وهذا يعني ان الملك هو الذي تنبثق عنه النبوة وهو أعظم مقام من النبوة بمعنى أن ولاية كل نبي أرفع شأنا من نبوته - لا أن ولاية أي ولي أرفع من مطلق النبوة - وذلك لأن الولاية تعبر عن أرقى مراحل الروح التي ترتقي فيها فترتبط بالفيض عن الذات الازلية، او ترتبط بالذات ويعبر عنه بباطن النفس وهي تنقاد للرب وتعبد الرب منتهى الانقياد والعبادة بحيث تكون مشيئته مشيئة الله وارادته ارادة الله.
فالولاية هي الجانب الملكوتي اما الانباء والنبوة دون ذلك المقام وذلك لانه بتوسط رقي روحه يفاض عليه المطالب العالية حيث أن علومها أوسع من التشريعية وتكون مصدرا لها، ويشير إلى ذلك قوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(1)، حيث أن الابتلاء كان في كبر سنه بعد ما رزق الذرية، والابتلاء بتوسط ما أوحي إليه كما تشرحه بقية السور،فهو بعد النبوة والرسالة:كان التأهل لمقام الامامة.
ثم بالنظر إلى الآيات الاخرى نرى ان آل ابراهيم قد أوتوا الامامة وحبوا بها {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا..}{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}، فالحبوة التي حبى بها الله آل ابراهيم هي الامامة، وهل يوجد ملك اعظم من هذا! وهذا الملك العظيم هو الذي حباه الله لرسوله الاكرم وعترته الطاهرة.
____________
1- البقرة: 124.
ثم ان المراد بآل ابراهيم هم النبي وآله وذلك لجملة من القرائن:
- منها ان المقام هو المحاجة والحاسدين هم بنو اسرائيل وحسدهم للنبي (صلى الله عليه وآله)، ولو كان المراد انبياء بني اسرائيل لكان تقريرا لحجتهم لا دحضا لها فلا بد ان آل ابراهيم لا يشمل بني اسحق.
- ان الناظر في الآيات الاخرى:
كقوله تعالى {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَات مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَـانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُـحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ
____________
1- الميزان: 377.
وقوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّـمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(2).
وقوله تعالى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(3).
فإن ما في سورة الانعام دل على ان ابقاء هذا الاجتباء والحبوة الالهية في ذرية ابراهيم متصلة حتى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) فإن يكفر بها أي بهذه النعم اللدنية الالهية (الكتاب والحكم والنبوة) فقد وكلنا...
____________
1- الانعام: 83 ـ 90.
2- البقرة: 124 ـ 125.
3- الزخرف: 28.
فيستنتج ان الامامة في عقب ابراهيم و اسماعيل إلى النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) ثم في ذريته.
- قوله تعالى {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا}(1)، فهذا التشقيق الثلاثي الذين اتبعوه والنبي والذين آمنوا فهو اولى الناس بابراهيم...
- إن ما ورد في دعاء اسماعيل عند بناء البيت العتيق واستجابة الدعاء وأن الامامة في ذريته.وهي الآية المتقدمة في سورة البقرة.
وعلى كل حال فإن المتتبع لآي القرآن الكريم يقف على ان المراد من آل ابراهيم في اصطلاحه هم محمد وآله عليهم الصلاة و السلام.
الطائفة الخامسة: آيات الاصطفاء والطهارة
{إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض}(2)، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}(3).
____________
1- آل عمران: 68.
2- آل عمران: 33.
3- الاحزاب: 33.
ونبدأ البحث في آية سورة الاحزاب وقد وردت الآية في ضمن سياق آيات تخاطب نساء النبي وقد اشبع علماء الامامية البحث عن ان المراد منهم اصحاب الكساء خاصة لا نساء النبي ولذا نكتفي بما قرروه و نتحدث في فقه الآية:
- ان في الآية قصرين احدهما بـ (انما) والمقصور عليه اذهاب الرجس عن اهل البيت، والآخر هو تكرار الاسم بعد الضمير في عليكم وهو دال على القصر والاختصاص أي ان المخاطب هم اهل البيت - ان الارادة هل هي تشريعية ام تكوينية؟ وهذا أيضا بحثه علماء الامامية واثبتوا ان الارادة تكوينية ونشير إلى نكتتين لذلك:
أحدهما: ان الارادة لو كانت تشريعية وان الله يريد تبيين ان الهدف من ارادته- أي من التكاليف -هو تطهير اهل البيت فهو غير مختص بهم (عليهم السلام)،حيث ان المعنى ان ارادته تعالى متعلقة بصدور الفعل الواجب تشريعا من غيره بارادته واختياره كما في ارادة الله سبحانه وتعالى صدور العبادات والواجبات من عباده باختيارهم وارادتهم لا مجرد حصولها باعضائهم وصدورها بابدانهم، وحملها هنا عليهم فقط لا خصوصية فيه لان الجميع مخاطبون بذلك كما في {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَـحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ.. إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} لأن التعليل بالاعتزال لا يختص بأهل البيت، بخلاف ما إذا كانت الارادة تكوينية فهي لا تتخلف أي ان المراد يتحقق لا محالة،فيصح التخصيص في لفظ الآية، هذا مع أن
____________
1- الواقعة: 79.
2- الدهر: 121.
3- البقرة: 222.
الثاني: يبقى التساؤل حول التعبير بالمضارع الدال على التدريجية لا الدفعية واذا كانت الارادة كذلك فهذا يدل على ان المراد من الارادة هو التشريعية لا التكوينية إذ ان الارادة التكوينية لا يتخلف عنها المراد فلا مجال للتدريج والاستمرار، مضافا إلى ان أهل البيت استخدمت في القرآن واريد منها الزوجة كما في سارة امرأة ابراهيم {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}.
اما الاخير فجوابه ان سارة هي ابنة عم ابراهيم فهي من اهل بيت الوصاية وهي من اهل البيت من هذه الجهة لا من جهة زوجيتها لابراهيم.مع انه في هذه الآية أيضا لم يستعمل في خصوص الزوجة،وكذا في قوله تعالى حول موسى (عليه السلام) {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} حيث أن الاطلاق عليها وهي حامل مقرب.
وعلى أية حال فاطلاق الاهل على ذي الرحم ودخوله فيه لا ريب، وأما الازواج فعلى فرض الاطلاق فليس اطلاق ذاتي بل معلق على الوصف وهو الزوجية، ويزول بزواله وظاهر الحكم في الآية أنه بلحاظ الذوات هنا، مضافا إلى ما حرره العديد من الاعلام من ورود الروايات من طريق العامة على قراءة الرسول (صلى الله عليه وآله) هذه الآية ستة اشهر على باب اصحاب الكساء، أي اختصاصها بهم (عليهم السلام)، مضافا إلى تغاير الضمير بين آيات سورة الاحزاب المخاطبة لنساء النبي (صلى الله عليه وآله) بضمير جمع الاناث بينما الضمير في الآية بلفظ جمع المذكر كما ان لسان تلك الآيات التحذير والوعيد والتشدد بينما لسان هذه الآية المجد والتودد مما يوجب الوثوق بأن هذه الآية أقحمت بين تلك الآيات عند جمع القرآن الكريم.
اما الاشكال الاساس في الارادة فجوابه: أولا: ان الارادة التكوينية على نحوين اما دفعية واما تدريجية كما في الامطار وارسال الرياح لواقح،وهذه التدريجية لا
وأما الاشكال: بأن الاذهاب من زاوية التدريج لا يستلزم العصمة، لكن من زاوية اثبات الرجس قبل الاذهاب يدل على عدم العصمة.
فجوابه: ان هناك مقطعين في الآية احدهما يذهب الرجس والاخر يطهركم تطهيرا فلنتأمل في سر المخالفة بينهما! والسر في هذه المخالفة انه قد قرر في علم الفلسفة والعرفان وايده الاخلاق ان هناك مقامان مقام التزكية او التخلية ثم مقام التحلية و التجلية، وذلك لان التحلية بالفضائل لا يكون إلا بعد التخلية عن الرذائل وهذا شرط في تحقق التحلية وبدونه لا تتحقق، وفي مقامنا نقول ان اذهاب الرجس تخلية والتطهير تحلية ويلاحظ أن التطهير - وإن كان مستمرا - فعلي حيث لا يوجد فيه دلالة على الاستقبال بل انه مؤكد بالمفعول المطلق وهذا يدل على الوقوع الحالي فلا بد من وقوع الاذهاب قبل ذلك، وهذا التطهير غير متناهي.
ثم ان هناك معنى آخر لإذهاب الرجس يجتمع مع ما تقدم من المعنى وهو بمعنى الإبعاد وأن لا يقترب الرجس من الذات والتوقية عن حريم ذواتهم نظير
والجواب الثاني: يذكر علماء الاخلاق والعرفان ان المرتبة الادنى من العصمة هي عدم الرجس وما فوقها كمالات،كما ان ليس كل عدم يطلق عليه رذيلة، وذلك لأن العدميات تصنف إلى قسمين احدهما ما يكون منشأ للرذيلة والشرور والاخر عدم كمال، والمنطقة الاولى من العصمة سميت بإذهاب الرجس، ومنه يبدأ السير التكاملي.
اما المراد من الطهارة في الآية:
فهي في معناها اللغوي مقابل القذارة وقد استعملت في القرآن في مصاديق مادية ومعنوية، اما الاولى ففي النقاء من الحيض وموارد الاستنجاء بالماء، اما المعنوية فقد عبر عن الكفر بالرجس في آيات عديدة {كَذلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ}، وقد اطلق فيها الرجس على احد معاني الشرك أو الالتفات لغير الله.
وللطهارة مراتب ومدارج نستفيدها من نفس القرآن الكريم ففي سورة الدهر {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} في الرواية عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: "يطهرهم عن كل شيء سوى الله"(2)، فهؤلاء الذين ادخلوا الجنة ونعموا بها يبقى هناك مجال للتطهير مع انهم داخل الجنة ولا يدخلها إلا المؤمنون، ولكن مع ذلك يمكن ان ينظروا بانشداد وجذبة في هذه الجنة إلى غير الذات الالهية نظرة مستقلة وهذا معنى للشرك دقيق قد لا يلتفت إليه الانسان في حياته اليومية، وفي بعض الروايات نرى التعبير ان كل شيء شغلك عما سوى الله فهو صنم، وهذا يدلنا على ان الطهارة
____________
1- يوسف: 24.
2- الصافي 5: 265.
ثم أن هاهنا تحقيق دقيّ يزول به اللبس المتوهم في معنى الإذهاب، وذلك بالامعان في هذه النكتة العقلية وهي أن الرفع وإن عرف بأنه إزالة ما كان، والدفع ممانعة الشىء عن الحصول منذ البدء إلا انه في الواقع يرجع الرفع في حقيقته إلى الدفع لأنه أيضا ممانعة من الوجود غاية الامر بقاءا،إذ أن وجود الشىء حدوثا لا يشفع في وجوده بقاءا بل هو محتاج إلى سبب ليفيض عليه وجوده أناً فآناً فمن ثم يتضح أن الرفع هو دفع ممانعة عن حصة الوجود اللاحقة لا أن ما هو موجود بالفعل يزال ويعدم في عين فرض وجوده، فإن ذلك تناقض فإن العدم لا يصدق على نفس الوجود،فمن ثم يتضح أن الرفع أو الاذهاب في حقيقته دفع وليس هناك رفع حقيقي، نعم المصحح للتفرقة هو الوجود السابق ثم لحوق العدم أو العدم من الابتداء، ولكن المصحح للتفرقة لا ينحصر بذلك بل يسوغه أيضا وجود القابلية في المحل، إذ أن الممانعة التي في الدفع لا تصحح إلا بوجود الاقتضاء القابلي وإلا فلا معنى للممانعة "لولا التقى لكنت أدهى العرب" وهو ممانعة التكليف، فالاذهاب والرفع والدفع يصححه الامكان الذاتي والاقتضاء القابلي،فليس يتوقف الذهاب على الوجود الفعلي كما يتوهم وهذا الذي قررنا باللغة العقلية هو المعنى الثاني للاذهاب الذي اشرنا إليه سالفا بمعنى الصرف والابعاد للرجس عن حريم الذوات المطهرة.
اما الآية الثانية وهي {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.
لقد تقدم البحث في شئون الكتاب في الطوائف السابقة ونشير هنا إلى المراد من المس، وقد ذكر ان المس غير اللمس الحسي بل يقصد به الادراك والعلم به، وعليه يحمل على ان الكتاب مكنون في العوالم العلوية لا يصل إليه إلا المطهر،
آيات الاقتران بين التوبة والطهارة.
وهنا نلاحظ ان منشأ التوبة هو منشأ الطهارة، وبيانها العقلي ان كل أوبة وتوبة هو رجوع وسير إلى الله عز وجل إذ هو انقلاع للنقائص، والبعد عن الباري هو سبب النقائص والقرب منه تعالى هو سبب الكمال.
آيات الاصطفاء.
وواضح ان المراد منها هو الغربلة والانتقاء ومنها {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى الْنَّاسِ بِرِسَالاَتِي}(1)، وهو اختصاص بمقام غيبي واصطفاء آل ابراهيم وآل عمران على العالمين واضح فيه انه لمقام فوق مقام بقية العالمين، وفي بعض الآيات {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}(2)، وهذا سلام مخصوص يدل على مقام مخصوص.
الطائفة السادسة: آيات شهادة الاعمال
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(3).
{كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}(4).
وقوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ
____________
1- الاعراف: 144.
2- النمل: 59.
3- التوبة 105.
4- المطففين: 17 ـ 21.
وهذا المقام هو مقام غيبي حيث فيه شهادة اعمال الأمة.
{لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(2).
الكلام يقع أولا في الشهادة على الناس فليس المراد شهادة مطلق المسلمين بل المراد ثلة خاصة منهم لقرائن:
- لما ورد في آية الحج {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هذَا..}(3) والتعبير بـ (أبيكم) حيث لا يراد منه مطلق المسلمين.
- إن هذه الامة المسلمة التي دعى لها ابراهيم ربه {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً}(4)، وهذه هي التسمية التي اطلقها ابراهيم عليهم.
- ما ورد في آيات عديدة من خصائص لذرية ابراهيم من الاصطفاء وان ليس كل الذرية مشمولون بكل دعاء وقوله تعالى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(5).
ـ وقوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هؤُلاَءِ شَهِيداً}(6)، ومن الواضح ان مقام الشهادة ليس لكل الناس بل لفئة خاصة حيث يكون الرسول شاهدا على جميع الامم الغابرة، وهذا يقتضي نوع خاص من التحمل، خارج اطار الحياة البشرية حيث انها قبل ولادة الرسول وبعد وفاته.
____________
1- يس 21.
2- الحج 87.
3- الحج: 78.
4- البقرة: 128.
5- الزخرف: 28.
6- النساء: 41.
- وقد ورد مثلها في قوله تعالى {وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}(1)، وفي قراءة أهل البيت {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } حيث فرع غايتين على الوسطية شهادتهم على الاعمال وشهادة الرسول عليهم وهذه الوسطية ليست متوفرة في جميع افراد الامة، ففيها الطغاة والظالمين فليس كونهم مسلمين هو الذي جعل لهم تلك الوسطية بل أن الوسطية في الصفات العلمية والعملية والخلقية - بين الافراط والتفريط - على نحو الاطلاق تعني التوفر على أكمل الصفات وأعلاها وإلا لم يكن وسطا ميزانا شاهدا وهو يعني العصمة من كل النقائض.
وفي العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: ظننت ان الله عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين أفترى أن من لا يجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الامم الماضية،كلا لم يعن الله مثل هذا من خلقه يعني الامة التي وجبت لها دعوة ابراهيم كنتم خير امة اخرجت للناس وهم الائمة الوسطى وهو خير امة اخرجت للناس(2).
____________
1- البقرة: 143.
2- تفسير الصافي 1: 196.
كما نستفيد من هذه الطائفة ان الامام هو رائد قافلة الاعمال الذي له وسطية الفيض في العمل وله احاطة بالعمل، وقد ورد في كثير من تعاريف الامامة على لسان الائمة بشهادة الاعمال، فقد روى في بصائر الدرجات بعدة اسانيد معتبرة عن الباقر (عليه السلام): أن الامام إذا قام بالامر رفع له في كل بلد منار ينظر به إلى أعمال العباد، وروي بعدة أسانيد أخرى أنه يجعل له في كل قرية عمود من نور يرى به ما يعمل أهلها فيها(2).
الطائفة السابعة: آيات الولاية
وهي الآيات التي تبين مقامات من ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) في الامة ولسان آخر تبين ان الولاية للنبي وآخرين معينين {أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(3).
وهذه الآيات وثيقة الصلة ببحث التوحيد في الطاعة وهي آيات اغلبها مدنية وقد اشبعنا البحث حولها في الفصول السابقة، اما هنا فالكلام في نقاط:
____________
1- المائدة 117.
2- بصائر الدرجات: 129، بحار الانوار 26: 133 ـ 134.
3- المائدة: 55 ـ 56.