بل في بعضها: "إنّ لله في وقت كلّ صلاة يصلّيها هذا الخلق لعنة. قال: قلت: جُعلت فداك ولم؟ قال: بجحودهم حقّنا وتكذيبهم إيّانا"(2).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في جواب الزنديق مدّعي التناقض في القرآن، قال: ".. وأمّا قوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}(3). وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}(4)، فإنّ ذلك كلّه لا يغني إلاّ مع الاهتداء، وليس كلّ من وقع عليه اسم الإيمان كان حقيقاً بالنجاة ممّا هلك به الغواة، ولو كان ذلك كذلك لنجت اليهود مع اعترافها بالتوحيد وإقرارها بالله، ونجا سائر المقرّين بالوحدانية، من إبليس فمن دونه في الكفر، وقد بيّن الله ذلك بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْم أُولَئِكَ لَهُمُ الاَْمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}(5)، وبقوله: {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}(6).
وللإيمان حالات ومنازل يطول شرحها، ومن ذلك: إنّ الإيمان قد يكون على وجهين: إيمان بالقلب وإيمان باللسان، كما كان إيمان المنافقين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لمّا قهرهم السيف وشملهم الخوف فإنّهم آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، فالإيمان بالقلب هو التسليم للربّ، ومن سلّم الأمور لمالكها لم يستكبر عن أمره، كما استكبر
____________
1- المحاسن للبرقي1 / 90، روضة الواعظين للنيسابورى: 126.
2- الوسائل 1 / 95، البحار 69 / 132.
3- سورة الأنبياء 21: 94.
4- سورة طه 20: 82.
5- سورة الأنعام 6: 82.
6- سورة المائدة 5: 41.
وفي بعض الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام): "فلو كان لك بدل أعمالك هذه عبادة الدهر من أوّله إلى آخره، وبدل صدقاتك والصدقة بكلّ أموال الدنيا، بل بملء الأرض ذهباً، لما زادك ذلك [بدون ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ] من رحمة الله إلاّ بُعداً، ومن سخط الله إلاّ قرباً"(2).
ونُقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: "رجلٌ حضر الجهاد في سبيل الله فقُتل مقبلاً غير مدبر والحور العين يطلعن إليه، والخزّان يتطلّعون ورود روحه عليهم، وأملاك الأرض يتطلّعون نزول حور العين إليه والملائكة وخزّان الجنان فلا يأتونه، فتقول ملائكة الأرض حوالي ذلك المقتول: ما بال الحور العين لا ينزلنّ إليه، وما بال خزّان الجنان لا يردون عليه، فيُنادَون من فوق السماء السابعة: يا أيّتها الملائكة، انظروا إلى آفاق السماء ودوينها، فينظرون فإذا توحيد هذا العبد وإيمانه برسول الله (صلى الله عليه وآله) وصلاته وزكاته وصدقته وأعمال برّه كلّها محبوسات دوين السماء قد طبّقت آفاق السماء كلّها كالقافلة العظيمة قد ملأت ما بين أقصى المشارق والمغارب ومهاب الشمال والجنوب، تنادي أملاك تلك الأثقال الحاملون لها الواردون بها: ما بالنا لا تفتح لنا أبواب السماء لندخل إليها بأعمال هذا الشهيد؟...".
وفي تتمّة الرواية أنّه يُأمر بتلك الأعمال فتوضع في سواء الجحيم ; لأنّ ليس
____________
1- الاحتجاج للطبرسي 1 / 368، البحار 27 / 174.
2- البحار 27 / 187.
قراءة ثالثة للقاعدة:
العبادة من دون الولاية عصيان وعدوان، والأعمال بدون الولاية آثام
ومضمون هذه الروايات يتضمّن ما تقدّم من أنّ الولاية شرط في الصحّة فضلاً عن القبول، وشرط في أُصول العقائد فضلاً عن الفروع. ويزيد ويمتاز بمعنى ثالث، وهو أنّ تلك الأعمال التي صورتها إيمان وطاعة هي في حقيقتها كفر ومعصية، وهذا المعنى يثقل على السامع تصوّره فضلاً عن تصديقه في الوهلة الأُولى، وتمجّه النفوس وتنفر منه الأذهان وتتلّكأ عنده الألسن، لكن الحقيقة إذا اتضحت معالمها لا مفرّ من الأخذ بها واتّباعها، وإذا حصحص الصبح انقشعت غياهب الظلمة، وليكن تقرير مفاد هذه الروايات هو تقرير الدليل العقلي كما ترشد إليه الروايات بل والقرآن أيضاً، فالأحرى في المقام تقريره.
الدليل العقلي: ويقرّر بأنحاء:
الأوّل: قد مرّ أنّ حقيقة وروح ومخ وقوام العبادة هو بالطوعانية والضراعة والخضوع والتذلّل للباري، والتسليم والسلم والانقياد له، وهو جوهر العبادة
____________
1- البحار 27 / 187 ـ 190.
وإرادة الله لا يهتدي إليها البشر من نفسه، ومن ثمّ احتاج إلى بعثة الرسل، وبمجملات الشريعة ومتشابهاتها لا يحيط البشر بتفاصيل إرادة الربّ من قبل أنفسهم، ومن ثمّ اضطرّوا إلى الحجّة والإمام الراسخ في العلم الذي تكون إرادته ومشيئته هي مظهر مشيئة وإرادة الله. فمن ثمّ امتنع الاطّلاع على إرادات الربّ من دون حجّته وخليفته في أرضه، ومن ثمّ اضطرّ البشر إلى ولاية خليفة الله والمطهّر من عترة نبيّه لكي يطّلع على مواطن إرادات الله ورضاه.
وإلاّ امتنع عليهم عبادة الله، وكانوا فيما يمارسونه من طقوس وصور عبادية هي معاصي وتجرّي على الله ; بتحكيمهم إراداتهم وميولهم وأهوائهم على إرادة الله، وكانوا يطيعونه من حيث تريد أنفسهم ولا يطيعونه من حيث يريد، ولأجل ذلك احتاجوا في تحقّق عبادتهم لله تعالى إلى دلالة وهداية الإمام والحجّة المنصوب من قبله.
ومن ذلك يتبيّن أنّ السجود الطويل من قبل إبليس حيث لم يكن منطوياً على الخضوع لله ; لعدم خضوع إبليس لمن أمره الله تعالى بالخضوع له وهو خضوعه لآدم وتوليّه له، فلم يكن إبليس في صورة طاعته مقيم على الطاعة ولا خاضع لإرادة الربّ، بل كان في سجوده مقيم على الجموح والطغيان والتعدّي على الربّ وتحكيم إرادته على إرادة الله وكان سجوده الصوري حقيقته معصية وطغيان واستكبار وعدوان على ساحة القدس الإلهي.
هذا تقرير لهذا الوجه في الأعمال، وأمّا تقريره على صعيد الإيمان والاعتقادات فبيانه أنّ الإيمان عمل كلّه وطاعة كلّه، فليس الطاعة والعمل مخصوصين بأعمال الجوارح بل يعمّان أعمال الجوانح، كما يعمّان أعمال القلوب من الإيمان بالأصول الاعتقادية، ولذلك ورد أنّ أوّل الفرائض التي افترضها الله على العباد هو التوحيد والمعرفة بمعنى الإيمان والإذعان والإخبات والتسليم، وكذلك الإقرار القلبي ببعثة الرسل والمعاد والكتب وكذلك بأوصياء الرسل وهم الأئمّة المستخلفين بعدهم كما مرّ في مفاد آية المودّة الدالّة على أنّ تولّي العترة المطهّرة هو من أصول الديانة، وكذلك هو مفاد آيتي المائدة النازلتين في بيعة الغدير، وغيرها من طوائف الآيات والأحاديث النبويّة الدالّة على ذلك.
فإذا تقرّر أنّ الإيمان بأُصول الدين فريضة وطاعة وعمل بل هو من أكبر الفرائض وأعظم الطاعات والأعمال ـ يتبين أنّ الإيمان أيضاً لابدّ فيه من الإخبات والخضوع والانقياد والتسليم ونحو ذلك، بخلاف ما إذا امتزج بجموح واستكبار وعناد وجرأة على ساحة الباري، فإنّه لن يعود طاعة وعملاً عبادياً، بل سيكون معصية وطغياناً وفرعنة وصنمية للنفس، وعبادة للطاغوت لا عبادة لله.
فالإباء والاستكبار عن الإخبات والتسليم والإيمان بوليّ الله وخليفته يدلّ على انقلاب حقيقة الإيمان إلى طغيان وكفر، أي يدلّ على صورية الإيمان بالتوحيد
فالتمرّد عليه في أُمّهات الطاعات استكبار وإنكار لهذه المالكية، فيرجع إلى الخلل في الإيمان بالتوحيد، وبالتالي يتّضح أنّ عصيان الله في التولّي لوليه هو كفر بمالكية الله واستحقاقه للطاعة، نظير الخلل الواقع في الإيمان بالمعاد أو بالرسالة، فإنّه يؤول إلى الخلل في التوحيد أيضاً فيكون هناك غاية وراء الله، فتكون والعياذ بالله ـ ذاته محدودة.
وكذلك الحال في إنكار الرسالة، فإنّه يرجع إلى إنكار كون صلاحية الحكم والتشريع للباري، وبالتالي يؤول إلى عدم الإقرار بعلم الباري النافذ ولا بحكمته ولا بإحاطته بخفيات وعواقب الأُمور.
فالإقرار والإيمان بالتوحيد بمنزلة الإقرار المبهم المجمل الذي لا يتمّ تفصيله وكماله إلاّ بالإقرار بالتوحيد في مقامات أُخرى، فالإيمان بالمعاد هو مقام آخر من مقامات التوحيد وهو التوحيد في الغاية ـ كما أنّ أصل التوحيد هو توحيد في مقام المبدأ والأوّلية، ولا يكمل التوحيد بالاعتقاد بأنّه أوّل من دون الاعتقاد بأنّه آخر، كذلك الحال في الاعتقاد بالرسالة وببعثة الرسل والكتب المنزّلة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام التشريع {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}.
ونفس الشيء يقال في الولاية والإمامة، هو اعتقاد بالتوحيد في مقام الطاعة والولاية، فهذه مقامات وأركان للتوحيد لا يتمّ صرح الاعتقاد بالتوحيد إلاّ بها. وفي تفسير القمّي عنه (عليه السلام) حينما سئل عن التوحيد قال: "هو لا إله إلاّ الله، محمّد رسول،
وفي البصائر والتوحيد: عن الصادق (عليه السلام) في بيان فطرة التوحيد، قال (عليه السلام): "فطرهم على التوحيد، ومحمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) "(2).
وبذلك يتبيّن أنّ الاعتقاد ببعض الأُصول والتخلّف عن البعض الآخر، هو كالاعتقاد ببعض الصفات الإلهية وإنكار البعض الآخر، ويؤدّي إلى القول بمحدودية الذات وتركيبها وتجزّئها، ومن ثمّ ورد قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}(3).
الثاني: قد تقدّم في الأدلّة القرآنية والروائية السابقة أنّ الأعمال تحبط، وهي حابطة بدون الإيمان، وهذا غير مختصّ بالفروع بل شامل للأُصول أيضاً، والحبط الأخروي للعمل والاعتقاد وإن لم يكن في الاصطلاح الفقهي ملازماً لعدم صحّة العمل والاعتقاد، كذلك في المصطلح الكلامي الدارج، وأنّه فساد بلحاظ الثواب الأخروي والقبول، لا بلحاظ ماهية العمل.
إلاّ أنّ الحبط وفق نظرية تجسّم الأعمال أنّ الجزاء هو عين العمل وحقيقته الباقية، ويكون موجب الحبط كاشفاً عن دخالة ذلك الشيء في الوجود البقائي للعمل والاعتقاد. وبعبارة أُخرى عندما لا يكون للعمل أجر وثواب فذلك يعني أنّه ليس للعمل حقيقة باقية في الأبد الأخروي، فليس هناك إلاّ صورة العمل لا حقيقته، ويستلزم ذلك كون الموجب للحبط دخيلاً في حقيقة العمل وبقائه، وكذلك دخيلاً في حقيقة الاعتقاد وبقائه.
ويتبيّن صورية الاعتقاد والأعمال بدون الإيمان، وليس المقصود من صورية
____________
1- تفسير الصافي 4 / 132 2- المصدر السابق.
3- سورة يوسف 12: 106.
روى الصدوق في الأمالي بإسناده عن ابن عبّاس قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المخالف على عليّ بن أبي طالب بعدي كافر، والمشرك به مشرك، والمحبّ له مؤمن، والمبغض له منافق، والمقتفي لأثره لاحق، والمحارب له مارق، والراد عليه زاهق، عليّ نور الله في بلاده، وحجّته على عباده، وعلي سيف الله على أعدائه ووارث علم أنبيائه، عليّ كلمة الله العليا، وكلمة أعدائه السفلى، عليّ سيّد الأوصياء ووصيّ سيّد الأنبياء، عليّ أمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجّلين وإمام المسلمين، لا يقبل الله الإيمان إلاّ بولايته وطاعته"(1).
____________
1- الأمالي: 61.
القراءة الثانية
(ولاية عليّ في الشرائع السابقة)
النقطة الأولى:
فكما قد أخذ الله تعالى على النبيّين والرسل الميثاق بالإقرار بنبوّة خاتم الأنبياء وبُعثوا بالبشارة بها لأقوامهم، أخذ عليهم وعلى أُممهم الإيمان والتصديق بها: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(1).
____________
1- سورة آل عمران 3: 81 ـ 85.
ولا يخفى أنّ الآية مشحونة بالدلالات على هيمنة مقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) على جميع الأنبياء:
منها: التعبير عنهم بالنبوّة والتعبير عنه بالرسالة ; فإن وصف الرسالة أعلى من مقام النبوّة، وفيه إشارة إلى توسّطه (صلى الله عليه وآله) بين الله تعالى وبين الأنبياء بالرسالة.
ومنها: التعبير عنه (بمصدّق)، والتعبير عنهم بأنّهم (يؤمنون) به، فإنّ ذلك يقتضي اتّباعهم له دونه ; فإنّه يوثّق نبوّاتهم.
ومنها: التعبير عنه (صلى الله عليه وآله) بأنّ تصديقه أسند إلى ما معهم ممّا قد أُوصي لهم، وهذا يغاير التعبير بأنّه (مصدّق لهم)، بينما التعبير عنهم (عليهم السلام) بأنّهم {يؤمنون به (صلى الله عليه وآله)}، أي: جعل متعلّق إيمانهم به (صلى الله عليه وآله)، وفيه بيان لعلوّه عليهم في المقامات الإلهية.
ومنها: قد أخذ عليهم نصرته دونه، ولم يؤخذ ذلك عليه (صلى الله عليه وآله). ثمّ بين تعالى أنّ الإيمان بنبوّة خاتم الأنبياء هو دين الله الذي هو الإسلام، وهو دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والنبيّين.
ونظير هذه الآيات قوله تعالى على لسان نبيّه عيسى (عليه السلام): {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(1)، وكذا قوله تعالى في قضية بني إسرائيل: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
____________
1- سورة الصفّ 61: 6.
النبوّة والولاية
وكما قد أُخذ نبوّة النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإيمان بها على الأنبياء السابقين وأُممهم ; لكونها قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء، فكذلك قد أُخذت ولاية عليّ (عليه السلام) وإمامته على الأنبياء السابقين وأُممهم لأخذها في قوام دين الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء والرسل السابقين. ولبيان ذلك لابدّ من الالتفات إلى نقطتين:
قاعدة أديانية: وحدة الدين وتعدّد الشرايع
الأُولى: إنّ هناك تعدّد بين معنى الدين والشريعة، فإنّ الدين واحد وهو
____________
1- سورة البقرة 2: 89.
2- سورة الأعراف / 157.
ويشير إلى هذا التغاير قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}(1)، فالدين عند الله واحد وهو الإسلام، ولم يبعث الأنبياء بأديان مختلفة، وإنّما الذي أحدث اختلاف الأديان هم أتباعهم، حيث حرّفوا الدين الواحد وهو دين الإسلام بغياً.
ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(2)، فبيّن تعالى تعدّد شرائع ومناهج الأنبياء بخلاف الدين فإنّه واحد، وسيأتي تفصيل هذه النقطة وبسطها.
ونستخلص من هذه النقطة في المقام أنّ الأُصول الاعتقادية وأُصول الإيمان هي من مساحة الدين، ومن مقوّمات دين الإسلام غير القابلة للنسخ والتبدّل والتغيّر، فلا تكون من أجزاء الشريعة ولا من تفاصيل الفروع.
وهذا المبحث والقاعدة الأديانية ينبع منها مناهل عذبة في بحوث المعرفة الدينية واختلاف المذاهب، وينبّه إلى هذا التغاير بين الدين والشريعة، ووحدة الدين وتعدّد الشرايع ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص، من (مسائل عبد الله بن سلام) للنبيّ (صلى الله عليه وآله):
____________
1- سورة آل عمران 3: 19.
2- سورة المائدة 5: 48.
ولاية عليّ (عليه السلام) أصل في الدين لا من فروع الشريعة:
النقطة الثانية: إنّ جملة ما ورد من آيات قرآنية في ولاية عليّ وولده (عليهم السلام) وإمامتهم، وكذلك ما ورد من أحاديث نبويّة متواترة ومستفيضة في ذلك، دالّ على أخذ ولايتهم وإمامتهم أصلاً إيمانياً قوامياً في الاعتقاد، كما أشبع ذلك علماء الإمامية ومتكلّميهم في كتبهم، وهذا يقتضي أخذ ولايتهم وإمامتهم ركناً في الدين الحنيف وهو الإسلام، لا أنّها فريضة في تفاصيل الشريعة بمقتضى ما تبين في النقطة الأُولى السابقة.
ويعزّز هذه الحقيقة قوله تعالى في آية الغدير: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِف لاِِثْم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(2)، وبيان الآية وإن كان له مقام آخر سيأتي، إلاّ أنّ مفادها إجمالاً: إنّ الذي
____________
1- الاختصاص: 42.
2- سورة المائدة 5: 3.
وسيأتي ثمّة وجه التعبير بأنّها (كمال الدين) ولم يعبّر أنّها (تمام الدين أي الفرق بين الكمال والتمام كما يعزّز هذه الحقيقة قوله تعالى في آية الغدير الثانية وهي: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(1)، حيث جعل الباري تعالى تبليغ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لبقية أجزاء الدين وللشريعة في طرف، وتبليغه لما أمر به في يوم الغدير من حجّة الوداع في سورة المائدة في طرف آخر، وهذا ممّا يقضي بكون ولايته وإمامته هي بتلك المكانة في الشأن والأهميّة في الدين، أي من الأُصول الاعتقادية، فهي من الأركان في الدين الحنيف، لا من التفاصيل الفرعية في الشريعة.
وهذا هو مفاد آية المودّة أيضاً في قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(2)، حيث جعل الباري تعالى مودّتهم في كفّة والرسالة في كفّة أُخرى، سواء رجع ضمير (عليه) إلى الدين أو إلى جهده (صلى الله عليه وآله) في تبليغ الدين فإنّ المآل واحد، حيث إنّ قيمة العمل وأجرته هي بقيمة نتيجة العمل وهو الدين، فإذا قوبلت مودّتهم ببقية أجزاء الدين برمّتها اقتضى ذلك كون مودّتهم هي الركن الركين في الدين، وعليه يظهر أنّ ولايته (عليه السلام) وولده المطهرين هي تتلو نبوّة خاتم الرسل في الموقعية فهي من الأركان الثابتة في الدين الحنيف وهو الإسلام.
____________
1- سورة المائدة 5: 67.
2- سورة الشورى 42: 23.
ويتّضح من ذلك أنّ جميع الأنبياء والرسل بُعثوا على الإقرار برسالة خاتم النبيّين ومحبّة قرباه وولاية أهل بيته.
____________
1- سورة الشورى 42: 13 ـ 14.