القواعد الثلاث الأُمّ
المحيطة في معرفة مقاماتهم
القاعدة الأولى:
من شرائط قبول التوبة التوسّل والتوجّه بهم إلى الله بعد المعرفة والتصديق بولايتهم.
القاعدة الثانية:
إنّ شرط صحّة العبادة وقبولها بل صحّة الإيمان بالله وبرسوله وبولايتهم هو التوجّه بهم إلى الله بعد التصديق بولايتهم.
القاعدة الثالثة:
أما القاعدة الأولى: وهي شرطية التوسّل والتوجّه بهم إلى الله تعالى في صحّة وقبول التوبة بعد التصديق بولايتهم، فقد ذكر جملة من المتكلّمين والمفسّرين والمحدّثين وفقهاء الإمامية: أنّ ولايتهم (عليهم السلام) من جملة شروط قبول وصحّة التوبة ; لقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}(1)، حيث اشترطت الآية في التوبة الهداية علاوة على أصل الإيمان والعمل الصالح، وهي المشار إليها في آيات عديدة، كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}(2)، وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْم هَاد}(3)، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}(4).
وغيرها من الآيات فضلاً عن الروايات المستفيضة المشيرة إلى وجه دلالة الآيات على ذلك. إلاّ أنّ مقتضى جملة من الآيات والروايات إضافة شرط آخر وهو التوسّل والتوجّه بهم (عليهم السلام) إليه تعالى، ويدلّ عليه جملة من الآيات:
منها: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(5)، فذكرت الآية ثلاثة شروط لحصول التوبة:
الأوّل: مجيء مذنبي الأُمّة إلى الرسول. والمراد: الالتجاء والتوسّل والتوجّه به
____________
1- سورة طه 20: 82.
2- سورة الفاتحة 1: 6 - 7.
3- سورة الرعد 13: 7.
4- سورة الأنبياء 21: 73.
5- سورة النساء 4: 64.
ودعوى السلفية بشركية التوجّه في الدعاء إلى النبيّ وأهل بيته ردّ لهذه السنّة القرآنية العظيمة في أدب الدعاء، بل إنّ الآية ناصّة بكل وضوح على أنّ دعاء أي داعي لا يستجاب إلاّ بطلب النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الله تعالى، فلا بدّ من سؤال النبيّ (صلى الله عليه وآله) من ربّه كي يستجاب طلب الداعي الثاني: إعلان التوبة والاستغفار من الذنب.
الثالث: استغفار الرسول (صلى الله عليه وآله) لهم بعد ذلك، وهو عبارة عن شفاعته لهم، فأيّ مذنب في هذه الأُمّة إلى يوم القيامة لا يغفر الله له ذنبه إلاّ بشفاعة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فهذه الآية الكريمة هي من الآيات المتعرّضة لشرائط التوبة، حيث اشترطت لحصولها الشرائط الثلاثة الآنفة الذكر، وقد حكى الآلوسي في روح المعاني عن ابن عطاء في تفسير قوله تعالى: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(1)، أي: لو جعلوك الوسيلة لديّ لوصلوا إليّ(2).
هذا وقد وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) روايات مستفيضة تفيد أنّ الدعاء من الأوّلين والآخرين مطلقاً وبدون استثناء ـ محجوب حتّى يصلّي الداعي على محمّد وآل محمّد، كصحيح صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "كلّ دعاء يُدعى الله عزّ وجلّ به محجوب عن السماء حتّى يصلّي على محمّد وآل محمّد"(3).
____________
1- سورة النساء 4: 64.
2- روح المعاني للآلوسي 5 / 110 في ذيل تفسير آية 75.
3- الوسائل 7 / 92 ب 36 ح 1.
وفي موثقة السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "من دعا ولم يذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله) رفرف الدعاء على رأسه، فإذا ذكر النبيّ (صلى الله عليه وآله) رُفع الدعاء"(3). وغيرها من الروايات.
ومن الواضح أنّ التوبة والاستغفار من الذنب دعاء، فلا يرفع ولا تفتح له أبواب السماء إلاّ بالتوجّه بالنبيّ وآله، وسيأتي أنّ هذه الروايات تشير إلى مضمون عدّة من الآيات، فلابدّ من الالتفات إلى ذلك.
ويصبّ في مضمون قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا}(4) قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}(5)، لكنّ الآية السابقة صريحة في الشرطية، وأمّا الآية الثانية فغاية دلالتها أنّ التوسّل والتوجّه بالنبيّ في التوبة والتسليم والخضوع والتعظيم لرسول الله من مفاتيح الوفادة على الله تعالى، ومن علائم الإيمان، والاستكبار عن التوجّه بالنبيّ من صفاة النفاق والمنافقين.
التوجّه إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالدعاء
وهذه الآيات القرآنية هي الأُخرى تدلّل على أنّ من سنن ناموس الدعاء في
____________
1- المصدر السابق الحديث 5.
2- المصدر السابق الحديث 16.
3- المصدر السابق الحديث 6.
4- سورة النساء 4: 64.
5- سورة المنافقين 63: 5.
ومنها: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}(1)، فاشترطت الآية لفتح أبواب السماء التصديق بآيات الله والخضوع لها، والمراد من آياته تعالى حججه المصطفون، كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}(2) ; وذلك لأنّ التكذيب في مقابل التصديق، وهما في حقّ الحجّة المنصوب الذي يخبر عن الله تعالى، خلاف الآيات التكوينية في الآفاق مثلاً، فإنّه إليها يقال غافلون عنها ولا يسند التكذيب.
فاشترط في الآية المباركة أمران:
الأوّل: التصديق والإيمان بالآيات.
والثاني: الخضوع لها والتوجّه إليها ; لأن التعبير بـ (استكبروا عنها) متضمّن لمعنى الصدّ، فمقابله الخضوع للآيات والتوجّه إليها.
____________
1- سورة الأعراف 7: 40.
2- سورة المؤمنون 23: 50.
فشاكل التعبير بالإباء الاستكبار ; إذ الإباء هو الجحود القلبي، والاستكبار هو في جانب العمل والصد، في مقابل الخضوع والتوجّه.
ومن الواضح أنّ فتح أبواب السماء لابدّ منه في التوبة لقبول دعاء الاستغفار. ثمّ إنّ الآية جعلت هذين الشرطين من شروط دخول الجنّة، وأكّدت استحالة ذلك أي فتح أبواب السماء ودخول الجنّة من دون الإيمان بآيات الله الحجج المنصوبين من قبله تعالى، ومن دون الخضوع والتوجّه بهم إليه تعالى، أي أنّه وإن حصل الإيمان بحجج الله المصطفين لا يُفتح باب السماء للدعاء ولا يُدخل الجنّة من دون التوجّه إليهم والتوسّل بهم ; ليحصل بذلك التوجّه إلى الله تعالى، ولا يخدعنّك استكبار إبليس حيث أبى أن يتوجّه لآدم ويجعله قبلة في سجوده ; ليحصل بذلك التوجّه إلى الله تعالى كما فعلته كلّ الملائكة الموحّدين، بخلافه حيث أراد التوجّه مباشرة إلى الله تعالى استكباراً وصدّاً عن خليفة الله تعالى ووسيلة فما يقوله السلفية وتفويض وغلو هي مقوله إبليس وقد رد القرآن مقولته.
ثم إنّ هذه الآية لا تقتصر في الدلالة على القاعدة الأُولى، بل هي تدلّ على القاعدة الثانية ; حيث إنّ فتح أبواب السماء ليس فقط في مقام الاستغفار والتوبة، ولا يقتصر على مطلق الدعاء، بل هو في مطلق التوجّه والنية في مقام العبادة للإقبال والوفود على الحضرة الإلهية، وفي صعود الأعمال والعقائد وقبولها، كما
____________
1- سورة البقرة 2: 34.
ومعنى التوجّه بهم إليه تعالى: هو التوجّه إليهم لكي يحصل التوجّه إليه تعالى ولهذا أمر تعالى الملائكة بالتوجّه لآدم في السجود كي يحصل التوجّه إليه تعالى، وكما هو الحال في التوجّه في العبادة إلى الكعبة ليتوجّه إلى الباري تعالى ولهذا ابتدأت الآيتان السابقتان بذلك {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ}(2)و{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ..}(3)، فالمجيء إلى الحضرة النبويّة أوّلاً هو التوجّه للنبيّ (صلى الله عليه وآله) أولاً ليطلب لهم من الله تعالى وليحصل لهم التوجّه إليه تعالى مآلاً، بل إنّ هذه الآية تدلّ على القاعدة الثالثة، وتقريب دلالتها أنّ التعبير بأبواب السماء وفتحها وهو تعبير عن مسير الوفادة إلى الحضرة الإلهية، وبيان لمسافة القرب والزلفى إلى الساحة الربوبية، فهو بيان للاستقبال والتوجّه إلى الحضرة الربانية، فكما تُستقبل القبلة ويُتوجّه بها إلى الله فكذلك لابدّ في الاستقبال والتوجّه القلبي من التصديق بآياته وحججه والخضوع لطاعتهم والتوجّه بهم إليه في مطلق المقامات القُربية والزلفية، فيمتنع على المستخفّين بحجج الله والمستهينين بهم الصادّين عن التوجّه إليهم وبهم إلى الله أن تفتح لهم أبواب القرب الإلهي.
____________
1- سورة فاطر 35: 10.
2- سورة المنافقون 63: 5.
3- سورة النساء 4: 64.
حقيقة ابتغاء الوسيلة هو قصدها:
ومنها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(2) والآية يمكن أن يذكر في إعرابها احتمالان:
الأوّل: أن يكون قوله (ابتغوا) قد أُسند إلى كلّ من (إليه) و(الوسيلة)، فيعمل فعل (ابتغوا) في كلّ من الجار والمجرور والاسم وهو الوسيلة، وعلى ضوء هذا التقدير في الإعراب يكون الابتغاء ـ وهو القصد والتوجّه ـ قد جعل متعلّقاً بكلّ من الجار والمجرور والوسيلة.
وحاصل المعنى حينئذ أنّه في مقام القصد يتوجّه إلى كلّ من الساحة الربوبية
____________
1- سورة الأعراف 7: 12 - 13.
2- سورة المائدة 5: 35.
الثاني: أن يكون فعل (ابتغوا) أُسند إلى (الوسيلة) فقط، أي أنّه يعمل في هذه اللفظة فقط، ويكون مفعول به للفعل، وأمّا الجار والمجرور فهو متعلّق بنفس الوسيلة، والذي يعمل في الجار والمجرور هو لفظ (الوسيلة) بما اشتمل من معنى الحذف، فيكون حاصل المعنى حينئذ ـ أنّ القصد والتوجّه والابتغاء هو إلى الوسيلة ابتداءً وحصراً، غاية الأمر أنّ الوسيلة التي يتوجّه إليها هي تلك التي بذاتها تُوصّل وتُسلك بالذي يتوجّه إليها وبها إلى الساحة الربوبية، ويعضد هذا المعنى وهو كون ابتغاء الوسيلة هو بالتوجّه إلى الوسيلة وقصدها ليحصل التوجّه إلى الله تعالى مآلاً ومنتهىً جملة من الشواهد:
منها: إنّ اتّخاذ الوسيلة المأذون بها من قِبله تعالى مقتضاه أنّ مقام الإقبال والارتياد للقرب لا يُطوى إلاّ بالوسيلة ; لأنّ الوسيلة هي ما يُتوسّل به ويُعالج به لبلوغ غاية. فإذاً كان القصد إليه تعالى والتوجّه إليه كمنتهى الغايات يتوقّف على الوسيلة، مع أنّ الباري تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد من جانبه، لكنّه ليس قرباً مكانياً كقرب جسم من جسم يستلزم قرب أحد الطرفين قرب الطرف الآخر، بل قربه تعالى منّا قرب قدرة وهيمنة وقيمومة، وهو كمال سيطرته وقاهريته على عباده.
وأمّا من طرف العباد، فمسيرهم إلى شاهق الساحة الربوبية ذو مسافة بعيدة ; لبعدهم وقصورهم عن الكمال المطلق، فلا يتسنّى لكلّ وارد أن يهتك الحجب. ومنه يظهر أنّ الآية في بيان سنّة إلهية دائمة دائبة في كلّ المخلوقات للتوجّه إلى الحضرة الإلهية.
ومنها: إنّ الآيات وسيلة لمعرفة الربّ عند القلب والعقل ; فإنّ الباري تعالى
فبين نفي التشبيه ونفي التعطيل إقامة التوحيد، تتحقّق بدلالة الآيات، كما أشارت إلى ذلك الصدّيقة الزهراء فاطمة (عليها السلام) في مستهل خطبتها، حيث قالت: "وأحمد الله الذي لعظمته ونوره يبتغي من في السموات والأرض إليه الوسيلة، ونحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصّته ومحلّ قدسه، ونحن حجّته في غيبه"(1).
فتعلّل سلام الله عليها ـ ضرورة الوسيلة وابتغاءها بشدّة عظمة الله، وحيث إنّ التعطيل مفروغ من بطلانه، فتحتّمت ضرورة الوسيلة فالبرهان المتقدّم مستفاد من كلامها (عليها السلام).
ويُستفاد البرهان المتقدّم أيضاً من قول أمير المؤمنين (عليه السلام): "الله عزّ وجلّ حامل العرش والسماوات والأرض... {أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَد مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا}(2)... وبعظمته ونوره ابتغى من في السماوات والأرض من جميع خلائقه إليه الوسيلة.."(3) ومثلها عن الإمام أبي الحسن موسى (عليه السلام)(4).
فاذا كانت معرفة العقل هي بوسيلة الآيات والتوجّه إليها والتدبّر فيها يحصل التوجّه مآلا إليه تعالى، ومعرفة العقل والقلب هي الإيمان وهي عبادة العقل والقلب ; لأنّ الإيمان إخبات وتسليم وإذعان وخضوع وانقياد وهو معنى العبادة،
____________
1- شرح النهج لابن أبي الحديد 16 / 211.
2- سورة فاطر 35: 41.
3- الكافي 1 / 129.
4- الكافي 8 / 124.
فالعبادة لا تقتصر على بدن الإنسان وحركاته، ولا على النفس وأفعالها الجانحية من النية والقصد، بل يعمّ عبادة أفعال العقل والقلب والروح، وإذا كانت هذه الثلاثة التي هي أقرب إلى الله تعالى تحتاج في عبادتها بل مطلق قصدها وتوجّهها إلى الله تعالى إلى التوجّه إلى الآيات وقصدها، فكيف بما دونها، وإذا كان للآيات أخطر دور في علاقة العبد بالباري وهو مقام المعرفة وأنّ معرفتها معرفته تعالى والتوجّه إليها توجّه إليه تعالى، يتّضح أنّ آياته الكبرى هي بابه الأعظم الذي منه يُؤتى ومنه الوفاد إلى الحضرة الإلهية.
وبذلك يتّضح ما ورد "بنا عُبد الله وبنا عُرف"(2).
ومنها: تعاضد دلالة آية الوسيلة مع السابقة الدالّة على كون الآيات مفتاح أبواب السماء ومفتاح دخول الجنّة، حيث دلّت على أنّ الآيات الإلهية ممّا يتوجّه بها إليه تعالى، وأنّها مفتاح التوجّه والسير إليه عزّ شأنه، والآية هي العلامة الدالّة،
____________
1- سورة الذاريات 51: 56.
2- الكافي 1 / 145.
فتكون الآيات الإلهية هي أسماءه الحُسنى التي قال عنها تعالى: {وَلِلَّهِ الاَْسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(1)فأتى في الآية بلفظ الجمع، ممّا يدلّ على كثرتها، مع أنّ الله هو الواحد الأحد، فالأسماء كثرة لكن المسمّى هو الواحد الأحد، فهي دوال عليه.
وهذه الدلالة هي حقيقة الآيات ; إذ العبادة للمسمّى الواحد الأحد، لا للكثرة ولا للأسماء ولا للآيات الدالّة عليه، كما يستفاد هذا البيان العقلي من قول الإمام الصادق (عليه السلام)، من صحيحة هشام بن الحكم أنّه سأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن أسماء الله واشتقاقها: "الله ممّا هو مشتقّ؟ فقال: يا هشام، الله مشتقّ من إله وإله يقتضي مألوهاً، والاسم غير المسمّى، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئاً، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد اثنين، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد، أفهمت ياهشام؟
قال: قلت: زدني. قال: لله تسع وتسعون اسماً، فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلهاً، ولكن الله معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلها غيره. يا هشام، الخبز اسم للمأكول، والماء اسم للمشروب، والثوب اسم للملبوس، والنار اسم للمحرق، أفهمت يا هشام فهماً تدفع به وتناضل به أعدائنا المتّخذين مع الله غيره؟ قلت: نعم. فقال: نفعك الله به وثبّتك يا هشام.
قال: فوالله ما قهرني أحد في التوحيد حتّى قمت مقامي هذا"(2).
فإذاً، تبيّن أنّ الأسماء الحُسنى التي يُدعى بها الربّ ويُتوجّه إليها وبها إليه،
____________
1- سورة الأعراف 7: 180.
2- الكافي 1 / 114 باب معاني الأسماء واشتقاقها.
كما أُطلق لفظ الآية والكلمة على عيسى، في قوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}(1) وكما في قوله تعالى في وصف يحيى أنّه مصدّق بعيسى، خطاباً لزكريا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَة مِنَ اللَّهِ}(2)، فأطلق على عيسى أنّه الكلمة التي يُصدق بها، نظير الأمر بتصديق آيات الله وعدم التكذيب بها، كما ورد في وصف مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ}(3)، فغاير بين الكلمات والكتب، فجعلت الكلمات مقابل الكتب، وأنّها (عليها السلام) صدّقت بالكلمات.
فيظهر من ذلك: إنّ الكلمات التي يُصدّق بها وكذا الآيات التي لا يصدق بها ولا يكذّب بها، لأنّ التكذيب والتصديق للخبر، فالآية التي توصف بذلك هي ذات مؤدّى خبري وهو الحجّة المنصوب من قبله تعالى يخبر عنه، فالحجج المصطفون هم الآيات التي لا يُكذّب بها ولا يُستكبر عنها، كما قد أطلقت على النبيّ عيسى ليتبين أنّ المراد بها هم الحجج الذين اصطفاهم الله، كما أنّهم هم الأسماء الحسنى التي يُتوسّل بها ويتوجّه، ويُدعى الربّ بها، بعد ما تبين تطابق معنى الاسم والآية والكلمة في أصل المعنى لغةً بمعنى العلامة الدالّة.
ثمّ إنّ الآية الأُولى، وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}(4)، دالّة على القاعدة الثانية والثالثة، ولا تقتصر دلالتها على القاعدة الأُولى.
____________
1- سورة مريم 19: 21.
2- سورة آل عمران 3: 39.
3- سورة التحريم 66: 12.
4- سورة النساء 4: 64.