إنحصار إجابة الدعاء بطلب النبيّ (صلى الله عليه وآله) منه تعالى:
وذلك لأنّه إذا كان التوسّل والتوجّه بالنبيّ شرط في التوبة لكلّ من أذنب من هذه الأُمّة، بل اشترط علاوة على ذلك في قبول التوبة تشفّع وشفاعة الرسول ووساطته، والتوبة من العبد هي الأوبة والإياب والرجوع إلى الساحة الإلهية بتوطين النفس على الطاعة والانقياد وترك التمرّد والإعراض، فماهية التوبة ذاتياً الخضوع العبادي والانقياد القربي، وبالتالي فهذان الشرطان، وهما: التوجّه بالنبيّ وشفاعة النبيّ (صلى الله عليه وآله) دخيلان في قبول هذه العبادة ; إذ توبة الله على العبد التي هي معنى (لوجدوا الله تواباً رحيماً) هو قبول الباري لهذه العبادة وإقباله على العبد بالرحمة وفيض الكمالات والعطاء بالمنح والهبات والفضل العميم والمنّ الكثير.
والأوبة من العبد في حقيقتها هي حالة وصفة الانقياد السارية في حقيقة كلّ العبادات ; لأنّ كلّ عبادة هي نمط من الانقياد والخضوع وقوامها بذلك، فإذا كانت السنّة الإلهية في الانقياد هي اشتراطه بالتوجّه والتوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وليس مجرّد ذلك فقط، بل لابدّ من قيام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالشفاعة والتشفّع لدى الله في قبول عبادات أُمّته كي يقبلها الباري.
فلا يكفي الحُسن الذاتي لعبادة العبد وهو ما يعرف بالحسن الفعلي ـ ولا يكفي ضمّ الحُسن الفاعلي أيضاً وهو انقياد العبد إلى الله وإلى نبيه بالتوجّه إليهما والتوسّل برسوله ـ بل لابدّ من ضمّ وساطة الرسول وشفاعته وتشفّعه لدى الله في قبول عبادات أُمّته، والعبادات أعظم أعمال الأُمّة، ولابدّ من تشفّعه (صلى الله عليه وآله) لدى الباري كي يقبل عبادات وأعمال الأُمّة، وهذا وجه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ
فوصف تعالى نبيه بالرحمة الواسعة العظيمة الشاملة لكلّ العالمين والعوالم ; إذ العالم هو اسم جمع، فكيف بجمع الجمع؟ وكيف مع دخول (ال) للاستغراق؟ فمن ثمّ كان صاحب الشفاعة الكبرى والوسيلة العظمى، كما ورد في روايات الفريقين.
وهو وجه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}(2)، وصلاته على الأُمّة دعاءه وتشفّعه لدى الله في حق أمته ومثله قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(3)، فخلع تعالى عليه خلعة ربانية عظيمة، وهي وصفين من الأسماء الحُسنى: الرؤوف والرحيم(4)، وقال تعالى في وصفه (صلى الله عليه وآله): {أُذُنُ خَيْر لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}(5).
فكرّر تعالى في وصفه (صلى الله عليه وآله) بأنّه: الرحمة الإلهية والأمان للمؤمنين. وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}(6)، فاشترط تعالى لحصول محبّته لعباده اتّباع نبيّه.
____________
1- سورة الأنبياء 21: 107.
2- سورة التوبة 9: 103.
3- سورة التوبة 9: 128.
4- اللهم أعنا على طاعته وصلة أهل بيته وموالاته واله والبراءة من التمرد ومن المتمردين عليه.
5- سورة التوبة 9: 61.
6- سورة آل عمران 3: 31.
حقيقة التوسّل والتوجّه بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) تقديمه أمام التوجّه والطلـب من الله تعالـى، وهو معـنى الوفـادة به على الله:
فيُعلم من ذلك أنّ الأُمّة في وفودها على باريها بعباداتها وأعمالها لابدّ عليها من أن تأتي إلى باب الله الأعظم الذي منه يُؤتى، وهو سيّد أنبياءه، ومع كلّ ذلك لابدّ لكي يعود الربّ تعالى بالرحمة على هذه الأُمّة، ولكي يقبل وفادتها إليه، أن تفد بنبيّها وتقدّمه بين يدي الله، وبعبارة أُخرى: إنّ التوجّه بالشيء لغةً عبارة عن جعله وجهاً وأماما وإماماً، فالتوجّه بالنبيّ عبارة عن جعله الوجه المتقدّم للوفود على الساحة الربوبية، وكذلك معنى التوسّل بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) لغةً فان معنى الوسيلة هو بالتوجّه إليها أوّلاً ليمهّد ويوطّد ويهيّئ له الوصول إلى الشيء الآخر، وليس معنى التوسّل بالوسيلة الإعراض عن التوجّه إليها بالتوجّه مباشرة إلى الغاية والمنتهى ; فإنّ هذا ترك للأخذ بالوسيلة.
ولابدّ في كلّ ذلك من أن يشفع لهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) لدى الباري تعالى، ويطلب منه ويسأله في قضاء حوائجهم، وشفاعته وبابيته ووساطته لا تقتصر على محو ذنوب الأُمّة، بل وكذلك تشمل في نيل الدرجات والمقامات، بل لا يقتصر ذلك على هذه الأُمّة، بل تعم جميع الأُمم من الأوّلين والآخرين.
وساطة النبيّ وشفاعته في نيل جميع الأنبياء والمرسلين للنبوّة والمقامات:
بل تعم جميع الأنبياء والمرسلين، كيف لا؟ ولم يعطِ الباري تعالى نبوّة لنبيّ
فلم يستحصل الأنبياء على النبوّة والكتاب والحكمة فضلاً عن بقية المقامات الغيبية إلاّ بالموالاة والطاعة والخضوع لسيد الأنبياء، والتوجّه به إلى الله، فشفاعته (صلى الله عليه وآله) يضطرّ إليها جميع الأنبياء والمرسلين فضلاً عن جميع الأُمم، فنيل كلّ مقام للأصفياء المصطفين لا يتمّ لهم إلاّ بالتوجّه إلى باب الله الأعظم، وهو سيد الأنبياء.
ويشير إلى توسّل الأُمم السابقة بسيد الأنبياء ما في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}(2)، والآية نازلة في اليهود، حيث كانوا يؤمنون بمجيء خاتم الأنبياء من قبل، وكانوا في حروبهم مع الكفّار يستفتحون بالنبيّ ويتوسّلون به إلى الله ; لكي ينزل النصر عليهم، فلمّا جاءهم
____________
1- سورة آل عمران 3: 81.
2- سورة البقرة 2: 89.
والاستفتاح هو طلب الفتح لكلّ باب من أبواب البركة والنصر والخير والسعادة والنعيم والنصر، وكلّ فوز عظيم وغنم جزيل، فالاستفتاح ينطوي على معنى طلب الفتح والمفتاح، وقد تقدّم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}(1)، حيث بينت هذه الآية أنّ الإيمان بآيات الله والتصديق والإقبال والتوجّه إليها وتعظيمها هو المفتاح الذي تُفتح به أبواب السموات، أي أنّه الباب الذي يفتح منه كلّ باب، فهو باب الأبواب وباب الله الأعظم، وقد أقرّ الباري تعالى استفتاح أهل الكتاب بالنبيّ، وأنّ ذلك من تشريع الله لهم في الديانة التي بعث بها أنبيائهم في جميع الشرائع السماوية السابقة، أي أنّ التوسّل والتوجّه بسيد الرسل (صلى الله عليه وآله) كان من الدين الواحد المتّفق الذي بُعث به جميع الأنبياء على اختلاف شرائعهم.
كيف لا يكون سيد الأنبياء استفتاح لكلّ شيء بعد اسم الله مع أنّ كلّ شيء يستفتح بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، إلاّ أنّ فتح هذا الاستفتاح لابدّ أن يقرن باسم الحبيب المصطفى، فهو (صلى الله عليه وآله) استفتاح لكلّ خير ولنيل كلّ مقام وفضل وكمال وإسعاد، كيف لا يكون ذلك وقد تقدّم قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ..}(2)، إن جميع الأنبياء استأهلوا النبوّة بشرف الإقرار بولاية النبيّ (صلى الله عليه وآله) وولاية عليّ (عليه السلام) كما سيأتي.
وقد روى الفريقان: أنّ آدم لمّا اقترف الخطيئة ما كان الله ليغفر له لولا توسّله
____________
1- سورة الأعراف 7: 40.
2- سورة آل عمران 3: 81.
وقد تقدّم أنّ الكلمة أُطلقت على النبيّ عيسى، وتصديق مريم بالكلمات أُطلقت على أولياء الله الحجج في مقابل التصديق بكتبه، وأنّ (الكلمة) متطابقة مع (الآية)، وقد أطلقت (الآية) على النبيّ عيسى. فظاهر التعبير بالجمع في الكلمات التي تلقّاها آدم، والتي قد رويت في طرق أهل سنّة الجماعة أنّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ والجمع يقتضي أنّه سيد الأنبياء، وكذا أهل بيته الذين قُرنوا معه في آية التطهير وأُشركوا معه في إرادة الربّ بتطهيرهم، كما قُرنوا معه (صلى الله عليه وآله) في احتجاج الله بهم على أهل الكتاب، أي أنّهم حجّة لله على أهل الكتاب والأُمم إلى يوم القيامة، كما شهد لهم القرآن بأنّهم يعلمون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ الذي لا يمسّه إلاّ المطهّرون كما ورد في سورة الواقعة ـ فهم أصحاب وصف التطهير في هذه الأمة بتخصيص القرآن.
كما يعطي امتحان إبراهيم بتلك الكلمات أنّ أُولئك الحجج الذين امتُحن بهم النبيّ إبراهيم هم ممّن نال مقام الإمامة بالتوجه بهم إلى الله والتصديق والإقرار
____________
1- أمّا روايات أهل البيت فمستفيضة في ذلك، لاحظ: تفسير البرهان، ونور الثقلين، وغيرهما في ذيل قوله تعالى: (فتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه). أمّا مصادر العامّة فلاحظ: مستدرك الحاكم على الصحيحين ج2 ص615 المتضمّن: لولا محمّد ما خلقت آدم... ولا الجنّة ولا النار. ولا كبس العرش على الماء.
2- سورة البقرة 2: 37.
3- سورة البقرة 2: 124.
وقد مرّت دلالة آية الميثاق على النبيّين أنّهم لم ينالوا مقام النبوّة إلاّ بالتصديق والتسليم لولاية سيد الأنبياء، كما قد تقدّم في المقالات السابقة من هذا الفصل أنّ جملة من الآيات القرآنية في السور المتعدّدة دلّت على أخذ ولاية عليّ (عليه السلام) في أُصول الدين الواحد، وهو الإسلام الذي بُعث به جميع الأنبياء من آدم إلى النبيّ عيسى، وإن اختلفت شرائعهم.
ومنها: قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ}(1) وهذه الآية وإن خصّها جمع من مفسّري الفريقين في الشأن العام السياسي، ولكنّ الصحيح كما بسطنا الكلام فيه في ما تقدّم ـ أنّها في مطلق شؤون الدين ; إذ طاعة الله لا تُحدّ بحدود، بل هي بسعة الدين كلّه، فكذلك طاعة الرسول وأُولي الأمر، لا سيما أنّ الأمر المراد منه هو الأمر المتنزّل في ليلة القدر، كما في سورة القدر والدخان والنحل وغافر، وغيرها من السور.
معنى شرطية الولاية في صحّة العبادات:
فالأمر في (أولي الأمر) عالم الأمر من الملكوت، وكما في سورة الشورى: {رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}(2)، فأصحاب وأولياء الأمر هم أصحاب روح القدس الأمري، هؤلاء طاعتهم بتبع طاعة الرسول، وطاعته (صلى الله عليه وآله) بتبع طاعة الله تعالى، وهي في كلّ دائرة الدين، ومنها أبواب العبادات، فكما يتعلّق الأمر الإلهي بالعبادات كالصلاة وغيرها، فكذلك الأمر النبوّي والأمر الولوي قد تعلّق برسم حدود العبادات
____________
1- سورة النساء 4: 59.
2- سورة الشورى: 42: 52.
وبعبارة أُخرى، أنّه قد حُرّر في مبحث التعبّدي والتوصّلي في علم أُصول الفقه: قوام العبادية في العبادات بنية القربى، وأنّ نية القربى هي قصد للمسبّب لا تحصل إلاّ بنية وقصد السبب، وهو قصد امتثال الأمر الإلهي المتعلّق بالصلاة والصوم والحجّ وغيرها من العبادات، حيث إنّ قصد المكلّف كونه ماثلاً أمام الإرادة الإلهية وخاضعاً وطائعاً للأمر الإلهي، يوجب الزلفى والاقتراب من الساحة الإلهية.
وما ذكره علماء الأُصول وإن كان متيناً، إلاّ أنّهم لم يستوفوا تمام أطراف البحث، فإنّ العبادات كما قد تعلّق بها الأمر الإلهي كـ: (أقيموا الصلاة) و (آتوا الزكاة) و(كتب عليكم الصيام) و(قاتلوا في سبيل الله) وغيرها من الأوامر الإلهية المتعلّقة بالعبادات، فكذلك قد تعلّق الأمر النبويّ بتلك العبادات ; فإنّ جملة عديدة من أجزاء العبادات إنّما هي سنن نبويّة بأمر منه (صلى الله عليه وآله)، نظير السبع الركعات التي أمر بها (صلى الله عليه وآله) في الفرائض، كما روى ذلك الفريقان، ومن الواضح حينئذ، أنّ صحّة الصلاة اليومية مثلاً متوقّفة على امتثال أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) أيضاً.
فقصد امتثال الأمر يعمّ كلّ من أمر الله تعالى وأمر رسوله في العبادات، والامتثال والطاعة هي شاملة لكلّ من امتثال وطاعة أمر الله وأمر رسوله.
وكذلك الحال لأُولي الأمر المتنزّل في ليلة القدر، فإنّ جملة غفيرة من الشرائط والموانع وتفاصيل الأجزاء إنّما هي بأوامر أئمّة أهل البيت (عليه السلام) ومنهاجهم
فيتّضح بذلك أنّ قصد الأمر المحقّق لنية القربى في العبادات الذي ذكره علماء الفقه والأُصول لابدّ أن يعمّ الأوامر الثلاثة، وأنّ الامتثال والطاعة في عبادية العبادة هي لكلّ من أمر الله وأمر رسوله وأمر أولياء أمره.
وبذلك تتحقّق العبادة الخالصة لله تعالى وحده من دون استكبار النفس، وهو الذي أخفق فيه إبليس اللعين حينما ترك التوجّه بآدم في العبادة. ويتّضح عموم آية الطاعة للعبادات ولدائرة الدين، وأنّ هذا المعنى قراءة جديدة لمعنى أخذ ولايتهم (عليهم السلام) في صحّة العبادات.
ثمّ إنّه قد اتّفقت كلمات فقهاء الإمامية على رجحان دعاء التوجّه قبل تكبيرة الإحرام في الصلاة، بل جملة كلمات المتقدّمين والمتأخّرين على رجحانه بعد تكبيرة الإحرام قبل قراءة الحمد، وهي فتوى بالنصّ المأثور "وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض، على ملّة إبراهيم ودين محمّد (صلى الله عليه وآله) ومنهاج عليّ، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين"(1).
وفي النصّ الآخر بعد ومنهاج عليّ "والائتمام بآل محمّد حنيفاً مسلماً"(2).
وفي بعض النصوص "وهدي عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) "(3).
وفي مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي: "اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة بلّغ محمّداً (صلى الله عليه وآله) الدرجة والوسيلة والفضل والفضيلة، بالله استفتح وبالله أستنجح، وبمحمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتوجّه، اللهم صلّي على محمّد وآل محمّد،
____________
1- من لا يحضره الفقيه 1 / 204 باب وصف الصلاة وأدب المصلّي.
2- وسائل الشيعة 6 / 25 الحديث 3، ولاحظ أيضاً مستدرك الوسائل.
3- المصدر السابق.
وقد اتّفقت أيضاً ـ كلمة جمهور مذاهب المسلمين على رجحان التسليم على النبيّ (صلى الله عليه وآله) بلفظ: "السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته" وذلك قبل التسليم المُخرِج من الصلاة، أي أنّ التسليم على النبيّ (صلى الله عليه وآله) يأتي به المصلّي ولمّا يخرج بعد من الصلاة.
ومؤدّى هذا التسليم من المصلّي وهو في صلاته أنّه زيارة من المصلّي إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) من كلّ الأُمّة، من كلّ مؤمن ومسلم، في اليوم خمس مرّات، بل في كلّ صلاة يأتي بها، كما أنّ هذه الزيارة والتسليم للنبيّ ينطوي على مخاطبة النبيّ بـ (كاف) الخطاب، كما ينطوي على نداء النبيّ ومخاطبته (صلى الله عليه وآله) بـ (ياء) النداء القريب: "أيّها".
وهذا كلّه من التسليم والزيارة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ومخاطبته بالنداء القريب والمصلّي في صلاته ونجواه لربّه وخطابه مع بارئه، ففي محضر الوفادة الربانية والضيافة الإلهية يتوجّه المصلّي بالالتفات لنبيّه ; إذ هو باب الله الأعظم، فكما بدأ صلاته بالإقرار بالرسالة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد الإقرار بالتوحيد في الأذان والإقامة وتوجّه به في بدو الصلاة، عاود التوجّه إليه وبه إلى الله، فهذه الصلاة التي هي عمود الدين ومعراج المؤمن إلى ربّه ونجواه مع خالقه يزدلف إلى ربّه بالولاية لنبيّه والتعظيم له وتوقيره.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الاُْمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالاَْغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
____________
1- مصباح المتهجّد: 73 فصل في ذكر الأذان.
فترى ما أوجب تعالى من التعظيم والمهابة لنبيّه أن افترض عدّة من السنن والآداب والخضوع في محضر النبيّ، جعل جزاء الإختلال بها ولو كرفع الصوت ـ حبط جميع الأعمال، وأنّ تعظيم النبيّ وإجلاله هو من تقوى القلوب، وأنّ الذين يستخفّون بمقام النبيّ ليس لهم شعور ولا عقل، أي من زمرة البهائم.
وكلّ هذا التعظيم الإلهي بمراسم ورسوم في سنن الآداب الإلهية لنبيّه لم يرد في حقّ نبيّ من الأنبياء، فهذا المحلّ من القدس من الباري هداية منه تعالى إلى الباب الذي منه يُؤتى، وجعل تعالى الصدّ عن هذا الباب الأعظم وعن الالتجاء إليه من صفات المنافقين، حيث قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}(3).
كما قرن تعالى رضاه برضى رسوله، فقال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}(4)، فجعل باب رضاه رضى رسوله، كما قرن حبّه بحبّ رسوله، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ
____________
1- سورة الأعراف 7: 157.
2- سورة الحجرات 49: 1 ـ 4.
3- سورة المنافقين 63: 5.
4- سورة التوبة 9: 62.
والتوجّه بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) شرط زائد على شرطية الإيمان به، كما مرّ في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا...}(3)، هو الإقرار بولاية النبيّ والإخبات والخضوع لها، إذ الولاية مجموع كلّ من التصديق والطاعة، حيث تضمن الميثاق على النبيّين، {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}(4)، وقد عُبّر عن الاستفتاح به (صلى الله عليه وآله) أيضاً بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(5) أي أنّه (صلى الله عليه وآله) يستمطر به كلّ رحمة لكلّ عالم من العوالم والنشآت، فهو باب الله الأعظم الذي تجري منه الرحمة الإلهية، وقد قرن الله تعالى ولايته بولايته، فقيّد جلّ آيات الأمر بطاعة الله بطاعة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فجعل التمرّد على ولاية النبيّ (صلى الله عليه وآله) عين التمرّد على ولاية الله وطاعته.
كما قرن طاعته وطاعة رسوله بطاعة أُولي الأمر، حيث قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ}(6)، فجعل باب النبيّ هو أهل بيته، وباب طاعة النبيّ طاعة أهل بيته، وباب حبّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) حبّ أهل بيته، وباب الهجرة إلى النبيّ الهجرة إلى أهل بيته، وباب رضا النبيّ رضا أهل بيته، وقد أوضح أصحاب هذا
____________
1- سورة التوبة 9: 24.
2- سورة النساء 4: 100.
3- سورة الأعراف 7: 40.
4- سورة آل عمران 3: 81.
5- سورة الأنبياء 21: 107.
6- سورة النساء 4: 59.
فالأمر هذا هو روح القدس، وأصحابه هم الذين يتنزّل عليهم هذا الروح في ليلة القدر، كما سيأتي تفصيله في الفصل السابع. وأنّهم أصحاب علم الكتاب المطهّرون في هذه الأُمّة بشهادة آية التطهير وهم أهل البيت (عليهم السلام).
فقرن طاعتهم (عليهم السلام) بطاعته (صلى الله عليه وآله)، وولايتهم (عليهم السلام) بولايته (صلى الله عليه وآله)، يقتضي إرادتهم من لفظ الآيات في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ...}(4).
تبيّن ممّا مرّ أنّ التصديق بالآيات والتوجّه والخضوع لها عبارة عن التسليم لولايتهم ; لأنّ مقتضى كلّ من كون التسليم لولاية الآيات مفتاح أبواب السماء، مع جعل النبيّ استفتاحاً في شرائع الأنبياء يُستفتح به، وإطلاق الآية على النبيّ عيسى هذه الأُمور الثلاثة وغيرها من الشواهد المتقدمة نظير ما مرّ من أن الآية التي يصدق بها هو صاحب المنصب إلالهي الذي يخبر عن الله تعالى، لا الآية التكوينية فإنّه التعبير عنها ورد وهم عنها غافلون، وكذا ما تقدّم من اطلاق الكلمات على النبيّ وأهل بيته، كلّ ذلك يقتضي إرادة سيد الأنبياء من تلك الآيات وولاية أهل بيته الذين قرنت ولايتهم بولايته، وأنّ أهل البيت هم الباب لسيد
____________
1- سورة القدر 97: 4.
2- سورة الدخان 44: 2 ـ 6.
3- سورة غافر 40: 15.
4- سورة الأعراف 7: 40.
وقد ورد في أحاديث الفريقين أنّ عليّاً باب مدينة الرسول: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"(1)، وقد نزّلت آية المباهلة عليّاً بمنزلة نفس النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ذلك في قوله تعالى: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}(2).
فحقيقة الطاعة للرسول وأُولي الأمر الخضوع والتسليم والانقياد والتعظيم له ولهم سلام الله عليهم، وقد تقدّم أنّ الكلمات التي تلقّاها آدم من نصوص الفريقين منها اسم النبيّ (صلى الله عليه وآله).
فيتبيّن من ذلك أنّ هناك أسماء أُخرى توجّه بها آدم ليتوب الله بها عليه، كذلك في الكلمات التي امتحن بها إبراهيم لنيل مقام الإمامة، الامتحان كان بكلمات، لا بكلمة واحدة، وأنّ هناك جناس في لفظ (الكلمات) في قصّة آدم وإبراهيم (عليهما السلام)، فهناك أسماء مقرونة مع اسم النبيّ، وولايتها مقرونة بولاية النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فعسى من تكون تلك الأسماء غير أهل بيته الذين قُرنوا به في جملة المقامات الإلهية، كآية الطاعة والولاية، وآية التطهير، وآية الاحتجاج في المباهلة، وآية شهادة الأعمال في قوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(3)، فهؤلاء الشهداء على جميع الناس هم من نسل إبراهيم وعلى ملّة أبيهم إبراهيم، وقُرنوا مع النبيّ في الشهادة، إلاّ أنّ النبيّ شاهد عليهم.
وهم الذرّية كما دعا إبراهيم ربّه أن تكون الإمامة في ذرّيته: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
____________
1- قد عقد صاحب العبقات مجلّداً كاملاً في إثبات تواتر الحديث في مصادر العامّة فضلاً عن طرق الخاصّة، لاحظ خلاصة عبقات الأنوار ج 1.
2- سورة آل عمران 3: 61.
3- سورة الحج 22: 78.
فبيّن تعالى أنّ مودّتهم وتولّيهم وولايتهم نفعها عائد إلى الأُمّة نفسها ; وذلك لأنّ مودّة وولاية أهل البيت السبيل والوسيلة إلى الله تعالى، فهذه الآيات بمنزلة مفاد آية الوسيلة مع تعيين لهوية الوسيلة، ومن ثمّ ورد في الزيارة الجامعة: "ومن وحّده قبل عنكم، ومن قصده توجّه بكم"(6) وهذه الفقرة إشارة إلى القواعد الثلاثة.
____________
1- سورة البقرة 2: 124.
2- سورة التوبة 9: 105.
3- سورة الشورى 42: 23.
4- سورة سبأ 34: 47.
5- سورة الفرقان 25: 57.
6- من لا يحضره الفقيه للصدوق 2 / 615.