمت وما حضرت ذلك؟)


الصفحة 97

قال: لا, ولكن علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله, فقال: (قد أجزت شهادتك, وجعلتها شهادتين), فسمي ذا الشهادتين.

هذه القصة شبيهة لقصة فاطمة عليها السلام, لأن خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة له صلى الله عليه لعيه وآله وسلم, وشهد بذلك من حيث علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك له من حيث لم يضر الابتياع وتسليم الثمن، فقد كان يجب على من علم أن فاطمة عليها السلام لا تقول إلا حقا ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة, هذا وقد روي أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين عليه السلام كتب بتسليم فدك إليها, فاعترض عمر قضيته, وخرق ما كتبه.

وروى إبراهيم بن السعي السعيد الثقفي, عن إبراهيم بن ميمون, قال: حدثنا عيسى بن عبد الله ابن محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام, عن أبيه, عن جده نعن علي عليه السلام, قال: جاءت فاطمة عليها السلام إلى أبي بكر وقالت: إن أبي أعطاني فدك, وعلي وأم أيمن يشهدان, فقال:

ما كنت لتقول على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها, ودعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها, فرجعت فلقيت عمر, فقال: من أين جئت يا فاطمة؟

قالت: جئت من عند أبي بكر, أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاني فدك, وأن عليا وأم أيمن شهدا لي بذلك, فأعطانيها, وكتب لي بها, فأخذ عمر منها الكتاب, ثم رجع إلى أبي بكر, فقال: أعطيت فاطمة فدك, وكتبت بها لها؟


الصفحة 98

قال نعم, فقال: إن عليا يجر إلى نفسه, وأم أيمن امرأة, وبصق في الكتاب فمحاه وخرقه(1).

22 - تعجب الكراجكي في طلب البينة من فاطمة عليها السلام

قال ابن الفتح محمد بن علي الكراجكي: ومن العجب أن تأتي فاطمة عليها السلام إلى أبي بكر تطالبه بفدك وتذكر أن أباها نحلها إياها, فيكذب قولها ويقول لها هذه دعوى لا بينة لها, هذا مع إجماع الأمة على طهارتها وعدالتها, فتقول له أن لم يثبت عندك أنها نحلة فانا استحقها ميراثا, فيدعى أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث وما تركناه صدقة, ويلزمها تصديقه فيما ادعاه من هذا الخبر, مع اختلاف الناس في طهارته, وصدقه وعدالته, وهو فيما ادعاه خصم, لأنه يريد أن يمنعها حقا جعله الله لها.

ومن العجيب أن يقول لها أبو بكر مع علمه بعظم خطرها في الشرف وطهارتها من كل دنس, وكونها في مرتبة من لا يتهم, ومنزلة من لا يجوز عليه الكذب: أتيتني بأحمر أو أسود يشهد لك بها وخذيها يعني فدك, فأحضرت إليه أمير المؤمنين والإمامين الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين, وأم أيمن, فلم يقبل شهادتهم وأعلها, وزعم أنه لا يقبل شهادة الزوج لزوجته, ولا الولد لوالده, وقال: هذه امرأة واحدة يعني أم أيمن, هذا مع إجماع المخالف والمؤالف على أن النبي صلى الله عليه وآله قال: علي مع الحق والحق مع علي اللهم أدر الحق معه حيثما دار, وقوله الحسن والحسين: إمامان قاما أو قعدا, وقوله صلى الله عليه وآله في أم أيمن: أنت على خير والى خير, فرد شهادة الجميع مع تميزهم على الناس, ثم لم يمض الأيام حتى أتاه مال البحرين فلما ترك بين يديه, تقدم إليه جابر

____________

(1)شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المعتزلي ج:16 ص272 الفصل الثالث: في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام أم لا؟, تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم, دار إحياء الكتب العربية, الطبعة الثانية:1387 هجرية.


الصفحة 99

بن عبد الله الأنصاري فقال له النبي صلى الله عليه وآله قال لي: إذا أتى مال البحرين حبوت لك ثم حبوت لك ثلثا, فقال له: تقدم فخذ بعددها, فأخذ ثلث حفنات من أموال المسلمين بمجرد الدعوى من غير بينه ولا شهادة, ويكون أبو بكر عندهم مصيبا في الحالين, عادلا في الحكمين, إن هذا مع الأمر المستطرف البديع.

ومن عجيب أمر المعتزلة إقرارهم بأن أمير المؤمنين عليه السلام أعلم الناس وأزهدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله, ثم يعلمون أنه أتى مع فاطمة شاهدا لها بصحة ما ادعته من نحلتها فلا يستدلون بذلك على صوابها, وظلم مانعها, ولا يتأملون إن أعلم الناس لا يخفى عنه ما يصح من الشهادة وما يبطل, وإن أزهد الناس لا يشهد بباطل, وإن أمير المؤمنين عليه السلام لو كان لا يعلم أن شهادته بذلك مع من حضره لا يجوز قبولها, ولا يؤثر في وجوب الحكم بها, وكان أبو بكر يعلم ذلك, لبطل القول بأنه عليه السلام أعلم الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله, وأنه لو كان يعلم أن فاطمة عليها السلام تطلب باطلا, وتلتمس محالا, وإن شهادته لا تحل في تلك الحال قبولها, ولا يسوغ الحكم بها, ثم أقدم مع ذلك عليها فشهد لها, لكان قد أخطاء متعمدا, وفعل ما لا يليق بالزهاد والأتقياء, وبطل قولهم انه عليه السلام أزهد الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ولا ينتبهون بهذه الحال من رقدة الخلال.

ومن عجيب أمرهم اعتقادهم في رد أبي بكر شهادة أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام بقولهم: إن هذا بعلها وهذان أبناها وكل منهم يجر إلى نفسه, ولا يصح شهادة من له حظ فيما يشهد به, ثم يقبلون مع ذلك قول سعيد بن زيد بن نفيل فيما رواه وحده: من أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وسعيدا وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة من أهل الجنة, ويصدقونه في هذه الدعوى, ويحتجون بقوله, مع علمهم بأنه أحد من ذكره, وله حظ فيما شهد


الصفحة 100

به, ولا يردون بذلك قوله, ولا يبطلون خبره, ويتغطى عليهم أنه لا للزوج من مال زوجته ولا للولد من مال والده إلا ما نحله أباه أو ورثه عنه.

ومن عجيب الأمور وعظيم البدع في الدين أن يشهد رجل بر تقي, لم يكن قط بالله مشركا, ولا للدين منكرا, ولا أكل من حرام سحقا, ولا عاقر على خمر نديما, ولا ارتكب محرما, ولا جرب أحد منه قط كذبا, ولا علم منه ذنبا, ولا كان في طاعة الله ورسوله مقصرا, ولا عن درجات السبق إلى الفضائل متأخرا, مع اختصاصه برسول الله صلى الله عليه وآله نسبا وسببا, عند رجل أقام أربعين سنة من عمره كافرا, وبالله تعالى مشركا, ولما ظهر وبطن من الفواحش مرتكبا, ولما ظهر الإسلام لم يعلم أحد أن له فيه أثرا جميلا ولا كفى النبي صلى الله عليه وآله مخوفا, بل عن كل فضيلة متأخرا, ولعهود الله ناكثا, وكان في علمه ضعيفا, وإلى غيره فيه فقير, أفيردن شهادته ولا يقبل قوله, ويظهر أنه أعرف بالصواب منه, هذا والشاهد متفق على طهارته وصدقه وإيمانه, والمشهود عنده مخالف في طهارته وصدقه وإيمانه, أن هذا مما تنفر منه النفوس السليمة والعقول المستقيمة. ومن العجب أنهم يدعون على فاطمة البتول سيدة نساء ا لعالمين التي احضرها النبي صلى الله عليه وآله للمباهلة, وشهد لها بالجنة, ونزلت فيها آية الطهارة, أنها طلبت من أبي بكر باطلا, والتمست لنفسها محالا, وقالت: كذبا, ويتعذرون في ذلك بأنها لم تعلم بدين أبيها أنه لا حق لها في ميراثه, ولا نصيب لها من تركته, وجهلت هذا الأصل في الشرع, وعلم أبو بكر أن النساء لا يعلمن ما يعلم الرجال, ولا جرت العادة بأن يتفقهن في الأحكام, ثم يدعون مع هذا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: خذوا ثلث دينكم عن عائشة, لا بل خذوا ثلثي دينكم عن عائشة, لا بل خذوا كل دينكم عن عائشة, فتحفظ عائشة جميع الدين, وتجهل فاطمة عليها السلام في مسألة واحدة مختصة بها في الدين, إن هذا الشيء عجيب, والذي يكثر التعجب


الصفحة 101

ويطول فيه الفكران بعلها أمير المؤمنين عليه السلام ثم يعلمها ولم يصنها عن الخروج من منزلها لطلب المحال والكلام بين الناس, بل يعرضها لالتماس الباطل ويحضر معها فيشهد بما لا يسوغ ولا يحل, إن هذا من الأمر المهول الذي تحار فيه العقول.

ومن عجيب أمرهم وضعف دينهم أنهم نسبوا رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أنه لم يعلم ابنته التي هي أعز الخلق عنده, والذي يلزم من صيانتها ويتعين عليه من حفظها أضعاف ما يلزمه لغيرها بأنه لا حق لها من ميراثه, ولا نصيب لها في تركته, ويأمرها أن تلزم بيتها ولا تخرج للمطالبة لما ليس لها, والمخاصمة في أمر مصروف عنها, وقد جرت عادة الحكماء في تخصيص الأهل والأقرباء بالإرشاد والتعليم, والتأديب والتهذيب, وحسن النظر بهم بالتنبيه والتنتيف, والحرص عليهم بالتعريف, والتوقيف والاجتهاد في إيداعهم معالم الدين, وتميزهم عن العالمين, هذا مع قول الله تعالى: (وانذر عشيرتك الاقربين), وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة), وقول النبي صلى الله عليه وآله, بعثت إلى أهل بيتي خاصة, وإلى الناس عامة, فنسبوه صلى الله عليه وآله إلى تضييع الواجب, والتفريط في الحق اللازم من نصيحة ولده, وإعلامه ما عليه وله, ومن ذا الذي يشك في أن فاطمة عليها السلام كانت أقرب الخلق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله, وأعظمهم منزلة عنده, وأجلهم قدرا لديه, وانه كان في كل يوم يغدوا إليها لمشاهدتها والسؤال عن خبرها, والمراعاة لأمرها, ويروح كذلك إليها, ويتوفر على الدعاء لها, ويبالغ في الإشفاق عليها, وما خرج قط في بعض غزواته وأسفاره حتى ولج بينها ليودعها, ولا قدم من سفره إلا لقوه بولديها فحملها على صدره, وتوجه بهما إليها, فهل يجوز في عقل أن يتصور في فهم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله


الصفحة 102

أغفل إعلامها ما يجب لها وعليها, وأهمل تعريفها بأنه لا حظ في تركته لها, وأتقدم إليها بلزوم بينها بترك الاعتراض بما لم يجعله الله هلا, اللهم إلا أن نقول أنه أوصاها فخالفت, وأمرها بترك الطلب فطلبت وعاندت, فيجاهرون بالطعن عليها, ويوجبون بذلك ذمها والقدح فيها, ويضيفون المعصية إلى من شهد القرآن بطهارتها, وليس ذلك منهم بمستحيل, وهو في جنب عداوتهم لأهل البيت عليهم السلام قليل(1).

23- مصير فدك بعد الاغتصاب

قبل التعرف على مصير فدك لنتعرف أولا على أعذار حزب السقيفة وأوليائهم, وما نقلوه, وما تعلقوا به من تبرير لحرمان فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حقها فدك.

وهل كان أبو بكر صادقا في ذلك, أم كان من الظالمين الآثمين؟؟

ولنحاكم أبا بكر وأوليائه بما نقله علماء أهل السنة والجماعة في كتبهم واعتقدوا بصحته, ليكون ذلك أبلغ في الحجة والبرهان في بيان الحق لمن كان يبحث عنه.

وأبلغ ما نقله أهل السنة والجماعة: أن أبا بكر بعد أن رد فاطمة عليها السلام فيما ادعته من أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهبها فدكا, ورد شهادة علي أمير المؤمنين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة عليهم السلام الذين شهدوا لها بذلك, ورد شهادة أم أيمن المبشرة بالجنة, وشهادة رباح مولا النبي صلى الله عليه وآله وسلم, قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله

____________

(1)التعجب ص: 51 فصل: 14 الطبعة: الثانية 1410 هجري الناشر: مكتبة المصطفوي - قم.


الصفحة 103

عليه وآله وسلم يعمل به إلا عملت به, فأني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.

وفي لفظ: وإني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(1)...

إن أبا بكر في تصريحه هذا قد أقسم بالله عز وجل بأنه لا يترك شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل به (في أمواله التي تركها والفيء والخمس...) إلا عمل به, وأنه يخشى إن ترك شيئا من أمره أن يزيغ.

فهذا الادعاء يستهوي كل مسلم يرغب في تطبيق سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والالتزام بما كان يعمل به صلى الله عليه وآله وسلم, ونحن نتمنى أن يكون صادقا في ذلك ولم يكذب فعله قوله, وقبل الحكم على أبي بكر فلا بد أن نعرف أولا: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل فيما ترك ومما أفاء الله عليه والغنيمة وتقسيم الخمس.

مع العلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتصرف في ما كان يملكه ملكية خالصة لا يشاركه فيها أو في الانتفاع أو التصرف فيها أي شخص آخر, فيتصرف فيما يملكه كيف شاء, فإن شاء تصدق بنصفه أو ثلثه أو كله, وإن شاء جعل بعضه دون بعض أو جعله في السلاح والركاب, أو صرف منه على أزواجه وعشيرته وعلى نفسه بما شاء وكيف شاء بالطريقة التي يراها, لأنه يمتلك ذلك على نحو الاستقلال التام بتمليك من العزيز الوهاب.

____________

(1)صحيح مسلم ج:5 ص153 و155 كتاب: الجهاد والسيرة, باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا فهو صدقة, وصحيح البخاري ج:5 ص82 كتاب: المغازي, باب: غزوة خيبر, وفتح الباري شرح صحيح البخاري ج:6 ص 236 ح3093 كتاب: فرض الخمس, وسنن أبي داود ج:2 ص23 ح2968 وح2970 كتاب: الخراج والإمارة والفيء, باب: في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم.


الصفحة 104

وإذا لم يكن كذلك, فليس في ذلك معنى بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يمتلك شيئا, وقد صرح عمر بن الخطاب بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يملك الصفايا والأنفال بني النضير وخيبر وفدك وغير ذلك على نحو التمليك الحقيقي, قال عمر: إن الله قد خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم(1)...

وقد بين فقهاء أهل السنة أن ما كان ينفقه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على نفسه وأهله والمؤلفة قلوبهم وذوي الحاجة وما وهبه وقطعه لأصحابه كل ذلك كان من ماله الخاص (الذي جعله الله لـه من الصفايا والفيء والأنفال والخمس وغير ذلك), قال الإمام الشافعي: وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من سهمه غير واحد من قريش والأنصار لا من سهم ذي القربى .

وقال أيضا في بيان قوله الله سبحانه وتعالى: (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم): فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلها خالصة وقسمها بينهم أدخل معهم ثمانية نفر لم يشهدوا الوقعة من المهاجرين والأنصار وهم بالمدينة وإنما أعطاهم من ماله وإنما نزلت (وأعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه) بعد غنيمة بدر ولم يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لخلق لم يشهدوا الوقعة بعد نزول الآية ومن أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤلفة وغيرهم فإنما من ماله أعطاهم لا من شيء من أربعة الأخماس(2).

____________

(1)صحيح البخاري ج:3 ص43 كتاب: بدء الخلق, وج:5 ص24 كتاب: المغازي, باب: حديث بني النضير ومخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم, وج:6 ص191 كتاب: الطلاق, باب: النفقات, وج:8 ص4 كتاب الفرائض.

(2)كتاب الأم ج:4 ص154 كتاب: الوصايا, سن تفريق القسم, وج:7 ص354 كتاب: سير الأوزاعي, وقد مر بيان ذلك مفصلا في التركة .


الصفحة 105

وقال أبو بكر الكاشاني: وروى عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وكانت خالصة لـه وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلام ولهذا كانت فدك خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت لم يوجب عليها الصحابة رضي الله عنهم من خيل ولا ركاب(1).

وقال ابن حجر: قال بن عباس: الأنفال المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد فيها شيء, وروي أبو داود والنسائي وابن حبان من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن بن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صنع كذا فله كذا الحديث فنزلت يسألونك عن الأنفال قوله نافلة: عطية(2).

قلت: فكيف يدعي الخليفة الأول بأنه سوف يعمل بما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعمل به, فهل كان صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بطريقة واحد في ما كان يملكه؟!

وحتى لو ثبت بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعمل في ما كان يملكه بطريقة واحد, فهذا لا يعني أن تلك الطريقة لا تتغير ولا تتبدل , فإنه يمكن أن يغيرها بتغير الأحوال والأزمان وبما يراه, وليس هو ملزم بأن يعمل فيما كان يملكه بطريقة واحدة, لأن ذلك تقييدا لسلطان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان يملكه, ومن يدعي تقييده بشيء فعليه أن يأتي بالدليل.

وأما الفروض كأموال الغنيمة والصدقات فإنه صلى الله عليه وآله وسلم مأمور أن يقسمها بما أراه الله عز وجل وهو ما كان يفعله, كان يقسم الخمس على

____________

(1)بدائع الصنائع ج:7 ص 116 كتاب: السير وهو الجهاد, مطلب: وأما حكم التنفيل فنوعان.

(2)فتح البار شرح صحيح البخاري ج:8 ص230 سورة الأنفال.


الصفحة 106

ستة بنص الآية, أو على خمس على قول من يجعل سهم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم واحدا, ثم يتصرف في حصته بعد القسمة بما شاء, ولعله كان صلى الله عليه وآله وسلم يتصرف في حصة أهل بيته أصحاب الكساء باعتبار ولايته الخاصة عليهم أو بأي نحو من الأنحاء فيما بينه وبين أهل بيته.

فكيف يدعي أبو بكر بأنه: ليس تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وآله يعمل به إلا عمل به؟؟!!

اللهم أن يدعي بأنه قد ورث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون أهله كما قالت لـه فاطمة الزهراء عليها السلام ذلك (أنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم أهله...).

وبالفعل فإن أبا بكر وعمر قد صرحا بأن التركة كانت طعمة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا مات تكون لولي الأمر من بعده, أي أنها تكون ميراثا للخليفة دون أهله, فقد أمسك عمر خيبر وفدك وقال: هما صدقة رسول الله كانتا لحقوقه التي تعروه ونائبه وأمرهما إلى من ولى الأمر, وقال أولياء أبي بكر عمر: سهم الرسول للخليفة من بعده, بل قالت طائفة منهم: سهم ذوي القربى لقرابة الخليفة من بعده!!!!

سيجيء بيان ذلك بعون الله عز وجل عند التعرض لفعل أبي بكر وعمر وعثمان فيما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وقد عقدنا فصلا كاملا حول تركه رسول الله صلى عليه وآله وسلم وقد اتضح بأنها كانت ضخمة جدا, ويقع تركيزنا هاهنا على خمس المغنم والفيء, على خصوص أرض بني النضير, وخيبر, وفدك, نسأل الله سبحانه وتعالى الرشاد والسداد.

24- دعوى وقف ما تركه الرسول صلى الله عليه وآله


الصفحة 107

تمسك أولياء الشيخين بأن كل ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صار وقفا على مصالح المسلمين, واعتمدوا في ذلك على الخبر الذي انفرد بنقله الخليفة الأول (لا نورث, ما تركنا صدقة), قال ابن حجر: وإذا ثبت أنه وقف قبل موته فلم يخلف ما يورث عنه فلم يورث, وعلى تقدير أنه خلف شيئا مما كان يملكه فدخوله في الخطاب قابل للتخصيص لما عرف من كثرة خصائصه, وقد اشتهر عنه أنه لا يورث فظهر تخصيصه بذلك دون الناس.

وقال: ابن المنير في الحاشية: يستفاد من الحديث أن من قال داري صدقة لا تورث أنها تكون حبسا ولا يحتاج إلى التصريح بالوقف أو الحبس, وهو حسن لكن هل يكون ذلك صريحا أو كناية؟

يحتاج إلى نية, وفي حديث أبي هريرة دلالة على صحة وقف المنقولات وأن الوقف لا يختص بالعقار لعموم قولـه: ما تركت بعد نفقة نسائي(1).

وقد قطع أكثر محدثي وفقهاء العامة بذلك, وقالوا أيضا: بوقف كل فيء حصل بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, قال أبو يعلي: ما صولح عليه المشركون من أرضهم فهي على ضربين: أحدهما: ما جلا عنه أهله حتى خلصت للمسلمين بغير قتال فيكون وقفا على مصالح المسلمين. فلا يتغير بإسلام ولا ذمة , ولا يجوز بيع رقابها, اعتبارا بحكم الوقف.

قد قال أحمد في رواية أبي الحارث وصالح: (كل أرض جلا عنها أهلها بغير قتال فهي فيء) ومعناه: أنها وقف, وقد بينا ذلك من كلامه فيما سبق.

وقد قال أحمد في رواية حنبل: ما فتح عنوة فهو فيء للمسلمين, وما صولحوا عليه فهو لهم, يؤدون إلى المسلمين ما صولحوا عليه, ومن أسلم منهم تسقط عنه الجزية والأرض للمسلمين.

____________

(1)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:12 ص12 كتاب: الفرض باب3, ح6725 - 6730.


الصفحة 108

فقد بين أن الأرض فيء, وهذا على أن الأرض لنا , فتكون فيئا:

يعني وقفا(1).

25- مصرف تركة الرسول صلى الله عليه وآله

أقول: وأما مصرف ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فقد قال ابن حجر في شرحه لقول أبي بكر: (وإني والله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...) وهذا تمسك به من قال: إن سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرفه الخليفة بعده لمن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرفه له, وما بقي منه يصرف في المصالح.

وقال أيضا: قال الجمهور: مصرف الفيء كله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, واحتجوا بقول عمر: (فكانت هذه لرسول الله صلى الله عليه وآله خاصة)(2).

وقد كثر الاختلاف بين علماء أهل السنة في مصرف عموم الفيء, فمن تمسك برأي أبي بكر جعل مصرفه راجعا لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ومن تمسك برأي غيره جعل مصرفه راجعا لاجتهاد الأئمة(3) .

وهذا الاختلاف راجع لتناقض أبي بكر وعمر وعثمان في وقف الصدقات ومصرفها كما سيتضح لك بعد قليل.

26- كيف كان النبي صلى الله عليه وآله يصرف الفيء

____________

(1)الأحكام السلطانية ص: 163 و164 القسم الرابع من أحكام الخراج ) .

(2)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:6 ص244 و250 كتاب: فرض الخمس, باب: فرض الخمس, ح:3091 و3094, وباب:2, ح3095.

(3)راجع: المصدر السابق, فإن ابن حجر جمع فيه أغلب أقوال العلماء.


الصفحة 109

وأما كيف كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصرف بني النضير, وخيبر, وفدك, قال الواقدي: إنما كان ينفق على أهله من بني النضير, كانت خالصة, فأعطي من أعطي منها وحبس ما حبس, واستعمل على أموال بني النضير مولاه أبا رافع(1).

وقال ابن حجر في شرح البخاري: عن ابن شهاب في التفسير: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم-, فكانت له خاصة, وكان ينفق على أهله منها نفقة سنة, ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.

وفي رواية سفيان عن معمر عن الزهري : ( كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبيع نخل بني النضير ويحبس لأهله قوت سنتهم ) أي ثمر النخل .

وفي رواية أبي داود من طريق أسامة بن زيد عن ابن شهاب : ( كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث صفايا: بنو النضير و وخيبر, وفدك.

فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه, وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل, وأما خيبر فجزأها بين المسلمين ثم قسم جزءا لنفقة أهله, وما فضل منه جعله في فقراء المهاجرين) (قال ابن حجر:) ولا تعارض بينهما لاحتمال أن يقسم في فقراء المهاجرين, وفي مشترى السلاح والكراع, وذلك مفسر لرواية معمر عند مسلم, ويجعل ما بقي منه مجعل مال الله.

وزاد أبو داود في رواية أبي البختري المذكورة (وكان ينفق على أهله ويتصدق بفضله)(2).

____________

(1)مغازي الواقدي ص: 363 و378, المقريزي في إمتاع الأسماع ص: 178 و182, راجع: تفسير أية الفيء بتفسير الطبري.

(2)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:6 ص: 247 و248, كتاب: فرض الخمس, باب: 1, ح3091 و3094.