الصفحة 218

وفي روايته الآحاد قد طعن في علم أهل البيت عليهم السلام بأحكام الشريعة الإسلامية من حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته بالرجوع إليهم, ونهى عن مخالفتهم في نصوص يعلمها العام والخاص.

وبعد افتضاح أبي بكر أمام الملأ العام, لم يتمكن من رد حجج فاطمة عليها السلام, فراح يكرر عليها ما زعم سماعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, إخفاء لهزيمته, وإيهاما للمسلمين بأنه صادق بقصد إيقاع الشبهة في النفوس وإرباك الأجواء وغير ذلك.

لكن فاطمة عليها السلام تصدت له مرة أخرى في نفس المجلس, واعتبرت إصراره وتمسكه بروايته, استهتارا بأحكام الشريعة الثابتة, وإعراضا عن كتاب الله المجيد, ومساسا بقدسية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فأجابته بدهشة واستغراب قائلة: سبحان الله ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كتاب الله صادفا, ولا لأحكامه مخالفا!

بل كان يتبع أثره, ويقفو سوره, أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور, وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته, هذا كتاب الله حكما عدلا, وناطقا فصلا يقول: (يرثني ويرث من آل يعقوب) ويقول: (وورث سليمان داو ود), وبين عز وجل فيما وزع من الأقساط, وشرع من الفرائض والميراث, وأباح من حظ الذكران والإناث, ما أزاح به علة المبطلين, وأزال التظني والشبهات في الغابرين, كلا بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون...

49- الإمام علي عليه السلام يرد رواية أبي بكر


الصفحة 219

فهل يبقى لمنصف شبهة, أو تخالط عقل عاقل ظنه في رواية أبي بكر (لا نورث) التي انفرد بنقلها, بعد أن استنكرها واستغربها وشهد ببطلانها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام, سيد الوصيين, وأمير المؤمنين, ووارث علم النبيين, وباب مدينة علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وأقضى أمته من بعده, بعد أن ردها واحتج بعموم آيات الإرث؟؟

وقد طالب عليه السلام أبا بكر مرات لا مرة أن يرجع لزوجته فاطمة عليها السلام إرث أبيها صلى الله عليه وآله سلم, وأن يسلم إليها نحلتها, وسهمها من خمس الغنائم.

وقد كانت الصديقة الطاهرة عليها السلام تخاصم أبا بكر وتحاججه بإذن من زوجها وتحت نظره.

فهل يعتقد مؤمن بعد كل هذا, أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام قد دفع رأي أبي بكر وعارض روايته بالظن أو بالوهم وبدون علم, أو بدون تحري واحتياط؟؟

وهو عليه السلام القائل: ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن.

وقال عليه السلام: لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا , وأنت تجد لها في الخير محتملا.

وهل يعتقد بعد هذا مؤمن أن سيد العترة عليه السلام جاهلا بأحكام الإرث أو مشتبها أو ظالما؟؟

فإنه عليه السلام أتقى وأعدل عند الله سبحانه تعالى من أن يكون لا يعلم وجه الصواب في قضية ثم يحكم فيها بهواه, من أجل نصرة زوجته للحصول على شيء من حطام الدنيا الغرور الفانية, التي لا تساوي عنده جناح بعوضة, وهو عليه السلام القائل: والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا, أو أجر في الأغلال


الصفحة 220

مصفدا , أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) يوم القيامة , ظالما لبعض العباد, وغاصبا لشيء من الحكام.

وكيف أظلم أحدا, لنفس يسرع إلى البلى قفولها, ويطول في الثرى حلولها...

والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها, على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب (أي قشرة شعيرة ما فعلته).

وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها.

ما لعلي ولنعيم يفنى ولذة لا تبقى!

نعود بالله من سبات العقل, وقبح الزلل, وبه نستعين(1).

50- الإمام علي عليه السلام أعلم الصحابة بالسنة

ألم يكن أمير المؤمنين عليه السلام أعلم الصحابة بالسنة المحمدية بشهادة صاحب الرسالة نفسه صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال: أنا مدينة العلم وأنت بابها, كذب من زعم أنه يدخل المدينة بغير الباب قال الله عز وجل: (وأتوا البيوت من أبوابها).

وعن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وهو آخذ بيد علي يقول: هذا أمير البررة, وقاتل الفجرة, منصور من نصره, مخذول من خذله, ثم مد بها صوته فقال: أنا مدينة العلم وعلي بابها, فمن أراد البيت فليأت الباب.

وقد استفاض هذا الحديث الشريف عند الفريقين وورد بألفاظ مختلفة في مقامات متعددة.

____________

(1)خطبة:222 نهج البلاغة.


الصفحة 221

قال صلى الله عليه وآله وسلم: أنا دار الحكمة وعلي بابها.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أنا دار العلم وعلي بابها.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أنا ميزان الحكمة وعلي لسانه.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: أنا ميزان العلم وعلي كفتاه.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم : علي باب علمي ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي(1).

والأحاديث الحسان في هذا المضمون لا تحصى فكيف يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه: بأنه باب مدينة علمه, ومبين لأمته ما أرسل به من بعده , ثم يخفي عنه أحكام الإرث, خاصة فيما يتعلق بإرث ابنته فاطمة عليها السلام؟؟

أليس هذا الصنيع قبيح لا يرتضيه عاقل لنبينا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؟؟

أليس هذا قدح في نفس صاحب الرسالة المقدسة صلى الله عليه وآله سلم؟؟

والله عز وجل يقول: (ما ضل صاحبكم وما غوى, وما ينطق عن القوى, إن هو إلا وحي يوحى, علمه شديد القوى).

فبمقتضى هذا التنزيه, وبحكم تلك النصوص لا بد وأن يكون أمير المؤمنين عليه السلام عنده كل ما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ولا يمكن أن يخفى عنه أي حكم من أحكام الشريعة, وبذلك تكون الرواية التي انفرد بها أبي بكر باطلة من الأساس لا وزن ولا قيمة لها.

____________

(1)أنظر: الجامع الصحيح للترمذي ج: ص212, وحلية الأولياء لأبي نعيم ج:1 ص64, ومصباح السنة للبغوي ج:2 ص275, والطبري في ذاخائر العقبي ص:77, والغزالي في الرسالة العقلية, والعجلوني في كشف الخاء ج:1 ص204, وكنز العمال ج:6 ص156 وغيرهم كثير.


الصفحة 222

سيما وقد تضافرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشهد لأمير المؤمنين عليه السلام بأنه أعلم أمته, وأقضاها من بعده, وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي طالب(1).

وقد شهدت عائشة, قالت: علي أعلم الناس بالسنة(2).

وروى ابن عساكر بسند عن أبي إسحاق السبيعي عن عبيدة قال: صحبت عبد الله (بن مسعود) سنة ثم صحبت عليا فكان فضل ما بينهما في العلم كفضل المهاجر على الأعرابي(3).

وروى ابن الأثير بسنده عن عبد الملك بن سليمان قال: قلت لعطاء أكان في أصحاب محمد أعلم من علي؟ قال: لا والله, لا أعلمه, وقال ابن عباس (حبر الأمة): لقد أعطي علي بن أبي طالب تسعة أعشار العلم, وأيم الله لقد شارككم في العشر العاشر(4)...

وروى ابن عساكر بسنده عن ابن عباس قال: قسم علم الناس خمسة أجزاء فكان لعلي منها أربعة أجزاء ولسائر الناس جزء وشاركهم علي في الجزء فكان أعلم به مهم.

وروى بسنده عن ابن عباس قال: أنا إذا ثبت لنا الشيء عن علي لم نعدل به إلى غيره.

وروى بسنده عن ابن عباس قال: إذا حدثنا ثقة عن علي بقينا لا نعدوها.

____________

(1)المناقب للموفق الخوارزمي ص:82 الفصل السابع: في بيان غزارة علمه وأنه أقضى الأصحاب, وكنز العمال ج:11 ص614 ح23977 فضائل علي رضي الله عنه (الديلمي- عن سلمان).

(2)التاريخ الكبير للبخاري ج:2 ص 255 وج:3 ص228 ح767 الناشر: المكتبة الإسلامية- ديار بكر, وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج:42 ص408 تحقيق: علي شيري الطبع:1415 هجرية الناشر: دار الفكر.

(3)المصدر السابق.

(4)أسد الغابة ج:4 ص22 الناشر: انتشارات اسماعيليان- تهران, ينابيع المودة لذوي القربى ج:2 ص171 الباب: السادس والخمسون ذكر: كثرة علم علي عليه السلام وقال: (أخرجه أبو عمر).


الصفحة 223

وروى بسنده عن جسرة قالت: ذكر عند عائشة صوم عاشوراء فقالت: من يأمركم بصومه؟

قالوا علي, قالت: أما إنه أعلم من بقي بالسنة.

وروى بسنده عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: علي بن أبي طالب أعلم بالسنة.

وروى بسنده عن الأعمش عن أبي سعيد التيمي قال: كنا نبيع الثياب على عواتقنا ونحن غلمان في السوق فإذا رأينا عليا قد أقبل قلنا بودشكم, فقال علي: ما تقولون قيل له يقولون: عظيم البطن قال: أجل, أعلاه علم, وأسفله طعام.

وبسنده عن مسروق قال: انتهى العلم إلى ثلاثة, عالم بالمدينة, وعالم بالشام, وعالم بالعراق, فعالم المدينة علي بن أبي طالب, وعالم الكوفة عبد الله بن مسعود, وعالم الشام أبو الدرداء, فإذا التقوا ساءل عالم الشام وعالم العراق عالم المدينة , ولم يسألهم.

وروى بسنده عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: قلت لعطاء بن أبي رباح: أكان في أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أعلم من علي بن أبي طالب قال : لا , والله ما أعلمه .

وروى بسنده عن الشعبي قال : بينا أبو بكر جالس إذ طلع علي بن أبي طالب من بعيد فلما رآه قال أبو بكر: من سره أن ينظر إلى أعظم الناس منزلة, وأقربهم قرابة, وأفضلهم دالة, وأعظمهم غناء عن رسول الله. (صلى الله عليه وآله) فلينظر إلى هذا الطالع(1).

____________

(1)تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج:42 ص407 إلى411 تحقيق: علي شيري, الطبع: سنة:1415 هجرية الطابع والناشر: دار الفكر.


الصفحة 224

وروى علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي عن سعيد بن المسيب قال: سمعت رجلا سأل عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب عليه السلام فقال لـه ابن عباس: إن عليا صلى القبلتين وبايع البيعتين ولم يعبد صنما ولا وثنا, ولم يضرب على رأسه بزلم ولا قدح, ولد على الفطرة ولم يشرك بالله طرفة عين, فقال الرجل: إني ما أسألك عن هذا إنما أسألك عن حمله سيفه على عاتقه يختال به حتى أتى البصرة فقتل بها أربعين ألفا, ثم سار إلى الشام فلقي حواجب العرب فضرب بعضهم ببعض حتى قتلهم ثم أتى النهروان وهم مسلمون فقتلهم عن آخرهم, فقال لـه ابن عباس: أعلي أعلم عندك أم أنا؟ فقال: لو كان علي أعلم عندي منك ما سألتك, قال: فغضب ابن عباس حتى اشتد غضبه ثم قال: ثكلتك أمك علي علمني وكان علمه من رسول الله صلى الله عليه وآله, ورسول الله علمه من الله من فوق عرشه, فعلم النبي من الله وعلم علي من النبي, وعلمي من علم علي, وعلم أصحاب محمد كلهم في علم علي كالقطرة الواحدة في سبعة أبحر!(1)

قلت: فأين الأمة عن هذه النصوص في علم أمير المؤمنين عليه السلام بكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رواية أبي بكر الآحاد والتي لا يمكن لها أن ترقى للمعارضة, فكيف هذا مع إنكار أمير المؤمنين عليه السلام لها وتكذيبه لأبي بكر في ذلك؟؟

51- الإمام علي عليه السلام أقضى الأمة

قال محمد الشربيني الخطيب: وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى اليمن قاضيا, فقال: يا رسول الله بعثتني أقضي بينهم وأنا شاب لا أدري ما

____________

(1)كشف الغمة ج:2 ص5 ذكر مناقب شتى وأحاديث متفرقة المطبعة: دار الأضواء- بيروت الطبعة:1404 هجرية.


الصفحة 225

القضاء فضرب النبي صلى الله عليه وسلم صدره وقال: اللهم أهده وثبت لسانه قال: فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين, رواه أبو داود والحاكم وقال: صحيح الإسناد(1).

وروى الهيثمي عن علي عليه السلام, قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر ثم تعلق بآخر حتى صاروا فيها أربعة فجرحهم الأسد فانتدب لـه رجل بحربة فقتله وماتوا من جراحتهم كلهم , فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتلوه , فأتاهم علي عليه السلام على تقية ذلك فقال: تريدون أن تقاتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي, إني أقضي بينكم قضاءا إن رضيتم فهو القضاء, وإلا حجر بعضكم على بعض حتى تأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون الذي يقضي بينكم, فمن عدا بعد ذلك فلا حق لـه, أجمعوا لي من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية وثلث الدية ونصف الدية والدية كاملة, فللأول الربع لأنه هلك من فوقه , والثاني ثلث الدية, والثالث نصف الدية, فأبوا أن يرضوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم عند مقام إبراهيم , فقصوا عليه فقال: أنا أقضي بينكم واحتبي, فقال: رجل من القوم إن عليا قضى فينا, فقصوا عليه القصة فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم. في لفظ آخر: فقصوا عليه, فقال: أنا أقضي بينكم إن شاء الله وهو جالس في مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم, فقام رجل فقال: إن عليا قضى بيننا, فقال: كيف قضى بينكم؟ فقصوا عليه فقال: هو ما قضى بينكم(2).

____________

(1)مغني المحتاج ج:4 ص372 كتاب : القضاء , أنظر: سنن أبي داود ج:2 ص160 ح3582 باب: كيف القضاء , والسنن الكبرى للبيهقي ج:10 ص140 باب: من دعى إلى حكم حاكم.

(2)مجمع الزوائد ج:6 ص287 باب: القوم يزدحمون فيقع بعضهم فيتعلق بغيره.


الصفحة 226

وقال ابن حجر العسقلاني: وأما قوله: وأقضانا علي فورد في حديث مرفوع أيضا عن أنس رفعه: أقضى أمتي علي بن أبي طالب أخرجه البغوي(1).

وروى ابن عساكر بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي أقضى أمتي بكتاب الله فمن أحبني فليحبه فإن العبد لا ينال ولايتي إلا بحب علي عليه السلام(2).

وقد روى أهل الحديث وغيرهم عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يقول: علي أقضانا(3).

وقد اشتهر عن عمر بن الخطاب أنه كان يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسين, وكان يقول: أعوذ بالله من معضلة ولا أبو الحسن لها.

وقوله: لولا علي لهلك عمر.

وقوله: لا تبقني لمعضلة ليس فيها أبا الحسن(4).

قال أبو الحجاج يوسف المزي: وقال يحيى بن سعيد, عن سعيد بن المسيب: كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسين.

____________

(1)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:8 ص127 باب: قوله تعالى ما ننسخ من أية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها.

(2)تاريخ مدينة دمشق ج:42 ص241 تحقيق علي شيري الطبعة:1415 هجرية, دار الفكر, والمناقب للموفق الخوارزمي ص:81 ح66 الفصل السابع: في بيان غزارة علمه وأنه أقضى الأصحاب, وتفسير القرطبي ج:15 ص162 تفسير سورة ص: تفسير قوله تعالى: (والطير محشورة ...) الكلام على معنى: (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب), والمستصفى للغزالي ص:170 فصل: في تفريع الشافعي في القديم على تقليد الصحابة ونصوصه.

(3)مسند أحمد بن حنبل ج:5 ص113 حديث أبي المنذر أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه, مسند الأنصار رضي الله عنهم , والمصنف لابن أبي شيبة الكوفي ج:7 ص183 كتاب: فضائل القرآن ما جاء في إعراب القرآن, ممن يؤخذ القرآن, ومستدرك الحاكم النيسابوري ج:3 ص305 كتاب معرفة الصحابة رضي الله تعالى عنهم, الاختلاف في قراءة بعض الآيات بين أبي وعمر, والمعجم الأوسط للطبراني جك7 ص357 تحقيق: إبراهيم الحسيني, طبع ونشر: دار الحرمين.

(4)الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد ج:2 ص339 ذكر من كان يفتي بالمدينة به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وإلى من انتهى علمهم , علي بن أبي طالب رضي الله عنه, وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج:42 ص406, وأسد الغابة لابن الأثير ج:4 ص 23, البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي ج:7 ص397 سنة أربعين من الهجرة ذكر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب, الإصابة في تميز الصحابة لابن حجر ج:4 ص467 تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود الطبعة الأولى سنة:1415 هجرية دار الكتب العلمية- بيروت.


الصفحة 227

وقال سعيد بن جبير, عن ابن عباس: كنا إذا أتانا الثبت عن علي لم نعدل به.

وقال أبو بكر بن عياش, عن عاصم, عن زر بن حبيش: جلس رجلان يتغديان, مع أحدهما خمسة أرغفة ومع الأخر ثلاثة أرغفة, فلما وضعا الغداء بين أيديهما مر بهما رجل, فسلم, فقالا: اجلس للغداء, فجلس وأكل معهما واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم, وقال: خذاها عوضا مما أكلت لكما ونلته من طعامكما فتنازعا, فقال صاحب الخمسة الأرغفة: لي خمسة دراهم ولك ثلاثة وقال صاحب الأرغفة ثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين, فارتفعا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فقصا عليه قصتهما, فقال: لصاحب الثلاثة: قد عرض عيك صاحبك ما عرض وخبرزه أكثر من خبزك, فارض بالثلاثة, فقال: والله لا رضيت منه إلا بمر الحق , فقال علي رضي الله عنه: ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة دراهم, فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين هو يعرض علي ثلاثة, فلم أرض, وأشرت علي بأخذها, فلم أرض, وتقول الآن: إنه لا يجب لي في مر الحق إلا درهم؟!

فقال لـه علي: عرض عليك صاحبك أن تأخذ الثلاثة صلحا , فقلت: لا أرضى إلا بمر الحق , ولا يجب لك في مر الحق إلا درهم, فقال لـه الرجل: فعرفني الوجه في مر الحق حتى أقبله, فقال علي: أليس للثمانية أرغفة أربعة وعشرون ثلثا أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس ولا يعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقل, فتحملون في أكلكم على السواء؟

قال: بلى, قال: فأكلت أنت الثمانية أثلاث وإنما لك تسعة أثلاث وأكل صاحبك ثمانية أثلاث وله خمسة عشر ثلثا أكل منها ثمانية وبقي لـه سبعة, وأكل لك واحد من تسعة, فلك واحد بواحدك, وله سبعة. فقال الرجل: رضيت الآن.


الصفحة 228

وروى معمر, عن وهب بن عبد الله, عن أبي الطفيل, قال: شهدت عليا يخطب وهو يقول: سلوني , فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم وسلوني عن كتاب الله, فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل.

وقال سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص: قلت لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة: لم كان صفو الناس إلى علي؟ فقال: يا أخي إن عليا كان له ما شئت من ضرس قاطع في العلم, كان له السطة في العشيرة والقدم في الإسلام وصهر برسول الله صلى الله عليه وسلم والفقه في السنة والنجدة في الحرب, والجود في الماعون. ومناقبه وفضائله كثيرة جدا رضي الله عنه وأرضاه(1).

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: وروى أبو بكر الأنباري في (أماليه) أن عليا عليه السلام جلس إلى عمر في المسجد, وعنده ناس, فلما قام عرض واحد بذكره , ونسبه إلى التيه والعجب, فقال عمر: حق لمثله أن يتيه!

والله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام, وهو بعد أقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها, فقال له ذلك القائل: فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه؟

قال: كرهناه على حداثة السن وحبه بني عبد المطلب(2).

وبالتالي فإن رجوع المشايخ الثلاث وسائل الصحابة إلى أمير المؤمنين عليه السلام ظاهر لا يستطيع أحد إنكاره, حتى أن معاوية بن أبي سفيان وهو من ألد أعدائه وقد حاربه وأوجب على الرعية لعنه على رؤوس المنابر قد اعترف بأعلميته ورجوع عمر بن الخطاب إليه, ولما بلغه قتل أمير المؤمنين عليه السلام

____________

(1)تهذيب الكمال ج:20 ص485 تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف الطبعة الأولى سنة:1413 الناشر: مؤسسة الرسالة.

(2)شرح نهج البلاغة ج:12 ص82 تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.


الصفحة 229

قال: لقد ذهب الفقه والعلم بموت أبن أبي طالب, وقال: كان عمر إذا أشكل عليه شيء أخذه منه(1).

52- رجوع الصحابة للإمام علي عليه السلام

وبعد أن ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وعن كبار الصحابة أنه أعلم الأمة وأقضاها, وثبت رجوع الصحابة إليه بما فيهم المشايخ الثلاثة, واستنجادهم به في قضايا كثيرة, ومسائل دقيقة وعويصة, لم يتمكنوا من حلها وفك رموزها, ووقعت لهم أخطأ واشتبهات كثيرة, ورجعوا عن فتاوى وأحكام مرة بعد أخرى, وقد ناقض المشايخ الثلاثة أنفسهم في كثير من القضايا, بل لقد ناقض بعضهم البعض, هذا ولم يسجل لنا التاريخ ولا السيرة ولو خبرا واحدا موثوقا بأن أمير المؤمنين عليه السلام رجع لغير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, أو رجع في فتوى, أو أخطأ في حكم, على الرغم من أنه واجه مشاكل معقدة, ومسائل متشعبة في المجتمع الإسلامي الجديد خاصة عندما رجعت إليه الخلافة, ولم يبتلى أحد ممن سبقه بما ابتلاء به عليه السلام كابتلائه بالناكثين, والقاسطين, والمارقين, ومع ذلك كله فلم يرجع إلى أحد من الصحابة أو احتاج مشورة أحدهم, لأن كل الحلول عنده, حتى أن طلحة والزبير بعد البيعة لـه بالخلافة وقبل خروجهما عليه قد عتبا عليه من ترك مشورتهما والاستعانة بهما لما ألفا ممن سبقه في رجوعهم إلى الصحابة, وتعجبا من استغنائه عليه السلام عنهما وعن غيرهما, فظنا أنه قد استأثر برأيه عن مشورة المسلمين, فأجابهما عليه السلام بقوله: فلما أفضت إلي (الخلافة) نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا, وأمرنا بالحكم به, فاتبعته, وما استن النبي (صلى الله عليه وآله) فاقتديته, فلم أحتج في ذلك إلى

____________

(1)ألف باء لأبي الحجاج البلوي ج:1 ص222, والرياض النضرة ج:2 ص 195.


الصفحة 230

رأيكما, ولا رأي غيركما, ولا وقع حكم جهلته, فأستشيركما وإخواني المسلمين, ولو كان ذلك لم أرغب عنكما, ولا عن غيركما(1)...

53- الإمام علي عليه السلام أعلم الصحابة بالفرائض

فالعلم بالفرائض وبتفريعاته ودقيق أجزائه, وغامض علله ولطيف نكاته عند أمير المؤمنين علي عليه السلام من البديهيات الضرورية, يقطع الحكم بدون عناء ولا تكلف, ولا يحيد في قضائه وحكمه عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم , ولا يفتي برأيه البتة , قد أغناه الكتاب ووسعته السنة , قال تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء), (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).

وفي الخبر الصحيح قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه, ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه. وقال صلى الله عليه وآله وسلم : لقد تركتكم على مثل البيضاء , ليلها كنهارها , لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك.

والسر في إتقان أمير المؤمنين عليه السلام لهذه الصناعة واستغنائه عن الرأي والقياس وما إلى ذلك, هو رسوخه في علم الكتاب المجيد وإحاطته بسيرة وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحاطة تامة بحكم ما تقدم من النصوص, بخلاف غيره ممن ليس لـه رسوخ ولا عليم بالكتاب والسنة, كما يشهد له بذلك السيرة والتاريخ.

____________

(1)نهج البلاغة ج:2 ص210 الخطبة:200 شرح الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقا.


الصفحة 231

روى أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري وابن عساكر بسنديهما عن سعيد بن وهب, عن عبد الله قال: يقولون: إن أعلم أهل المدينة بالفرائض علي بن أبي طالب (عليه السلام)(1).

وروى عبيد الله بن أحمد المعروف بالحاكم الحسكاني بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: أفرض أهل المدينة وأقرأوها علي بن أبي طالب عليه السلام(2).

قال محمد عبد الروؤف المناوي في الحديث الشريف: (المهدي منا أهل البيت يصلحه الله في ليلة) قيل: إنه يصير منصرفا في عالم الكون بأسرار الحروف قال البسطامي: ومن فهم سر العين أطلع على سر أسرار العلوم الحرفية والمعارف الإلهية ولهذا كان جد المهدي علي كرم الله وجهه من أعلم الصحابة بدائق العلوم ولطائف الحكم وكان من أجل علومه علم أصرار الحروف ألا ترى أن العين قد وقعت في مفتاح اسمه (حم5 عن علي) أمير المؤمنين رمز لحسنه(3).

قال ابن أبي الحديد المعتزلي: ومن العلوم: علم الفقه، وهو عليه السلام أصله وأساسه، وكل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه، أما أصحاب أبى حنيفه كأبى يوسف ومحمد وغيرهما، فأخذوا عن أبى حنيفة، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن، فيرجع فقهه أيضا إلى أبى حنيفة، وأما أحمد بن حنبل، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبى حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام، وقرأ جعفر على أبيه عليه السلام، وينتهي الأمر إلى على عليه السلام.

____________

(1)أنساب الأشراف ج:2 ص105 تحقيق المحمودي وفي هامشه عن: الفضائل لأحمد بن حنبل حديث رقم: 11 من فضائل علي, وعن أخبار القضاة ج:1 ص89 بثلاثة طرق, وتاريخ مدينة دمشق ج:42 ص 405.

(2)شواهد النزيل ج:1 ص34 ح20, تحقيق: الشيخ باقر المحمودي, الطبعة الأولى سنة:1411 هجرية.

(3)فيض القدير شرح الجامع الصغير ج:6 ص361 ح9243.


الصفحة 232

وأما مالك بن أنس، فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبى طالب، وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.

وأما فقه الشيعة: فرجوعه إليه ظاهر وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا: عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس، وكلاهما أخذ عن على عليه السلام.

أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: لو لا على لهلك عمر، وقوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن.

وقوله: لا يفتين أحد في المسجد وعلى حاضر، فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه.

وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله: (أقضاكم على)، والقضاء هو الفقه، فهو إذا أفقههم.

وروى الكل أيضا أنه عليه السلام قال لـه وقد بعثه إلى اليمن قاضيا: اللهم اهدي قلبه وثبت لسانه, قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين.

وهو عليه السلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتى في الحامل الزانية، وهو الذي قال في المنبرية: صار ثمنها تسعا.

وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة، واقتضى به ارتجالا(1).

قلت: وهذه المسألة التي تعرف بالمنبرية ذكرها أرباب الفقه في كتبهم, أن عليا أمير المؤمنين عليه السلام كان يخطب على منبر الكوفة قائلا : الحمد لله

____________

(1)شرح نهج البلاغة ج:1 ص18.


الصفحة 233

الذي يحكم بالحق قطعا ويجزي كل نفس بما تسعى وإليه المآب والرجعى , فسئل حينئذ عن هذه المسألة (عن رجل مات وترك امرأة وأبوين وابنتين كم نصيب المرأة ) فقال ارتجالا: صار ثمن المرأة تسعا ومضى في خطبته(1).

54- الجاهل بالسنة جهل بالقضاء والإفتاء

المتأمل في سيرة أبي بكر بعد رحيل النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم, يجد أول مقام له بعد أن بويع بالخلافة, صعد المنبر فخطب في الناس ثم قال: أما والله ما أنا بخيركم, ولقد كنت لمقامي هذا كارها, ولوددت لو أن فيكم من يكفيني, فتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا لا أقوم لها, إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعصم بالوحي, وكان معه ملك, وإن لي شيطانا يعتريني, فإذا غضبت فاجتنبوني, لا أوثر في أشعاركم ولا أبشاركم, ألا فراعوني! فإن استقمت فأعينوني, وإن زغت فقوموني (قال الحسن: خطبة والله ما خطب بها بعده).

وقد روي هذا الخبر بألفاظ مختلفة, منها بلفظ: أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست خيركم وقد كانت بيعتي فلتة، وذلك أني خشيت الفتنة، وأيم الله ما حرصت عليها يوما قط، ولا طلبتها ولا سألت الله تعالى إياها سرا ولا وعلانية وما لي فيها من راحة، ولقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ولا يدان ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني (أخرجه محمد بن يوسف الصالحي الشامي).

____________

(1)المبسوط للسرخسي ج:28 ص76 باب: الدعوى من بعض الورثة للوارث, والمجموع لمحي الدين النووي ج:16 ص92 باب: ميراث أهل الفرائض وبيانهم, ميراث الزوجات كميراث زوجة واحدة, والمغني لعبد الله بن قدامة ج:7 ص35 كتاب: الفرائض, بيان بعض مسائل العول وضابطها وعولها, ومغني المحتاج لمحمد بن الشربيني ج:3 ص18 كتاب: الفرائض , فصل في إرث الحواشي.


الصفحة 234

وفي لفظ: يا أيها الناس تكلفوني سنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن الله كان يعصم نبيه بالوحي إني والله لوددت أنكم كفيتموني وإن لي شيطانا يعتريني ثلاث مرات فإذا اعتراني فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم وتعاهدوني بأنفسكم فإن استقمت اتبعوني وإن زغت فقوموني.

وفي لفظ: إن لي شيطانا يحضرني فإذا رأيتموني قد غضبت فاجتنبوني لا أمثل بأشعاركم وأبشاركم.

وفي لفظ: ثم قال إني وليتكم ولست بخيركم ولعلكم تطلبوني بعمل نبيكم (صلى الله عليه وآله) ولست هناك إن نبيكم (صلى الله عليه وآله) كان يعصم بالوحي وإن لي شيطانا يغويني فإذا رأيتموني أحسن فأعينوني وإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أصيب من أبشاركم وأعراضكم.

وفي لفظ: وإن لي شيطانا يعتريني فإذا أتاني فاجتذوني لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم.

وفي لفظ: واعلموا أن لي شيطانا يعتريني أحيانا، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني، لا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم ، ثم نزل.

وفي لفظ: إن لي شيطانا يحضرني فإذا رأيتموني قد غضبت فاجيبوني لا أمثل بأشعاركم وأبشاركم(1).

____________

(1)أخرجه صاحب المصنف عبد الرزاق الصنعاني ج:11 ص336 ح20701, وصاحب الطبقات الكبرى محمد بن سعد ج:3 ص212, ذكر وصية أبي بكر, وصاحب المعجم الأوسط سليمان بن أحمد اللخمي الطبراني ج:8 ص267, تحقيق: إبراهيم الحسيني, المطبعة والناشر: دار الحرمين, وصاحب الإمامة والسياسة أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري ج:1 ص34, تحقيق الشيري, وصاحب تاريخ الأمم والملوك محمد بن جرير الطبري ج:2 ص460, السنة الحادية عشرة من الهجرة, حديث السقيفة, ذكر الخبر عما جرى بين المهاجرين والأنصار في أمر الإمارة في سقيفة بني ساعدة, وصاحب تاريخ مدينة دمشق أبو القاسم على بن الحسين بن هبة الله ابن عساكر ج:3 ص303 و304, وصاحب البداية والنهاية أبو الفداء إسماعيل ابن كثير القرشي الدمشقي ج:6 ص334 كتاب: تاريخ الإسلام الأول من الحوادث الواقعة في الزمان, ووفيات المشاهير والأعيان, سنة إحدى عشرة, وصاحب كنز العمال المتقي الهندي ج:5 ص631 ح14112 الباب: الأول في خلافة الخلفاء, خلافة أبي بكر, وصاحب مجمع الزوائد نور الدين الهيثمي ج:5 ص183 كتاب: الخلافة باب: الخلفاء الأربعة, وصاحب شرح نهج البلاغة عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني المعتزلي ج:2 ص 50 وج:6 ص47, وصاحب سبل الهدى والرشاد الصالحي الشامي ج:12 ص315 جماع أبواب مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفاته, الباب الثالث والثلاثون: في ذكر خبر السقيفة وبيعة أبي بكر بالخلافة, وغريهم.


الصفحة 235

قلت: فإن معاني هذا الخبر لا تخفى على أي عاقل لبيب, فمن جهة تدل على أن أبا بكر كان صريحا في حق نفسه أمام المهاجرين والأنصار وقريش وسائر الناس, ليس هو بأفضل وأحق بالإمامة من غيره, بل هناك من هو خير منه وأحق بها منه, وقد أكد هذا المعنى في قسمه بالله (أما والله ما أنا بخيركم) لألا يتوهم من يجهل حاله بأنه قال ذلك على سبيل الهضم والتواضع, ومن جهة تدل معاني هذا الخبر على أنه لا يطيق القيام في الأمة بالعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ومن جهة أخرى تدل على أن له شيطانا يعتريه أحيانا, فإذا غضب بفعل الشيطان فعلى الناس أن يداروه ويجتنبوا محاورته ومحاولة تقويمه وإصلاحه وما إلى ذلك.

وليس لمعنى قوله: فتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تفسيرا واحدا, وهو الجهل بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فإذا اجتمع عليه عند انتصابه للقضاء: الجهل بالسنة, والغضب, واعتراء الشيطان, ما عساه أن تكون نتيجة حكمه؟؟!!

فإن من اجتمعت فيه هذه الصفات لا يصلح أن يكون للأمة إماما, ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خليفة, أو يكون قاضيا , ومفتيا وما إلى ذلك.؟؟

فإن أبا بكر قد ذكر هذه الصفات عن نفسه بعد أن بايعه الناس واستحكم له أمر الولاية (وليت عليكم ولست بخيركم), ولم يذكرها في سقيفة بني ساعدة عندما اختاره عمر, ولا ذكرها قبل البيعة العامة, وإنما قال ذلك بعد أن استواء على كرسي الحكم ليسبق غيره ويقطع عنه الطريق ويسكته.


الصفحة 236

ومن عجائب الدهر وغرائبه كيف تأول أولياء أبي بكر هذا الخبر بتأويلات باطلة رغم وضوح دلائله , ولم يكتفوا بذلك حتى رفعوه فجعلوه من أعاظم علماء الأمة بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبالشريعة الإسلامية؟؟!!

وكأنهم أعرف بحال أبي بكر من نفسه, مع أن هذا الخبر وغيره من الأخبار وما ورد في سيرته كلها تظهر خلاف ما ذهبوا إليه من أباطيل مفضوحة.

فمن دقق النظر في هذا الخبر في قول أبي بكر: فتظنون أني أعمل فيكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذا لا أقوم لها...

ولئن أخذتموني بسنة نبيكم (صلى الله عليه وآله) ما أطيقها...

إني وليتكم ولست بخيركم ولعلكم تطلبوني بعمل نبيكم (صلى الله عليه وآله) ولست هناك...

يا أيها الناس تكلفوني سنة محمد (صلى الله عليه وآله) وإن الله كان يعصم نبيه بالوحي إني والله لوددت أنكم كفيتموني وإن لي شيطانا يعتريني...

إلى غير ذلك من الألفاظ يعلم بأن هذا التصريح من أبي بكر لا يقل خطورة عن قول عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنه يهجر, عندما طلب منهم كتفا ودواة ليكتب لهم كتابا لن يظلوا بعده أبدا, ويجد بأن تصريح أبي بكر هذا ما هو إلا امتدادا لقول عمر: عندكم القرآن حسبنا كتاب الله...

وأبو بكر لم يغب عن معارضة عمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذاك, وكان الرأس المدبر في تلك المعارضة, وقد تبنى شعار (حسبنا كتاب الله) في مواقف له متعددة, وأحرق السنة, ومنع تدوينها والتحدث بها, إلا بما يوافق سياسته لمن أراد, وكان يقول للناس: من سألكم (عن الحديث) فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله...


الصفحة 237

وقد أخرج الذهبي في تذكرة الحفاظ, قال: من مراسيل ابن أبى مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه.

وأخرج المتقي الهندي: قال الحافظ عماد الدين بن كثير في مسند الصديق: الحاكم أبو عبد الله النيسابوري حدثنا بكر بن محمد الصريفيني بمرو حدثنا موسى بن حماد ثنا المفضل ابن غسان ثنا علي بن صالح حدثنا موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن عن إبراهيم بن عمرو عن عبيد الله التيمي حدثنا القاسم بن محمد قال: قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت خمسمائة حديث، فبات ليلة يتقلب كثيرا، قالت: فغمني فقلت تتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها فدعا بنار فأحرقها وقال، خشيت أن أموت وهي عندك فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك. وقد رواه القاضي أبو أمية الأحوص بن المفضل بن غسان الغلابي عن أبيه عن علي بن صالح عن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عن إبراهيم بن عمر بن عبيد الله التيمي حدثني القاسم بن محمد أو ابنه عبد الرحمن بن القاسم شك موسى فيهما قال : قالت عائشة- فذكره وزاد بعد قوله: فأكون قد تقلدت ذلك ويكون قد بقي حديث لم أجده فيقال: لو كان قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غبي على أبي بكر إني حدثتكم الحديث ولا أدري لعلي لم أتتبعه حرفا حرفا(1).

____________

(1)تذكرة الحفاظ ج:1 ص2 الطبقة الأولى من الكتاب, أبو بكر الصديق, وأحمد بن علي الرازي الجصاص ص:370 والفصول في الأصول للجصاص ج:1 ص 161 الباب الثامن: في تخصيص العموم بخبر والواحد, الدليل على أن هذا المذهب هو مذهب الصدر الأول من السلف , تحقيق: الدكتور عجيل جاسم النمشي, الطبعة الأولى:1405 هجرية, وكنز العمال الهندي ج:01 ص285 صفحة285 باب في آداب العلم والعلماء فصل في رواية الحديث29460 (مسند الصديق رضى الله عنه), وأضواء على السنة المحمدية للشيخ محمود أبو ريه ص:46 و53 و404 المطبعة: دار الكتاب الإسلامي.


الصفحة 238

قلت: ونحن لا نعترض على من قال حسبنا كتاب الله, يريد التمسك بحبل الله المتين, والدعوى إلى التمسك بالكتاب المجيد لا يعني ترك السنة المحمدية, بل التمسك به هو رجوع إلى السنة, ولا يفهم الكتاب إلا بالسنة المبينة له, لأن الكتاب المجيد يأمرنا بالأخذ بالسنة وطاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتحذير من معصيته, وإنما اعتراضنا على من يرفع هذا الشعار (حسبنا كتاب الله) في مقابل السنة يزعم الاستغناء به عنها, ويحرق السنة وينهى عن التحدث بها ونشرها حتى ضاع الكثير منها منع تدوينها بقى هذا المنع ساريا إلى نهاية القرن الأول عند أمر عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة.

55- الرسول صلى الله عليه وآله يأمر بتعليم الفرائض

ألم ينهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته عن العمل بالظن, وقد روى البخاري قال: قال عقبة بن عامر: تعلموا قبل الظنيين يعني يتكلمون بالظن. وروى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا(1).

قال ابن حجر العسقلاني: وفيه إنذار بوقوع ما حصل من كثرة القائلين بالرأي. وقيل مراده قبل إندراس العلم وحدوث من يتكلم بمقتضى ظنه غير مستند إلى علم. قال ابن المنير: وإنما خص البخاري قول عقبة بالفرائض لأنها أدخل فيه من غيرها, لأن الفرائض الغالب عليها التعبد وانحسام وجوه الرأي والخوض فيها بالظن لا انضباط له... وقال الكرماني: يحتمل أن يقال لما كان في الحديث (وكونوا

____________

(1)صحيح البخاري ج:8 ص3 كتاب: الفرائص, باب: تعليم الفرائض.


الصفحة 239

عباد الله إخوانا ) يؤخذ منه تعلم الفرائض ليعلم الأخ الوارث من غيره, وقد ورد في الحث على تعلم الفرائض حديث ليس على شرط المصنف أخرج أحمد والترمذي والنسائي وصححه الحاكم من حديث ابن مسعود رفعه: (تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض , وإن العلم سيقبض حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما) ورواته موثقون... ونقل ابن حجر روايات أخرى عن أبي هريرة وابن مسعود بألفاظ مختلفة: (تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم), (تعلموا القرآن والفرائض وعلموها الناس, أوشك أن يأتي على الناس زمان يختصم الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما), (تعلموا الفرائض كما تعلمون القرآن), (تعلموا الفرائض فإنها من دينكم). وقال ابن حجر: وقد قال ابن عيينة إذا سئل عن ذلك: إنه يبتلى به كل الناس. وقال غيره لأن لهم حالتين حالة حياة وحالة موت والفرائض تتعلق بأحكام الموت, وقيل لأن الأحكام تتلقى من النصوص ومن القياس, والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم انتهى كلا الشارح بشيء من التلخيص(1).

فهل بعد هذه النصوص الملزمة للمسلمين بوجوب تعلم الفرائض, خاصة من يتصدى للقضاء بين الأمة في الفرائض بأن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم الخيرة الكرام من أصحابه رضي الله تعالى عنهم الفرائض, ولا علم ابنته سيدة النساء وأخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أقضاء وأفرض الِأمة بشهادة الكل؟؟!!

وهل يعقل أن يهمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) دون غيره, وكأن حكم ميراثه يخص جميع المسلمين دون أهل بيته عليهم السلام؟!

____________

(1)فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:12 ص 4 كتاب: الفرائض, باب: تعليم الفرائض.


الصفحة 240

إلا أن يقال: بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يريد أن يوقع الاختلاف والفرقة بين أمته الواحد, وهذا كفر لا يرتضيه من كان يؤمن بالله عز وجل وبعصمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الحريص على أمته, وقد عرفت من النصوص التي استعرضناها من صحاح السنة المحمدية بأنه لم يترك كبيرة ولا صغيرة من الأحكام والفرائض إلا وبينها وعلمها لأمته خاصة أهل بيته على رأسهم سيد العترة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذي حفظ القرآن وورث علم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم, فالجاهل من صحبه غير معذور البتة.

56- قضاء عمر في الفرائض بالرأي والظن

ثم ما هو عذر من يتصدى للقضاء وهو يجهل السنة وأحكام الفرائض, فيلتجئ إلى ظنه ورأيه لا يدري أصاب أم أخطأ , فيقع في مخالفة الشريعة المقدسة, وقد جاء في الأخبار الصحيحة عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشرك الأخوة من الأب والأم ومع الأخوة من الأم في الثلث, فقال له رجل: قضيت في هذا عام أول بغير هذا! قال: كيف قضيت؟ قال: جعلته للإخوة من الأم ولم تجعل للأخوة من الأب والأم شيئا , قال: تلك على ما قضينا وهذا على ما قضينا. وفي لفظ آخر: تلك على ما قضينا يومئذ, وهذه على ما قضينا اليوم(1).

وقال عبد الرحمن بن قدامة: وروي أن عمر حكم في المشركة بإسقاط الإخوة من الأبوين, ثم شرك بينهم بعد وقال: تلك على مقضينا وهذه على ما

____________

(1)المصنف ابن أبي شيبة الكوفي ج:7 ص334 كتاب: الأمراء ما ذكر من حديث الأمراء والدخول عليهم, والمصنف لعبد الرزاق الصنعاني ج:10 ص249 ح19005, والتاريخ الكبير للبخاري ج:2 ص331 ح2652, والسنن الكبرى للبيهقي ج:6 ص255 جماع أبواب: الجد, باب: المشرك, وميزان الاعتدال للذهبي ج:1 ص579 ح2199 وقال: هذا إسناد صالح, ولسان الميزان لابن حجر العسقلاني ج:2 ص338 ح1379 وقال: هذا إسناد صالح, وذكره ابن حبان في الثقات وصحح أبو حاتم أنه مسعود بن الحكم.


الصفحة 241

قضينا, وقضى في الجد بقضايا مختلفة, ولم يرد الأولى ولأنه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله, وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الحكم أصلا, لأن الحكم الثاني يخالف الذي قبله, والثالث يخالف الثاني فلا يثبت الحكم, فإن قيل: فقد روي أن شريحا حكم في ابني عم أحدهما أخ للأم أن المال للأخ فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال: علي بالعبد فجيء به فقال: في أي كتاب الله وجدت ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: (وألو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فقال له علي: قد قال الله تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) ونقض حكمه(1).

وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث): واختف العلماء في المسألة المشركة وهي زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين فعلى قول الجمهور: للزوج النصف وللام أو الجدة السدس ولولد الأم الثلث وشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو أخوة الأم وقد وقعت هذه المسألة في زمان أمير المؤمنين عمر فأعطى الزوج النصف والأم السدس وجعل الثلث لأولاد الأم فقال له أولاد الأبوين: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحد؟ فشرك بينهم وصح التشريك عن عثمان وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح القاضي ومسروق وطاووس ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز والثوري وشريك وهو مذهب مالك والشافعي وإسحاق بن راهويه.

وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم بل يجعل الثلث لأولاد الأم ولا شيء لأولاد الأبوين والحالة هذه لأنهم عصبة. وقال وكيع بن الجراح: لم يختلف

____________

(1)الشرح الكبير ج:11 ص414 كتاب: القضاء, حكم ما لو ادعى أن الشهود شهود زور.


الصفحة 242

عنه في ذلك وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وهو المشهور عن أبن عباس وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وزفر بن الهذيل والأمام أحمد ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد وأبي ثور وداود بن علي الظاهري واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي رحمه الله في كتابه الإيجاز(1).

قلت: سعيد بن المسيب وشريح القاضي ومسروق وطاووس ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز والثوري وشريك والشافعي وإسحاق بن راهويه هؤلاء اتبعوا رأي عمر بن الخطاب في هذه المسألة , وهو باطل لأن الإمام علي عليه السلام قد أبطله وبين أن ذلك مخالف للكتاب المجيد, فالحق معه يدور كيف دار, أما عمر عمل بالرأي والرأي في الفرائض مردود خاصة مع صريح النص , والفرائض لا تتلقى إلا من النصوص كما تقدم عن ابن حجر العسقلاني.

وقال السرخسي : وكذلك اختلفوا في العول وفي التشريك فقال كل واحد منهم فيه بالرأي, وبالرأي اعترضوا على قول عمر رضي الله عنه في عدم التشريك حين قالوا هب أن أبانا كان حمارا , حتى رجع عمر إلى التشريك(2)...

وروى عبد الله بن بهرام الدارمي بإسناده عن عاصم, عن الشعبي قال: إن أول جد ورث في الإسلام عمر فأخذ ماله, فأتاه علي وزيد فقالا: ليس لك ذلك إنما كنت كأحد الأخوين.

ورواه أيضا ابن أبي شيبة الكوفي بإسناده عن عبد الرحمن بن غنم قال: إن أول جد ورث في الإسلام عمر بن الخطاب, فأراد أن يحتار المال فقلت له: يا أمير المؤمنين ! إنهم شجرة دونك- يعني بني وبنيه قال أبو بكر: فهذه في قول عمر

____________

(1)تفسير القرآن العظيم ج:1 ص471 سورة النساء, تفسير آية الميراث.

(2)أصول السرخسي ج:2 ص132 فأما من طعن في السلف من نفاة القياس لاحتجاجهم بالرأي في الأحكام.


الصفحة 243

وعبد الله وزيد من ثلاثة أسهم, فللجد الثلث وما بقي فللأخوة, وفي قول علي من ستة أسهم: للجد السدس سهم وللأخوة خمسة أسهم(1).

وقد جعل عمر بن الخطاب رأيه مسرحا لكثير من القضايا التي حكم فيها لجهله بالسنة المحمدية وقد يضطر للرجوع إذا ألزمه مخبرا عما كان يجهله من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله سلم , فيقضي بها حينئذ لاحقا ويخالف ما قضاء به سابقا.

وروى عبد الرزاق الصنعاني بإسناده عن ابن طاووس عن أبيه قال: ذكر لعمر بن الخطاب قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك, فأرسل إلى زوج المرأتين, فأخبره أنما ضربت إحدى امرأتيه الأخرى بعمود البيت, فقتلتها وذا بطنها, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديتها وغرة في جنينها, فكبر عمر, وقال: إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.

وفي الرسالة للإمام الشافعي: فقد رجع عمر عما كان يقضي به لحديث الضحاك إلى أن خالف حكم نفسه وأخبر في الجنين أنه لو لم يسمع هذا لقضى فيه بغيره وقال إن كدنا أن نقضي في مثل هذا برأينا.

وفي لفظ بعض الأخبار: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا(2).

فالقضاء بالرأي في كل حال يؤول إلى مخالفة الكتاب والسنة وهذه النتيجة قد حصدها عمر بن الخطاب وغير ممن حكم في الشريعة برأيه.

____________

(1)سنن الدارمي ج:2 ص354()كتاب: الفرائض, باب: في قول عمر في الجد, والمصنف لابن أبي شيبة الكوفي ج:7 ص353 كتاب: الفرائض, إذا ترك إخوة وجدا واختلافهم فيه, وقد رواه أيضا عبد الرزاق الصنعناني في مصنفه ج:10 ص261 ح19041 باب: فرض الجد, والبيهقي في سننه ج:6 ص247 جامع أبواب الجد, باب: ميراث الجد, وابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري ج:12 ص17 كتاب: الفرائض باب: ميراث الجد مع الأب والأخوة.

(2)المصنف ج:10 ص 58 ح18342, الرسالة ص428 ح1176, ورواه الشافعي في كتاب المسند ص: 348 من كتاب: جراح الخطأ, والسنن الكبرى للبيهقي ج:8 ص114 جماع أبواب الديات فيما دون النفس, باب: دية الجنين, والفصول في الأصول للجصاص ج:3 ص 107 الباب: التاسع والأربعون في الكلام على قبول أخبار الآحاد في أمور الديانات.


الصفحة 244

قال الإمام الشافعي: قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يقول الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها فرجع إليه عمر.

وروى الإمام أحمد بإسناده عن الزهري عن سعيد أن عمر قال: الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أورث امرأة الضبابي من دية زوجها فرجع عمر عن قوله.

وأخرج أبو الحجاج يوسف المزي عن سعيد أن عمر قال: الدية للعاقلة, ولا ترث المرأة من دية زوجها, حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي, من دية زوجها, فرجع عمر عن قوله. وقال: أخروجه من حديث سفيان بن عيينة, فوقع لنا بدلا عاليا(1).

وقال الإمام الشافعي: وكان عمر يقضى أن في الإبهام خمس عشرة والوسطى والمسبحة عشرا عشرا وفى التي تلي الخنصر تسعا وفى الخنصر ستا حتى وجد كتاب عند آل عمرو بن حزم الذي كتبه له النبي صلى الله عليه وسلم (وفى كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل) فترك الناس قول عمر وصاروا إلى

____________

(1)كتاب الأم ج:6 ص 95 ميراث الدية, مسند أحمد ج:3 ص452 حديث الضحاك بن سفيان رضي الله تعالى عنه, تهذيب الكمال ج:12 ص261 ح2917 الضحاك بن سفيان الكلابي له صحبة كان واليا للنبي صلى الله عيه وسلم, وأنظر أيضا: ابن ماجة في سننه ج:2 ص883 ح2642 كتاب: الديات, باب: الميراث من الدية, وسنن أبي داود ج:2 ص12 ح2927 كتاب: الفرائض, باب: في المرأة ترث من دية زوجها, والسنن الكبرى للبيهقي ج:8 ص 57 جماع أبواب صفة قتل العمد وشبه العمد , باب : ميراث الدم والعقل , والمعجم الكبير للطبراني ج:8 ص300 الضحاك بن سفيان الكلابي, وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج:8 ص339 ذكر مثاني الأسماء ومفاريدها, خزرج بن علي بن العباس بن العمر, أبو طالب الصوفي, وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج:42 ص237 حر اللام فارغ حرف الميم, علي بن المسلم بن محمد بن علي أبو الحسن بن أبي الفضل السلمي الفقيه الشافعي الفرضي.


الصفحة 245

كتاب النبي ففعلوا في ترك أمر عمر لأمر النبي فعل عمر في فعل نفسه في أنه ترك فعل نفسه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك الذي أوجب الله عليه وعليهم وعلى جميع خلقه, قال الشافعي: وفي هذا دلالة على أن حاكمهم كان يحكم برأيه فيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة لم يعلمها ولم يعلمها أكثرهم(1).

قلت: ليس القصد استعراض كل ما أفتى به عمر بن الخطاب وقضاء فيه وناقض نفسه أو رجع بعد ما تبين له مخالفة النص, فالقضاء والفتوى في الشريعة عند أهل البيت عليهم السلام بدون علم لا تجوز مطلقا, لأن دين الله لا يأخذ بالرأي والقياس, فإذا أخذ بالرأي والقياس محق الذين كما جاء في أقول أئمة أهل البيت عليهم السلام, وقد انفتح هذا الباب الذي فتحه الخليفة الأول والثاني والثالث لقلة علمهم بالقرآن والسنة ما أدى إلى محق كثير من أحكام الشريعة, وتفشي الشبهات, والاختلاف, والتجري على سيرة ه وسنته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, حتى وصل الأمر عند الحكام والأمراء وغيرهم للتجري على مخالفة النص صراحة وهذا هو الكفر بعيه.

وقد روى الإمام مالك بإسناده عن عطاء بن يسار, أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزهنا. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل . فقال له معاوية: ما أرى بمثل هذا بأسا. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويخبرني عن رأيه. لا أساكنك بأرض أنت بها(2).

____________

(1)كتاب الأم ج:1 ص177 كتاب: الحيض, باب: الساعة التي تكره فيها الصلاة.

(2)الموطأ ج:2 ص634 كتاب: البيوع, باب: بيع الذهب بالفضة تبرا وعينا, والرسالة للإمام الشافعي ص:446 ح 1228, والسنن الكبرى للبيهقي ج:5 ص280 جماع أبواب الربا, باب: تحريم التفاضل في الجنس والواحد مما يجري فيه الربا مع تحريم النساء, المحصول للرازي ج:4 ص376 القسم: السابع, الباب: الثاني, القول: في الطرق الفاسدة.