فيجعلون لأنفسهم حقّ التصرّف في تحديد العلاقة بينهم وبين ربّهم، ويجعلون لأنفسهم السلطان المقدّم على سلطانه تعالى ومن ثمّ يجعلون أنفسهم أرباباً بدل أن يكونوا عبيداً له تعالى.
فمن ذلك يتبيّن أنّ الوثنية وشرك عبدة الأصنام ينطوي على الاستكبار والكفر الذي هو سنّه إبليس اللعين، لا من جهة ضرورة أصل الواسطة والوسيلة، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِير}(1)، وقال تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ}(2)، فالآيتان يشير مفادهما إلى أنّ المحذور، وهو عدم إلاذن وهو السلطان من الله في تعيين مصداق الواسطة والوسيلة، لا كون المحذور في ضرورة الوسيلة. وكذا قوله تعالى على لسان إبراهيم الحنيف في محاجّته لعبدة الأصنام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالاَْمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(3)، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِْثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(4)، وقوله تعالى في مشركي قريش في
____________
1- سورة الحج 22: 71.
2- سورة الروم 30: 35.
3- سورة الأنعام 6: 81.
4- سورة الأعراف 7: 33.
فتؤكّد هذه الآيات على أنّ شرك الوثنيين وعبدة الأصنام ليس بسبب وجود الواسطة بين البشر والباري، ولا بسبب وجود الوسيلة، بل إنّما شرك الوثنيين هو بسبب استقلالهم باتّخاذ الواسطة من عند أنفسهم، وتقديم اختيارهم وإرادتهم على اختيار الله وإرادته. ففي الآيات تقرير لضرورة الوسيلة والواسطة، فأمّا الوثنيون فأشركوا إرادتهم ومشيئتهم مع إرادة الله ومشيئته، ونازعوه في سلطانه.
ومن ثمّ تكرّر التعبير في هذه السور والآيات لعنوان عدم السلطان لهم بذلك من الله، فجعلوا لأنفسهم سلطاناً يشاركون فيه سلطان الله في تعيين الواسطة والباب إليه تعالى، كما فعل إبليس عندما اقترح على الله نفي الواسطة المنصوبة من قبله تعالى، مقابل أن يعبده كما هو يريد لا كما يريد الله وكان هذا حال مشركي العرب وعبدة الأصنام الذين عبدوا الله من حيث يريدون لا من حيث أراد الله.
فالعقيدة الشركية ليست في الانقياد لواسطة الباري، وإنّما في إشراك إرادة العبد في العبادة مع إرادة المعبود، ومن ثمّ كان سجود الملائكة لخليفة الله آدم توحيد،
____________
1- سورة آل عمران 3: 151.
2- سورة يوسف 12: 39 ـ 40.
فالشرك يدور مدار إشراك العبد سلطان نفسه في العبادة وكيفيتها مع سلطان الباري، لا في وجود الواسطة من حيث هي واسطة والوسيلة من حيث هي وسيلة. كيف! وهي ضرورة، كما أنّ مدار التوحيد هو في التسليم لأمر الله وسلطانه ولو عبر واسطة ووسيلة، لا في نفي الواسطة والحجاب والباب في البين.
ولك أن تقول: إنّ ما قرّره علماء الكلام والمعرفة من العلوم الأُخرى في تعريف الشرك بأنّه الخضوع لغير الله بما أنّ الخاضع عبد والمخضوع له ربّ، هو الآخر يرجع إلى تحديد سلطان الله والقول بسلطان الغير وتقديمه على سلطان الله.
وبعبارة أُخرى: إنّ الشرك باعتباره من أقسام الكفر يقابل التوحيد في مقامات عديدة، فكما أنّ التوحيد يُقرّر في مقام الذات الإلهية كذلك الشرك في مقام الذات ـ يكون عبارة عن القول بتعدّد الذات الإلهية الواجبية.
فكما أنّ التوحيد في الصفات، هو عبارة عن وحدة الصفات الكمالية مع الذات الأزلية، وأنّ تلك الصفات الكمالية الواجبية لا يتّصف بها أحد غير الباري، فكذلك الشرك في الصفات يُقرّر بتعدّد وتغاير ذوات الصفات عن الذات الإلهية، أو باتّصاف غيره تعالى بتلك الصفات. وكما يُقرّر التوحيد أيضاً في الأفعال بأن تُسند الأفعال إلى الباري تعالى وأنّ لا مؤثّر في الوجود إلاّ هو من دون استلزام ذلك الجبر في أفعال المخلوقين، فكذلك الشرك في الأفعال يُقرّر بأسناد الأفعال
____________
1- البحار 11 / 138.
كذلك التوحيد في العبادة، هو الخضوع له تعالى بما أنّه واجب الوجود وأنّ له حقّ الطاعة وسلطان الولاية، والشرك في العبادة يُقرّر بالخضوع لغير الله باعتبار أنّ الغير مستقلّ الذات أو الفعل أو مستقلّ الولاية والسلطان ومستقلّ في حقّ الطاعة، فالشرك في العبادة لا ينحصر في النمط الأوّل أي الشرك في الذات ـ كما قد يوهمه التعريف الدارج.
بل أنّ مشركي العرب في الجزيرة وعبدة الأصنام من غيرهم لا يعتقدون في الأصنام والأوثان الاستقلال في وجود ذواتها ولا أزليتها ولا الأرواح الكلّية المزعوم تعلّقها في الأصنام، وإنّما شركهم كما تقدّم ـ لقولهم بحقّ الطاعة لتلك الأصنام والأرواح من دون إذن ولا أمر من الله، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}(1)، فاتّضح أنّ الشرك في العبادة لا يتحقّق بمجرّد الخضوع لغير الله تعالى، بل فيما كان بغير أمر الله وسلطانه، كما أنّ التوحيد في العبادة لا يتحقّق بمجرّد صورة الخضوع لله تعالى، بل إنّما يتحقّق فيما كان بأمر الله وسلطانه.
فالشرك في العبادة يدور مدار معنى العبودية من الخضوع والطوعانية لولاية وسلطان المعبود، فإذا جُعل الخضوع لمبدأ سلطان غير الله فيقع الشرك في العبادة، فتعريف العبادة التي هي عبودية التأليه وربوبية المعبود، كما أشار إلى ذلك الشيخ الكبير كاشف الغطاء في رسالته منهج الرشاد لمن أراد السداد: (إنّها
____________
1- سورة الزمر 39: 3.
ولك أن تقول بأنّها الطاعة والامتثال والخضوع والانقياد للعظيم في ذاته، المستوجب للطاعة لا بأمر غيره، أي المستوجب للولاية بذاته لا بتولية غيره، فالعبادة هي الطوعانية من العابد للمعبود بما له من ولاية ذاتية.
وهذا هو المعنى المصطلح لعبادة التأليه في قبال عبادة الخدمة وعبادة الطاعة بأمر الغير.
____________
1- منهج الرشاد لمن أراد السداد، في المقصد الثاني في تحقيق معنى العبادة: 54.
صورية الطاعات بدون الولاية
الإيمان شرط في قبول الأعمال
إنّ قبول الأعمال والجزاء عليها هي من السنن الإلهية التي تتبع شروطاً تكوينية خاصّة، والشرط المهم في ذلك هو الإيمان ; لأنّ العمل إذا لم ينل النور والصفاء عن طريق الإيمان والنية السليمة فهو سراب بقيعة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بِقِيعَة يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(1)، فالآية تقرّر أنّ الأعمال مهما بلغت من العظمة ـ التي يراها الناس ـ إذا لم تقترن بالإيمان بالله فهي جميعاً عبث وهباء وخيال كالسراب.
وقال تعالى في آية أخرى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَاد اشْتَدَّتْ بِهِ
____________
1- سورة النور 24: 39.
فهذه الآيات الكريمة تبين لنا الموقف من قبول الأعمال أو رفضها من الباري عزّ وجلّ. ونستطيع أن نعبّر أنّه يشترط في قبول الأعمال الحُسن الفاعلي ; لأنّ كلّ عمل له بعدان أو حيثيتان في جهات الحسن والقبح، فتارةً يُلحظ العمل بما هو موجود في الخارج فيحكم عليه بالحسن أو القبح، وتارةً يُلحظ العمل من حيث صدوره من الفاعل وبما ينطوي عليه من دوافع لذلك العمل.
كما جاء في الحديث النبويّ: "إنّما الأعمال بالنيات"، فوزن وقوام الأعمال والعمل هو بالنيات والنية، والثواب والعقاب على الأعمال يلحظ فيه جانب الحسن الفاعلي، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(4)، فلم يقل عزّ وجلّ: (أكثركم عملاً) حتّى يكون المدار على الحسن الفعلي، بل قال {أيّكم أحسنُ عَملاً} ; وإلاّ لو كان الحسن الفعلي هو المدار لعُوقب المجبور والمضطرّ على صدور المحرّم أو ترك الواجب.
ولهذا يُلاحظ أنّ بعض الأعمال قد أعطى الله سبحانه وتعالى الثواب عليها لبعض الناس ولم يعط لآخرين قاموا بأعمال هي في الظاهر أكثر، كما في تصدّق الخاتم من أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الفقير حال الركوع فنزلت بحقّه الآية المباركة:
____________
1- سورة إبراهيم 14: 18.
2- سورة الزمر 39: 65.
3- سورة المائدة 5: 5.
4- سورة الملك 67: 2.
وهكذا الأعمال تقاس بهذا المنظار، فالزكاة مع الرياء، أو الجهاد وفتح البلدان بغير خلوص هو سراب يصبّ في نزوات الهوى وجمع الثروات والتوسّع في اللذائذ والشهوات.
فالإيمان بالله واليوم الآخر شرط أساسي في قبول الأعمال ; لأنّ الحسن الفاعلي كما قلنا ـ لا يمكن أن يتحقّق بدون عقيدة الإيمان ; لأنّ العمل بدون الإيمان بالله سبحانه وتعالى لا يكون إليه، وإنّما يكون للأنا وللذات ونزعاتها السفلية، وهو فارغ عن الغاية التي يريدها الله من الأعمال ; فإنّ روح الأعمال هو الإخلاص، {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}(3).
أمّا العمل بدون الخلوص فهو في حقيقته تمرّد وتكبّر على الباري، كما هي أعمال إبليس التي أوصلته إلى الهلاك والكفر وحبط الأعمال.
فقصّة إبليس الواردة في القرآن الكريم نموذج على ما آلت إليه أعماله التي هي في ظاهرها منتهى العبودية، فإنّه لعنه الله ـ كان قد سجد سجدة واحدة ستّة آلاف سنة، وكان يقرّ لله بالوحدانية، وأنّه مخلوق من مخلوقاته، وكان يقرّ بيوم المعاد وبنبوّة آدم بنصّ القرآن الكريم: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين}(4) و {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(5)، فهذا اعتراف وإقرار منه بالله تعالى وأنّه مخلوق من
____________
1- سورة المائدة 5: 55.
2- سورة الإنسان 76: 9.
3- سورة البينة 98: 5.
4- سورة الأعراف 7: 12.
5- سورة ص 38: 79.
وعليه، فالإيمان شرط في قبول الأعمال، وهذه حقيقة مسلّمة عند جميع المسلمين، إنّما الكلام يقع حول أجزاء الإيمان، فهل تقتصر على التوحيد والنبوّة والمعاد؟ أم تشمل معرفة الإمام والولاية له وممّا يقرّر ذلك؟ وأنّ ولاية أهل البيت شرط في قبول الأعمال...
عدّة وجوه قرآنية وحديثية وعقلية:
ولاية أهل البيت (عليهم السلام) شرط لقبول الأعمال
الدليل الأوّل: الآيات القرآنية:
الآية الأُولى: قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(3)، ذكر علماء المسلمين من الخاصّة والعامّة، من رواة ومؤرّخين ومفسّرين متواتراً: أنّ كلمة القربى هي خاصّة بأُناس قد عيّنهم النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وعندما يستعرض الباحث للسيرة النبويّة الشريفة يرى أنّ النبيّ لم يكن يدع فرصة أو مناسبة صغيرة كانت أو كبيرة إلاّ ويؤكّد لهم من خلالها على تحديد قُرباه، من حديث الكساء والأحاديث الأُخرى: "عليّ منّي وأنا من عليّ"، "فاطمة بضعة منّي..."، "حسين منّي وأنا من
____________
1- سورة الأعراف 7: 14.
2- سورة البقرة 2: 34.
3- سورة الشورى 42: 23.
ولابدّ أن يكون هناك خطب كبير يترتّب على هؤلاء القُربى مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالرسالة التي بعث بها النبيّ (صلى الله عليه وآله). والآية المباركة هي من ملاحم الآيات القرآنية التي تبيّن حقيقة الرسالة الخاتمة الكاملة التي جاء بها، والتي تشمل جميع الأعمال، من اعتقادات بالتوحيد والنبوّة والمعاد، وعبادات من صلاة وصيام وحجّ وزكاة... الخ.
وبعبارة أُخرى: من فروع وأُصول، فإنّها جميعاً وقعت طرف معاوضة وتعادل في قبال محبّة أهل البيت، ومقتضى التعادل والمعادلة بين العوض والمعوّض هو كون العوض بدرجة قيمة المعوّض، ولا ريب أنّ عمدة وثقل الرسالة هي في أُصول الدين وأركانه، لا مجرّد الفروع، فإذا كان في المعوّض والتي هي الرسالة جملة أُصول الدين، فلابدّ أن يكون العوض هو أيضاً من أُصول الدين ; بمقتضى الموازنة والمعادلة.
وجعل العوض في قبال جملة أُصول الدين في المعوّض دالّ على كون مودّة القربى وولايتهم هو مفتاح لمعرفة بقية أُصول الدين. وهذا يدلّ ويقضي بالترابط بين مجموع هذه الأُصول وأنّ الباب والمفتاح لبقية حقائق أُصول الدين يمرّ بولايتهم.
فمن أراد مدينة الإيمان فلابدّ عليه أن يأتيها من بابها، فمغزى إفراد الولاية والمودّة للقربى في كفّة وطرف المعاوضة في قبال جملة بقية أُصول الدين في طرف آخر، هو إشارة لهذا المعنى وبيان لهذا الترابط العضوي في محاور أُصول الدين، وأنّ الوصول إلى حقائق الإيمان لا مجرّد ظاهر الإسلام هو بولاية القربى ومودّتهم ; لأنّها الهداية إلى بقية الأُصول، والعاصمة عن الضلال، كما هو مؤدّى حديث الثقلين حيث اشترط في العصمة من الضلال اشترط لزوم التمسّك
وهذا ممّا يفيد أنّ صحّة التوحيد وصحّة الإيمان بالنبوّة والمعاد لا بدّ في تحققهما من ولاية ومودّة ذي القربى فضلاً عن الثواب والجزاء عليها، فإذا كان هكذا الحال في أُصول الدين ففي فروعه أوضح ; حيث إنّها في الرتبة الثانية من أجزاء الرسالة.
فتبين من مفاد هذه الآية الشريفة: أنّ مودّة القربى شرط في تحقّق أُصول الدين فضلاً عن الثواب عليها، ناهيك عن أعمال الفروع والثواب عليها.
وبالتالي، فولاية القربى شرط في صحّة الأعمال فضلاً عن قبولها، وأنّ المراد بتلك الأعمال ما يشمل الاعتقاد لا صرف أفعال الجوارح، وهذه قراءة عميقة لقاعدة شرطية الولاية في صحّة الأعمال.
الآية الثانية: وهي قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا}(1) النازلة بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(2)، ومن الواضح من الآيتين أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أُمر من قِبله تعالى بإبلاغ أمر بالغ الخطورة والأهميّة، بحيث لولا إبلاغه لما كانت هناك أية جدوى في إبلاغ التوحيد والنبوّة والمعاد وأركان الدين فضلاً عن تفاصيل الفروع ; إذ عمدة اسم الرسالة قد طُبّق على الأُصول والأركان.
وكان ذلك الأمر المأمور بإبلاغه شديد الوقع على نفوس المسلمين ; إلى درجة كان الرسول يتخوّف تمرّدهم عن الطاعة والتسليم. وكلّ هذا المفاد يجده المتمعّن اللبيب في أجواء ألفاظ الآيتين، وقد ذكر المفسّرون ورواة الحديث نزولهما في
____________
1- سورة المائدة 5: 3.
2- المائدة 5: 67.
ومفاد الآيتين يتناغم بشدة مع مفاد آية المودّة ; حيث يشير إلى التقابل بين جملة الرسالة والديانة في طرف، وما أُبلغ في ذلك اليوم في طرف آخر، كما مرّ ذلك في مفاد آية التبليغ، حيث علّق رضاه تعالى بمجمل الرسالة والدين على ذلك الأمر، أي علّق رضاه بالتوحيد والنبوّة والمعاد وأركان الدين على ذلك الأمر، فقبولها موقوف عليه، بل في الآية دلالة على توقّف صحّتها عليه حيث علّق إكمال الدين عليه.
والإكمال يغاير الإتمام الذي في النعمة، حيث إنّ كمال الشيء يغاير تمامه ; إذ كمال الشيء هو بصورته التي هي قوام هويته، وأمّا تمام الشيء فهي نعوته الطارئة بعد تحقّق هويته، فمفاد هذه الآية يدلّ على ما تقدّم استنتاجه واستظهاره في آية المودّة من أنّ أُصول الدين وأركانه فضلاً عن الفروع مشروطة بالولاية، كما أنّ المشروط في الأعمال بالولاية هو صحّتها فضلاً عن قبولها.
الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِين * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}(2)، وقد تقدّم دلالة الآيات المتعرّضة لقصّة آدم وإبليس على المطلوب إجمالاً، حيث إنّ إبليس كان مقرّاً بالتوحيد والمعاد حينما قال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}(3)، وكذا كان
____________
1- لاحظ: كتاب الغدير للأميني 1 / 214 ـ 247.
2- سورة ص 38: 71 ـ 78.
3- سورة ص 38: 79.
ولكنّه لم يكن يأتمّ بآدم ويتولاّه ويتابعه ويطيعه، حيث إنّ السجود عنوان لكلّ ذلك فالإباء عن السجود عبارة عن ذلك، ومع كلّ إقراره بالثلاثة من الأُصول، ولكنّه استحقّ الطرد والرجم والذمّ من الله تعالى. وظاهر هذه الأحكام هو عدم صحّة صور ما أقرّ به من توحيد ومعاد ونبوّة، إذ حُكم على صورة إيمانه بالكفر مضافاً إلى العقوبة ; فليس التولّي لوليّ الله والائتمام به مجرّد شرط لقبول بقية الاعتقادات، بل هو شرط صحة لها. فالأُصول الاعتقادية عبارة عن نسيج مترابط كلّ منها دخيل في صحّة الآخر.
ويظهر من مفاد هذه الآيات ما ظهر من مفاد الآيات السابقة من كون ولاية خليفة الله وحجّته شرط في صحّة الأعمال لافي مجرّد قبولها فقط، وشرط في صحّة الاعتقادات لامجرّد أعمال الجوارح.
وهناك طوائف أُخرى من الآيات الواردة في ولايتهم (عليهم السلام) دالّة على ذلك، لكن نكتفي بهذا القدر من الإشارة في المقام.
الدليل الثاني: الأحاديث النبويّة والقدسيّة المستفيضة الواردة عند الفريقين:
"لو أن عبداً عمّره الله ما بين الركن والمقام، يصوم النهار ويقوم الليل حتّى يسقط حاجباه على عينيه ثمّ ذُبح مظلوماً كما يُذبح الكبش، ثمّ لقي الله بغير ولايتهم (عليهم السلام)، لكان حقيقاً على الله عزّوجلّ أن يكبّه على منخريه في نار جهنّم"(2).
____________
1- سورة الإسراء 17: 62.
2- ورواه جملة من العامة ومنهم الحاكم في المستدرك ج 3 ص 148 ط حيدرآباد وقال: انه صحيح على شرط مسلم ومنهم العلاّمة الطبراني في ذخائر العقبى ص 18 ط مكتبة القدس بمصر. ومنهم السيوطي في إحياء الميت ص 111 ط مصطفى الحلبي مصر ونقله في الخصائص الكبرى ج 2 ص 265 ومنهم الهيتمي في مجمع الزوائد (ج 9 ص 171 ط مكتبة القدسي بالقاهرة) ومنهم القندوزي في ينابيع المودة ص 192 وغيرهم فلاحظ احقاق الحق ج 9 ص 492 ـ ص 294 وكذلك ج 15 ص 599 و ج 19 ص 284.