الصفحة 174
وعن الرسول (صلى الله عليه وآله): ان القليل من المؤمنين كثير(1). وهذه الروايات واضحة الدلالة في كون المدار هو على الصواب والسداد للأمر بحسب الواقع وعدم القيمة الموضوعية للكثرة بذاتها.

ـ ومما استدل به أيضاً الروايات الكثيرة الواردة في فضائل الاستشارة والحث عليها في كتاب الوسائل في كتاب الحج في أبواب أحكام العشرة باب 21 ـ 26 ويُلاحظ على الاستدلال:

أ ـ انها واردة بعموم يشمل الامور الفردية الشخصية التي ليس لها بُعد اجتماعي حيث لا توجد سلطة للجماعة على الفرد، فيجب ان يكون معناها الوحداني العام هو الاراءة نحو: "من لا يستشر ندم" "من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها" "ولا ظهير كالمشاورة" "خاطر بنفسه من استغنى برأيه" فحينئذ الاستشارة هي اصابة الواقع والوصول الى نتيجة صائبة، وليس فيها جهة تحكيم سلطة الجماعة أو إرادة خارج إرادة الفرد، بل هي تمد جهة التفكير الانساني بالاراء الاخرى فتمكنه من استكشاف اصوب الاراء.

ب ـ ان الروايات المذكورة تورد صفات في المستشار من الورع والعقل و"ان مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا" وانها تارة تكون نافعة وتارة ضارة، واذا كانت بمعنى سلطة الجماعة فأي معنى للضرر والنفع، فالحق أنها نمط من التفكير، وفي بعض الروايات يشترط ان يكون المستشار حراً متديناً.

فلا ارتباط بين هذه الشرائط مع الحقوق العامة وانما تريد الروايات بيان مَن له اهلية الاستضاءة بخبراته وتجاربه، وان يكون رأيه الذي يدلي به خالصاً ومحضاً عن النزعات الاخرى. ولذا ورد "من استشار اخاه فلم ينعمه محض الرأي سلب الله

____________

1- بحار الانوار: 2: 265 ح 21، 22، 23، 26.


الصفحة 175
عزوجل رأيه".

ـ ومما استدل به ايضاً: "اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا احدهم".. ونحوها مما ورد في مصادر غير الإمامية كسنن أبي داود 2: 34.

وهذه الروايات لم يقل فقهاؤكم فيها بالوجوب، بل قالوا: انها من باب الندب فينظر الى ارجح القوم عقلاً فيؤمره ويستهدي برأيه، وفي كتاب الوثائق السياسية ص 120 في معاهدته مع أهل مصر "وان ليس عليكم امير إلا من انفسكم او من اهل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ".

وواضح منها ان الرسول قد خوّلهم في ذلك الظرف الزماني والجغرافي المكاني على أن يكون الأمر بيدهم في اتخاذ امير عليهم، ومفاده يدلل على أن الامر لا يكون بيدهم ابتداءً بل بتخويل من الرسول.

ويلاحظ في هذه الطوائف أنها وردت بصيغ الاستشارة الاستفعال والمشورة مفعلة والشورى فعلى وهي كلها بمعنى واحد لاتحاد المادة. وفي نهاية هذه الروايات نذكر روايات صحيحة تؤكد ما ذكرناه من معنى الاستشارة:

1 ـ صحيحة معمر بن خلاّد قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) يقال له سعد، فقال: أشر علىّ برجل له فضل وأمانة، فقلت: انا أشير عليك؟ فقال ـ شبه المغضب ـ: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد.

2 ـ صحيحة الفضيل بن يسار قال: استشارني ابوعبدالله (عليه السلام) في أمر فقلت: اصلحك الله مثلي يشير على مثلك؟ قال: نعم اذا استشرتك.

3 ـ في موثقة الحسن بن جهم قال: كنا عند ابي الحسن الرضا (عليه السلام) فذكر أباه (عليه السلام) فقال: ان عقله لا توازن به العقول وربما شاور الاسود من سودانه فقيل له تشاور مثل هذا؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه. قال: فكانوا ربما أشاروا عليه بالشيء فيعمل به من الضيعة والبستان.


الصفحة 176
4 ـ وفي النهج ان الامام (عليه السلام) قال لابن عباس وقد اشار عليه في شيء لم يوافق رأيه: عليك ان تشير عليّ فإذا خالفتك فاطعني(1).

فالخلاصة التي نخرج بها من هذه الروايات الكثيرة هي أن المراد من الاستشارة والشورى والمشورة، هو المداولة الفكرية للوصول الى نتيجة أكثر دقة واقرب الى الصواب لا ان للمستشار سلطة وولاية على المستشير.

ونختم الكلام حول هذه الطائفة بالحديث حول قوله تعالى:

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} فالآية تتناول قضية مهمة وتعالج وظيفة من الوظائف التي تهم المجتمع وهي وظيفة القضاء، وهي من الوظائف المشتركة بين افراد المجتمع حاكماً ومحكوماً فيجب أن يشترك الجميع في تطبيقها والعمل بها ولا ينفع الالتزام من طرف واحد.

وببيان آخر نشير إلى ان الوظائف والتكاليف سواء الاجتماعية او العبادية على نحوين: أحدهما ما يقوم به فرد واحد كما في الصلوات والعبادات المختلفة. والنحو الثاني: الوظائف المشتركة كما في صلاة الجمعة حيث لا يكفي وجود الامام العادل لاقامتها بل يجب أن يتواجد افراد المجتمع لاقامتها، ويقع على عاتق كل طرف منهم قسم من اداء هذه الوظيفة المهمة السياسية العبادية، وهكذا الجهاد فهو وظيفة مشتركة بين الافراد والقائد، وهكذا في كثير من الوظائف التي تهم الاجتماع فلابد من اجتماع واتحاد ارادات في الأطراف المختلفة لأداء هذه الوظيفة والقيام بالتكليف المراد. والقضاء الوارد في الآية الكريمة من هذا القبيل فإن الرسول الاكرم هو المنصوب من قبل الله قاضياً وحاكماً فيما شجر بين المسلمين،

____________

1- وسائل الشيعة: باب 24 من ابواب احكام العشرة من كتاب الحج، الحديث: 1 و2 و3 و4.


الصفحة 177
لكن التحقق الخارجي لهذه القضية لا يكون إلا اذا التزم المسلمون بذلك وهي وظيفتهم إذ عليهم واجب الرجوع الى الرسول فيما شجر بينهم وعليهم الالتزام بما يحكم به، وهذا لا يعني أن رجوعهم اليه تنصيب منهم له (صلى الله عليه وآله) ولا انه الذي اعطاه صلاحية القضاء، بل التنصيب وصلاحية القضاء هي من عند الله عزوجل وهذا مما اتفق عليه كل المسلمين فليس المراد من (يحكموك) هو انشاء منصب الحكومة لك، بل يعني اقدارك خارجاً تكويناً ومعاونتك على تنفيذ قضاءك وفصلك للخصومات بينهم.

ونفس المعنى الوارد في الآية الكريمة يذكر في مسألة الشورى وألسنة بعض الروايات التي وردت بها صيغة: "ولاّني المسلمون الامر بعده" "فانّ ولّوك في عافية..." "ان تولوها علياً". فهو لا يعني انشاء الامة للولاية وتنصيبهم للوالي بل هي في صدد وجود واجب وتكليف استغراقي على كل أفراد المجتمع بالرجوع لمن نصبه الله عليهم والياً وحاكماً، فالانصياع لاحكامه والانقياد لأوامره وظيفة افراد المجتمع، فكل من الطرفين يتحمل عبئاً من المسؤولية وشطراً منها.

ومن هنا يمكننا ان نعود لاية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فنضيف اشكالاً مهماً الى الاشكالات السابقة وهو أن الامر المهم المسند الى المجموع يختلف تحديده ونمطه حسب نوعه وماهيته، فاذا كان الأمر يشمل مسألة الولاية والحاكمية فذلك بمفرده لا يدل على سلطة الأمة في امر الولاية بل يبقى السؤال والاجمال أنه ما هو طبيعة الامر المهم المسند اليهم وما هي وظيفتهم اتجاهه هل بنحو الفاعلية والاصدار والتنصيب أم بنحو القابلية والمتابعة والإعانة كأيدي وسواعد للوالي المنصوب من الشريعة المقدسة، أو ان الاية مهملة من هذه الجهة؟!

والمعهود في الشرايع السماوية كون دور المجتمع هو القبول والانصياع وقد جاءهم التأنيب على التقصير فى ذلك {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ

الصفحة 178
اسْتَكْبَرْتُمْ}.

فتقاعسهم عن اقامة صرح الهداية واستكبارهم عن متابعة الرسول سبب توجيه هذا الذم والتوبيخ للمجتمع.

وهذا هو طبيعة كل فعل مشترك بحيث يكون صدوره من طرف على نحو الفاعلية ومن طرف آخر على نحو القبول والانصياع. ومن هنا عندما يخاطب بعض الأئمة (عليهم السلام) الناس بأنكم وليتمونا فهو صحيح من الجهة والحيثية التي ذكرناها وهي انكم عملتم بوظيفتكم التي أوجبها الله عليكم وهي الرجوع الينا، والامام علي (عليه السلام) في رواية سليم بن قيس يذكر كلا الطريقين ان كانت الخيرة للامة وان كانت الخيرة لله. وأنه الحق فالامة قد عملت بوظيفتها من الايتمام وإعانة وتمكين وليّ وخليفة الله.

فهذان خطان متقابلان أحدهما يسند الامر للأمة على نحو يكون لها الولاية وهو ما رفضناه منذ بداية البحث والاخر أن الامر بيد الله يجعله حيث يشاء وعلى الامة تطبيق ذلك خارجاً بنحو القبول والانصياع لأوامر من نصبه الله. وتمكينه من نفوذ قدرته التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وعلى ضوء ذلك اذا فسرنا (امرهم) بهذا النحو يكون كيفية تقبل هذا الامر وكيفية القيام بهذه الوظيفة المهمة تكون بالتداول والتشاور، والانصياع والمتابعة للقائد المنصوب ويجب أن يكون برضاهم.

وقد ورد عن الصادق (عليه السلام): ان الأئمة أهل العدل الذين امر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله(1).

وبهذا يتضح تمام المراد من آيات وروايات الشورى.

____________

1- دعائم الاسلام: 2: 527، الارشاد ص 185.


الصفحة 179
وقد ذكرت بعض الاشكالات:

1 ـ انه لو كان المراد من الشورى هو المداولة الفكرية فقط من دون لزوم اتباعهم فان عقد الاستشارة في الامور المهمة سوف يؤدي أوّلاً الى عدم تفاعل المستشارين في ابداء الرأي. وثانياً سوف يخلق مشكلة اجتماعية حيث تتعدد الاراء ولن يكون هناك حسم لهذا الامر المهم، بخلاف ما اذا قلنا بولاية الشورى والاكثرية فسوف تكون ضابطة وميزان الاكثرية هي لحسم مثل هذه المشاكل الاجتماعية الهامة.

والجواب عن هذا الاشكال يكون بملاحظة التطور الحاصل في حضارات المجتمع البشري منذ بداية تَكوّن أول اجتماع من الاسرة الى القبيلة الى القرية الى البداوة الى التحضر والتمدن، وقد تعددت وسائل الاتصال بين أفراد الانسان خلال فترات التطور هذه، حتى أصبح مجتمع القرن العشرين والواحد والعشرين الميلادي قد طوى حضارة التكنولوجيا والتصنيع وحضارة الذرة، فانتهى به المطاف حالياً الى حضارة المعلومات من الارتباط والاتصالات، والهدف من جعل الارتباط والاتصال هو محور حضارة هذا العصر هو سرعة انتقال المعلومات والأفكار بين أفراد الإنسان، وهذا يدلل أن أحد ابرز وسائل السيطرة هي الهيمنة على المعلومات واستقصاء البحث. والقرآن الكريم قبل ما يزيد على الالف عام ندب الى هذا الأمر المهم، وأن يكون القائد مهيمناً على افكار الناس جامعاً لمعلوماتهم ومستمعاً لارائهم فهذا منهج مهم في حد ذاته لا يمكن الاستهانة به.

أما بالنسبة للنقطة الثانية فقد عولجت من جهتين، الاولى: ان أحد ثمار الشورى هو كون الجميع على مستوى من الوعي الثقافي والمعلوماتي بحيث يستطيع المشاركة فيما يهم المجتمع، وهذا أمر يقفز بالمجتمع على طريق الرقي، وبعد استقصاء الاراء المختلفة سوف يتضح لدى المستشير ولدى الاطراف الرأي المتين

الصفحة 180
من الهزيل.

ومن جهة أخرى تعمل الاستشارة على توحد الارادة في مجتمع المستشارين فقد عالجته نظرية الولاية بحصر الارادة والعزم بالشخص المنصوب خليفة لله تعالى {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} فإرادته هي التي تكون لها السيطرة على جميع الارادات وتخضع لها كل الارادات، وكذلك الحال في نائبه العام وهو الفقيه، وإن كانت ولايته على نطاق محدود بدائرة التطبيق للأحكام الشرعية في مجال القوى الثلاث.

2 ـ وقد يشكل انه اذا كان المراد {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} هو الامر المهم الذي يمس المجموع فهذا يعني انه من الامور الخطرة، فكيف ينسجم هذا مع كون الاستشارة فى نفسها مستحبة.

والجواب عنه ان الشورى تكون في كل مورد بحسبه فان كانت في الامور التي طبيعتها خطيرة وطبيعة الغرض الشرعي فيها بالغ الأهمية عند الشرع، فان الشورى والفحص عن الصواب وواقع الحال تكون واجبة، ولا يمكن للقائد غير المعصوم النائب من قبله أن يستبد برأيه، كما لاحظنا فى فتوى الفقهاء في باب الجهاد فمع ان الافتاء بالجهاد هو بيد الفقيه الا أنه ملزم بالرجوع الى اهل الخبرة العسكرية في ذلك، وإذا لم يكن الامر المجموعي بهذا الوقع والخطورة فتكون الاستشارة ندبية وتكون فوائدها هو ما ذكرناه سابقاً.

3 ـ وقد استدل محمد رشيد رضا بذيل آية الشورى على سلطة الجماعة وولاية الشورى وذلك بقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} حيث ان متعلق العزم غير مذكور فهو مطلق، لكن لما كانت الآية في صدد بيان ما يميز رأي الجماعة فيكون المراد منه هو رأي الجماعة اي فاذا عزمت على ما يرون وما يريدون فتوكل على الله.


الصفحة 181
وهذا مردود حيث انه من الواضح ان العزم فاعله هو الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) والظهور العرفي(1) شاهد على ان المراد هو تصميم نفس فاعل العزم اي بعد ان نظرت أنت الى هذه الاقوال المختلفة والاراء المتضادة فاختر منها ما شئت واستصوب منها ما تراه مناسباً واعزم.

ويؤيد ذلك ما ورد في الامر بالتوكل على الله وعدم خشية الآخرين، أي أن مورد العزم قد يكون على خلاف ما عليه اراء الاكثرية فتوكل على الله فيما عزمت مهما كان ذلك وان كان على خلاف ما يرونه، وواضح ان الآيات الكريمة وردت في غزوة احد حيث ظهر فرار بعض المسلمين وتخلف البعض الاخر عن ميدان الحرب، وطمعهم في الغنائم، وسوء ظنهم بالله بعد ذلك، وتصديقهم موت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهذا كله يدل على أن الرأي هو ما اختاره الرسول الاكرم وما عزم عليه بغض النظر انه وافق الاكثرية ام لا.

مضافاً الى أن الرسول الاكرم هو القسطاس المستقيم {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} والجادة الواضحة والذي يجب أن يتبعه الاخرون وقد امره الله عزوجل {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} عندما يحيدون عن جادة الصواب، فكيف يتصور بمن يكون بهذه المرتبة وبهذا المقام يلزم بأن يتبع رأي الاكثرية والاغلبية وإن كان على خطأ.

____________

1- بقرينة ما قدمناه مفصلاً مثل العفو عنهم والاستغفار لهم الدال على خطئهم مثل قوله تعالى:

{واعلموا ان فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} فهذه شهادة من الله تعالى بخطاءهم في كثير من الموارد، وكذا لينه لهم المذكور في الآية الدال على مقام المربي لمن تحت يده (صلى الله عليه وآله) وغيرها من القرائن فراجع، مع أن المعنى على ادعاء صاحب تفسير المنار مؤداه لزوم طاعته (صلى الله عليه وآله) لما يريدوه، وهو باطل. وكلٌّ لما ذكرناه من أن الشورى معنى ومادة عنوان للفعل الفكري للنفس، وهم يجعلونه عنواناً للفعل العملي للنفس كالارداة والسلطة والقدرة، فيتناقض عندهم الكلام.


الصفحة 182

الخلاصة:

ان التعبير بلفظ الشورى المشتق من تشاور واشتور، والاشارة والمشورة هي اراءة المصلحة، وشاورته في كذا راجعته لأرى رأيه، وشرت العسل اشوره جنيته، واشار بيده اشارة أي لوح بشيء يفهم من النطق.

فمادة الشورى تعطي معنى الاستفادة من الخبرات والعقول الاخرى لكي يكون العزم على بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أن اعقل الناس من جمع عقول الناس الى عقله، واعلم الناس من جمع علوم الناس على علمه، فهى توصية بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كل زواياه الواقعية عبر الاذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللغويين انها استخراج الرأي بالمفواضة في الكلام ليظهر الحق.

سواء كان الأمر بيد الفرد الواحد أم لا، كما هوالحال في سلطة الانسان على أمواله اذا اراد ان يقدم على بيع او عقد معاملي، فان استبداده برأيه يؤدي به الى الجهالة بخلاف ما اذا اعتمد المشورة والاستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط سلطة المشير على المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير وانما يعني اعتماد الوالي على منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة.

وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الاشارة والمشورة والاستشارة والشورى، أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع بل الفيصل والنقض والابرام والترجيح بين وجهاة النظر يكون للولي على الشيء بعد استطلاعه على الاراء المختلفة، كما هو دارج قديما وحديثا في

الصفحة 183
الزعامات الوضعية البشرية حيث تعتمد على لجان وخبرات ـ مستشارين ـ(1) في كل حقل ومجال مع عدم افادة ذلك لدى المدرسة العقلية البشرية ولاية لأفراد تلك اللجان يشاروكون فيها ذلك الزعيم.

ولذلك عد الفقهاء تلك الروايات المستفيضة أحد أنواع الاستخارة بل افضلها، والاستخارة هي طلب الخير لا تولية ا لمشيرين مع المستشير، فلا يتوهم ان فتح باب الاستشارة والشورى في الرأي لغو اذا لم يكن بمعنى التشريك في الولاية وتحكيم سلطة المستشارين، إذ أي فائدة أبلغ واتم من استكشاف الوالي واقع الاشياء وحقائق الامور عبر مجموع الخبرات والعقول، واعتماده منهج جمع العلوم الى علمه، فان ذلك يصيّره نافذ البصيرة، سواء كان ذلك على الصعيد الفردي كولاية الفرد على أمواله أو على الصعيد الاجتماعي كولاية الشخص على المجتمع.

فمجيء مادة المشورة في قوله تعالى يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البت فيه بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الاخرى، اما مَن يكون له الرأي النهائي فليست الاية في صدده، لاختلاف ذلك التعبير مع {وَأَمْرُهُمْ شُورَى} حيث ان اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة،وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالى: {وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ}، وغيرها من التعبيرات القرآنية والمتعرضة للولاية في الاصعدة المختلفة.

ومما يعزز ما تقدم قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاض مِنْهُمَا وَتَشَاوُر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فانه تعالى ندب الى التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل مع ان

____________

1- كالمستشارين العسكريين والماليين والسياسيين والاجتماعيين وغيرهم.


الصفحة 184
ولاية الرضاعة ذات الاجرة بيد الزوج فقط، وان كانت الحضانه في غير ذلك من حق الزوجة.

وكذا قوله تعالى: {فَبِمَـا رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الامْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} ففيه ندبة من الله للرسول (صلى الله عليه وآله) الى مشورة المسلمين في سياق الرأفة والرحمة بهم واللين معهم والعفو عنهم والاستغفار لهم، لا لتحكيم ولايتهم عليه (صلى الله عليه وآله) (والعياذ بالله) إذ ذيل الآية صرّح بان العزم على الفعل مخصوص به (صلى الله عليه وآله).

بل ان الامر بالتوكل فه اشعار بنفوذ عزمه وحكمه (صلى الله عليه وآله) وان خالف آراءهم، ولذلك ذكر أكثر المفسرين وجوهاً في امره بالمشاورة.

احدها: ان ذلك لتطييب انفسهم والتألف لهم والرفع من قدرهم.

الثاني: ان يقتدى به في المشاورة، كي لا تعد نقيصة ليتميز الناصح من الغاش، وكتشاوره (صلى الله عليه وآله) قبل واقعة بدر ـ الكبرى والصغرى ـ وغيرها من الوقائع.

الرابع: لتشجيعهم وتحفيزهم على الادوار المختلفة والتسابق الى الخيرات والاعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكى يتعرفوا على حمة قرارات الرسول وافعاله (صلى الله عليه وآله).

ومن الغفلة الاستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد على كون الشورى ملزمة له (صلى الله عليه وآله)، بدعوى أن رأيه (صلى الله عليه وآله) كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه على الخروج ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج الى جبل أحد. وقدمنا مفصلاً خطأ هذا الاعتقاد.

ومما يستأنس لكون معنى الشورى بمعنى المشورة والاستشارة لا تحكيم السلطة الجماعية أن الآية مكية ولم يكن ثمة كيان سياسي للمسلمين، بل ان ظاهر

الصفحة 185
الآية ترغيب المؤمنين حين نزولها في الاتصاف بتلك الصفات، فيكف يلتئم مفاد السلطة الجماعية مع ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) المطلقة، ولذلك ترى أن كثيرا من مفسري العامة فسروا الاية بمعنى الاستشارة واستخراج الرأي لا تحكيم السلطة الجماعية.

مناقشة الاستدلال على نظرية التلفيق بين النص والشورى


قام بعض المفكرين بمحاولة الجمع بين ادلة التعيين والنصب ـ ككثير من الايات القرآنية الدلة على ان الامامة عهد وجعل الهي، وان المنصوب هو علي (عليه السلام) وذريته ـ وبين ما يزعم من مفاد آية الشورى ودلالتها على أن السلطة للامة، بأنّ مورد الادلة الاولى هو مع وجود المعصوم (عليه السلام) وتقلده للزعامة الاجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده (عليه السلام) كما في زمن الغيبة.

وهذا الرأي مردود لأنه ان جعل المدار لسلطة الامة والشورى عدم تقلد المعصوم الزعامة بالفعل فذلك يعني شرعية سلطة الامة في الفترة التي كان فيها علي (عليه السلام) مبعدا عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن (عليه السلام) الى عصر الغيبة، حيث انهم (عليهم السلام) لم يكونوا متقلدين بالفعل زمام الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص.

وان جعل المدار على وجودهم (عليهم السلام) وان لم يتقلدوا زمام الامور والحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الارض "اللهم بلى لا تخلو الارض من قائم لله بحججه اما ظاهر مشهور او خائفاً مغمور لكي لا تبطل حجج الله وبيّناته"(1).

____________

1- رواه الصدوق في الاكمال باسانيد مستفيضة عن كميل عن علي (عليه السلام)، واسانيد اخرى في الخصال والامالي، والحديث موجود في النهج وتحف العقول وكتاب الغارات، بل هذا المضمون روي في احاديث متواترة في اكثر كتبنا الروائية.


الصفحة 186
ولا فرق بين حضور الامام وغيبته بعد كون عدم تقلده زمام الامور بالفعل غير مؤثر في كونه اماما بالفعل ـ بما للامامة من عهد معهود إلهي ذات شؤون عظيمة بالغة ـ كما في الحديث النبوي المروي عن الفريقين "الحسن والحسين امامان ان قاما او قعدا" فقعودهما (عليهما السلام) بسبب جور الامة لا يفقدهما الجعل الالهي والخلافة الالهية على الامة.

وهل من الامكان ابداء الاحتمال انه (عج) في غيبته يفقد هذا المنصب والجعل الالهي، اذ هذا لا ينسجم مع مبدأ النص والتعيين، ومن هنا كان تمسك الفقهاء في نيابتهم في عصر الغيبة الكبرى بنصبه لهم نوابا في قوله المروي مسنداً في غيبة الشيخ الطوسي "واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله" فقوله (عليه السلام) "فانهم حجتي عليكم" استنابة منه (عليه السلام) للفقهاء.

وهل يتعقل ان يكون لله حجتان بالاصل في عرض واحد بالفعل، بان يكون الحجة في غيبته حجة بالاصل، ومنتخب الامة حجة اخرى بالاصل ولكن بالانتخاب لا بالنيابة عنه، ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية على ضوء مبدأ النص والتعيين ان ولاية الفقيه مستمدة منه (عليه السلام) وعجل الله فرجه الشريف فى الغيبة لا انها للفقيه بالاصالة مع خلعه (عليه السلام) عن ذلك المنصب.

هذا ولا يغفل عن ان سبب عدم تقلده (عج) زمام الامور والحكم وعدم الظهور هو المذكور في قوله (عليه السلام) "لو كنتم على اجتماع من امركم لعجل لكم الفرج" ولذلك قال السيد المرتضى والخواجة وغيرهما ان سبب غيبته منا.

نعم اذا أمكن ان تخلو الارض من الحجة المعصوم، وان يترك الله البشر وحالهم مع قوانين دينه على اوراق وتكون يد الله مغلولة ـ والعياذ بالله تعالى ـ امكن حينئذ ذلك الاحتمال والجمع المزعوم بين الادلة.

ومن الطريف ان الدعوى المزبورة تذعن في طياتها بشروط المرشح بالانتخاب

الصفحة 187
من الفقاهة والكفاءة والامانة والعدالة والضبط وسلامة الحواس الى غير ذلك من الشروط التي لا تتوفر بنحو الاطلاق والسعة وبنحو الثبات الذي لا تزلزل فيه الا في المعصوم (عليه السلام)، وكأن ذلك أوْبٌ الى النص مرة أخرى، اذ الاشتراط في جذوره تعيين.

نعم نصبه (عج) للفقهاء كنوّاب بالنيابة العامة قد استفيد من قوله "فارجعوا"الايكال للامة في اختيار احد مصاديق النائب العام الجامع للشرائطولا يعني ذلك أن النصب بالاصالة من الامة بالذات، بل منه (عج) بالاصالة ومن الامة بتبع ايكال وتولية المعصوم لها، كما هو الحال في القضاء والافتاء عند التساوي في الاوصاف.

ولا يتوهم ان تولية الامة ذلك يلزمه امكان توليتها السلطة على نفسها بالاصالة من الله تعالى في اختيار خليفة الله في ارضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق، حيث انه لابد من العصمة في قمة الهرم الاداري للمجتمع دون بقية درجات ذلك الهرم، اذ بصلاح القمة يصلح مجموع الهيكل.

كما لا يتوهم انه حيث لابد للناس من امير برّ او فاجر تدار به رحى ادارة النظام الاجتماعي البشري وهذه اللابدية والضرورة العقلية التي نبه عليها علي (عليه السلام) في النهج تقتضي تنصيب الامير على الناس بالذات بالاصالة من دون حديث النيابة عن المعصوم.

ووجه اندفاع التوهم: أن الضرورة العقلية تقتصي الزعيم، أما شرائط كونه امير برّ لا فاجر هو كون امارته من تشريع الله تعالى واذنه اذ الولاية لله تعالى الحق، والامارة تجري على يد الفرد البشري المخول منه تعالى في ذلك.

ولذلك ترى أن عدة من الفقهاء(قدس سرهم)استدلوا بتلك الضرورة في الكشف عن اذنه وتنصيبه للفقهاء باعتبار انهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة

الصفحة 188
في كلماتهم.

وبذلك ننتهي الى أن الاية هي في صدد الاشادة بصفة ممدوحة مهمة في المؤمنين وهي عدم الاستبداد بالرأي، واعتماد العقل المجموعي في استخراج الرأي الصائب وفتح الافق، وأما أين هى منطقة السلطة الجماعية وأين هي منطقة السلطة الفردية ومن هو من هم فذلك يتم استكشافه من مبدأ السلطات وهو الله تعالى ومن ثم رسوله (صلى الله عليه وآله) وخلفائه المعصومين، بالوقوف على حدود نصوص الجعل والتنصيب كما ذكرنا لذلك مثالا في النائب العام والقاضي والمفتي.

والمهم التركيز على هذه الجهة في الاية ان مادة الشورى هي لاستطلاع الرأي الصائب والمداولة مع بقية العقول،وفرق بين استطلاع رأي الاخرين وبين جمع ارادة الاخرين، فالاول هو موازنة بين الافكار والاراء من المستطلع والمستشير، والثاني سلطة جماعية، فلا يمكن اغفال التباين الماهوي بين الفكر والارادة، وان الشركة في الاول لا تعني الشركة في الثاني بتاتاً.

فالتوصية في الاية هى في اعتماد التلاقح الفكري في اعداد الفكرة، أما مرحلة البتّ والعزم والارادة فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرد اضافة الامر الى ضمير الجماعة لا يعني كونها في المقام الثاني، بعدكون مادة المشورة صريحة في المقام الاول.

بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخص وتتعلق بمجموعهم، هذا لو جمدنا على استظهار الموضوع المتعلق بالمجموع من لفظة (امرهم)، ولم نستظهر معنى الشأن من الامر ـ كما استظهره كثير من المفسرين ـ أي بمعنى شأنهم وعادتهم ودأبهم على عدم الاستبداد بالرأي واعتماد طريقة الاستعانة بالمستشارين.

ونكتة الاضافة الى ضمير الجماعة هى وحدة سوق الافعال في الايات كما في

الصفحة 189
{وَأَقِيمُوا الْصَّلاَةَ}{وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ}{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الاثْمِ}، وأما لفظة (بينهم) فهي ظرف لغو متعلق بمادة الشورى لكونها مداولة بينالآراءومفاوضة لا تقل عن كونها بين اثنين، فهي فعل بينيُّ وفيما بينهم.

بعد هذا الاستعراض المطول للطائفة الاولى من ادلة نظرية الشورى بالمعنى المصطلح وهي ما ورد من الآيات والروايات من مادة الشورى والاستشارة توصلنا الى نتيجة ان مفاد الشورى هو بيان منهج عقلائي وهو جمع الخبرات والتجارب والاستضاءة بمعلومات الاخرين. وان لا يكون اقدام على مهام الامور الا بعد المداولة الفكرية وهي بعيدة عن تشريع سلطة للجماعة بل تبقى السلطة لذلك الفرد الذي يقوم بغربلة هذه الاراء واختيار الأصح منها والأوفق مع ما عليه قواعد الدين. وهذا المنهج أصبح الان منهجاً حضارياً متبعاً بعيداً عن الدكتاتورية المطلقة والاستبداد بالرأي الواحد.

ثانياً: عنوان الولاية والأمر بالمعروف

وقد ورد ذلك في آيتين:

أ ـ قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْض يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(1).

أن الظاهر من الآية الكريمة اسناد الولاية الى الكل فالمولى هو الكل والمولى عليه كذلك فهي ولاية الكل على الكل وهذا يعني أن أمر الامة بيدهم، وهذه الولاية تعم ولاية النصرة(2) وولاية الاخوة والمودة. والامر بالمعروف معنى عام شامل

____________

1- التوبة 71 / 9.

2- المنار 10 / 542، 105.