الصفحة 389
  قوله تعالى {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}(1).

في هذه الآية يطرح بحث حول حدود ولايته وسلطانه،وكما ذكرنا مرارا ليس الغرض من القرآن التفنن الادبي الصرف والتزويق اللفظي المجرد بل الالفاظ لقولبة المعاني وهندسة القواعد وتحديد الحقائق، وأن انتقاء الالفاظ للدلالة على المعاني المعينة المحددة، وهنا يعبر عز من قائل عن النبي بأنه اولى من النفس فكل ما يثبت انه شأن من شئون النفس فالنبي اولى به وشئون النفس غير منحصرة في الارادة قال العلامة: "فالمحصل ان ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والكلاءة والمحبة والكرامة واستجابة الدعوة وانفاذ الارادة فالنبي أولى بذلك من نفسه ولو دار الامر بين النبي وبين نفسه في شيء من ذلك كان جانب النبي ارجح من جانب نفسه.، وكذا النبي اولى بهم فيما يتعلق بالامور الدنيوية أو الدينية كل ذلك لمكان الاطلاق في الآية"(2).

وهكذا تظهر الاولوية بنصوصية في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(3)، وواضح من نزول الآية كون موردها قضية شخصية وهي زواج زينب بنت جحش وهو امر شخصي وهذا يعني ان ولايته تعم حتى الامور الشخصية - وهاهنا اشكالات قد تطرح على تعميم الولاية:

1 ـ و حاصله ان ارادة النبي لو كانت في الاغراض الشرعية والامور العامة المهمة التي يعتمد عليها مصير الجماعة فيكون هناك وجه لتقديم ولاية النبي (صلى الله عليه وآله)، اما لو كانت إرادته صادرة عن أمر نفساني خاص وشوق شخصي فإنه لا يليق بالشريعة

____________

1- الاحزاب: 6.

2- الميزان 16: 276.

3- الاحزاب: 36.


الصفحة 390
ذلك، وأنه لو كانت الولاية عامة لشملت حتى وطي الزوجة والنظر إلى محارم المؤمنين.

والجواب: أن هذه الأحكام منوطة بعناوين خاصة كالزوجية وعناوين الرحم الخاصة كالابن والاب والعم ونحو ذلك، مضافا إلى عدم كونها أفعالا منوطة بالرضا والاختيار أي بقدرة وولاية الشخص فلم ينط حلية وطء الزوج للزوجة برضا الزوج ولم يعلق حلية نظر لمحرم للمرأة المحرم برضاه، والولاية خارج هذا الاطار وانما الولاية تشمل المواطن التي تناط بالاختيار والارادة وتكون للمؤمن ولاية على نفسه، وبتعبير آخر الاشياء الثابتة للمؤمن بما هو مؤمن وليست ثابتة له بعنوان خاص مثل عنوان الولد أو الاب أو الزوج لذا لا تصح المقايسة بين البيع والنظر لان في الاول منوط بالرضا والاختيار لذا يستطيع المالك ان ينيب غيره عنه بخلاف الوطي فإنه لا يعقل ان ينيب فيه أحد عنه والطلاق كفعل مثل انيط برضا بالزوج بما ان له الولاية وحينئذ يثبت للنبي (صلى الله عليه وآله).

2 ـ ما ذكره البعض ان الآية ليست في صدد بيان الولاية الخاصة للنبي على الامة بل في صدد بيان ولايته على بيت المال وإمرة المؤمنين بدليل ما ورد في أدلة الارث من أن النبي ولي من لا ولي له، وان الامام من ضمن طبقات الميراث وانه إذا لم يوجد من يسدد ديون الميت فالامام هو الذي يقوم بسداده، مع الاستدلال بهذه الآية في مثل تلك الروايات منها ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه كان يقول: "أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلي، ومن ترك مالا فهو لورثته"(1)، وأمثال هذه الروايات العامة التي تثبت ولايته في الامور السياسية العامة وما يشبه الضمان الاجتماعي في يومنا هذا.

____________

1- الميزان 16: 282.


الصفحة 391
ولكن الحق أن كل هذا لا يدل على تحديد لولاية النبي (صلى الله عليه وآله) وذلك لأن الآية ظاهرة في أن للنبي مقاماً فوق منزلة النفس يجب الانصياع لها في كل مورد يوجد نفوذ للارادة التي هي في مجال الولاية، وهذه الروايات في الارث لا تتنافى مع هذا الذي ذكرناه وذلك لأنها تعلل وتنزل ولاية النبي على الامة منزلة الوالد على الولد وهذه الولاية تعني أنه في موارد التزاحم تنفذ ولاية الوالد بمناط حرمة العقوق ووجوب الطاعة (وهي لا تعني أن يجب ان يستأذن من والده في كل تصرف) وهكذا في مورد البيع أنيط برضا المالك الشخصي ولم ينط بارادة النبي (صلى الله عليه وآله)، وكذلك بقية التصرفات الاعتبارية انيطت بالملاك الشخصيين ولم تنط بولاية النبي، نعم في بعض الموارد إذا أعمل النبي (صلى الله عليه وآله) ولايته وارادته تكون المفاضلة له وهي النافذة.

هذا في موارد وجود الارادة النبوية اما في موارد عدمها فأن صرف الاعتقاد والمحبة هو الذي يكون عليه الفرد المسلم، ويوطن نفسه أنه في بعض الموارد إذا أراد النبي استعمال ارادته.

3 ـ أنه لا يعقل تعميم الولاية للميل الشخصي أي أن النبي (صلى الله عليه وآله) يعمل ولايته تبعا لرغبات وأمور شخصية، لأنه يكون فيها نوع من الاستبداد الذي ينبذه القرآن والعقل فلا بد من اعتماده ميزانا شرعيا يرجع إليه في تصرفاته، وهذا يعني أن ولايته غير مطلقة بل محددة، وشبيه بهذا ما يقال في الأنفال والأخماس من أنه ليس ملكا شخصيا للامام بل هو للمقام، ويترتب عليه أن الامامة حينئذ لا تكون حيثية تعليلية بل تقيدية، لأنها إذا كانت تعليلية فتكون ملكا شخصيا للامام، وعليه لا يكون المعصوم منطلقا من الميول الشخصية خصوصا في الأمور العامة ومصالح المسلمين.

والجواب: إن في هذا الكلام خلط لأنا عندما نتكلم عن اعمال الولاية في الأمور

الصفحة 392
العادية والشخصية هل مرادنا هو غرائز المعصوم أم الارادة المعصومة؟ ولاشك أنا نريد الثاني وأصل البحث أن ثبوت هذه الولاية لهم هو بتعليل عصمتهم، فهم آباء هذا الامة فارادته معصومة عن الزلل والخطأ وغرائز الشهوة وكبرياء الذات، ولا يمكن أن تصدر منه نزوة و لا يكون تصرفه صادر عن جهالة، بل إنا من تصرفه نستكشف الارادة الشرعية لأن ارادته هي ارادة شرعية وإنْ لم نعلم جهتها الشرعية، وخلاصة القول:

إن المعصوم غير خال من الغرائز والشهوات كبقية بني آدم، لكن الفارق أن مبدأها هو العقل والارادة الالهية التي تجعل كل فعل يقوم به الانسان يكون خالصا لوجهه الكريم ولا يكون مبدؤها الشهوات الطامحة البهيمية التي تأكل الإنسان العادي، بل القوة العاقلة المتصلة بالافق المبين هي التي تسيطر على جميع القوى المادون فتجعلها تسير في خط مستقيم لا ينحرف عن جادة الصواب والحق.

وهذا يقودنا إلى بحث آخر وهو ان الجنبة البشرية في النبي والامام هل تعني الغاء الافعال الغيبية أو ان الجنبة الغيبية للمعصوم تلغي افعاله البشرية؟

وللاجابة عن هذا التساؤل نقول أنه يذكر في اقسام العبادات:عبادة الاحرار وهو من يعبد الله حبا فيه وأنه أهلا للعبادة، وعبادة التجار وهي عبادة من يرغب في الجنة، وعبادة العبيد وهي من يعبد الله خوفا من النار، ومن جانب آخر نرى في الادعية حرص الائمة على العبادة والدعاء خوفا من ناره وطلبا لجنته، وقد ألفت صدر المتألهين - في مبحث المعاد من كتاب الاسفار - إلى ان هذا الرجاء والخوف لا ينافي الاكملية، إذ أن تلبية الغرائز الدانية للنفس ليس ينافي الا كملية دوما فليس كل من طلب بعبادته الجنة فهي عبادة التجار بل توجد روايات تشير إلى أن الذي يعبد طلبا للجنة بما هي جنة من دون غاية أخرى فهي عبادة التجار أما إذا أتى بالعبادة طلبا للجنة والنجاة من النار كغاية متوسطة، والغاية النهائية هي الله فلا

الصفحة 393
يكون خلافا للراجح وتكون هي عبادة الاحرار.

وببيان عقلي ان لكل قوة من قوى النفس كمال تسعى إليه وهذه القوى المادون كمالها هو في النعيم الاخروي والاجر والابتعاد عن النار، فيجعل الانسان سعيه في الدنيا لغرض تسكين تلك الغرائز في النشأة الدنيوية كي لا تمانعه من أن يسير في طريق آخر وهو طريق الحق وسير النفوس في كمالاتها العالية، فالخوف من النار وطلب الجنة هو غاية متوسطة للقوى النازلة حتى لا تمانع من سير النفوس العالية.

وروي في الصحيفة السجادية أنه (عليه السلام) رؤي بعد منتصف ليلة متهيأ بأحسن وأجمل هيئة لي سكك المدينة فسئل: إلى أين؟فقال (عليه السلام): إلى خطبة الحور وقصد بذلك التهجد في المسجد النبوي، وفي كفاية الاثر في باب ما جاء عن الصادق (عليه السلام) في التنصيص على الائمة (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام): أن اولي الالباب الذين عملوا بالفكرة حتى ورثوا منه حب الله فإن حب الله إذا ورثه القلب استضاء به وأسرع إليه اللطف فإذا نزل منزلة اللطف صار من أهل الفوائد فإذا صار من أهل الفوائد تكلم بالحكمة فإذا تكلم بالحكمة صار صاحب فطنة فإذا نزل منزل الفطنة عمل في القدرة فإذا عمل في القدرة عرف الاطباق السبعة،فإذا بلغ هذه المنزلة جعل شهوته ومحبته في خالقه(1).

4 ـ أنه ورد في معتبرة السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "إذا حضر سلطان من سلطان الله جنازة فهو أحق بالصلاة عليها، وإن قدّمه ولي الميت وإلا فهو غاصب"(2) فقد قيد صلاته على الجنازة بإذن ولي الميت، ولم يجعل أولى منه.

والجواب: أن متن الرواية متدافع حيث ان اثبات الاحقية يفيد اولويته على

____________

1- كفاية الأثر: 253.

2- وسائل الشيعة، ابواب الجنازة، باب 23 ـ ح 3.


الصفحة 394
الكل وعلى ولي الميت، والتقييد بأن قدمه ولي الميت، ينفي الاحقية الخاصة به، إذ أن من يقدمه ولي الميت أحق من غيره سواء كان السلطان أو غيره فلو كان المدار على تقديم من يقدمه ولي الميت فلا اختصاص لها بالسلطان كما ان الاحقية هي لتقديم ولي الميت، فلو لم يقدمه لما كان أحق، فكيف يجعل الاحقية الخاصة به دون بقية الناس.

فالوجه في مفاد الرواية هو كون المراد ان سلطان الله أحق بالصلاة، وعلى ولي الميت تقديمه على الجميع، وإلا فولي الميت غاصب في التصرف فيما غيره وهو السلطان أحق منه، ويعضد هذا التفسير لمفاد الرواية، ما رواه الكليني في الصحيح عن طلحة بن زيد - وهو وإن كان عاميا بتريا إلا ان الشيخ الطوسي وصف كتابه بأنه معتمد - عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا حضر الامام الجنازة فهو أحق الناس بالصلاة عليها(1) وقد رواه الشيخ في التهذيب أيضا، فإن ظاهر اطلاقها الأحقية على الجميع بما فيهم ولي الميت، ويكفي بيانا في المقام قضية زواج زينب بنت جحش من زيد بن حارثة، فقد روى في تفسير البرهان عن الكليني عن أحمد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} قال: أنما يعني اولى بكم أي أحق بكم وبأموركم وانفسكم وأموالكم ولله ورسوله والذين آمنوا يعني عليا واولاده (عليهم السلام) إلى يوم القيامة.

____________

1- المصدر السابق ح 4.


الصفحة 395

المبحث الرابع:

الامامة في السنة النبوية


وجريا على ما اتخذناه من المنهج فإنا لن نتعرض للروايات الخاصة الواردة في مقامات الائمة (عليهم السلام) بل سوف ننتقي الروايات التي تواتر نقلها لدى الفريقين والتركيز على الفقه العقلي والذوق المعرفي.

الحديث الأول: حديث الثقلين

وهو حديث متواتر ومشهور بين العامة والخاصة ويظهر التسليم على أنه قد ذكره النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) في مواطن عدة حتى قال ابن حجر الهيثمي في صواعقه: ثم اعلم ان لحديث التمسك بذلك طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا، ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قال لما قام خطيبا بعد انصرافه من الطائف، ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواضع وغيرها اهتماما بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة(1).

والاستدلال من طرق العامة في ثبوت هذه الاحاديث له فائدة في افحام الخصم لأن الحديث كلما كان نقلته غير مؤمنين بما ورد فيه كلما كان ابعد عن الرمي

____________

1- الصواعق المحرقة: 89 ـ 90.


الصفحة 396
بالتدليس والكذب.

والبيان الاجمالي لهذا الحديث هو: ان النبي اشترط للنجاة من الضلال التمسك بالعترة ومن ثم ورد في كثير من الروايات انهم اعدال الكتاب فلا مجال لمقولة حسبنا كتاب الله ولا أن يقال حسبنا الروايات المأثورة، وعلى حسب تعبير العلامة: ان من يقول حسبنا كتاب الله فقد خالف الحديث وذلك لأن من فارق التمسك بهما فقد فارقهما لا أنه فارق أحد والتزم بالاخر.

ثم أن مقتضى العِدلية هي اتحاد صفاتهما،فإذا كان الكتاب تبياناً لكل شيء ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ونور وهدى وغير ذلك هو ثبوت الصفات للعِدل الآخر، ومن ثم تسمى كل منهما باسم الآخر، فهم القرآن الناطق، والكتاب امام لمن استهداه وعمل به.

ومن الغريب بعد ذلك حسر مفاد حديث الثقلين بكون مفاده كالقاعدة الفقهية، وهو كون مصدر التشريع الكتاب والعترة، وحجية اقوالهم، كيف وأن نفي الضلال المشروط بالتمسك بهما ليس مخصوصا بالاعمال الجارحية، بل أن الشطر الاعظم في جانب الضلال هو في العقيدة والمعرفة فبالتمسك بهما يتحرز عنه اولا، وعن الضلال في الفروع ثانيا، كما ان الكتاب الكريم أكثر ما اشتمل عليه هو في المعتقدات والمعارف، وكذلك مجموعة المنظومة الروائية المأثورة عنهم (عليهم السلام)، وهل يتم التمسك بالكتاب - مع ذلك - من دون الاعتقاد به انه منزل من الباري تعالى، فكذلك في التمسك بالعترة لا يتم من دون الاعتقاد بنصبهم من قبله تعالى، مع ان لازم حجية اقوالهم الاخذ بما يدعون إليه من الاعتقاد بامامتهم.

1 ـ حديث الثقلين في القرآن الكريم:

ذكرنا سابقا ان هذا الحديث الشريف اكد عليه القرآن في ضمن مجموعة من الآيات نستعرضها:


الصفحة 397
1 ـ قوله تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء}(1)، وقوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْء} وغيرها من الآيات الدالة على ان الكتاب الكريم فيه تبيان لكل شيء ولا يعدوه شيء ثم نربط هذا بقوله تعالى {هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(2)، حيث ان القرآن ـ الحامل لهذا النعت المادح لنفسه - لابد ان يوجد من يصل إلى هذا البيان العظيم الذي اقتصر على الذين اوتوا العلم وصاروا هم المحيطون به احاطة علمية تامة، فقد جعل الله لهذا القرآن عِدلا مطلعا على أسراره واحاطته، وهؤلاء موجودون ما وجد القرآن، وذلك لأنه لو كان تبيانا ولا يوجد من يصل إلى هذا التبيان لما كان هناك فائدة من هذا الوصف،واللطيف أنه لم يدع احد من المسلمين علم ما في القرآن إلا هم (عليهم السلام).

2 ـ قوله تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَاب مَكْنُون لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}، وهي دالة على ان للقرآن مرتبة وجودية تكوينية غيبية لا يصل إليها أحد إلا المطهرون المعصومون، كما نستطيع اقتناص عدة نكات من الآية: آ - أن مس هذا الكتاب المكنون وهو مرتبة للقرآن - قد أشرنا سابقا إلى مؤداها تفصيلا- مختص بالمطهرين مما يدل على ان لهم رقي روحي يجعلهم قادرون على الوصول إلى تلك المرتبة، ب - انهم معصومون، ج - ان المؤهل لنيل هذه المرتبة العلمية العالية بسبب الطهارة والعصمة.

3 ـ قوله تعالى {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. ويستفاد منها:

أ- ان الاستفادة المستقلة من الكتاب من دون توسط الراسخون غير ممكن

____________

1- النحل: 89.

2- العنكبوت: 49.


الصفحة 398
ويجب الاستهداء بهم في رفع المتشابه.

ب ـ كما تدل على أن المحكم أيضا لا سبيل للوصول إليه من دونهم وذلك لأن المحيط بالمحكم يرتفع عنده التشابه حينئذ حيث انها ام الكتاب والامومة هي في الاحاطة التامة، فهم يهدون إلى القرآن وعليه نستطيع فهم المعية فهما صحيحا فلا مقولة حسبنا كتاب الله تامة ولا مقولة حسبنا الروايات المأثورة تامة بل هما معا.

ج ـ إن هذه الآية تدل على وجودهم دائما لأن القرآن موجود دائما والمحكم والمتشابه موجودان فيجب أن يكون هناك من يرفع هذا المتشابه خصوصا أن التشابه في كثير من الاحيان يعود إلى المصداق والتطبيق لا المعنى المراد، و إلى تأويل القرآن تطبيقاته حيث أن كثير من الاخطاء والانحرافات تنشأ من ارجاع الصغريات أو الكليات العديدة المتوسطة إلى الكليات الفوقانية.

ومن هنا ايضا نفهم كيف يقاتل (عليه السلام) على التنزيل وعلى التأويل ايضا، ومن هنا نتوجه لمعنى ما روي عنهم (عليهم السلام) أنهم الكتاب الناطق، وأن بدونهم يعني تعطيل الكتاب وترك التمسك به، ومن أمثلة رفع التشابه ما ذكره المشايخ الثلاث وابن حمزة والحلبي ان من فوائد وجوده (عليه السلام) أنه ينبه بوسائل خفية بوسائط غيبية شيعته، ولذا اعتبروا الاجماع حجة من باب اللطف وأن الامام إذا وجد الاتفاق على الخطأ فإنه يتدخل لازالته واحداث الخلاف فيرتفع الاتفاق.

د ـ ان هذه الطائفة تدلل على وجوب الاتباع في الجزئيات والكليات المتوسطة، ومن ثم يدل على لزوم الائتمام بهم وهذا هو الهداية الايصالية التي هي حد الامامة، فإذا كان امير المؤمنين (عليه السلام) قاتل على التأويل فإن بقية الائمة يهدون إلى التأويل، فليس الايمان فقط بالتنزيل بل المهم ايضا الايمان بالتأويل وأنه بيد ثلة خاصة هم اهل البيت (عليهم السلام)، إذ ما الفائدة في الايمان بالكليات الفوقانية مع فرض الخطأ في الكليات المتوسطة بدرجات عديدة و في الجزئيات والمصاديق.


الصفحة 399
4 ـ قوله تعالى {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْء} وقوله تعالى {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.

وواضح الارتباط بين الآيتين إذ أن الكتاب الحاوي لكل شيء ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة وان الذي عنده علم الكتاب هم أهل البيت (عليهم السلام).

5 ـ قوله تعالى {كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} الدالة على أن الصادقين المأمور بالكون معهم موجودون في كل زمان ومكان.

2 ـ أما ما ورد من الالفاظ في الحديث الشريف:

التعبير بـ (الثقل) وهو العيار الذي يوضع ليثبت به الميزان، وقد يعبر به عن الثقل والتثبت وأن حركته تكون مطمئنة فالكتاب والعترة هما اللذان تستقر بهما الحياة المطمئنة الدنيوية، وبارتفاعهما يرتفع الاستقرار، وبهذا المضمون "لولا الحجة لساخت الارض بأهلها".

- (فيكم) مما يدل على التواجد الدائم وأنه امر يتوصل إليه وليس ممتنعا.

- "ما ان تمسكتم بهما" لم يقيد التمسك بمورد معين أو في مجال ما، بل جعله مطلقا حتى يشمل كل شيء ومطلق الامور وخصوصا أن القرآن جامع لكل العلوم.

- "لن تضلوا أبدا" تأكيد الاطلاق بـ (أبدا) يدل على عدم الضلال المطلق وهو يعني أنه غير مختص بالارائة فقط بل يعمه إلى الهداية الايصالية وهو يدلل على ماهية الامامة التي ذكرناه.

- "لن يفترقا" دليل على العصمة حيث أن العترة مع الكتاب دوما، والكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، وهذا غير مختص بهذه النشأة بل يدل على الاتصال في جميع مراتبه ومدارجه - إن المعية بين القرآن والعترة مؤبدة بدليل قوله "حتى يردا علي الحوض" وهذا يشمل جميع النشآت التالية للدنيوية والبرزخ والبعث وتطاير الكتب... والمراد

الصفحة 400
من الحوض هو حوض يوم القيامة وقد يشار به إلى حقائق أخرى، كما يستفاد من الورود على النبي انه (صلى الله عليه وآله) أعلى مكانة ومنزلة ومقاما من العترة ومن الكتاب إذ انه المرجع والمنتهى، وهو المبدأ "إني تارك" لحجية الثقلين وهو المنتهى (علي الحوض) لهما.

3 ـ النظريات في تفسير المعية بين القرآن والعترة:

ثم إن مقتضى المعية الواردة فهي هو التلازم بينهما كما ذكرنا مرارا وهاهنا بحث في تفسير هذه المعية وقد ظهرت ثلاث نظريات في بيان العلاقة بينهما:

النظرية الاولى:

حسبنا كتاب الله وأنه هاد، ولذلك ورد الأمر في تمييز الحجة عن اللاحجة من الروايات في عرضها على الكتاب الكريم، وهذا مؤيد بأنه المعجزة الخالدة الباقية الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا خلفه، ودور اهل البيت هو كونهم مقدمة للقرآن الذي عليه المدار فإذا وصل واصل إلى تلك المفادات بأي طريقة كانت فبها ونعمت فيكون الآل طريق ليس إلا، ويستدل لهذا البيان بقوله تعالى {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}(1)، {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(2) فدوره دور المعلم والدال على طريق التعليم والأصل هو القرآن، ويعضده ما ورد من تحدي المشركين بأن يؤتوا بمثل هذا القرآن فلو كان مغلقا مقفلا لما كان هناك معنى للتحدي، بل إن حجية قوله (صلى الله عليه وآله) مستمدة من معجزة القرآن وحجيته.

وفي مقام تقييم هذه النظرية نرى ان أدلة النظرية الثانية وان لم تتم منفردة فهي بلا شك تخدش في تمامية هذه النظرية، ولكن يمكن الاجابة عن هذه النظرية بعدة وجوه:

____________

1- النحل: 43.

2- البقرة: 129.


الصفحة 401
منها: وجود آيات - قد أشرنا إليها وهي التي ذكرنا أنها دالة على الثقلين ومعيتهما على الاطلاق وغيرها - وطوائف روايات عدة دالة على أنهم المخاطبون بالقرآن وهم القادرون على فهمه وتأويله، والظاهر من عموم الادلة أنه لا يمكن الإستبداد دونهم والانفراد في فهم القرآن.

منها: أن معجزة الرسالة المحمدية ليس هو القرآن وحده والذي يظهر من النصوص - سواء من حديث الثقلين وغيره - أن مقام النبي الخاتم فوق مقام القرآن، فهو كما ذكرنا المبدأ لهما بمقتضى أنه (صلى الله عليه وآله) أسند وجود الثقلين في الامة إلى نفسه الشريفة "إني تارك" فهو بمنزلة المصدر لاعتبارهما، وهو المنتهى باعتبار "يردا علي الحوض".

بل أحد وجوه حجية القرآن هي صفات الرسول (صلى الله عليه وآله) {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآن غَيْرِ هذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَايَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْم عَظِيم قُل لوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فُيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(1){أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنِكِرُونَ}(2) فأمانته وصدقه ووثاقته كانت بدرجة عالية فائقة تضاهي أمانة وصدق ووثوق المعجزة في الدلالة على كون القرآن من الباري تعالى، وقد لبث فيهم عمرا لم يأتهم بشىء لأنه لم يأته من تلقاء نفسه، وهذه كلها من الموثقات على ان القرآن من عند الله، والتاريخ ينقل لنا ان الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) سأل المشركين:أنه لو اخبرتكم ان العدو وراءكم وراء هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى انك الصادق الامين،إذن نفس حجية الكتاب من نفس قطع المشركين بصدقه وامانته، وما رأوا من بقية معجزاته، لكنه العناد

____________

1- يونس: 15.

2- المؤمنون: 69.


الصفحة 402
والتكبر هو الذي منعهم عن التسليم له.

ومنها: ان الاحتياج إلى الغير في فهم القرآن لا يدل على نقص القرآن الكريم، بل هو أشبه شيء بالوادي العميق الذي يحتاج في ارتياده إلى رائد يقود المسير والقرآن فيه المحكم والمتشابه والظاهر والباطن، فالنقص في الواقع هو في الانسان الذي يقرأ القرآن ويتداوله حيث لا يستطيع أن يصل إلى أعماقه، لا في القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين وعلى الانسان ان يغرف منه ما استطاع طبقا لما يمتلك من القدرات والامكانيات العلمية.

ومنها: أن الصحيح بعدما تقدم هو تكافل الحجج الالهية فصفات الرسول (صلى الله عليه وآله) وبقية معجزاته أحد وجوه حجية القرآن و القرآن هو أحد معجزات النبي (صلى الله عليه وآله)،ومن عنده علم الكتاب، والراسخون في العلم، والذين اوتوا العلم... أحد وجوه حجية القرآن،وهم شهداء للرسول (صلى الله عليه وآله)،فالتكافل والتشاهد بين الحجج برهانا وفي مقام الدلالة الاثباتية كذلك.

وأخيرا: قد ذكرنا بحثا مبسوطا في الفصل الاول في جواب منهج العلامة الطباطبائي القائل أنه بممارسة السنة يحصل لنا الدربة في طريقة تفسير القرآن بالقرآن.

النظرية الثانية:

ومؤداها حسبنا الاحاديث المأثورة عن العترة الطاهرة وقد نادى بها الاخباريون، واستدلوا على ذلك بما ورد بأنهم المخاطبون بالقرآن وأنه لا يحيط بالقرآن إلا أهل البيت، وأن القرآن فيه المحكم والمتشابه وله ظاهر وباطن وفيه العام والخاص والناسخ والمنسوخ، وهذا يعني عدم امكان التوصل لنا إلى معانيه المرادة الواقعية، وكذلك يستدل بما ورد من النهي عن التفسير بالرأي والذي فسر على أساس النهي عن الاستبداد بالرأي، كما يستدل بالحصر الوارد في قوله تعالى

الصفحة 403
{والرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} حيث أن فيها حصرا في عدم العلم بالتأويل إلا لهؤلاء، وهذا يعني ان المحكم ايضا لا يحيط به كل أحد وذلك لأن للمحكم قيمومة على المتشابه باعتبار أنه أم الكتاب فلو كان غير الراسخين لهم احاطة بالمحكمات فلا يبقى متشابه حينئذ وعليه يبطل الحصر الوارد ان المتشابه لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.

وما ذكره الاخباريون من مواد الأدلة متين لكن لا يؤدي إلى ما ذكروه، ونفس أدلة النظرية الأولى تبطل أدلتهم، كما أن النصوص القرآنية لا تجعل المدار على أقوال العترة فقط بل تنص على أن للقرآن دورا خصوصا مع روايات العرض على الكتاب، ونفس الآيات التي مفادها حديث الثقلين وكذا نفس الحديث التمسك فيه بهما معا لا بأحدهما هو المدار في عدم الضلال، بل قد تقدم أن التمسك بأحدهما هو تمسك صوري وإلا فهو في واقعه عدم تمسك به أيضا لأنهما لا ينفكان عن الآخر فالانفكاك عن احدهما انفكاك عن كل منهما معا.

النظرية الثالثة:

وهي التي نادى بها أغلب علماء الامامية والتي تنص على المعية على نحو المجموعية لا الاستقلال كما أفادته النظريتان السالفتان، وهذه المجموعية هي المدار في المعرفة الدينية واستنباط الاحكام الشرعية الاصولية والفرعية، فالتعامل يكون معهما كوحدة واحدة. هذا هو البيان الاجمالي لمفاد النظرية، اما المفاد التفصيلي:

فإن المعية بين الكتاب والسنة على صعيدين أحدهما تكويني والاخر اعتباري باعتبار الحجية. أما الصعيد الاول فقد اشرنا في بحث الآيات إلى طوائف عدة تشير إلى أن للقرآن حقائق تكوينة و مدارج في عالم التكوين، وأن لأهل البيت حقيقة تكوينية وأن تلك الحقيقتين في الواقع واحدة.


الصفحة 404
ونشير مجملا إلى ذلك ببيان أن المصداق الحقيقي للكتاب هو الشيء الوجودي الجامع للكلمات الحقيقية فالكتاب له دلالة على شيء جامع لكل شيء وهو شاعر، ومَن تكون له الاحاطة الحضورية بذلك الوجود الجامع، ويكون هناك اتحاد بين العالم والمعلوم والعلم فهذا يعني أن العلم يكون فصلا نوعيا واحدا، وكذا الفصول النوعية للراسخين في العلم والذين أوتوا العلم فهي تدل على أن الفصل النوعي كمال جوهره ورقيه بذلك العلم، وهو يدل على الوحدة التكوينية بينهما فهناك معية في مدارج الوجود.

نعم في تنزل هذه الحقائق العلوية تتنزل بكثرة ويعبر عن ذلك في بعض الروايات أن الائمة نور واحد، وقد يعبر عنه في مقام التنزل بالروح الاعظم التي تنتقل من امام إلى امام.

فإذا كان الحال هكذا في مدارج التكوين فهو بنفسه في مدارج الاعتبار، فالوجود الاعتباري اللفظي المصوت أو للنقوش المرسومة في الخط للقرآن في محاذاته وجود اعتباري للامام وهو كلامه، ومما تقدم يتضح أن كلامهم (عليهم السلام) واحد وإن كان متفرقا ومجموعه حجة وإن تعددت رواياته، نعم القرآن له اضافة تشريفية في كونه كلام الله وكلام العترة هو دونه وانه كلام المخلوق وفي الجهة الحقيقية التكوينية فإنهم كلمات الله التكوينية، كما في التعبير عن عيسى أنه كلمة الله وهم حقيقة القران.

ومن هنا نفهم لماذا يجب عرض رواياتهم على الكتاب الكريم بمعنى ان المتشابهات من كل من الكتاب والعترة تعرض على المحكمات منهما جميعا، وما ذلك إلا لأن مصدر الكلام واحد، وقريب من هذا التعبير في عالم الاعتبار والحجية ما يقال إن الكتاب الكريم هو كالمتن، وإن روايات المعصومين هي كالشرح على المتن وإنهم شارحون لشريعته (صلى الله عليه وآله) وهادين إليها على اساس {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ