والآية تستمر في بيان حال المسلمين بعد سماعهم لشايعة موت الرسول (صلى الله عليه وآله) فاذا هم قد همّوا بالفرار والرسول يناديهم يقول: إلىّ عباد الله ارجعوا أنا رسول الله الي اين تفرون عن الله وعن رسوله، مَن يكر فله الجنة. ثم تبين صفة هؤلاء الذين {يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، وهو الاعتقاد بأن الله لا قدرة له وأن يد الله مغلولة ولابد من الاستعانة باللات والعزى وهبل فهذا هو اعتقاد الجاهلية.
{قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ} وهو مالك كل شيء.
فيتضح أن الله قد وبّخ المسلمين في ثلاثة مواضع:
1 ـ عصيان الرماة لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) وتركهم لمواقعهم.
2 ـ الفرار عندما أُشيع موت الرسول (صلى الله عليه وآله).
3 ـ ظن البعض بالله ظن الجاهلية ونسبة العجز إليه جلّ عن ذلك وعلى علواً كبيراً.
9 ـ ثم يتعرض الحق تعالى لما يقولون {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ مَا قُتِلْنَا هاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
وهذا التصريح بأنهم في ساعة الهزيمة كرروا قولهم أن لو كنا في المدينة لكنّا أمنع وأحصن متناسين تقدير الله وقضاءه الذي لا راد له حتى لو كان في أمنع الحصون فهذا ذم لهم على تفكيرهم، وسوف يرد ذم آخر لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الارْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللّهُ
فتبين خطأ هذا التفكير وأن سبب الهزيمة ليس هو الخروج من المدينة بل العصيان، والموت والأجل أمر محتوم وقضاء الله.
وبعد هذا التوبيخ تبين الآيات مصير المجاهدين والمستشهدين هو الجنة والقرب الالهي، ثم في هذا السياق تردآية وشاورهم في الامر في سياق بيان صفات النبي التي تحلى بها من حسن الخلق ولين الجانب.
10 ـ تعود الآيات للتذكير بين واقعة أحد وواقعة بدر.
{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعْدِهِ وَعَلى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ} حيث نسب البعض الى النبي هذه الخيانة في المغنم {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَط مِنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
{أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} وذلك في غزوة بدر حيث انكم قد اصبتم الكفار بعض ما اصابوكم الان {قُلْتُمْ أَنَّى هذَا} اي من أين هذا اصابنا وظننتم بالله ظن الجاهلية {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} اي بسبب فعلكم وعصيانكم {إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ}.
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلاِْيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ...}
ثم تبين الآيات صفات المؤمنين من الثبات ورباطة الجأش وعدم الخوف ثم
فالفئة المؤمنة هي التي رجعت مع الرسول الأكرم، وعندما جاء النداء مرة اخرى بأمر الله لرسوله بالخروج في أثر القوم وأن لا يخرج معه إلا من به جراحة، فنادى مناد: يامعشر المهاجرين والانصار مَن كانت به جراحة فليخرج به ومن لم يكن به جراحة فليقم فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداونها، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح. فلمّا بلغ الرسول (صلى الله عليه وآله) حمراء الاسد، وقريش قد نزلت الروحاء قال عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع ونغير على المدينة قد قتلنا سراتهم وكبشهم يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال: نزل محمد وأصحابه في حمراء الاسد يطلبونكم جد الطلب. فرجعوا الى مكة وسميت بغزوة بدر الصغرى.
وهذا الاستعراض الطويل للآيات الكريمة 121 ـ 174 خير شاهد على ما جرى ودار في هذه الغزوة التي تدل على حنكة الرسول الاكرم في استخبار نيات القوم ومعرفة المنافقين وما يسعون اليه من تثبيط عزيمة المسلمين، كما اتضح من ذلك أن الخروج كان هو الحل الأمثل وان المنافقين ارادوا الايقاع بالمسلمين من خلال البقاء في المدينة والتكاسل عن الخروج والجهاد في سبيل الله.
وأخيراً نشير إلى رواية أن الرسول قال بعد نزول الآية: أما أن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، من استشارهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يُعدم غياً"(1).
ثانياً: غزوة الخندق فقد استدل بها على الشورى والزاميتها في موطنين، الاول:
____________
1- الشورى بين النظرية والتطبيق 27 ـ 30.
الثاني: في مداولاته مع عيينة بن حصين والحارث بن عوف لاستجلابهما ومساومتهما على تمر المدينة ورفض سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ذلك. ونزوله عند رأيهما.
والجواب: أنه بعيد عما يدعونه من ولاية الشورى بل أن الرسول الاكرم انما اراد مساومة بني غطفان من أجل التخفيف عن أهل المدينة وازالة الحصار شأنه شأن أي قائد يريد فك الحصار عن قومه، ولكنه عندما رأى عزيمة وثبات الاوس والخزرج لم يجد أي داعي الى مثل هذه المساومة فالموضوع قد تبدل والامر بعيد عن ولاية الشورى.
الوجه السابع:
انه توجد حوادث تاريخية تثبت ان الرسول (صلى الله عليه وآله) استشار اصحابه ولم يتبع رأي الاكثرية كما في:
ـ صلح الحديبية حيث تنقل كتب السير ان كثيراً من المسلمين كانوا على خلاف الصلح بينما أصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الصلح مع تعنت الكفار ورفضهم ذكر اسم الله تعالى في بداية الصلح واصرارهم على كتابة اسم النبي مع ابيه دون عبارة (رسول الله) ومع ذلك كان يرى ان في الصلح خير المسلمين، مع ان الصلح لم يكن أمراً سماوياً
ـ تأمير زيد بن حارثة في وقعة مؤتة ويدل عليها ما ذكره الرسول الاكرم عند تأمير اسامة حيث خالفه عدد من المسلمين فقال (صلى الله عليه وآله) " ما تلوموني في تأمير اسامة إلا كما لمتموني في تأمير أبيه زيد.
ففيه اشارة الى مخالفة عدد منهم لتأمير زيد وابنه اسامة فهذا يُظهر أنه (صلى الله عليه وآله) لا يرى نفسه ملزماً بالشورى.
الوجه الثامن:
ان آية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مكية كما ينص عليه المفسرون ومن المعلوم انه لم تكن للمسلمين في مكة دولة أو شأناً عاماً بالمعنى الذي يحتاج فيه الى اعتماد الشورى كتنظيم يستند عليه المسلمون، فاستفادة كون الولاية للشورى مع عدم وجود مورد لها في ذلك الوقت أمر بعيد عن الصواب، خصوصاً اذا لاحظناأن الآية تعدد الصفات الفعلية للمسلمين فهذا يدل على أن هذه الصفة فعليه أيضاً، مضافاً الى أن حاكمية الرسول (صلى الله عليه وآله) في ذلك الوقت بجعل الهي وليست نابعة من تولية المسلمين له وهذا أمر لم يختلف فيه أحد فهذه الامور تدلل على أن المراد من الشورى هو نفس المفاد اللغوي، وهو المداولة الفكرية وأن من صفات المؤمن الاستفادة من خبرات الاخرين وعدم الاستبداد برأيه ولو كان في مسألة خاصة.
وما يذهب اليه البعض في الاستدلال بهذه الآية على أحد صياغات نظرية الشورى مجانبة عن الحق.
الوجه التاسع:
مضمون ما ذكره الشهيد الصدر وحاصله:
ان نظرية الشورى بالمصطلح المزعوم تعبر عن نظام حديث في تولي السلطة السياسية في المجتمع وهو سلطة الجماعة، وهو نظام نشأ في القرنين 19 و20 الميلادي وكان المجتمع الغربي مهد هذا النظام ومازال حتى الان يتطور بين آونة واخرى وتتعدد صياغاته. ويبقى منه الاطار العام فقط وهو أن الجماعة تحكم نفسها بنفسها أما كيفية هذا الحكم وكيف يتم تداول السلطة وكيف يتم التشريع؟ واسئلة كثيرة اختلف الجواب فيها.
وقد تصل أشكال النظم التي تطبق هذا المبدأ الى ما يزيد على سبعة اشكال تتمركز فى دول العالم الجديد أوروبا وامريكا. وما تعدد هذه الاشكال الا دليل على ما يعثر عليه العقل البشري من سلبيات وثغرات اثناء التطبيق.
وبناء عليه فانه عند نزول القرآن لم يأنس المجتمع المكي بل لم يعرف مثل هذا النظام على العكس كان النظام السائد هو النظام الفردي حيث نجد أن القبيلة هي المجتمع الخاص، وسلطة رئيس القبيلة هي المطلقة ومن غير المعقول أن يقوم الاسلام بتشريع نظام يخالف فيه تماماً النظام السائد آنذاك ولا يبين فيه سوى آية أو آيتين تثبتان الإطار العام بل تثبت العنوان فقط، اما المعنون والطريقة والكيفية فلا نرى لها اثر لا في القرآن ولا في السنة، فيُعلم من ذلك بل يجزم بأن ما ورد في الآيتين الكريمتين لم يكن طرحاً لنظام جديد، وانما أرادت الآيتين أن ترشد الانسان المؤمن الى طريق جديدة في التوطئة ومقدمات التصميم والحزم ويقع في حيز المداولة الفكرية واستجماع المعلومات.
وقد حاول البعض الاجابة من هذا الامر:
ان الدين الاسلامي حينما يصوغ قاعدة فانه يؤطرها بعنوانها العام تاركاً
ولكن هذه الاجابة مدفوعة من جهة أن هذه القاعدة التي ذكرها وان كانت مقبولة في بعض القواعد إلا ان الشارع لم يكتف فيها أيضاً بذكر العنوان فقط، بل كان يجعل أسساً وضوابط خاصة تمثل الإطار العام للقاعدة التي يريد تطبيقها، أما ان يكتفي بذكر العنوان فقط فهذا مما لا نظير له في الفقه الاسلامي بل لا نظير له في القانون الوضعي. لا سيما في مثل هذه المسألة الخطيرة التي هي دعامة كل المجتمع والأفراد.
وما نحن بازائه في مسألة الشورى بالمعنى المصطلح المزعوم من هذا القبيل بل ان القول بأن الشارع قد جعل نظرية الشورى يعني ان الشارع مع حكمته قد جعل المجتمع يتخبط في عالم من العشوائية لا تتناسب مع بدء نشأته للدولة الاسلامية التي يريد لها البقاء حتى قيام الساعة.
فمن البعيد عن الانصاف القول ان الشارع يترك تابعيه من دون تأهيل ومن دون أن يعبّد لهم طريق آخر للسلطة والقيادة وذلك من خلال نظرية النص لكن لا بالمعنى المألوف من رئاسة المجتمع القبلي الاستبدادي بل من خلال التنصيص على الفرد الاكمل على الاطلاق والاشبه بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو حكم فردي يقوم على اساس اشراك الناس في مهمات الامور من دون ان يكون لهم السلطة والولاية بل الرقابة والمتابعة.
الوجه العاشر:
من الادلة التاريخية الثابتة والتي تدلل على عدم دلالة الايتين على ولاية
فما جرى في سقيفة بني ساعدة واحتجاج ابي بكر بالقرابة من النبي الاكرم، فإن هذه الجهة تعتمد على أُسس قبلية جاهلية أزالها الإسلام وحاربها إلا أنّهم أعادوا استخدامها خصوصاً اذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كان قد استعد له تكتّل السقيفة من حشد القبائل المحيطة بالمدينة وايجاد جو من الارهاب بحيث لا يمكن أنْ يجابههم احد.
وهكذا طريقة انتخاب الثاني فإنها كانت بتعيين الاول، أما الآن بعد ما وقع ما جرى فترتفع اصوات لتأول فعله بأنه قد استشار الامة وأنها أوكلته في الاختيار بدليل البيعة التي لا تدل على الشورى المصطلحة بأي نحو كما سوف نشير فيما بعد الى مدى دلالة البيعة فضلاً عن البيعة التي كانت تؤخذ فرضاً ورهبةً ولا يحق لأحد الاعتراض فأين هى الأكثرية وأين هي سلطة وولاية الشورى.
فمن الجهل ان نعتبر المنحى القبلي البدائي الذي ساد هذه الخلافات هو تنظير لنظام عصري وهو نظام سلطة الجماعة.
الوجه الحادي عشر:
مع التنزل عن جميع الاشكالات والوجوه السابقة المقتضية لأجنبية دلالة الآيتين عن ولاية الشورى، فإنها سوف تقع في طرف المعارضة مع ايات كثيرة تبين أن الولاية فى الأصل لله عزوجل ثم للرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) ومن بعده لطائفة خاصة من الأمة وهم أولوا الأمر الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وهي آيات كثيرة تامة الدلالة. فهذا إما أن نعتبره تخصيص (لأمرهم) اي ان الولاية والقضاء والتشريع ليس من شؤون المسلمين التي تخضع للشورى بالمعنى المزعوم. أو نقول بتقديم الطائفة الاخرى على آيتي الشورى.
1 ـ أن ما يظهر من كلام الامام مؤيداً به للشورى ومعتبراً أن سلطة الجماعة هو ما أسسه الاسلام في الفقه السياسي هو من باب التنزل والجدل مع الخصم والزامه بما التزم به من نظرية الشورى، حيث إن الامام في كل هذه الموارد كان يواجه من يتشبث بالشورى فهو (عليه السلام) يبين أحقيته حتى على مذهب الشورى.
2 ـ أن المستدل يأخذ بقسم خاص وقليل من كلام الامام (عليه السلام) بينما نجده يترك القسم الاوفر من كلامه (عليه السلام) الذي يبين أحقيته بموجب النص القاطع. ففي كثير من خطبه يبدأ (عليه السلام) ببيان أحقيته ووجود النص على امامته ثم يتعرض بعد ذلك لاثبات أحقيته على فرض التنزل وغض النظر عن النص، فنلاحظ المستدل يقتطع جزءاً من كلامه ويأخذ بالذيل تاركاً الصدر.
فمع قطع النظر عن هذا التقطيع الذي يؤدي بدلالة السياق نلاحظ انه يجب اعمال المعارضة بين كلا الطائفتين التي تنسب اليه الاستدلال بالشورى والتي يتمسك بها بدلالة النص. لكن المستدل حتى هذه المعارضة نجده يغفل عنها مع كثرتها وان الامام ما كان يترك أي فرصة الا ويبين فيها ذلك.
3 ـ من الثابت تاريخياً والذي لا مجال لإنكاره أن الإمام (عليه السلام) امتنع عن البيعة لأبي بكر حتى وفاة الصديقة الزهراء، وانه لم يبايع إلا مكرهاً، وهذا يدل على أنه ل يقبل شورى بني ساعدة كأساس لانتخاب الخليفة، فكيف يُسند إليه القول بظرية الشورى مع هذه المخالفة الشديدة.
ومن المصادر التي ذكرت عدم بيعة الإمام للأول:
ـ مسلم في صحيحه كتاب الجهاد باب: 1: 72 / 5: 153، الاستيعاب وأسد
ـ فى الخطبة(2): "هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وجبال دينه بهم اقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائص دينه.." ثم يصف آخرين اعداء آل محمد.. "رزعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور لا يقاس بآل محمد من هذه الامة أحد، ولا يُسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه ابداً، هم اساس الدين وعماد اليقين إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة الآن اذا رجع الحق الى أهله ونقل الى متنقله".
وهذه الخطبة كانت اثناء انصرافه من صفين ففيها تصريح أن الحق كان مغتصباً والان قد عاد الى أهله، فهو تنديد بما كان قد جرى سابقاً مما يسمى بالشورى.
ـ وفي الشقشقية: "فيالله وللشورى" فاذا كان هذا تعبيره عن الشورى بالمعنى المصطلح المزعوم وتقريعه لها فكيف يكون قد أقر بالشورى. فالشورى في نظر الامام (عليه السلام) استصواب الرأي في الامر المجهول الحال. "ومتى اعترض الريب فيّ مع الاول منهم حتى صرت أُقرن الى هذه النظائر". اما اذا كان الامر بيّن ومعالمه واضحة لا غبار عليها فلا حاجة الى استصواب الرأي وما بعد الحق الا الضلال.
ـ وفي خطبته (عليه السلام): "بنا اهتديتم في الظلماء وتسنمتم ذروة العلياء، وبنا أفجرتم عن السرار.." (خطبة 4).
فبأي مناسبة يتعرض (عليه السلام) لحقه وحقوقه آله المغصوبة.
ـ خطبة 87: "فأين تذهبون وأنى تؤفكون والاعلام قائمة والايات واضحة والمنار منصوبة فأين يتاه بكم وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمّة الحق. وهم أعلام
ألم أعمل فيكم بالثقل الاكبر وأنزل فيكم الثقل الاصغر (اشارة الى حديث الثقلين) قد ركزت فيكم راية الايمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام.
انظروا اهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا اثرهم فلن يخرجوكم عن هدى ولن يعيدوكم في ردى فإن بعدوا فابعدوا وان نهضوا فانهضوا ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا لقد رأيت أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) فما أرى أحد يشبهه منكم".
ـ خطبة 100: "ألا ان مثل أل محمد (صلى الله عليه وآله) كمثل نجوم السماء اذا هوى نجم طلع نجم فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصناع واراكم ما كنتم تأملون".
ـ خطبة 74 حينما عزموا البيعة لعثمان: "لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة".
ـ خطبة 109: "نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكمة، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة".
فهنا يظهر الامام وجود صنفان في المجتمع الاسلامي وهذان تياران ليسا من جهة الدين فقط، بل تياران سياسياً ودينياً.
ـ خطبة 152: في بيان صفات الله جل جلاله وصفات أئمة الدين:
"قد طلع طالع ولمع لامع وراح رائح واعتدل مائل واستبدل الله بقوم قوماً وانتظرنا الغير انتظار المجدب، وأن الائمة قوام الله على خلقه وعرفائه على عباده ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه. وهذا معنى: من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية".
ـ الخطبة 154: في فضائل أهل البيت (عليهم السلام):
"فيهم كرائم القرأن وهم كنوز الرحمن ان نطقوا صدقوا وإن سكتوا لم يسبقوا، فليصدق رائد أهله وليحضر عقله وليكن من ابناء الآخرة فإن منها قِدم واليها ينقلب".
ففيها دلالة على العصمة وهي محصورة بهم.
فهل يوجد اصرح من هذا البيان على أحقيته ورفضه للشورى وما يسمى بسلطة الجماعة.
خطبة 178: "أيها الناس ان الدنيا تغر المؤمّل لها والمخلد لها ولا تَنْفَسُ من نافس فيها، وتغلب من غلب عليها وأيم الله ما كان قوم قط في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم الا بذنوب اجترحوها وإني لاخشى عليكم ان تكون في فترة (والفترة في الاصطلاح المدة الفاصلة بين رسول ورسول بعده) وقد كانت أمور مضت مِلتم فيها ميلة كنتم فيها عندي غير محمودين ولان رُدّ عليكم أمركم انكم سعداء وما علي إلا الجهد ولو أشاء أن اقول لقُلت عفى الله عما سلف".
وانظر ايضاً الى كتاب (62) لأهل مصر مع مالك الاشتر وكتاب (28) الى معاوية. وفيه يقول: "فاسلامنا قد سمع وجاهليتنا لا ترفع وكتاب الله يجمع لنا وما شذ عنا وهو قوله تعالى: {وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ} ".
وما ورد في كتاب سليم بن قيس ص 182 فى جواب كتاب معاوية حيث طلب منه قتلة عثمان ليقتلهم قال لمن حمل كتاب معاوية: "ان عثمان بن عفان لا يعدوا أن يكون أحد رجلين اما هو امام هدى حرام الدم. وواجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه أو امام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولا نصرته فلا يخلو من احدى خصلتين والواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم أو
فهذه تدل على أن حجاجه بالشورى حجاج تنزيلي وان الشورى يجب أن تكون على ميزان، والميزان هو الضوابط العقلية والشرعية وليست سلطة الجماعة وأهواء الكثرة وانما تكون وظيفة الامة في اكتشاف وجود هذه الصفات والضوابط في المختار فليست الولاية والسلطة للشورى بل هي استكشاف.
ففي هذه الرواية يبين الامام أن البيعة على نحوين بيعة هدى وبيعة ضلال، فالبيعة اذا كانت على الموازين وكان الامام واجداً للشرائط فتكون بيعة هدى أما اذا كانت على خلاف الضوابط فانما تكون بيعة ضلال. ونلاحظ أن البعض اقتطع من هذه الرواية جزءاً استدل به على الشورى تاركاً بقية الرواية التي توضح تمام موقف
ومما استدل به في المقام ما ورد في شرح النهج للمعتزلي ج 7 / 41 ان طلحة والزبير قالا للامام (عليه السلام): اعطيناك بيعتنا على ألا تقضي الامور ولا تقطعها دوننا وان تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا. فقال (عليه السلام): "ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما".
وقد استدل بها أيضاً على أن الشورى مشروعة في منطقة الفراغ التشريعي حسبما يزعم من وجود ذلك الفراغ ـ.
وهذا الاستدلال ممنوع ـ بيان ذلك:
1 ـ أن لو تقيد الامتناع للامتناع اي امتناع الجواب لامتناع الشرط فالعبارة تقيد أن مشاورتكما قد انتفت لامتناع خلو الواقعة من حكم في كتاب الله والسنة والذي اوقع هذين الشخصين في هذه الملابسة هو ان الخلفاء السابقين على الامام كانوا يستشيرون بعض الصحابة في بعض الأحكام وفي كيفية اعمال المرجحات، أما الإمام فلم يقم بهذا العمل، والسر في ذلك ان الاعتقاد الحق هو انه ما من شيء يقربكم الى الله إلا وقد امرتكم به، وما من شيء يبعدكم عند الله إلا وقد نهيتكم عنه، فالقاعدة ان لا تخلو واقعة من حكم لله إلا أن هذا الحكم قد يخفى على العقول القاصرة غير المطلعة، أما من له احاطة بأحكام الله وسنة نبيه ومن عايش النبي في حلّه وترحاله لا يخفى عليه حكم حتى يحتاج فيه الى مشاورة البعض، نعم قد يكون للمشورة مجال في باب تطبيق الاحكام الكلية على مصاديقها واختيار أفضل الأساليب في كيفية تطبيق الحكم الموجود إلا ان هذا بعيد عن مرام القائل اذ لا تكون الشورى منشئة للحكم حينئذ.
ومما ذكره (عليه السلام) فيه تعريض لمن كان قبله حيث كثر جهلهم بالاحكام الشرعية وليست المسألة بالنسبة اليه (عليه السلام) من باب الاستبداد في شيء.
ـ ومما استدل به قوله (عليه السلام): "اذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحائكم وأموركم شورى بينكم فظهر الارض خير لكم من بطنها".
الظاهر ان هذا النص مقتطع من جواب الامام (عليه السلام) المتقدم لكتاب معاوية، وقد قام الشريف الرضي بتقطيع بعض النصوص لمناسبتها لأبواب مختلفة.
مضافاً الى أنه ذكر عنوانين امراؤكم خياركم وأموركم شورى بينكم فمورد الأمراء غير مورد الشورى وهما من واديان يختلف احدهما عن الاخر، وفي هذه العبارة ايضاً يرد البحث الذي ذكرناه في {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وان الاضافة لا تعني أن لهم الولاية والسلطة في كل شيء بل ما يضاف اليهم فقد يكون في بعض الصور لا تكون لهم القابلية في البحث في هذا الأمر وهو خارج عن اختصاص الامة، كما يرد فيها نفس البحث في لفظ الشورى وقد ذكرنا انها ندب وارشاد الى صياغة فكرية في كيفية الاسترشاد في الامور المختلفة واستصوابها.
ـ ومما استدل به ما ورد في عيون أخبار الرضا عن الرضا (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله): من جاء يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الامة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه فان الله قد أذن بذلك:
وهذا الحديث لا يدل على مرادهم أيضاً، وذلك لأنه مهما كانت النظرية
ـ ومما استدل به على الشورى ما ورد عن الصادق (عليه السلام): "من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه" "من فارق جماعة المسلمين ونكث صفقة الامام جاء الى الله تعالى اجذم" اصول الكافي 1 / 405.
وما ورد في النهج خطبة 127 "والزموا السواد الاعظم فإن يد الله على الجماعة واياكم والفرقة فان الشاذ من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب".
وهذه الروايات يتضح المقصود منها اذا عرفنا المقصود من الجماعة.
ففي رواية عن ابي عبدالله (عليه السلام): سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جماعة امته؟ فقال: جماعة امتي أصل الحق وإن قلّوا.
وفي اخرى قيل: يارسول الله (صلى الله عليه وآله) ما جماعة امتك؟ قال: من كان على الحق وإن كانوا عشرة.
وفي رواية عن الامام علي (عليه السلام): الجماعة أهل الحق وان كانوا قليلاً والفرقة أهل الباطل وان كانوا كثيرا.