الصفحة 405
قَوْم هَاد}.

4 ـ خلاصة ما يستفاد من الحديث

1 ـ أن من المسامحة والبعد عن الانصاف حصر مفاد الحديث في التشريع والفروع حيث أن التمسك بهما ورد مطلقا من دون تقييد ومقتضى الاطلاق وجوب الاخذ بهما في الاعتقادات، كما ان مقتضى ذلك هو وجوب الاعتقاد بكل منهما.

2 ـ دوام وتأبيد بقاء امامتهم وهذا التأبيد شامل لعالم الدنيا والحشر.

3 ـ أن النبي (صلى الله عليه وآله) هو المبدأ لحجية الثقلين والمنتهى لهما وأنه أفضل من أهل البيت (عليهم السلام).

4 ـ ان لهم مقام غيبي باعتبارهم عِدلا للقرآن فصفات القرآن المسطورة في الآيات والسور المتكثرة كلها فيهم بمساعدة الآيات الدالة على الحديث.

5 ـ المعية في الحجية بين الكتاب والعترة فلا يجوز الاكتفاء بأحدهما دون الاخر.

6 ـ مفاضلتهم على بقية الانبياء حيث أن الكتاب وصف بأوصاف لم يتصف بها أي من الكتب السماوية التي نزلت على الانبياء، وكونهم عدل الكتاب المتصف بهذه الاوصاف يدل على مدارجهم الروحية واحاطتهم بهذا الكتاب الذي امتاز بهذه المميزات.

الحديث الثاني: "من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية".

وهذا من الاحاديث التي ثبتت صحتها من كتب العامة والخاصة والكلام في فقه الحديث.

وللأسف حاول البعض تفسير هذا الحديث سياسيا بمعنى وجوب مبايعة الامام

الصفحة 406
ولو كان فاسقا ولا يجوز ان تكون رقبة وذمة المكلف خالية من البيعة، وقد وجدنا امثال هؤلاء في العصر المتقدم كعبد الله بن عمر مع الحجاج عندما ذهب إليه ليبايعه مستدلا بهذا الحديث، وسوف نتناول الحديث في نقاط عدة:

  إن أول أمر يواجهنا في هذا الحديث هو الأثر المترتب على عدم المعرفة لا عدم البيعة، وهو أن تكون النتيجة كميتة الجاهلية أي أن هذا الانسان مدرج في الذي لم يشم رائحة الاسلام في الآخرة أي بحسب الواقع، ويكأن الرواية الشريفة تعطي مفاد الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} فرضيت كانت متوقفة على الامامة التي بلّغها الرسول في هذا اليوم وبها يتم الدين والاسلام كمجموع متكامل وكل شيء مرهون به، وقبله لم يكن رضا، ولذلك قال عز من قائل {وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وهذه كلها تؤكد المضمون الذي يورده هذا الحديث من أن معرفة والاعتقاد بالامامة دخيل في أصل الدين والتدين بالاسلام بحسب الواقع والآخرة.

  نعود إلى الشرط المذكور في الرواية حيث أنه مطلق غير مقيد بشيء بل هو المعرفة المطلقة مما يدلل على أن المطلوب العمدة هو أمر اعتقادي، فليس المطلوب الاهم المتابعة في الفروع ولا المتابعة السياسية بل المتابعة الاعتقادية والمعرفة والتدين والائتمام، وهل يعقل ترتب مثل هذه النتيجة وهي الموت ميتة الجاهلية على مجرد عدم المتابعة في الفروع، بل الأمر أهم وأكبر وهو محور اعتقادي المعرفة والاعتقاد، ولو فرض المتابعة السياسية المصطلح عليه بالولاء السياسي والمتابعة في الفروع والاخذ من الامام المنصوب أحكام الفروع من دون المتابعة الاعتقادية المصطلح عليه بالولاء الاعتقادي المعرفي لما تحقق أصل التدين بالاسلام بحسب عالم الآخرة والواقع.

  إن الرواية مطلقة من حيث الزمان والمكان فهذا اللسان عام وشامل لكل

الصفحة 407
الافراد في جميع الازمنة، مما يدلل على عموم وجود الامام وانه موجود حتى قيام الساعة وهذا يؤيد مدعى الامامية من تأبيد وجود الامام.

  إن الرواية تدلل على وجود واجب شرعي في قسم من الأصول الدينية على الفرد المسلم وهو السعي إلى معرفة الامام في كل فترة من فترات حياته فهذه وظيفته التي أوكلها إليه الحق سبحانه ويقع على عاتقه تشخيص الامام، وإن هذا الواجب جانحي، وإن هذا الامام تناط به النجاة من النار.

  ثم أن هذا الوجوب الاعتقادي - من قسم الاصول الدينية - دال على كون المعتقد من الامامة ليس من سنخ حسي مشهود بالآلات الحسية، بل متعلق المعرفة ومتعلق الاعتقاد هو من السنخ الغيبي فمثلا نبوة النبي ليست امرا حسيا بل شيئا وراء الحس ومن قبيل نشأة الروح، وإن كان لها آثار في عالم الدنيا والحس دالة عليها برهانا، وإلا فمثل السماء والارض والشمس والقمر والنجوم والجبال ونحوها من الحسيات ليست تتعلق بها المعرفة الدينية،فالمعرفة الحسية والشهود المادية ليس من متعلقات الايمان والمعرفة الدينية، فالايمان ركن متعلقه لا بد أن يكون غيبيا من نشآآت أخرى وأن كانت تلك النشآآت مهيمنة محيطة على الحس، يقصر الحس عن مدرج ظهورها فتكون غيبا عنه، فظهورها الشديد عين غيبها عن الحس.

  وقد ينقض على هذا اللسان ما ورد من ان من استطاع الحج ولم يحج او سوّف في ذلك ثم مات بعثه الله يهوديا أو نصرانيا، ولكن التأمل في هذا المفاد يبين الفرق بين ان يبعث يهوديا وان يبعث كافرا جاهليا فإن الثاني هو من لم يدخل في الدين السماوي من الاساس أما الأول فهو المعتنق للديانة الالهية إلا انه بعّض في التدين وآمن ببعض وكفر ببعض، فقد تكرر في أحاديث كثيرة ان تكون هناك درجة معينة من العذاب في النار مترتبة على ارتكاب بعض الكبائر، ولكنه بخلاف

الصفحة 408
ما نحن فيه من ان المنكر وغير العارف لإمام زمانه يخلد في النار ويموت ميتة الجاهلية،وهو إنما يتفق مع كون الواجب الاعتقادي من اصول الديانة.

الحديث الثالث: في تبليغ سورة براءة

وقد ورد الحديث بألسنة متعددة منها: ان جبرائيل نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك، ومنها: لا يبلغ عنك إلا علي، ومنها: لا يؤدي عني إلى أنا أو رجل مني.

ولا خلاف في نزول هذا الحديث في امير المؤمنين (عليه السلام)، ولكن الكلام في مدلول هذا الحديث الشريف الذي ينطوي على دلالات مهمة تفوق مسألة التبليغ لسورة براءة كما يحاول كثير من العامة تصويرها على أساس أن من عادات العرب ان لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته ومراعاة هذه العادة الجارية هي التي دعت النبي (صلى الله عليه وآله) أن يأخذ سورة براءة - وفيها نقض ما للمشركين من عهد - من ابي بكر ويسلمها إلى علي ليستحفظ بذلك السنة العربية فيؤديها عنه بعض اهل بيته ويزعمون أن ابا بكر لم ينفصل من امارة الحاج.

وواضح أن هذا التأويل من العامة لا أساس له.

أما أولا: فأي شهادة من التاريخ أن من عادة العرب ذلك بل من عاداتهم أنهم يبعثون في اجراء العهد أو حله علية القوم ومن يطمئنون به، وأي مدرك في سير ووقائع العرب دال على أنه يجب أن يكون من عشيرة القوم، فهذه قريش في صلح الحديبية بعثت مسعود الثقفي وهو ليس من قريش لإبرام العهد مع النبي (صلى الله عليه وآله) والواقعة في تبليغ سورة براءة ليست قبلية وعائلية وشخصية بل أمر الهي لا يتحمله إلا من هو أهل له.

وثانيا: إن كتب السير والتاريخ مختلفة في كون أمارة الحاج بيد أبي بكر في ذلك

الصفحة 409
العام، مضافا إلى أن أبا بكر لم يكن هو الأمير إلى الابد بل تولى الامارة غيره أيضا.

وثالثا: ما ذكره العلامة الطباطبائي: من أن البحث ليس في أفضلية مَن على مَن، بل الكلام في ما يمكن فهمه من الحديث، و"وليت شعري من اين تسلموا ان هذه الجملة التي نزل بها جبرائيل: "انه لا يؤدي عنك إلا انت او رجل منك" مقيدة بنقض العهد لا تدل على ازيد من ذلك ولا دليل عليه من نقل او عقل فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يؤديه لا يجوز ان يؤديه إلا هو أو رجل منه سواء كان نقض عهد من جانب الله كما في مورد سورة براءة او حكما آخر إلهيا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يؤديه ويبلغه"، ثم أن هذا التبليغ يتميز أنه التبليغ الأول عن السماء حيث ان الحكم لم يعلن بعد على مسامع المسلمين وغيرهم بل اختص به النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن هنا ورد في الرواية أن الكتاب كان لدى ابي بكر مغلق لا يعلم ما فيه وعندما اتى الامام اخذه منه.

وهذا يغاير ابلاغ بقية الاحكام بتوسط من سمعها إلى من لم يسمعها التي كان النبي قد أعلن عنها في ملأ المسلمين في مناسبات عدة، فمقام تبليغ سورة براءة هو مقام الناطق الرسمي عن السماء وهذا لا يعني الشركة في النبوة مع النبي الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم)لأن الوارد هو لا يؤدي عنك إلا انت أو رجل منك وليس الوارد لا يؤدي إلا انت أو رجل منك، وواضح الفرق بين المعنيين بأدنى تأمل.

وبتعبير آخر: أن الذي له أهلية التبليغ عن الغيب يجب أن يكون له ارتباط بالغيب، فلا يبلغ عن تلقيك النبوي إلا لسانك النازل وبفيك أو فاه آخر لكنه من سنخك الذي يسمع صوت الوحي ويرى نوره ويشمه، ويسمع رنة ابليس، كما تقدم في الخطبة القاصعة.

وهذا يفتح الباب لفقه حديث المنزلة (أشركه في أمري) وأن هارون كموسى نبي، وحيث يضفي النبي على عليّ تلك المنزلة إلا النبوة أي الانباء فبقية الصفات

الصفحة 410
تكون ثابتة للامام بمقتضى حديث المنزلة، كما يتضح معنى الحديث "يا علي انا وانت ابوا هذه الامة" والظاهر أن هذا المقام من مختصات علي أمير المؤمنين، وهكذا نفهم المؤاخاة بينهما في المدينة ليست اعتبارية بل تكوينية حقيقية.

فالمدلول الذي نستفيده من الحديث أنه يشير إلى مقام للامام (عليه السلام) وأن مقام تأدية الاحكام الالهية لا يكون إلا للنبي أو من يؤديه عنه وهو منه، ونستفيد منه أن ما يبلغه الامام وبقية الائمة لا ينحصر فيما بلغه النبي بل حتى الموارد التي لم يبلغها للامة فهم يبلغونها عنه، وتشمل الأخذ عن مقامه النوري بعد مماته كما هو الحال في مصحف فاطمة عليها السلام،لأن عنعنتهم عن النبي ليست روائية حسية سماعية كما هو المتعارف في نقلة الحديث خاضعة لشرائط الحس والمشاهدة، بل هي عنعنة نورية.

وقد روى الصدوق في العيون "ان المأمون سأل الرضا (عليه السلام): ما وجه إخباركم بما يكون؟ قال: ذلك بعهد معهود إلينا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس؟ قال (عليه السلام): اما بلغك قول الرسول (صلى الله عليه وآله) اتقوا فراسة المؤمن،فإنه ينظر بنور الله، قال: بلى، قال: وما من مؤمن إلا وله فراسة ينظر بنور الله على قدر ايمانه ومبلغ استبصاره وعلمه وقد جمع الله في الائمة منّا ما فرقه في جميع المؤمنين، وقال الله عز وجل في محكم كتابه {إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات لِلْمُتَوَسِّمِينَ} فأول المتوسمين رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم امير المؤمنين (عليه السلام) من بعده، ثم الحسن والحسين والائمة من ولد الحسين (عليهم السلام) إلى يوم القيامة، قال: فنظر المأمون فقال له: يا أبا الحسن زدنا مما جعل الله لكم أهل البيت، فقال الرضا (عليه السلام): إن الله عز وجل قد ايدنا بروح منه مقدسة مطهرة ليست بملك ولم تكن مع أحد ممن مضى إلا مع رسول الله وهي مع الائمة منا تسددهم وتوفقهم وهو عمود من نور

الصفحة 411
بيننا وبين الله عز وجل"(1).

ومن هنا يجب ان نهتم كثيرا بإزالة هذا الالتباس عن أذهان الجميع من ان روايتهم ليست رواية بالموازين العادية أوان حجية اقوالهم بما أنهم رواة.

ونتجاوز اطار اللفظ إلى عمق المعنى لنقول إن هذا الحديث يدلنا على حجية الزهراء البتول (عليها السلام) وذلك من جهة ان المناط في حجية المؤدي عن النبي (صلى الله عليه وآله) هو الوصف المتعقب للرجل وهو (منك) وهذا الوصف يدل على عدم خصوصية الرجل بل الوصف هو المهم وقد ورد في الحديث انها منه (صلى الله عليه وآله)، فما تؤديه عن النبي لا ينبغي التشكيك فيه، ومن هنا كان مصحف فاطمة مصدر لعلوم الائمة (عليهم السلام).

اشكال ودفع:

قد يقال ان رواة الحديث الذين ينقلون الحديث عن المعصومين لهم هذا المقام، حيث يسأل الامام حول مسألة معينة ولم يكن الامام قد أظهر الحكم فيها قبل ذلك، ويكون دور الراوي نشر هذا الحكم بين أهل مدينته أو قبيلته وما شابه ذلك؟

والجواب عن هذا الاشكال: أن الحديث يتحدث عن مقام خاص اختص به الامير (عليه السلام)، وليس الحديث عن مسألة شرعية سألها أحد المسلمين بتلقيه حسا عن حس المعصوم، وهذا المقام هو مقام التلقي النبوي الذي حازه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولو كان هذا التلقي عن الوجود النازل لمقام النبوة لما قيل في الحديث القدسي لا يؤدي عنك إلا أنت أو... فتأدية النبي (صلى الله عليه وآله) عن نفسه، ليست بمعنى تأدية حسه

____________

1- عيون اخبار الرضا (ع) 2: 200 باب 46.


الصفحة 412
الشريف عن حسه بل هو نحو من التجريد وتأدية المراتب النازلة من وجوده الشريف عن المراتب العالية من روحه المقدسة، وعن مقام التلقي للوحي في درجة وجوده،فالذي يبلغ عن ذلك المقام من روحه وجوده النازل أو رجل منه يتلقى عن ذلك المقام، فعلي (عليه السلام) يتلقى من المقام الروحي النوري النبوي كما تتلقى القوى الادراكية النازلة في نفس النبي (صلى الله عليه وآله) عن المقام الباطن لروحه الشريفة،ومن ذلك يتضح أن عليا في حين أخوته للنبي (صلى الله عليه وآله) إلا ان النبي (صلى الله عليه وآله) يمتاز عليه وعلى بقية الائمة (عليه السلام) انهم يتلقون مما قد تلقاه المقام الروحي النوري النبوي أي في طوله متأخرا عنه.

فالتصريح بأنه لا يؤدي عنك أي عن هذا المقام الذي انت فيه إلا انت او رجل منك، والترديد هو لإفادة كونكما في نفس هذه المرتبة الصالحة للتأدية عن مقامك النوري.

وجواب ثالث: أن المعصوم في السؤال والجواب العاديين لا يكون غرضه تخصيص السائل دون غيره بالحكم بل أي شخص أتى وسأله هذا السؤال لكان أجابه بنفس الحكم لأنه أدى إليه الحكم عبر قناة الحس إلى حسه، فليس المقام مقام تبليغ حكم عن السماء وكون المبلغ هو الناطق الرسمي، بل من باب الاتفاق اختص هذا السائل بهذا الحكم، ثم إن الحصر الوارد في هذا الحديث القدسي عن رب العزة بالحصر في التأدية بهذين دليل على ان هذا لا يشمل مقام الرواية.

الحديث الرابع: "ان الله يرضى لرضا فاطمة"

إن هذا الحديث من الاحاديث المهمة التي نستفيد منها عصمة الزهراء البتول، وليست المسألة هي مداراة من العلي القدير لنبيه الاكرم في تبجيل ابنته التي يحبها، بل هو مقام حباها الله به،حيث تكون هي ممثلة لرضا الله جل وعلى ويكون رضاه

الصفحة 413
برضاها، وهذا يعني أنها لا تفعل المعصية لأنها ممثلة لرضا الرب وغضبه.

وقد ذكرنا سابقا في بحث المراتب الوجودية للانسان وتنزل العلوم ان للانسان مراتب ثلاث هي مرتبة العلم الحضوري ومرتبة العلوم الحصولية ومرتبة القوى العملية التي هي دون المرتبتين، وسلامة الافعال تتوقف على مدى المطابقة بين هذه المدارج الثلاث حيث تتنزل الارادات الالهية من دون عوائق، ولا تكون هناك مشاكسات من القوى المادون وذلك إذا ما ابتلي بالامراض والوساوس والبلادة والحدة أو سلطنة الغرائز النازلة.. وقد استعرضنا ذلك بنحو التفصيل وشواهده من الآيات القرآنية.

وبناء على هذا فعندما يقال ان الرضا الالهي هو برضا أحد عباده فهذا يعني أن هذا العبد هو ممثل للمشيئة الالهية ويكون كل حركاته وسكناته لا تتخلف عن المشيئة الالهية، وهذا يعني ان تكون القنوات التي تسير فيها علوم الانسان وهي ما تقدم ذكره غير مبتلاة بأمراض ادراكية ولا عملية، ولا يكون هناك عائق أمامها فتتنزل صافية من دون كدر، وهذا ليس تأليها بل هو استقامة في مدارج الوجود فيخرج العمل مظهرا للارادة الالهية، وعلى هذا البيان لا تنحصر عصمة في الموضوعات الكلية بل تشمل الجزئيات الخارجية ولا يشذ عنها مورد، وقريب من هذا المعنى الحديث الذي ينص على ان عليا مع الحق والحق مع علي، إذ لا يمكن أن تكون هناك موائمة بينه وبين الحق إلا إذا افترضنا ان هناك عصمة علمية عملية تجعل كل تصرفاته نابعة عن العلم الحضوري وأن اراداته تمثل الارادة الالهية.

ومنه نستطيع الربط مع الاحاديث التي تبين كيفية تلقي الامام (عليه السلام) عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) حيث لا يكون التلقي من الوجود البشري للنبي (صلى الله عليه وآله)، بل هو تلقي عن مقام النورية للنبي وخصوصا في مثل الحديث القائل "علمني رسول الله الف باب من

الصفحة 414
العلم ينفتح من كل باب الف باب"، حيث لا يوجد تفسير لها على نحو العلوم الحصولية، بل هي الوراثة النورية التي ورثها النبي (صلى الله عليه وآله) للائمة الاطهار، وعليه يكون أداء الائمة عن النبي ليس عن مرتبته الوجود الحسي له،بل عن المرتبة النورية.

وقد اورد على هذا التقريب لفقه الحديث عدة نقوض حاصلها: انه قد ورد في الاحاديث والآيات القرآنية تصريح برضا الله تعالى عن بعض المؤمنين، مثل {قَالَ اللّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(1)، وورد في موارد اربعة قوله تعالى {رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ} الفتح 18، المجادلة 22، البينة 8، التوبة 100، ما ورد في الحديث الشريف "رضي الله عن عمار"، وان ابا ذر لا يكذب قط.

وهناك جواب تفسيري عن هذه الاحاديث ينفع جوابا كليا عن هذه الموارد نذكره: وهو ان العصمة على درجات وليس كلها من نحو واحد، فإن منها العلمية ومنها العملية ومنها الذاتية ومنها الافعالية أي في مقام الفعل دون الذات، وكل منها فيه شدة وضعف، وقد مر بعض الحديث عن ذلك في آية استخلاف آدم والفرق بين عصمته وعصمة الملائكة،كذلك هناك مقامات تتلو آدنى مراتب العصمة كمقام الحكمة الذي من أوتيه أوتي خيرا كثيرا كما وردت الاشارة إليه في الآيات، وكمقام الصديقين ومقام أهل الفوائد ومنهم من يعطى علم البلايا والمنايا وغير ذلك من المقامات.

ويشير إلى تلك المقامات حديث الامام الصادق (عليه السلام) الذي رواه الخزاز القمي في كفاية الاثر: 253، وهي مقامات من سنخ غيبي وهيبة ملكوتية بحسب تولي الشخص وتسليمه لأوامر الله تعالى ونواهيه الالزامية والندبية وطوعانيته لاراداته.

____________

1- المائدة 119.


الصفحة 415
فلا يقال بامتناع انوجادها في من يتلو المعصومين من المؤمنين المتمسكين بحبل الله كالاوتاد والابدال الذين اخلصوا في طاعة الله، مثل لقمان الذي لم يكن نبيا ومع ذلك اوتي الحكمة وهي نحو يتلو العصمة العلمية، وكما في ذي القرنين الذي ورد عن امير المؤمنين (عليه السلام) أنه رجل أحب الله فأحبه الله وآتاه ما تذكره سورة الكهف،و مثل زينب عندما قال لها الامام زين العابدين يا عمة انك عالمة غير معلمة، وفي السيد محمد ابن الامام الهادي (عليه السلام) وابي الفضل العباس وغيرهم من ابناء الائمة وهكذا عمار وابو ذر، مضافا إلى انهم ممن ائتم بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) وآمن بالمقام الغيبي للائمة ويتولون أهل الكساء وممن يتشفع بهم، وهذا المقدار لا يجعل مقامهم مقام الائمة.

وقد ذكرنا في علم الكلام وعلوم المعارف أن الصفات الكمالية وإن كانت مشتركة بين الخالق وعبده ولكنها ليست بمرتبة واحدة كالصدق فقوله تعالى {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً} و النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) هو الصادق الامين أيضا، لكن اتصاف الحق تعالى بهذه الصفة في مرتبة واجب الوجود - لا متناهية - غير مرتبة اتصاف الرسول الاكرم بها، وهذا التفاوت في الدرجات حاصل أيضا بين المعصوم وغيره اذ ان رضا الله لرضا المعصوم غير رضاه على عمار او ابي ذر لأنهم آمنوا بالمعصوم واعتقدوا به فهم في مرتبة تلي المعصوم، وروايات كثيرة تشير إلى الاوتاد وان وجودهم هو حفظ لمدنهم او لمن يحيط بهم، كالذي ورد عن الرضا (عليه السلام) فى زكريا بن آدم(1) والذي ورد في سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار(2)، كما تشير المصادر ان عمار انما وصف بهذا الوصف في سياق نصرته وولائه لعلي (عليه السلام)(3).

____________

1- رجال الكشي: 857 ح 111.

2- المصدر السابق: 33 ح 13.

3- صحيح مسلم - كتاب الفتن، وكتاب صفات المنافقين.


الصفحة 416

اما الجواب التفصيلي:

1 ـ اما آية المجادلة {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِروح مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وهذه الآية لا ينقض بها على ما تقدم وذلك لأن الرضا الالهي مترتب على الاتصاف بهذه الاوصاف الخاصة وهي الايمان بالله واليوم الآخر و عدم موادة من حاد الله ورسوله، كتب الايمان في قلوبهم، التأييد بروح منه و الاتصاف بها مورد رضا الله وهو يختلف عما نحن فيه حيث ان الرضا مترتب على ذات فاطمة من دون تقييدها بوصف معين ولا زمان ولا مكان معين بل هو عام شامل ومطلق، اما ما ورد في الآية فهو رضا للوصف لا لذات هؤلاء بما هي هي.

2 ـ وقريب منه ما في سورة البينة حيث أن الرضا هو للوصف ويزاد عليه ما ختمت به الآية من ان {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي مقيد بالخشيه منه تعالى وإلا ينتفي عنه الرضا، مضافا إلى ان المفسرين ينصون على انها نزلت في علي (عليه السلام)، وقد ذكره السيوطي في الدر المنثور في ذيل آية خير البرية من السورة.

3 ـ آية الفتح: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهذه الآية الشريفة تؤكد نفس المدلول من ان الرضا هنا بالوصف وهو الايمان لا انه مطلق وذلك مع ان مطلق المسلمين قد بايع لكن الرضا لم يكن عن الكل، ويؤيد ذلك "إذ التعليلية حيث أن الرضا نتيجة الفعل الصالح وهو المبايعة تحت الشجرة وليس رضا بالذات، ثم إن تمامية المبايعة والحصول على الرضا الالهي مناط بالموافاة والبقاء على العهد حتى الموت، وهكذا آية المائدة التي ذكر فيها الرضا مقيدا بالوصف وهو الصدق مع

الصفحة 417
شرط الموافاة.

4 ـ أما آية التوبة {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَان رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} فالجواب عن النقض بها مضافا إلى الاجوبة السابقة..

أ- ورد في الحديث في ذيل الآية انهم هم النقباء وابوذر والمقداد وسلمان وعمار ومن آمن وثبت على ولاية امير المؤمنين (عليه السلام)(1). ويشهد لذلك و لعدم إرادة العموم أن سورة التوبة تقسم من صحب النبي (صلى الله عليه وآله) من المكيين والمدنيين إلى اقسام عديدة كالذين في قلوبهم مرض، ومن أهل المدينة مردوا على النفاق،الذين يلمزون المطوعين، المخلّفون، الذين يؤذون النبي، المنافقون وغيرهم.

ب ـ إنه ليس فيها تعميم لكل المهاجرين والانصار بل خصوص السابقين،بل خصوص الأولين من السابقين، بل خصوص الاولين من السابقين.

ج ـ إن اصطلاح السابقون تشرحه الآيات القرآنية {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ومن هم المقربون {كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} فهم شهداء الأعمال الذين لا يكونوا بشرا عاديين إذ لا يمكن أن يشهد الأعمال إلا البشر الذين يكون لهم نفوس خاصة هي عِدل النبوة، كما تقدم مفصلا.

د ـ إن الآيات في سورة المدثر تشير إلى أن بعض من أسلم أول البعثة من المنافقين من الذين في قلوبهم مرض أي أن اسلامهم لم يكن عن ايمان فلا يمكن أن يراد منها السابقون من المهاجرين والانصار على العموم،وكذاما في سورة العنكبوت المكية الآية 1 ـ 13 وسورة النحل المكية: 107 ـ 110.

هـ - ورد في الرواية ان المقصود من السابقين علي (عليه السلام) ومن الانصار الحسن

____________

1- تفسير الصافي: 2: 369.


الصفحة 418
والحسين، والذين اتبعوهم باحسان هم الائمة الذين لم يدركوا النبي (صلى الله عليه وآله)، ويشهد لذلك ما تقدم من إرادة شهداء الاعمال من السابقين الاولين.

و ـ ان (من المهاجرين) ليس متعلقا و لا معمولا للسابق بل للفاعل المضمر فيه إذ لا تصلح (من) التبعيضية للتعلق لمادة السبق،ولو أريد ذلك لأتي بلفط (في الهجرة) ونحوه، وهذا يعني أن (السابقون) وصف مستقل و(المهاجرين) وصف مستقل آخر لهؤلاء الاشخاص، لا أن المراد السابقون هجرة كما يريد البعض تصويرها.

ز ـ أنه ورد في العديد من السور تأنيب الصحابة الذين خالفوا أوامر الرسول، ونجد ذلك في سورة الانفال وهي من أوائل السور المدنية وتتعرض لغزوة بدر، وتقسم مَن شهد بدرا إلى صالح وبعضهم طالح، وكذا سورة آل عمران تتعرض لمَن شهد أحدا وتقسمهم إلى ثلاث فئات واحدة صالحة مخلصة واثنتين طالحتين، فلاحظ سياق مجموع الآيات في السورتين، وكذا سورة الاحزاب في مَن شهد الخندق وسورة محمد، وفي سورة التوبة نفسها وهي آخر ما نزل في المدينة تقسيم مَن صحب النبي (صلى الله عليه وآله) من المكيين والمدنيين إلى فئات عديدة كما تقدم وتشير إلى فرار المسلمين في حنين إمام الزحف إلا ثلة من بني هاشم ومن هنا لا نستطيع القول ان الآية شاملة لكل من أسلم مع الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله).

وهناك نكتة تشير إليها الآية وهي أن التابع موصوف بالمحسن فكيف بالسابق إذ مقام الاحسان ليس من المقامات العادية حيث ورد في القرآن {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ}(1)، فهو مقام بعد الايمان

____________

1- المائدة: 93.


الصفحة 419
والعمل الصالح والتقوى بدرجات من المنازل العلوية، ثم المذكور في هذه الآية هو التابعين المقيدين بقيد الاحسان، وهذا لا يكون إلا في المعصومين الذين لم يشهدوا الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله).

وورد في رواية أن عليا (عليه السلام) قرأ هذه الآية في زمن عثمان وقرأ بعدها آية السابقون السابقون وقال: من يشهد أنها نزلت فيمن؟ فشهد عدة من الصحابة أنها نزلت في الانبياء والاوصياء وفي علي،وكذا ينفي العموم ما ورد في مسلم (كتاب الفضائل - باب حوض النبي (صلى الله عليه وآله)) والبخاري (كتاب الفتن) مِن عرض الصحابة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الحوض، إلا أن جماعات منهم يحال بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويذادون عن الحوض فيقول: اصحابي اصحابي، فيقال: لقد أحدثوا أو بدلوا بعدك، فيقول: بُعدا بُعدا "على اختلاف في الفاظ الحديث، وهي تؤكد ان الصحبة ليست هي الموجبة للنجاة بل الموافاة على منهاج رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى الممات هو المناط في النجاة.

الحديث الخامس:

"علي مني وانا من علي"، هذا الحديث الشريف الذي تواتر نقله في كتب العامة والخاصة، دال بلا ريب على النشوية وهي ليست البدنية فقط بل هي وحدة بلحاظ الروح و النورية، وفي بعض الروايات قال جبرائيل وأنا منكما، وهذا يدل على ان الوحدة من سنخ الملك الغيبي العلوي اللطيف، وقريب من هذا المعنى ما ورد من "الناس معادن شتى واشجار شتى وانا وعلي من شجرة واحدة"، وبنفس البيان حديث النور الوارد كنت انا وعليا نورا بين يدي الله..