ب ـ {وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(1).
فهو امر لكل المسلمين بأن تكون منهم جماعة خاصة وقوة معينة تأمر بالمعروف وتدير فيهم دفة الامور حيث ان الامر بالمعروف عام يشمل كل ما فيه صلاح الأمة الاسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درجاته الأولى مثبت لنحو من الولاية من للآمر وللناهي على الطرف الآخر، فكيف في درجاته القصوى المستلزمة للضرب او المنع الخارجي بالقوة.
وبتقريب آخر أن الأمر بالمعروف له صورتان، أحدهما: صرف الامر والنهي الانشائي والقولي والاخر: ان يراد منه الأمر التنفيذي وتطبيق ذلك المعروف والردع عن المنكر. فإن كان الأمر الأول فلا خصوصية فيه حتى تختص به طائفة معينة بل هو عام شامل لجميع المسلمين. فلابد أن يكون المراد منه هو الصورة الثانية وحينئذ يتعقل تخصيصه بجماعة خاصة تقوم بهذا الامر.
بل ان محمد رشيد رضا(2) يرى أن هذه الآية في دلالتها على كون الشورى اصل الحكم في الاسلام اقوى من دلالة آيتي الشورى.
وفي كل ما ذكر نظر بيان ذلك:
1 ـ مادة (اولياء) و(ولي) ورد استعمالها في القران فى موارد كثيرة جداً(3)
____________
1- آل عمران: 3: 104.
2- المنار: 4: 45.
3- راجع معجم الفاظ القرآن الكريم 2: 840.
وبقية الصفات المذكورة من عباداتهم اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واطاعة الله ورسوله. والنتيجة الاخروية وهي رحمة الله تعالى والوعد بالجنة وهذه كلها في قبال صفات المنافقين.
فالمنافقون يأمرون بالمنكر والمؤمنون يأمرون بالمعروف.
والمنافقون ينهون عن المعروف والمؤمنون ينهون عن المنكر.
والمنافقون يقبضون ايديهم والمؤمنون يؤتون الزكاة.
والمنافقون نسوا الله فنسيهم والمؤمنون يطيعون الله ورسوله وسيرحمهم الله.
والمنافقون وعدهم نار جهنم والمؤمنون وعدهم جنات تجري من تحتها
____________
1- البيان في تفسير القرآن 5: 257.
فالمنافقون كتلة واحدة لهم نفس الوصف والجزاء والمؤمنون بنصر بعضهم بعصاً ولهم نفس الوصف والجزاء.
فالآية الكريمة غير ناظرة الى الولاية بمعنى الحكم وادارة الشؤون كما هو مورد الاستشهاد بها.
ومما يدل على ما ذكرناه أيضاً أن اقامة الصلاة وايتاء الزكاة واعمال فردية وليست متفرعة عن ولاية البعض على البعض، مضافاً الى أن ذيل الآية ويطيعون الله ورسوله فإذا كانت بصدد بيان سلطة الجماعة على مجموع الأمة فكيف يلتئم مع الحث على طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وانصياعهم ومتابعتهم.
2 ـ اما الاية الثانية فإن غاية ما تدل عليه أن الامة يجب عليها تشكيل مثل هذه الجماعة لتدير دفة الدولة، ولكن هذا لا يفيد أن السلطة من الامة بل السلطة تكون من قبل الله تعالى وأن التولية الفعلية العملية هي بيد الامة وهذه وظيفتهم من حيث أن الحكم وظيفة يقوم بها الحاكم والمحكوم، فالحاكم تكون سلطته من قبل الله تعالى وعلى المحكوم الرجوع وتمكين الحاكم من ذلك.
وبتعبير آخر أن الآية تبين الدور الذي يجب أن تقوم به الامة في مجال الحكومة وهو تمكين صاحب الصلاحية والسلطة لا ان التشريع والقدرة هو بيد الامة. فالآية لا تتعرض لهذا المقام بل تذكر ما هو تكليف الامة وكيف تتعامل مع مسألة الحكم وتمكين الحاكم.
3 ـ أن هذا الدور لا يعني أنّ لها تخويل من تشاء وتسلطه على نفسها، كيف والآية تصف الجماعة الآخذة بزمام الأمور انها داعية الى الخير كل الخير لمكان اللام الجنسية أو الاستغراقية، آمرة بالمعروف كل المعروف لمكان اللام أيضاً، ناهين عن المنكر كل المنكر لذلك أيضاً عن المنكر الاعتقادي او الاقتصادي او المالي او
4 ـ ان الآيات الحاصرة للولاية في فئة خاصة تكون مفسرة وحاكمة في الدلالة ومبينة للفئة الخاصة التي يجب على الأمة الرجوع اليها وتمكينها خارجاً.
5 ـ ان في الآية احتمالاً آخر وهو كونها في صدد بيان الوجوب الكفائي للآمر بالمعروف غير المشروط بالعلم بالمعروف بل العلم قيد واجب فيه وهو مغاير للوجوب الاستغراقي المشروط بالعلم بالمعروف نظير وجوب الحج الكفائي غير المشروط على كل المسلمين في كل سنة أن يقيموا هذه الشعيرة لئلا يخلو البيت هو مغاير للوجوب الاستغراقي العيني المشورط بالاستطاعة.
ويمكن تقريبه بأن الشرط العام الذي يذكره الفقهاء في وجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بأحكام الشريعة فالجاهل لا يتأتى منه ذلك. فاشتراط العلم هو شرط وجوب وبضميمة أن التعلم لجميع الاحكام أو غالباً غير ما يبتلى به نفس المكلف واجب كفائي فهذا يعني ان الواجب هو قيام فئة من المجتمع بالتعلم المزبور فيتحقق موضوع الوجوب الآخر المشروط به وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالآية الكريمة محتملة أن تكون بصدد الاشارة الى ضرورة حصول ذلك التوجه لدى فئة من المجتمع للقيام بهذه الوظيفة نظير الوجوب الكفائي لإقامة الحجج غير المشروط بالاستطاعة لئلا يخلو بيت الله الحرام عن إقامة هذه الشعيرة ولئلا يعطّل.
وبتعبير آخر اننا تارة ننظر الى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى اقامة
وقد ورد في تفسير هذه الآية قوله (عليه السلام): "انما الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على العالم". فوجوب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الاحتمال وجوباً كفائياً وهو واجب على الأمة بنحو الكفاية.
ثالثاً: البيعة:
1 ـ {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}(1).
2 ـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوف فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(2).
تقريب الاستدلال:
ينطلق المستدل من المعنى اللغوي للبيعة. فالبيعة الصفقة على ايجاب البيع وبايعته من البيع، والمبايعة عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع
____________
1- الفتح 48 / 10.
2- الممتحنة 60 / 12.
فالبيع تمليك من جهة البايع للمشتري ونقل الولاية على هذه العين للمشتري ولا يصح البيع إلا ممن له الولاية والصلاحية للتصرف في المبيع. والبيعة هي انشاء ولاية من المبايِع للمبايَع على نفسه، واسناد هذه المبايعة للامة يدل على أن الولاية هي للأمة وهي تنقلها الى الرسول (صلى الله عليه وآله) او للمعصوم في نظرية النص.
وقد استدل من الروايات:
ـ عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: ثلاث موبقات نكث الصفقة وترك السنة وفراق الجماعة(2).
وقال العلامة المجلسي نكث الصفقة نقض البيعة وانما سميت البيعة صفقة لأن المتبايعين يضع احدهما يده في يد الاخر عندها. ويؤيد ما مضى السبر التأريخي حيث نرى الالتزام بالبيعة، فبيعة العقبة الاولى والثانية، وبيعة الامام علي وابنه الحسن والحسين (عليهم السلام). ومبايعة الامام الرضا (عليه السلام) وما ورد في مبايعة الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)(3).
وتقريب الاستدلال بالروايات:
1 ـ نفس المعنى اللغوي المتقدم والذي يجعل البيعة نوع تولية وانشاء ولاية فالطاعة وانشاء الولاية للحاكم في مقابل تقسيم بيت المال والغنائم كما يظهر من مفردات الراغب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته الفصل الثالث ـ فصل 29 ان
____________
1- لسان العرب 8 / 26 مادة بيع.
2- بحار الأنوار: 2 / باب 32 ح 26.
3- سيرة ابن هشام 2: 66 / 73 ـ الكامل لابن الاثير 2: 252 ـ الارشاد ص 116 / 170 / 186 ـ الاحتجاج 1: 34 ـ نهج البلاغة الخطب 137 / 229 ـ وفي الغيبة للنعماني ص 175 ـ 176 في أمر الحجة (عليه السلام): فوالله لكأني انظر اليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد من السماء.
2 ـ ما ورد من التعبير انه عهد الله وهذا ينسجم مع قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. ومنه يعلم ان الامامة والحاكمية تنوجد وتتولد من البيعة.
3 ـ ان السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الاسلام مقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم. وهذه الحقيقة والماهية أمضاها الاسلام.
4 ـ من تكرر السيرة على أخذ البيعة عند الاستخلاف يدل على ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط وتأمير الآخرين، وهذا يدل على أنه كما ننشئ بالتأمير والولاية بالنص فإنها تنشأ بالبيعة فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف أحدهما النص والاخر البيعة، فإذا ما وجدا معاً فإن يكون من باب التأكيد والثبوت. كما في تولية الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) حيث لم يقل أحد أن توليه كان بالبيعة بل بنص الله عزوجل الذي أوجب حاكمية الرسول (صلى الله عليه وآله) وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أوجب رسالته ونبوته، أما كون البعية له هي المنشئة لتوليه وإمرته فهى بعيدة عن أقوال العامة والخاصة، ومن ادعى ذلك من المتأخرين فهو غن غفلة عن تلك النصوص ومخالفة لضرورة الذين عند الفريقين.
وفي هذا الاستدلال نأمل من جهات:
1 ـ اننا ننطلق من نفس مدلول البيع. فان المحققين والفقهاء(1) نصوا على ان البيع ليس من الاسباب الاولية لحصول الملكية فهو ليس كالحيازة والابتكار
____________
1- يراجع المكاسب للشيخ الانصاري في أول كتاب البيع، كما نص على ذلك السنهوري في الوسيط.
2 ـ لو لاحظنا ما ذكر في الآيتين الكريمتين من مورد البيعة، وان المسلمين عندما بايعوا على ماذا بايعوا وان المؤمنات عندما بايعن على ماذا بايعن، هل بايعوا على امور لهم صلاحية تركها والالتزام بها فاختاروا الثاني. ام ان المبايعة كانت على الحاكمية.
اننا نلاحظ انه في الآيتين وفي غيرها لم يرد ذكر للحاكمية على الاطلاق، بل وردت المبايعة على المناصرة والالتزام بأمور أوجبها الاسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم عليهم تركها فما الذي أفادته البيعة؟ اذن البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام. فهي أولاً: لم يكن موردها الحاكمية فإن حاكمية الرسول هى من الله، وثانياً: لم تكن فيه عملية نقل او انشاء ولاية على الاطلاق، وهذا يعني ان للبيعة معنى آخر ليس هو نفس المعنى المأخوذ فى البيع.
____________
1- ويمكن التنظير بالدليل التعليقي التقديري فإنه يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه، ولا يتعرض لحالات الموضوع، فإذا ورد دليل يتعرض لنفي الموضوع للحكم المزبور في مورد معين فإنه لا يعارض ذلك الدليل لأنه لا يتعرض للموضوع بل للمحمول فقط.
فالبيعة تكون نوع توثيق وزيادة تعهد وتغليظ التكليف والثبات على مَن نُص على ولايته. وغاية ما يفرق بينها وبين النذر واخويه، أن الاخير في الامور العبادية، والاول في الامور الاجتماعية والسياسية. ويشير لذلك عدة من الروايات منها موثقة مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام): انه قال له: ان الايمان قد يجوز بالقلب دون اللسان؟ فقال له: ان كان ذلك كما تقول فقد حرم علينا قتال المشركين، وذلك أنا لا ندري بزعمك لعل ضميره الايمان فهذا القول نقض لامتحان النبي (صلى الله عليه وآله) من كان يجيئه يريد الإسلام، واخذه إياه بالبيعة عليه وشروطه وشدة التأكيد، قال مسعدة: ومن قال بهذا فقد كفر البتة من حيث لا يعلم. (البحار ج 68 / 241 نقلا عن قرب الاسناد للحميري) ومفاده: ان الايمان لو كان في القلب دون اللسان لتوجه النقض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ والعياذ بالله ـ في قتاله للمشركين اذ قد يكون آمن وتحقق الايمان في قلبه دون لسانه، ونقض آخر أنه لم يطالب (صلى الله عليه وآله) من أتاه يريد الاسلام بالتشهد بالشهادتين وأخذ البيعة بعد تشهده التي هي زيادة استيثاق وتأكيد للالتزام بالتشهد.
5 ـ من المسلمات والبديهيات الدينية ان منشأ السلطة هو الله عزوجل (ان الحكم إلا لله)، وهذا لا يتلائم مع ما استدل به المدعي من أنّ ماهية البيعة هي نقل سلطة الفرد للمبايع وهذا يعني وجود سلطنة للفرد على مورد البيعة في رتبة سابقة وهذا ينافي تلك المسلمة البديهية وان السلطنة لله عزوجل وقد استخلف الرسول (صلى الله عليه وآله) في أيام حياته.
6 ـ ان القائل بالبيعة لا يقول بها بنحو مطلق بل يجعلها مقيدة بقيود أوجبها الشارع والعقل فلا تجوز بيعة الظالمين، وكذلك يجب توافر الشروط التي أوجبها الشارع في الوالي وتدور حول محورين هما الكفاءة والأمانة، وهاتان الصفاتان لا تكونان بنحو واحد عند كل الأفراد بل تختلف بنحو متفاوت، فإذا انطبقت على أحدهما دون الآخر فإن العقل سوف يعين من هو أكفأ وأكثر أمانة. وإذا ثبت توفر الصفتين بنحو تام الكمال الى حد العصمة بأدلة أخرى ونصوص تامة السند والدلالة ـ طبقاً لنظرية النص ـ فإنها سوف تكون هى المعينة. وعلى كل حال فإنّ التعيين إما أن يكون للعقل أو الشرع.
فيعود الامر الى ان الشارع هو الذي يعطي الصلاحية لا الفرد ويكون دور الفرد هو الكاشفية فقط.
7 ـ ان الروايات طافحة بعبائر امثال "الأمر لله يضعه حيث يشاء"، وهذا يعني ان البيعة ليست تولية وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين الرسول (صلى الله عليه وآله) وبين عامر بن
8 ـ ان البيعة نوع من العقود والعهود وهذا يعني انها تصنف في باب المعاملات فيجب ان نعود قليلاً الى الادلة الواردة في باب المعاملات، فإن الفقهاء يصنفون الادلة هناك الى قسمين أدلة صحة وأدلة لزوم. ويعنون بأدلة الصحة هي الأدلة التي تتعرض الى ماهية المعاملة وحقيقتها وأنها صحيحة أم لا، والثانية تتعرض الى المعاملة الصحيحة وانها لازمة ولا يجوز فسخها. وبتعبير آخر الفرق بينهما موضوعاً ومحمولاً.
أما موضوعاً فموضوع ادلة الصحة هي الماهية المعاملية، بفرض وجودها عند متعارف العقلاء، وموضوع ادلة اللزوم هو المعاملة الصحيحة عند الشرع. أما محمولاً ففي ادلة الصحة المحمول هو صحة المعاملة واثبات وجودها الاعتباري في اعتبار الشارع أما ادلة اللزوم فمحمولها هو لزوم المعاملة وعدم جواز فسخها، والتفريق بين هذين الصنفين من الادلة مهم جداً حيث لا يمكن التمسك بـ "المؤمنون عند شروطهم"، اذا شك في صحة ماهية معاملية، فهي ليست من أدلة الصحة. بل من ادلة اللزوم التي يؤخذ في موضوعها ماهية معاملية أولية صحيحة ويتعرض لوصف يطرأ عليها وهو وصف اللزوم.
وبناء عليه يطرح التساؤل بأن ادلة البيعة اين يمكن تصنيفها في أدلة الصحة أم في أدلة اللزوم؟ بمقتضى التعاريف اللغوية وانها بمعنى العهد فانها تصنف في الثانية وهذا يعني أن هذه الادلة لا تتعرض لمورد البيعة وان المبايعة لهذا الوالي صحيحة أم لا؟ بل يجب أن يثبت في مرتبة سابقة ومن أدلة اخرى أنّ التولية لهذا الشخص ممكنة وواجبة، ثم تكون البيعة نوع توثيق وتوكيد لذلك الأمر الثابت
والخلاصة ان البيعة انشاء الالتزام بمفاد ثابت صحته فى رتبة سابقة.
نقض ودفع:
وهنا قد يورد نقض او تساؤل ان الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) لم يهاجر إلا بعد أن أخذ البيعة من اهل المدينة، وأن امير المؤمنين (عليه السلام) لم يرض أن يستلم السلطة إلا بعد البيعة، وهذان التصرفان يدلان على وجود خصوصية في البيعة.
والجواب عن ذلك: أن الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) قبل اخذ البيعة قام بالدعوة الى نفسه وبيان حقيقة رسالته فحصل انجذاب افراد المجتمع اليه ومن ثَمّ أخذ منهم البيعة، وهكذا يقال في امير المؤمنين (عليه السلام) فبعد ايمان العامة بالامام علي وأنه الشخصية التي تنقذهم من التفكك والانهيار الذي صادف الدولة الاسلامية حصلت المبايعة.
فالغرض من المبايعة هو التغليظ والتوكيد وحصول الاطمئنان للرسول الاكرم حيث أنه ينتقل الى مرحلة المواجهة مع المجتمع المكي، فيجب ان يطمئن الى التزام جماعته وتعهدهم بذلك الالتزام.
وهكذا يقال في ولاية امير المؤمنين (عليه السلام) وولاية الحسن (عليه السلام) وبيعة أهل الكوفة وحواليها للحسين (عليه السلام) بتوسط نائبه مسلم بن عقيل، وهكذا يمكن تصوير اخذ البيعة للحجة المنتظر(عجل الله تعالى فرجه) فالبيعة في كل هذا ضرب من التوثيق والتغليظ فى المتابعة.
ـ واما ما ورد في مبايعة المسلمين للرسول الاكرم فى الحديبية فسببه ان المسلمين لم يريدوا ايقاع الصلح مع المشركين خلافاً لرأي الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) الذي كان يرى فيه انتصاراً للمسلمين واذلالاً للكافرين حيث اعترفوا
وما ذكر من الروايات الاخرى تؤكد كلها هذا المطلب.
ـ واما خطب الامام (عليه السلام) ففي بعضها يقيم الامام الحجة على مبنى الخصم وهو اعتبار البيعة شرط في تولي الحاكم وان كانت على خلاف ماهية البيعة وخلاف ما يعتقد به (عليه السلام).
ـ واما قوله للذين تخلفوا عن بيعته: ايها الناس انكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي وأن الخيار للناس قبل ان يبايعوا فاذا بايعوا فلا خيار لهم، وهذه بيعة عامة مَن رغب عنها رغب عن دين الاسلام واتبع غير سبيل اهله.
فبالاضافة الى ذلك الجواب فإن هذا المقطع من خطبته مقتطع من صدره المذكور في كتاب سليم حيث يبتدأها: ان كانت الإمامة خيرة من الله ورسوله فليس لهم ان يختاروا وان كانت الخيرة للناس فقد بايعني الناس بالشورى..
رابعاً:
الاستدلال بآيات كثيرة وردت في الكتاب العزيز يخاطب الحق تعالى الناس عموماً بوجوب الجهاد واقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقضاء واقامة الحدود {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(1). وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
____________
1- آل عمران 3: 200.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(3). وغيرها من الآيات التي تخاطب الناس بما هو من وظائف الدولة.
وتقريب الاستدلال بها ان هذه الآيات تحدد وظيفة الانبياء والرسل بالتبليغ أما نفس الحكومة وادارة أمور المجتمع والوظائف العامة فهي للناس يجب عليهم القيام بها.
والجواب عنها:
1 ـ قد ذكرنا سابقاً وظائف الدولة كجهاز لا يمكن أن يقوم به فرد واحد بل لابد أن يقوم به الجماعة والناس كافة، وبتعبير آخر إن الدولة والحكم جهدمشترك بين الناس والحاكم ولا يستطيع الحاكم أن يقوم به بمفرده، ومن دون تفاعل الناس مع جهاز الدولة وطاعتهم له لا يمكن لهذا الجهاز أن يقوم بمهمته.
2 ـ لو سلمنا بدلالة الايات على المدعى فنتساءل كيف يمكن للناس ان يقوموا بتلك المهام فهل يؤدونها بنحو المجموع وهذا غير ممكن بل لابد أن يكون هناك جهاز يتولى هذه المهمة، فمع قيام هذا الجهاز نتساءل ان الواجب هل يسقط عن الامة وبقية الناس؟ الجواب بالطبع لا، فالواجب يبقى مع وجودهذا الجهاز.
وبتعبير آخر ان وجوب هذه الأمور على الناس لا يعني عدم وجود جهاز خاص يقوم بتنفيذ هذه المهام فانه يبقى على الناس الطاعة والالتزام بما يقرره هذا
____________
1- المائدة 5: 38.
2- التوبة 9: 2.
3- الحديد 57: 25.