الصفحة 191

فمنهم: من اختزله وأبرز ما يلاءم هواه.

ومنهم: من أسقط ما يناقض هواه وأكتتم .

ومنهم: من زاد فيه لعله يصلح ما خالفه هواه.

ومنهم: من أسقط منه وكنى عنه بـ (كذا وكذا وكذا) خشيت الافتضاح وغير ذلك.

وقد اعترف بذلك إمامهم ابن حجر العسقلاني عند تعرضه لشرح هذا الخبر, قال: قوله: ثم توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضها أبو برك فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد في رواية عقيل (وأنتما حينئذ - وأقبل على علي وعباس- تزعمان أن أبا بكر كذا وكذا وكذا) وفي رواية شعيب (كما تقولان) وفي رواية مسلم من الزيادة ( فجئتما: تطلب ميراثك من ابن أخيك , ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال أبو بكر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركناه صدقة ورأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا) وكأن الزهري كان يحدث به تارة فيصرح وتارة فيكني. وكذلك مالك.

وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه عند الإسماعيلي وغيره.

وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلي.

وهذه الزيادة من رواية عمر عن أبي بكر حذفت من رواية إسحاق الفروي شيخ البخاري.

وقد ثبت أيضا في رواية بشر بن عمر عنه عند أصحاب السنن والإسماعيلي وعمرو بن مرزوق وسعيد بن داود كلاهما عند الدارقطني عن مالك


الصفحة 192

على ما قال جويرية عن مالك , واجتماع هؤلاء عن مالك يدل على أنهم حفظوه... انتهى(1).

قلت: فإن هذا التهافت ناتج كما ترى عن تحريفهم للخبر بسبب ما ورد فيه, من أن علي أمير المؤمنين عليه السلام , والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله سلم كانا يعتقدان بأن أبا بكر وعمر كانا: (كاذبين, آثمين, غادرين, خائنين.

فهذا الخبر لو روته الشيعة لتضاحكوا منه ونسبوا ناقله وقائله للكفر والزندقة, ولقالوا رافضي خبيث يسب الشيخين ويكذب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

لكن الله عز وجل قد أجراه على لسان بخاريهم, ومسلمهم, وكبار أئمتهم, لعلهم يتدبرون فيعقلون, أو يتفكرون فيرجعون.

44- المناقشة الثانية

وأما الآن فنحاول تسليط الأضواء على سياق الخبر المذكور, أعني المقطوعة التي وردت عند مسلم, ولم يذكرها البخاري, وهي: ثم جاء (يرفا) فقال (لعمر): هلك في عباس وعلي قال: نعم.

فأذنا لهما, فقال عباس: يا أمير المؤمنين أقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخاءين.

فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين فاقض بينهما(2)...

____________

(1)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:6 ص248 كتاب: فرض الخمس باب: 1 ح3091 و3094.

(2)صحيح مسلم ج:5 ص151.


الصفحة 193

فنقول: إنه لا من العار على أهل السنة والجماعة تحميم وتسويد كتبهم بمثل هذه الأكاذيب المفضوحة على أمير المؤمنين علي والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فإن العباس يعلم علم اليقين بأن أمير المؤمنين عليه السلام قد طهره الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه المجيد مع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا), ويعلم بأن سب أمير المؤمنين علي عليه السلام هو بدون شك سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وقد أخبرهم صلى الله عليه وآله بذلك.

ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام مفخرة العباس وكل بني هاشم, ورمز العشيرة والقبيلة.

وقد قال لـه عمه العباس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رغم عمومته وشيبته وكبر سنه: أبسط (يا بن أخي) يدك أبايعك...

ليتخذه إماما ورئيسا, يسمع له ويطيع أمره.

ولما بلغته أخبار سقيفة بني ساعدة أسرع العباس إلى بيت سيد العشيرة والعترة أمير المؤمنين علي عليه السلام, فتحصن في داخله مع المتحصنين, ولم يبايع أبا بكر طيلة ستة أشهر إلا بعد أن صالح سيد العشيرة والعترة حزب قريش.

وقد حاولت عصابة قريش قطع ناحية أمير المؤمنين عليه السلام عن عمه العباس, بأن تجعل للعباس نصيبا في الخلافة يكون له ولعقبه من بعده, فرفض تلك المساومة رفضا قاطعا, بل لقد دافع عن ابن أخيه وطالبهم بإرجاع الأمر إلى أهله الشرعيين, فرجعت عصابة قريش من عنده خائبة تجر أذيال المهانة.

فكيف يتصور بعد هذا كله أن يسب العباس ابن أخيه عليا أمير المؤمنين عليه السلام؟؟!!


الصفحة 194

فإن العباس كبير الهاشميين وكبير العقلاء , وليس بالرجل المتساهل في إعطاء فرصة لأعداء البيت الهاشمي حتى يشمتوا فيهم وهم أهل بيت واحد, ألا يكفيه شماتة الأعداء سلب حقوق أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرياسة والتركة والخمس وغير ذلك.

أبعد هذا كله يدخل العباس وابن أخيه علي أمير المؤمنين عليه السلام يسب أحدهم الآخر عند ابن الخطاب ضئيل بني عدي كما عبر عن ذلك سعد بن عبادة, وأبو سفيان, وأمام بني أمية وغيرهم من البيوتات, إن هذا لشيئا عجاب!!

متى سمعت أذن الدهر باختلاف نشب بين العباس وابن أخيه؟؟!!

بل كيف يختلفان في شيء لا يعود على أحدهما بنفع ما دام عمر حسب زعمهم قد دفع إليهما صدقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ عليهما العهد والميثاق بأن يعملا فيها بمثل ما عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟؟

ثم كيف ينقلب الخصم عاملا!!

فبالأمس علي أمير المؤمنين عليه السلام والعباس يخاصمان أبا بكر وعمر في الخلافة والتركة والخمس.

وهما يعتقدان أنهما: كاذبين, آثمين, غادرين, خائنين.

ثم يعملان بعد ذلك تحت إمرة ابن الخطاب في صدقة بني النظير!!

فيختلفان فيها, فيلتمسان منه أن يقض بينهما, فإن هذا في الحقيقة من أعجب العجاب!!

ثم إن بني هاشم حالهم حال واحد , وليس عندهم فرق بين أن يكون المتصرف العباس أو سيد العشيرة والعترة علي بن أبي طالب عليه السلام.

لكن أعداء البيت الهاشمي جبلوا على الاختلاق والتزوير, وتشويه الحقائق.


الصفحة 195

والذي يدلك على كذب قصة سب العابس ابن أخيه علي أمير المؤمنين عليه السلام, أنها منحولة بنفس الألفاظ والصياغة, وبنفس الترتيب من نفس حكاية عمر: فرأيتماه (كاذبا, آثما, غادرا, خائنا).

فإن الذي وضع واختلق قصة سب العباس لابن أخيه لم يكلف نفسه شيئا, أخذها مرتبة من حكاية عمر بن الخطاب , ووضعها على لسان العباس لتكون هذه بتلك حسب ظنه.

والمتأمل يدرك بأن قصة سب العباس ابن أخيه لا تنساب قيمة الذي كانا يختصمان من أجله , كقسم الإرث أو الصدقة حسب زعمهم , لأنها لا تخرج عن أوساخ الدنيا الفانية, فلا يتصور حينئذ أن تناسب تلك الألفاظ إلا أن يستعملها مؤمنين ضعيف الإيمان فارغ القلب من أجل شيئا حقيرا , أما العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لو وزن عقله بالجبال الرواسي لرجحها , فلا يتصور منه ذلك.

وإنما في الحقيقة تلك الألفاظ, تناسب أمرا خطيرا , يستحق أن يسب لأجله من يضع خبرا كاذبا على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم يعارض به محكم الكتاب المجيد, ويخصص به حكمه العام يكون بسببه تحريف واختلاف بين الأمة الواحة, فيتصف بتلك الألفاظ فيقال لـه حينئذ: كاذبا, آثما, غادرا, خائنا.

ومما يدلك أيضا على كذبهم المفضوح, أنهم مرة يقولن: إن عباس سب عليا عليه السلام, ومرة يقولون: أنهما تساب...

قال ابن حجر: قوله: (ثم قال: هل لك في علي وعباس) زاد شعيب يستأذنان.

قوله: (فقال عباس يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا) زاد شعيب ويونس (فاستب علي وعباس) وفي رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض


الصفحة 196

(اقض بيني وبين هذا الظالم),(إستبا) وفي رواية جويرة (وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن) ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء, بخلاف ما يفهم قوله في رواية عقيل (إستبا) واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث وقال: لعل بعض الرواة وهم فيها(1)...

انظر بالله عليك إلى تخبط أعلامهم , كلما حاولوا معالجة هذه الأكاذيب من جانب , انصرمت عليهم من جانب آخر, فاستصوبوا في نهاية الأمر التخلص منها بحذفها , ونسبوا قائله للوهم.

وقال ابن حجر فيما نقله عن المازري: وإن كانت محفوظة فأجود ما تحمل عليه أن العباس قالها دلالا على علي لأنه كان عنده بمنزلة الوالد , فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطيء فيه, وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن عمد, قال: ولا بد من هذا التأويل لوقوع ذلك بمحضر الخليفة ومن ذكر معه ولم يصدر منهم إنكار لذلك مع ما علم من تشددهم في إنكار المنكر(2).

قلت: إن حبل الكذب قصير وصاحبه دائما مفضوح.

وقد أعترف ابن حجر في النهاية أن هذا أمر منكر وكان يجب على الحاضرين أن يغيروه.

فالحق الذي أرادوا حجبه, هو أن أمير المؤمنين عليه السلام والعباس دخلا على عمر يطلبان حقهما في التركة والخمس مرات ومرات لا مرة, هذا هو الصحيح, والمناسب لجواب عمر لهما في الخبر.

فكتم أولياء عمر وأبي بكر وأهل السنة ذلك كما قلنا خوف الافتضاح, وزوروا الواقع لصالح مذهبهم.

____________

(1)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:6 ص247 كتاب: فرض الخمس.

(2)المصدر السابق.


الصفحة 197

لأن نقل الواقع يقوي ما اعترف به عمر, من أن أمير المؤمنين عليه السلام والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانا يعتقدان بأن أبي بكر وعمر: كانا كاذبين, آثمين, غادرين, خائنين, فيما انفرد به أبي بكر (لا نورث...) وتأييد عمر له.

انظروا بالله عليكم مرة أخرى إلى تخبطهم, قال ابن حجر: وأما مخاصمة علي وعباس بعد ذلك ثانيا عند عمر فقال إسماعيل القاضي فيما رواه الدارقطني من طريقه: لم يكن في الميراث, وإنما تنازعا في ولاية الصدقة وفي صرفها كيف تصرف, كذا قال: لكن رواية النسائي وعمر بن شبة من طريق أبي البختري ما يدل على أنهما أرادا أن يقسم بينهما على سبيل الميراث, ولفظه في آخره (ثم جئتماني الآن تختصمان: يقول هذا أريد نصيبي من أبن أخي, ويقول هذا أريد نصيبي من امرأتي, والله لا أقضي بينكما إلا بذلك) أي إلا بما تقدم من تسليمها لهما على سبيل الولاية.

وكذا وقع عند النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس نحوه.

وفي السنن لأبي داود وغيره (أرادا أن عمر يقسمها لينفرد كل منهما بنظر ما يتولاه, فامتنع عمر من ذلك وأراد أن لا يعق عليها اسم قسم ولذلك أقسم على ذلك) وعلى هذا اقتصر أكثر الشراح واستحسنوه , وفيه من النظر ما تقدم.

وأعجب من ذلك جزم ابن الجوزي ثم الشيخ محيي الدين بأن عليا وعباس لم يطلبا من عمر إلا ذلك , مع أن السياق صريح في أنهما جاءاه مرتين في طلب


الصفحة 198

شيء واحد, لكن العذر لابن الجوزي, والنووي أنهما شرحا اللفظ الوارد في مسلم دون اللفظ الوارد في البخاري والله أعلم(1).

قلت: فقد ظهر لك بهذا التناقض أن أول الخبر كان مزورا (سب عباس لعليا عليه السلام), ولو سلمنا صحته جدلا, فإن العباس عندنا ليس بمعصوم, ثم إنه قال ذلك لابن أخي الذي هو عنده بمنزلة الولد دلالا حسب تأويلهم, فلا ينفعهم سب ابن أخيه شيئا ماداما يعتقدان بأن أبا بكر وعمر: كانا كاذبين, آثمين, غادرين, خائنين.

وقد أخبر عمر بذلك عن معتقد أمير المؤمنين علي عليه السلام والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مجلسه أمام عثمان, وعبد الرحمن, والزبير , وسعد , ومالك , وخادمه يرفا , ولم تنكر تلك الجماعة من أن أمير المؤمنين علي عليه السلام والعباس كانا يعتقدان ذلك في أبي بكر وعمر, لا بد وأنهم قد سمعوا منهما ذلك مرات لا مرة قبل مجلسهم ذاك , وهو أمر لم يكن عندهم غريب ولذلك سكتوا, ومن هنا نجد بأن عمر قد اكتفى بتبرئة أبا بكر وتزكيته , وكذلك تبرئة نفسه وتزكيتها, وهذا من باب استشهاد الثعلب بذيله.

ولم يتمكن أيضا أعلام أهل السنة والجماعة أولياء أبي بكر وعمر من إنكار ذلك, فقد قال ابن حجر: والذي يظهر حمل الأمر في ذلك على ما تقدم في الحديث الذي قبله في حق فاطمة, وأن كلام علي والعباس: اعتقدا أن عموم قوله تعالى: (لا نورث) مخصوص ببعض ما يخلفه دون بعض, ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنهما: (كانا يعتقدان ظلم من خالفهما في ذلك).

قلت: أما قوله: اعتقدا إلي آخر, فهذا جهد العاجز المتحير, فمن أين علم ذلك؟؟!!

____________

(1)أنظر: المصدر السابق من شرح فتح()الباري.


الصفحة 199

فإن أهل البيت عليهم السلام ينكرون تخصيص أحكام الإرث العام بما رواه أبو بكر جملة وتفصلا, وقد كذبته فاطمة عليها السلام أمام الرأي العام, وماتت وهي غاضبة عليه, وكذبه أمير المؤمنين علي عليه السلام, وكذبه العباس عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, كما تقدم ذكر ذلك مفصلا, وسيأتيك مزيد من التفصيل إن شاء الله تعالى.

وقد قال المباركفوري: قد استشكل هذا ووجه الاستشكال أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليا قد علما بأنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث) فإن كانا سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يطلبانه من أبي بكر, وإن كنانا إنما سمعاه من أبي بكر في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟؟

قال: وأجيب بحمل ذلك على أنهما اعتقدا أن عموم لا نورث مخصوص ببعص ما يخلفه دون بعض, ولذلك نسب عمر إلى علي وعباس أنهما كانا يعتقدان ظلم من خلفهما كما وقع في صحيح البخاري وغيره(1).

قلت : حاول المبراكفوري أن يحل الإشكال لكنه لم يتجاوز بيان من سبقه, وعلماء أهل السنة وغريهم يعلمون علم القين بأن أمير المؤمنين علي عليه والسلام وعمه العباس رضي تعالى عنه لم يسمعا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا نورث), ولا هما صدقا ما انفرد به أبي بكر من الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنه قال: (لا نورث), وهذه الحقيقة التي لا يتمكن للمباركفوري ومن هو على شاكلته أن يصرح بها وإن كانوا يعلمون ذلك , لأن ديدنهم التستر على الحقيقة التي تمس سيرة أبي بكر وعمر, والدفاع عنهما

____________

(1)تحفة الأحوذي ج:5 ص193 أبواب: السير, باب: ما جاء في إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب.


الصفحة 200

بتحريف مرادهما, مع أن وليهم عمر كان صريحا فيما يتعلق باعتقاد الإمام علي عليه السلام وعمه العباس رضي الله تعالى عنه من أنهما كان يعتقدان بأن أبا بكر كان كاذبا, آثما, غادرا, خائنا, وكذلك خليفته عمر كما روى ذلك مسلم وأصحاب الصحاح والمسانيد وغيرهم.

45- المناقشة الثالثة

وأما قولهم في الخبر: ثم أقبل (عمر) على العباس وعلي قال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟

قالا: نعم...

أقول: إنه اختلاق, وبهتان, وتزوير, وتحريف وتمويه .

وقد سبق وبينا فيما نقلناه من الأخبار الصحيحة بأن أهل البيت عليه السلام يردون هذه الرواية بشدة ويكذبون قائلها, ويتهمونه بالإعراض عن كتاب الله المجيد.

وحتى علماء أهل السنة والجماعة لم يتمكنوا من هضم هذه المقطوعة الواردة في الخبر, وقد استبعدوا أن يكون أمير المؤمنين علي عليه السلام وعمه العباس قالا: نعم, لعمر عندما ناشدهما في صحة رواية الإرث.

قال ابن حجر: وفي ذلك إشكال شديد وهو أن أصل القصة صريح في أن العباس وعليا قد علما بأنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث) فإن كانا سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يطلبانه من أبي بكر؟


الصفحة 201

وإن كان سمعاه من أبي بكر أو في زمنه بحيث أفاد عندهما العلم بذلك فكيف يطلبانه بعد ذلك من عمر؟(1)

ثم قد حاول ابن حجر إصلاح ما أفسده عليه الأولون من تزوير وتشبيه وخلط في الأخبار.

قال قبل كلامه الذي نقلناه آنفا: لكن جعل القصة فيه لعمر حيث قال: (جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك) وفيه (فقلت: لكما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث) فاشتمل هذا الفصل على مخالفة إسحاق لبقية الرواة عن مالك في كونهم جعلوا القصة عند أبي بكر, وجعلوا الحديث المرفوع من حديث أبي بكر من رواية عمر عنه, وإسحاق الفروي جعل القصة عند عمر, وجعل الحديث المرفوع من روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم بغير واسطة أبي بكر , وقد وقع في رواية شعيب عن ابن شهاب نظير ما وقع في رواية إسحاق الفروي سواء, وكذلك وقع في رواية يونس عن ابن شهاب عند عمر بن شبة, وأما رواية عقيل الآتية في الفرائض فاقتصر فيها على أن القصة وقعت عند عمر بغير ذكر الحديث المرفوع أصلا, وهذا يشعر بأن لسياق إسحاق الفروي أصلا , فلعل القصتين محفوظتان, واقتصر بعض الرواة على ما لم يذكره الآخر, ولم يتعرض أحد من الشراح لبيان ذلك(2).

أقلت: نعم, لم يتعرض الشراح لبيان ذلك, لا جهلا منهم, بل تمويها وحجبا للحقائق. وقد كفانا ابن حجر مؤمنة البيان, لكنه تستر على صنيع البخاري في حذف ما حذف.

وتستر كذلك على غيره فالله حسبهم.

____________

(1)راجع المصدر السابق.

(2)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:6 ص248 كتاب: فرض الخمس باب:1.


الصفحة 202

46- المناقشة الرابعة

أخرج البخاري ومسلم أخبارا يحسبها الغافل بأن رواتها قد سمعوها من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, لكن الواقع خلاف ذلك.

تمعن بالله عليك في هاتين الروايتين , قال البخاري: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يقتسم ورثني دينارا, ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة.

وقال: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن, فقالت عائشة: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا صدقة؟(1).

قلت: فإن أبا هريرة لم يصاحب رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم إلا سنتين ونصف أو ثلاث, أسلم بعد غزة خيبر بالإجماع, وقد أكثر من الإرسال في روايته, يروي أحديثا وأخبارا لم يسمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوهم الناس كأنه سمعا, وينقل وقائعا وأحداثا لم يحضرها وقعت قبل أن يعرف الإسلام يوهم الناس كأنه حضرها أو رآها, وهذه الرواية من هذا القبيل قد حذف الواسطة الذي هو (أبا بكر) وأرسلها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعادته في إرسال الروايات (كروايته: عرض النبي صلى الله عليه وسلم الشهادة

____________

(1)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:12 ص9 و10 ح6729 وح6730 كتاب: الفرائض, باب:3.


الصفحة 203

على عمه أبا طالب. فأين كان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمه وهما يتبادلان الكلام الذي أسنده إليهما كأنه رآهما بعينيه وسمعهما بأذنيه؟!(1)

وقال أبو هريرة: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انزل الله عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) فقال: يا معشر قريش لا اغني عنكم من الله شيئا الحديث أخرجه البخاري(2).

وأولوا العلم بأسرهم مجمعون على أن هذه الآية إنما نزلت في مبدأ الدعوة الإسلامية قبل ظهورها في مكة, وأبو هريرة إذ ذاك في اليمن جاهليا وإنما أتى الحجاز بعد نزول هذه الآية بنحو عشرين سنة. وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في القنوت فيقول: اللهم أنج السلمة بن هشام, اللهم أنج الوليد بن الوليد , اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة, اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين الذين حبسهم المشركون عن الهجرة... في حديث صحيح أخرجه البخاري(3).

ومن المعلوم بحكم الضرورة من أخبار السلف أنه إنما حبس هؤلاء عن الهجرة فقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم قبل إسلام أبي هريرة بنحو سبع سنين, فأين كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسند هذا الحديث إليه كأنه رآه بعينه قانتا وسمعه بأذنيه داعيا؟! وقال أبو هريرة: وقال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم... الحديث(4).

فإن كان هذا القول واقعا من أبي جهل فإنه إنما يكون قبل إسلام أبي هريرة وقبل قدومه من اليمن بنحو عشرين سنة فأين كان عن أبي جهل ليسنده إليه كأنه سمعه بأذنيه؟! وإذا أردت المزيد من التفصيل في هذا النحو فعليك بكتاب(أبو

____________

(1)راج صحيح مسلم ج:1 ص31 كتاب: الإيمان.

(2)صحيح البخاري ج:2 ص86 ومسلم وأحمد.

(3)صحيح البخاري ج:2 ص105 باب: الدعاء على المشركين بالخزيمة والزلزلة.

(4)أخرجه مسلم ج:2 ص 467 في باب: قوله تعالى: (إن الإنسان ليطغى...).


الصفحة 204

هريرة) للسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي رضي الله تعالى عنه وقد نقلنا عنه, وكذلك كتاب(1).

وقد أجمعت الأمة الإسلامية على انفراد أبي بكر بهذه الرواية, وأنه لم سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أحد من الناس غيره, والمتتبع يعلم بأن عمر وعائشة وغيرهما كانوا يرسلون هذه الرواية كما مر في الخير.

وقد اعترفت عائشة بأن رواية (لا نورث) لم يدعي سماعها أحد من الناس غير أبيها , قالت : واختلفوا في ميراثه فما وجدوا عند أحد من ذلك علما, فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة(2).

وقد قال ابن حجر العسقلاني: ثم ذكر حديث عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن, فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نورث ما تركنا صدقة) وظاهر سياقه أنه من مسند عائشة, وقد رواه إسحاق بن محمد الفروي عن مالك بهذا السند عن عائشة عن أبي بكر الصديق أورده الدارقطني في الغرائب وأشار إلى أنه تفرد بزيادة أبي بكر في مسنده, وهذا يرافق رواية معمر عن ابن شهاب المذكورة في أول هذا الباب فإن فيه عائشة أن أبا بكر قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) فذكره, فيحتمل أن تكون عائشة سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعه أبوها, ويحتمل أن تكون إنما سمعته من أبيها عن

____________

(1)أضواء على السنة المحمدية أو دفاع عن الحديث لمؤلفه محمود أبو رية.

(2)تاريخ مدينة دمشق ج:30 ص311 ح6442 أبو بكر بن أبي قحافة, وكنز العمال ج:12 ص488 ح35599 باب: في فضائل الأنبياء دانيال عليه السلام, والصواعق لابن حجر ص:19, وراجع: رواية أبي بكر (لا نورث) ص:... من هذا الكتاب.


الصفحة 205

النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلته عن النبي صلى الله عليه وسلم لما طالب الأزواج ذلك. والله أعلم(1).

قلت: إن ابن حجر يحاول التشكيك في إرسال عائشة عن أبيها, يذهب إلى الاحتمال في كونها سمعته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما سمعه أبوها!!

مع أن عائشة لو سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لصرحت باسمه صلى الله عليه وآله وسلم, ولكانت من الشهود المدافعين عن أبها عندما كذبته فاطمة وزجها الإمام علي عليهما السلام, فأين كانت عائشة آنذاك؟!

ولو صرحت عائشة بسماع هذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأقام أوليائها الدنيا ولم يقعدوها ولكان لذلك طامة كبرى, إذ كيف يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى زوجاته بهذا الخبر ويخفيه عن ابنته فاطمة عليها السلام وهي الأولى بسماعه من أزواجه, ومن عائشة التي لا نصيب لها من تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا تسع الثمن, لا يتجاوز واحد ونصف بالمائة.

وقد احتج أهل السنة والجماعة على الذين يقولون بتخصيص عموميات الكتاب المجيد بخبر الآحاد برواية أبي بكر (لا نورث) التي انفرد بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم , فجعلوها من ضمن الأدلة على مبانيهم, وقد أطالوا الكلام في كتب الحديث والفقه وأصول الفقه متسالمين على انفراد أبي بكر بهذا الخبر.

____________

(1)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:12 ص12 كتاب: الفرائض باب:3.


الصفحة 206

47- خبر الآحاد في نظر الصحابة ومن تبعهم؟؟

لقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن أبا بكر قد انفرد بروايته (لا نورث), فهي خبر آحاد لا يصلح الاحتجاج بها بأي حال من الأحوال, يضرب بها عرض الجدار لمعارضتها لنص الكتاب المجيد الدال على توريث الأنبياء جميعهم عليهم السلام في قول الله عز وجل: (وورث سليمان داود), (يرثني ويرث من آل يعقوب).

ومعارضتها أيضا لعوم الكتاب المجيد الدال على توارث المؤمنين في ملة الحنفية بما في ذلك سادة المؤمنين عليهم السلام ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله سبحانه وتعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله), (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين), (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين).

هذا وقد اختلفت العلماء في تخصيص عموميات الكتاب المجيد بخبر الواحد إذا سلم من العلل, أما إذا لم يتعرى منها فيكون مردودا ومرفوضا في منهج الصحابة ومن تبعهم رضي الله تعالى عنهم.

قال ابن حجر العسقلاني: (وكل خبر واحد إذا عارض العلم لم يقبل) وبتوقف أبي بكر وعمر في حديثي المغيرة (في الجدة, وفي ميراث الجنين) حتى شهد لـه أبو سعيد, وبتوقف عائشة في خبر ابن عمر (في تعذيب الميت ببكاء الحي) وأجيب بأن ذلك إنما وقع منهم إما عند الارتياب كما في قصة أبي موسى فإنه أورد الخبر عند إنكار عمر عليه رجوعه بعد الثلاث وتوعده فأراد عمر الاستثبات خشية أن يكون دفع بذلك عن نفسه, وقد أوضحت ذلك بدلائله في (كتاب الاستئذان).


الصفحة 207

قال: وأما عند معارضة الدليل القطعي كما في إنكار عائشة حيث استدلت بـ(عموم) قوله تعالى: (لا تزر وازرة وزر أخرى)(1).

وهذا كله إنما يصح أن يتمسك به من يقول: لا بد من اثنين عن اثنين وإلا فمن يشترط أكثر من ذلك فجميع ما ذكر قبل عائشة حجة عليه لأنهم قبلوا الخبر من اثنين فقط , ولا يصل ذلك إلى التواتر والأصل عدم وجود القرينة إذ لو كانت موجودة ما احتيج إلى الثاني(2)...

قلت: لقد ناقش ابن حجر رواية عمر بن الخطاب التي عارضتها عائشة بعموم الآية بعيدا عن أجواء آيات الإرث العامة التي احتجت بها فاطمة عليها السلام على رواية أبي بكر, فأنصف عائشة وجعل الحق إلى جانبها دون عمر, ولم ينصفوا فاطمة عليها السلام وجعلوا الحق إلى جانب أبي بكر (مالكم كيف تحكمون).

والحاصل أن علماء أهل السنة اختلفوا في تخصيص عموميات الكتاب المجيد بخبر الآحاد على ثلاث فرق: فمنهم من منعه مطلقا, ومنهم من توقف فيه, ومنهم من جوزه لكنهم: ذكروا لجوازه شروطا مفصلة, ونحن ذاكرون بعضا منها بعونه الله تعالى.

قال الغزالي: وما ثبت بالتواتر بخبر الواحد خلافا لأهل العراق, فإنهم لم يجوزوا التخصيص في عموم القرآن والمتواتر بخبر الواحد(3)...

وقال الغزالي أيضا: قالت المعتزلة لا يخصص عموم القرآن بأخبار الآحاد فإن الخبر لا يقطع بأصله بخلاف القرآن(4).

____________

(1)فاطر:آية 18.

(2)فتح الباري شرج صحيح البخاري ج:13 ص289 كتاب: أخار الآحاد الباب:1.

(3)المستصفى ص:195 مسألة الزيادة على النص نسخ الخ.

(4)منخول ص:252 كتاب: التأويل, مسألة:1 قالت المعتزلة: لا يخصص عموم القرآن بأخبار الآحاد.


الصفحة 208

وقال الأمدي: يجوز تخصيص عموم القرآن بالسنة, أما إذا كانت السنة متواترة، فلم أعرف فيه خلافا، ويدل على جواز ذلك ما مر من الدليل العقلي, وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد، فمذهب الأئمة الأربعة جوازه, ومن الناس من منع ذلك مطلقا، ومنهم من فصل، وهؤلاء اختلفوا: فذهب عيسى بن أبان إلى أنه إن كان قد خص بدليل مقطوع به، جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإلا فلا , وذهب الكرخي إلى أنه إن كان قد خص بدليل منفصل لا متصل جاز تخصيصه بخبر الواحد، وإلا فلا. وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف(1).

قال الخطيب البغدادي: وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور: أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه ، لان الشرع إنما يرد بمجوزات العقول وأما بخلاف العقول فلا . والثاني: أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ. والثالث: يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له(2)...

وقال الجصاص: واحتج من أبى قبول خبر الواحد بقوله تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم )وبقوله تعالى: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) وبقوله تعالى: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) وبقوله تعالى: (ولا تقولوا على الله إلا الحق) وخبر الواحد لا يوجب العلم , فانتفى قبوله بظاهر هذه الآيات, وقال تعالى: (إن الظن لا يغني من الحق شيئا). وخبر الواحد عند قائليه موقوف على حسن الظن براويه, وقد نفى سبحانه وتعالى بهذه الآية الحكم بالظن, فانتفى بها قبول خبر الواحد. واحتجوا أيضا: أن النبي عليه السلام لم يجز قبول خبره في بدء دعائه الناس إلى التصديق بثبوته, إلا بعد ظهور المعجزات على يديه, وإقامة

____________

(1)الأحكام ج:2 ص322.

(2)الفقيه المتفقه ج:1 ص132 باب: القول فيما يرد به خبر الواحد...


الصفحة 209

الدلائل الموجبة لصدقه, فمن دونه من الناس أحرى أن لا يقبل خبرا إلا بمقارنة الدلائل الدالة على صدقه, وبأن خبر الواحد لو كان مقبولا من قائله بلا دلالة توجب صحته, لكانت منزلة المخبر عن النبي عليه السلام أعلا من منزلة النبي (صلى الله عليه وآله), إذ لم يجز قبول خبره إلا بعد إقامة الدلائل الموجبة لصدقه, وجاز قبول خبر غيره بلا دلالة تدل على صدقه.

وقال الجصاص أيضا: فأما من اعتبر في قبول أخبار الآحاد شرائط متى خرجت عنها لم توجب قبولها, فقوله موافق لقول السلف , وليس في رد السلف لبعض الأخبار ما يوجب خلاف قوله, وكل خبر من ذلك ردوه فهو من القبيل الذي يجب رده للعلل التي يجب بها رد الآحاد , كما ترد شهادة الشاهدين, وإن كانا عدلين, للعلل التي يجب بها رد الأخبار, كما ترد شهادة الشاهدين, وإن كانا عدلين, للعلل التي توجب ردها, ولا يدل ذلك: على أن شهادة الشاهدين غير مقبولة عند تعريتهما من العلل الموجبة لردها...

وقال أيضا: فمن العلل التي يردها أخبار الآحاد عند أصحابنا: ما قاله عيسى بن أبان: ذكر أن خبر الواحد يرد لمعارضة السنة الثابتة إياه, أو يتعلق القرآن بخلافه فيما لا يحتمل المعاني, أو يكون من الأمور العامة, فيجيء خبر خاص لا تعرفه العامة, أو يكون شاذا قد رواه الناس, وعملوا بخلافة. قال أبو بكر رحمه الله تعالى: إن ما كانت مخالفته لنص الكتاب يوجب العلم بمقتضاه, وخبر الواحد لا يوجب العلم. وقال في بيانه لخبر الآحاد أيضا: أن النبي عليه السلام لما كان مبعوثا إلى الكافة وقد علم أن حاجة العامي إلى معرفة الحكم كحاجة غيره, فلا بد من أن يكون منه توقيف الجماعة على الحكم, على الوجه الذي وصفنا. ألا ترى: أنه لم يكن يختص تعليم الصلاة والزكاة الصيام وغسل الجنابة الخاصة دون الكافة, فكذلك سائر ما عممت فيه البلوى, ودعت الحاجة إليه, سبيله: أن يكون نقله من


الصفحة 210

طريق التواتر والاستفاضة . وأما ما روى من الأخبار , وعمل الناس بخلافه : فنحو ما روى عن النبي عليه السلام (كان يقنت في المغرب وفي سائر الصلوات). واتفق أهل العلم على خلافه, فهو حديث سلمة بن المحبق عن النبي عليه السلام فيمن وقع على جارية امرأته: أنها (إن طاوعته فهي له, وعليه مثلها, وإن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها). وكذلك حديث منع الصدقة, وآخذ الثمرة من أكمامها, قد اتفق الناس على العمل بخلافها, قال عيسى بن أبان: ورد أخبار الآحاد لعلل عليه عمل الناس, وهو مذهب الأئمة من الصحابة, ومن بعدهم, وذكر أخبارا ردها السلف للعلل التي قدمنا ذكرها(1)...

وقال الرازي: أنا لا ندعي تخصيص العموم بكل ما جاء من أخبار الآحاد حتى يكون ذلك علينا, وإنما نجوزه بالخبر الذي لا يكون راويه متهما بالكذب والنسيان, وهذا الشرط ما كان حاصلا هنا لأن عمر رضي الله عنه قدح في روايتها بذلك (رواية فاطمة بنت قيس في نفقة المبتوتة) فلم يكن قادحا في غرضنا بل هو بأن يكون حجة لنا أولى وذلك لأن عمر رضي الله عنه بين أن روايتها إنما صارت مردودة لكون الراوي غير مأمون من الكذب والنسيان ولو كان خبر الواحد المقتضي لتخصيص الكتاب مردودا كيف ما كان لما كان لذلك التعليل وجه(2).

قال ابن حجر العسقلاني: وفي تخصيص عموم القرآن ببعض خبر الآحاد خلاف(3).

وقال النووي: لكن هذا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وفي جوازه خلاف والله أعلم(4).

____________

(1)الفصول في الأصول ج:3 ص89 وص105, وص: 113وص: 116.

(2)المحصول ج:3 ص93.

(3)فتح الباري ج:8 ص143 باب: نسائكم حرث لكم فائتوا حرثكم أنى شئتم.

(4)شرح مسلم ج:10 ص36 آخر كتاب: الرضاع.


الصفحة 211

قال الدكتور عجيل جاسم النمشي محقق الفصول في الأصول للجصاص في الهامش: وقال الشيرازي في اللمع ما مؤداه إن لم ينتشر خبر الواحد فإن كان له مخالفه لم يجز التخصيص, وإن يكن له مخالف فهل يجوز التخصيص . فمحل النزاع في خبر الواحد إذا لم ينتشر ولم يكن له مخالف ولم يخالف هو عموم القران أو السنة الثابتة ونرى أن كثيرا من الأصوليين قد غفلوا عن محل النزاع في هذه المسالة وتكلموا كلاما لا داعي له.

وممن وقع في ذلك الامدي في الأحكام, والبخاري على البزدوي في كشف الأسرار حين قال: إنما الكلام في خبر شاذ خالف عموم الكتاب هل يجوز التخصيص

به(1).

ولا يخفى أن الذين قالوا بالتخصيص بخبر الواحد إذا دخل العام التخصيص لأنه يصبح في هذه الحال مجازا فصار طريق إيجاب حكمه أو تركه من طريق الاجتهاد وغالب الظن ولأجل ذلك قالوا يجوز تخصيصه بخبر الواحد.

فيجب التنبه لتخصيص النص والعموم، فان كان خبر الواحد مخالفا لنص الكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع فلا يخصصها (كما سبق) لان هذه الأدلة قطعية وخبر الواحد ظني، ولا تعارض بين القطعي والظني بوجه بل الظني يسقط بمقابلة القطعي. فان خالف خبر الواحد عموم الكتاب أو ظاهره فهو محل خلاف. ومبنى الخلاف بينهم: أن من ذهب إلى أن عموميات القرآن وظواهره لا تفيد اليقين وإنما تفيد غلبة الظن فهي كخبر الواحد يجوز التخصيص به، والمانعون من التخصيص ذهبوا إلى أن الاحتمال في خبر الواحد فوق الاحتمال في العام والظاهر من الكتاب لان الشبهة فيهما من حيث المعنى وهو احتمال إرادة البعض من العموم

____________

(1)كشف الأسرار ج:3 ص10, وحاشية العطار على جمع الجوامع ج:2 ص63, واللمع للشيرازي ص:20, والفتاوي لابن تيمية ج:20 ص14.


الصفحة 212

وإرادة المجاز من الظاهر، ولكن لا شبهة في ثبوت متنها أي نظمهما وعبارتهما، والشبهة في خبر الواحد في ثبوت متنه ومعناه جميعا لأنه إن كان من الظواهر فظاهر، وان كان نصا في معناه فكذلك لان المعنى مودع في اللفظ وتابع له في الثبوت فلا بد من أن تؤثر الشبهة المتمكنة في اللفظ في ثبوت معناه ولهذا لا يكفر منكر لفظه ولا منكر معناه بخلاف منكر الظاهر والعام من الكتاب فانه يكفر ولما كان كذلك لم يجز عندهم ترجيح خبر الواحد على ظاهر الكتاب ولا تخصيص عموم به لان فيه ترك العمل بالدليل الأقوى وذلك لا يجوز . نبه عليه البخاري(1).

مستدلا على أن هذا وهو المنع مطلقا هو مذهب الحنفية والحق خلافه، وقد ناقض نفسه فيما حكاه عن مذهبهم(2).

فتنبه لهذا وارجع إليه(3).

وقال محيى الدين النووي: وقال الغزالي في المستصفى: ما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الآحاد كرد على رضى الله عنه خبر أبى سنان الأشجعى في قصة (بروع بنت واشق) وأورد أمثلة.

وقال الإمام ابن تيمية في المسودة: الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده لاعتقاد غلط الناقل أو كذبه لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق ، وإن لم يكن اعتقاده مطابقا فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث(4).

____________

(1)في كشف الأسرار ج3 ص9.

(2)في ج:1 ص294.

(3)الفصول في الأصول ج:1 ص157 الباب الثامن: في تخصيص العموم بخبر الواحد, تحقيق: الدكتور عجيل جاسم النمشي.

(4)المجموع لمحيى الدين النووي ج:91 ص244.


الصفحة 213

وقال المباركفوري: قلت العجب من العيني أنه لم يجب عن الإجماع السكوتي بل سكت عنه وهو حجة عنده وعند أصحابه الحنفية قال هو في رد حديث القلتين ما لفظه حديث القلتين خبر آحاد ورد مخالفا لإجماع الصحابة فيرد, بيانه: أن ابن عباس وابن الزبير أفتيا في زنجي وقع في بئر زمزم بنزح الماء كله ولم يظهر أثره وكان الماء من قلتين وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهما ولم ينكر عليهما أحد منهم فكان إجماعا, وخبر الواحد إذا ورد مخالفا للإجماع يرد انتهى كلامه(1).

قلت: وحاصل هذه الأقوال وما يفهم منها أن الفرقة التي قالت بجواز تخصيص عموم الكتاب المجيد بخبر الآحاد اشترطت شروطا بدونها يكون مردودا. منها: أن لا يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ, ومنها: أن يكون دليله مقطوعا وإلا فلا , ومنها: أن لا يخالف موجبات العقول لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول, ومنها: أن لا يخالف الإجماع, ومنها: أن لا يكون راويه متهما بالكذب أوالوهم أو النسيان, ومنها: أن لا يكون له معارض يتعذر ترجح أحدهما على الآخر, ومنها: أن لا ترتاب فيه طائفة من الصحابة لاتصالها بعصر النص, وغير ذلك, ويبقى خبر الآحاد موقوف على حسن الظن براويه قال الله تعالى: (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون).

وبهذا يتبين أن أهل البيت عليهم السلام حتى على مباني أهل السنة والجماعة في قبول خبر الآحاد والاحتجاج به لا يمكن لهم أن يقبلوا رواية أبي بكر (الآحاد) التي هي دون العلم القطعي بأي حال من الأحوال, وهذا من أقوى

____________

(1)تحفة الأحوذي ج:3 ص141.


الصفحة 214

البراهين على بطلان حجة المخالفين لولاية أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

سيما وقد دخل الارتياب والإرباك الشديدين على روايته (لا نورث) من طرف معارضة أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا, وكذبوا ناقلها ونسبوه إلى الظلم والغدر والخيانة والفجور كما جاء ذلك في صحيح مسلم, وماتت فاطمة عليها السلام وهي غاضبة عليهم.

وفي القصة التي يرويها البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب ما يؤيد ذلك, جاء فيها: دخلا علي أمير المؤمنين عليه والسلام والعباس رضي الله عنه, يطلبان حقهما مما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, كما كانا يطلبان ذلك من أبي بكر , فذكر لهما عمر: أنكما أتيتماني بعد استخلافي بسنتين تطلبان ما تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدقته, وأمركما واحد تزعمان بأن أبا بكر كان كاذبا آثما غادرا خائنا, وتزعمان أني كاذبا آثما غادرا خائنا...

وأقسم لهما عمر أنه لا يخالف في ذلك سيرة صاحبه أبي بكر, فخرجا حينئذ من عنده بعد اليأس.

وقد تلاعب أعلام أهل السنة بهذا الخبر بسبب التصريح بما يعتقده أمير المؤمنين عليه السلام وعمه العباس رضي الله تعالى عنه في شأن الشيخين فافهم ولا تكن من الغافلين, وقد بين ذلك فيما سبق ولله الحمد.

48- فاطمة عليها السلام تكذب أبا بكر وترد روايته بشدة

المتتبع للسيرة والتاريخ والحديث لا يشك في أن فاطمة عليها السلام كانت تعتبر رواية أبي بكر (لا نورث, ما تركنا صدقة...) افتراء وبهتان عظيم على أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وكذب مختلق على كتاب الله المجيد,


الصفحة 215

وهي الصديقة والطاهرة بنص القرآن الكريم, وفي الأخبار الصحيحة عند عطرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعند شيعتهم وعند المخالفين بأن فاطمة عليها السلام لما بلغها استيلاء ابن أبي قحافة على الخلافة, وعلى تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ومنع العترة إرثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وفدك, وسهم ذي القربى, وحقهم في الخمس, وبعد أن طالت مدة المطالبة والمخاصمة, والشكاية والتظلم, مشت بإذن زوجها أمير المؤمنين علي عليهما السلام إلى مسجد أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار فخطبت فيهم خطبتها الشهيرة التي لم يسمع بمثلها, وقد ملكت بنور كلامها الأسماع والأبصار والأفئدة, وذكرتهم أباها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, في مشيها, وصوتها, وبلاغة منطقها, وفصاحة لسانها, وحسن بيانها, وعظيم برهانها, حتى ارتج المسجد بمن فيه بالنشيج والبكاء, فلم يرى في مثل ذاك اليوم بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر باكيا وباكية(1) .

____________

(1)وقد تواتر نقل هذه الخطبة المباركة لسيدة نساء العالمين عليها السلام عند شيعة أهل البيت يتلقاها الأجيال جيلا بعد جيل, رواها أبناء فاطمة عليهم السلام عن أبائهم وأجدادهم عن جدتهم فاطمة عليها السلام, تلقاها علماء الشيعة ومحبي أهل البيت عليهم السلام, بكل اعتناء ولهفة وشوق, يتعلمونها ويعلمون أولادهم, ويذكرونها في مؤلفاتهم, وفي خطبهم ومجالسهم ومذكراتهم ومحاوراتهم واحتجاجاتهم إلى يومنا هذا. وقد رواها غير الشيعة, أخرج هذه الخطبة ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة ج:16 ص211 قال: قال أبو بكر: فحدثني محمد بن زكريا قال: حدثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال: حدثني أبي, عن الحسين بن صالح بن حي, قال: حدثني رجلان من بني هاشم, عن زينب بنت علي بن أبي طالب عليهم السلام. قال: وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عليهم السلام. قال أبو بكر: وحدثني عثمان بن عمران العجيفي, عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر, عن جابر الجعفي, عن أبي جعفر محمد بن علي عليهم السلام. قال: أبو بكر: وحدثني أحمد بن محمد بن يزيد, عن عبد الله بن محمد بن سليمان, عن أبيه, عن عبد الله ابن حسن بن الحسن. قالوا جميعا: لما بلغ فاطمة عليها السلام إجماع أبي بكر على منعها فدك, لاثت خمارها, وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها, تطأ في ذيولها, ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد الناس من المهاجرين والأنصار فضرب بينها وبينهم ريطة بيضاء - وقال بعضهم: قبطية, وقالوا: قبطية بالكسر والضم - ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء, ثم أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم, ثم قالت: أبتدي بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد, وساق الخطبة. وإسناد ينتهي إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أخرجه ابن أبي الحديد في شرح النهج ج:16 ص249, قال: أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال: حدثني محمد بن أحمد الكتاب, بقال: حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي, قال: حدثني الزيادي, قال: حدثنا الشرقي ابن القطامي, عن محمد بن إسحاق, قال: حدثنا صالح بن كيسان, عن عروة, عن عائشة, قالت: لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها, واشتملت بجلبابها, وأقبلت في لمة من حفدتها... وبطريق آخر في شرح النهج أيضا في ج:16 ص249 قال: قال المرتضى: وأخبرنا المروباني قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن المكي قال: حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني قال: حدثنا ابن عائشة, قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله سلم أقبلت فاطمة إلى أبي بكر في لمة من حفدتها. ثم اجتمعت الروايتان من ها هنا... ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى آخر الخطبة. قال ابن أبي الحديد: قال المرتضى: وأخبرنا أبو عبد الله المروباني: قال: حدثني على بن هارون , بقال : أخرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر , عن أبيه قال: ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام كلام فاطمة عليها السلام عند منع أبي بكر إياها فدك, وقلت له: إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع وأنه من كلام أبي العيناء, لأن الكلام منسوق البلاغة, فقال لي: رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ويعلمونه أولادهم, وقد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة عليها السلام على هذه الحكاية, وقد رواه مشايخ الشيعة وتدارسوه قبل أن يوجد جد أبي العيناء, وقد حدث الحسين بن علوان, عن عطية العوفي, أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن يذكر عن أبيه هذا الكلام. ثم قال أبو الحسن زيد: وكيف تنكرون هذا من كلام فاطمة عليها السلام, وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة عليها السلام ويحققونه لولا عداوتهم لنا أهل البيت. ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه.


الصفحة 216

ومما جاء في تلك الخطبة العظيمة من الحجج الباهرة والتي ألجمت بها خصومها الذين اغتصبوا تركة أبيها بالزور والبهتان أنها قالت سلام الله عليها: يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟

لقد جئت شيئا فريا, أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟ إذا يقول: (وورث سليمان داو ود), وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا: (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب), وقال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله), وقال: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين), وقال: (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقن), وزعمتم: أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا, أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟

أم هل تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟

أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ (أنظر: خطبة فاطمة عليها السلام في هذا الكتاب).

فبينت عليها السلام في احتجاجها على أبي بكر أمام المهاجرين والأنصار, بما نصت عليه من الآيات المحكمات, أن الأنباء عليهم السلام جميعا يرثون ويورثون الملك والمال, وقد كان سليمان وابنه داود من الأنبياء عليهما


الصفحة 217

السلام, وكذلك زكريا عليه السلام سأل من الله عز وجل أن يرزقه ولدا يرثه الملك والمال, وأن آية الأرحام, عامة في التوارث بين الأرحام والأقارب بلا تخصيص للأنبياء عليهم السلام, وكذلك توريث الأولاد عام يشمل أولاد الأنبياء عليهم السلام (للذكر مثل حظ الأنثيين), وكذلك الآية الأخيرة عامة في الوراثة, ولا يوجد فيها تخصيص أو نفي الوراثة بين الأنبياء عليهم السلام.

وقول فاطمة عليها السلام: أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟

أي لو كان هناك تخصيص لآيات الإرث, لكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بينه لأمته, ولباب مدينة علمه, ولابنته لأنها أحوج من غيرها لبيبان ذلك , ولا يمكن أن يخفي حكما شرعيا يتعلق بأهله الأطهار حملت دينه وورثت علمه, ويظهره للأباعد وكأن الأمر لا يعني أهل بيته عليه وعليهم الصلاة والسلام؟؟!!

وباستعراضها للطائفة الأولى من الآيات الدالة على توريث جميع الأنبياء عليهم السلام, بينت بأن روايته (الآحاد) التي انفرد بها تعارض نص الكتاب المجيد, وباستعراضها للطائفة الثانية من الآيات الدالة على عموم حكم التوارث بين المسلمين, بينت بأن روايته تخصص هذا العموم المعلوم بالقطع.

فروايته التي انفرد بها تعارض حكم ما جاء في كتاب الله المجيد من ناحية, وتخصص عامه من ناحية أخرى.

بالإضافة إلى أن رواية أبي بكر تقدح في سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حيث أنه قد أخفى بيان هذا الحكم عن أبنته, وعن زوجها, وعن جميع المسلمين, وهمس به لرجل واحد, وهذا خلاف البيان المعهود من سيرته صلى الله عليه وآله وسلم وما أمره به الله سبحانه وتعالى, خاصة فيما تعم بلوته,