الصفحة 185

بقاء جميع الكتب السماوية بهم (عليهم السلام)
دعاته تعالى إلى كتبه


إنّ إحدى مقاماتهم (عليهم السلام) في الديانة الإلهية هو كونهم دعاة الله إلى جميع كتبه وصحفه السماوية المُنزّلة، وهم حفظة تلك الودائع; إذ قد تبيّن من المقالة السابقة(1): إنّ الدين عند الله واحد وهو الإسلام {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ}(2)، وهو الذي بُعث به جميع الأنبياء والرسل من آدم (عليه السلام) إلى النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وإنّ الاختلاف بين بعثات الأنبياء إنّما هو في الشرائع، حيث قال تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(3).

والدين عبارة عن مجموعة من العقائد الحقّة وأركان الفروع وأُصول الواجبات والمحرّمات. وأمّا الشريعة، فهي تفاصيل التشريعات الفرعية. وإذا تبيّنت هذه النقطة تبيّن لك أنّ الصحف والكتب السماوية المنزّلة بما أنّ جملة وعمدة ما

____________

1- ولاية عليّ في الشرائع السابقة.

2- سورة آل عمران 3: 19.

3- سورة المائدة 5: 48.


الصفحة 186
اشتملت عليه هو في العقائد وأركان الفروع وشطر يسير منها في الشريعة وتفاصيل الفروع.

فيتبيّن من ذلك أنّ الجملة الغالبة ممّا اشتملت عليه تلك الكتب غير منسوخ بل ثابت وماض إلى يوم القيامة; لأنّه لا نسخ في الدين ودائرته وهو الإسلام، وإنّما النسخ في شرائع الأنبياء السابقين، وبالتالي يلزم الإيمان والتصديق بتلك الكتب والتقيّد بما فيها ممّا كان من دائرة الدين، لا من دائرة الشريعة المنسوخة، كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسُلِهِ}(1)، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا}(2).

لكن لا النُّسَخ المحرّفة عند أتباع وأُمم الأنبياء، بل النُّسَخ المصونة عن التحريف المُودعة كمواريث عند الأوصياء وهم أهل بيت النبوّة (عليهم السلام)، كما سيتبيّن من الآيات الآتية، ومن ثمّ يتجلّى بقاء قدسية الكتب والصحف السماوية غير المحرّفة لوحدة الدين عند أصحاب الكتب، وهم الأنبياء والرسل المبعوثون بها.

غاية الأمر أنّ بين الكتب السماوية تمايز من جهة أُخرى، وهو أنّ المعارف العقائدية في كلّ كتاب دائرتها بحسب مقام ودرجة ذلك النبيّ، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(3)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض}(4)، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}(5)، فالعقائد والمعارف الواردة في الكتب الإلهية وإن لم يكن فيها

____________

1- سورة البقرة 2: 285.

2- سورة النساء 4: 136.

3- سورة البقرة 2: 253.

4- سورة الإسراء 17: 55.

5- سورة المائدة 5: 48.


الصفحة 187
تبدّل أو تغيير، ولا هي قابلة للنسخ، إلاّ أنّ كلّ نبيّ وكلّ كتاب يُبعث به يمتاز عن الآخر في سعة ما يُنبئَهُ وضيقه وعمقه وتوسّطه، بحسب مقام ذلك النبيّ ودرجة كتابه الذي تلقّاه عن الله تعالى.

فخاتم الأنبياء حيث كان سيدهم كان كتابه أُمّ الكتب الإلهية والجامع لما فيها والمهيمن عليها، إلاّ أنّ كلّ ذلك لا يسلب ولا يفقد الكتب الإلهية غير المحرّفة الأُخرى قدسيتها وحقانيتها ولا درجات مواقعها التي هي فيها، ومن ثمّ نجد إشادة القرآن الكريم ومديحه لها، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الاُْولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}(1)، وقال تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}(2)، وقال تعالى في سياق ما سبق: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِْنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِْنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(3)، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ

____________

1- سورة الأعلى 87: 14 ـ 19.

2- سورة المائدة 5: 43 و44.

3- سورة المائدة 5: 46 ـ 48.


الصفحة 188
لاََكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ...}(1)، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}(2)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِْنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ}(3)... وغيرها من الآيات.

ومع هذه الموقعية للكتب والصحف المنزلة السابقة، وتأكيد الباري تعالى على الإيمان بها، فلا يمكن أن تذهب سدى أدراج الرياح، بل لابدَّ أن تكون محفوظة مودعة عند من أودع علم القرآن عندهم، حيث إنّ الكتب والصحف المنزلة السابقة كلّها كأجزاء متنزّلة من الكتاب المبين الذي هو أصل حقيقة القرآن، وقد أسند القرآن الكريم علم الكتاب كلّه والكتاب المبين إلى أهل البيت المطهّرين. فها هنا نقطتان لابدّ من بيانهما:

الأُولى: كون الكتب والصحف المنزلة السابقة هي أبعاض وأجزاء متنزّلة من الكتاب المبين المكنون، فقد قال تعالى في شأن موسى (عليه السلام): {وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(4)، وقال تعالى في شأن عيسى (عليه السلام): {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِْنْجِيلَ}(5)، وقال تعالى في شأن عموم الأنبياء: {مَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ}(6)، فجعل الكتاب مقابل الفرقان والتوراة والإنجيل، وكذلك في مقابل الحُكْم والنبوّة، مع أنّ عنوان الكتاب قد أُطلق على التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب المنزلة، كما قال

____________

1- سورة المائدة 5: 66.

2- سورة المائدة 5: 68.

3- سورة التوبة 9: 111.

4- سورة البقرة 2: 53.

5- سورة المائدة 5: 110.

6- سورة آل عمران 3: 79.


الصفحة 189
تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}(1)، وقال تعالى: {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه}(2).

ولقد أُطلق على أتباع موسى وعيسى عنوان أهل الكتاب وعنوان الذين أُوتوا الكتاب كراراً في مواضع كثيرة في السور القرآنية، والذي أوتوه هو التوراة والإنجيل، فأُطلق اسم الكتاب عليهما، نظير ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}(3)، وفي مواضع أُخرى من القرآن قد وصف الفرقان أو التوراة أو الإنجيل بأنّه بعض الكتاب لا كلّه، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا}(4).

وكرّر هذا التعبير في سورة النساء مرّتين(5)، ووصفت التوراة في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الاَْلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء}(6)، فلم يكتب فيها كلّ شيء، بل من كلّ شيء، وقال تعالى عن وصي سليمان آصف بن برخيا: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}(7)، فوصف علمه الذي ورثه من سليمان بأنّه علم من بعض الكتاب.

وقال تعالى في شأن الإنجيل وعيسى (عليه السلام): {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلاُِبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}(8)، أنّ فيه بيان بعض ما يختلف فيه بنو إسرائيل، لا بيان كلّ ما يختلفون فيه، مع أنّ القرآن قد وصف بأنّه بيان لكلّ شيء، فقال تعالى:

____________

1- سورة الأنعام 6: 154.

2- سورة هود 11: 110.

3- سورة الجاثية 45: 16.

4- سورة آل عمران 3: 23.

5- سورة النساء 4: 44 و51.

6- سورة الأعراف 7: 145.

7- سورة النمل 27: 40.

8- سورة الزخرف 43: 63.


الصفحة 190
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(1).

فتحصّل أنّ الكتب والصحف المتنزّلة السابقة وإن كانت هي من الكتاب، إلاّ أنّها أبعاض وأجزاء له لاتمامه، بخلاف القرآن الكريم حيث يقول الباري: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2).

والكتاب والكتاب المبين والكتاب المكنون هو وجود علوي غيبي قد وصف بأوصاف عديدة، كما في قوله: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(3)، فالقرآن النازل هو تنزيل للكتاب المبين، وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}(4)، فالقرآن المتنزّل في الصورة العربية هو إنزال للكتاب المبين، والقرآن له وجود علوي الذي هو أُمّ الكتاب.

قال تعالى: {إِنَّهُ لَـقُـرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِـتَـاب مَكْـنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(5)، فوصف القرآن بوجود علوي في الكتاب المكنون، وأنّ القرآن النازل هو تنزيل لذلك الوجود العلوي، وقال تعالى: {طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَاب مُبِين}(6)، وقال تعالى: {الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآن مُبِين}(7)، وقال تعالى: {... وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(8)، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ

____________

1- سورة النحل 16: 89.

2- سورة يونس 10: 37.

3- سورة الدخان 44: 1 ـ 3.

4- سورة الزخرف 43: 1 ـ 4.

5- سورة الواقعة 56: 77 ـ 80.

6- سورة النمل 27: 1.

7- سورة الحجر 15: 1.

8- سورة يونس 10: 61.


الصفحة 191
هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(1).

النقطة الثانية: بيّن تعالى في القرآن الكريم أنّ أهل البيت (عليهم السلام) يمسُّون الكتاب المكنون كما مرّ في الآية في سورة الواقعة; إذ هم أهل آية التطهير المطهّرون دون سائر الأُمّة، وفرقٌ بين المطهّر ذاتاً وخلقةً والمتطهّر بالوضوء والغسل. وكذا أشار إليه تعالى في سورة الرعد: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(2)، وهي السورة المكّية التي نزلت في عليّ، وكذا قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(3)، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(4)، فبيّن تعالى أنّ في هذه الأُمّة ثلّة تعلم تأويل الكتاب كلّه; لعلمهم بمحكمات الكتاب التي هي أُمّ الكتاب، فيعلمون أُمّ الكتاب فضلاً عن الكتاب المبين، والقرآن بتمامه آيات بيّنات في صدورهم، فلا يشكل عليهم شيء منه، ولا يكون شيء منه متشابهاً عليهم، ولأجل ذلك يعلمون الذي تشابه على غيرهم من الكتاب، وهو لديهم بيّن.

وقد دلّلت سور الرعد والأحزاب والواقعة على أنّ أهل بيت النبوّة هم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون الذي هو حقيقة القرآن العلوية، وهو الكتاب المبين، فمن ثمّ لديهم علم الكتاب كلّه لا علم بعض من الكتاب، كما أشارت إلى ذلك سورة الرعد النازلة في علي (عليه السلام)، وغيرها.

____________

1- سورة الأنعام 6: 59.

2- سورة الرعد 13: 43.

3- سورة العنكبوت 29: 49.

4- سورة آل عمران 3: 7.


الصفحة 192
وإذا تبيّنت هاتان النقطتان، يتبيّن أنّ أهل بيت النبوّة حيث يحيطون بالكتاب والكتاب المبين علماً، فهم يحيطون علماً بكلّ الكتب والصحف المنزلة السابقة، وهم حفظتها، فهم الدعاة إلى كتب الله المنزلة، كما جاء في الزيارة الجامعة التي رواها ابن طاووس في مصباح الزائر: "أشهدُ أنكم أبواب الله ومفاتيح رحمته ومقاليد مغفرته وسحائب رضوانه ومصابيح جنانه وحملة فرقانه وخزنة علمه وحفظة سرّه ومهبط وحيه، وعندكم أمانات النبوّة وودائع الرسالة، أنتم أُمناء الله وأحبّاؤه وعباده وأصفياءه، وأنصار توحيده، وأركان تمجيده، ودعاته إلى كتبه، وحرسة خلائقه وحفظة ودائعه".

وفي زيارة الإمام الكاظم (عليه السلام): "... وحامل التوراة والإنجيل...".

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة في صفة آل محمّد: "هم موضع سرّه ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهف كتبه وجبال دينه".

وفي صحيح هشام بن الحكم في حديث بريه: "أنّه لمّا جاء معه إلى أبي عبدالله (عليه السلام) فلقي أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام)، فحكى له هشام الحكاية، فلمّا فرغ قال أبو الحسن (عليه السلام) لبريه: يا بريه كيف علمك بكتاب الله؟ قال: أنا به عالم. ثمّ قال: كيف ثقتك بتأويله؟ قال: ما أوثقني بعلمي فيه. قال: فابتدأ أبو الحسن (عليه السلام) يقرأ الإنجيل. فقال بريه: إياك كنت أطلب منذ خمسين سنة أو مثلك... قال أبو عبدالله (عليه السلام): ذرّية بعضها من بعض والله سميع عليم. فقال بريه: أنّى لكم التوراة والإنجيل وكتب الأنبياء؟ قال: هي عندنا وراثة من عندهم نقرؤها كما قرؤوها ونقولها كما قالوا، إنّ الله لا يجعل حجّة في أرضه يُسئل عن شيء فيقول لا أعلم"(1).

وينبّهنا إلى ما تقدّم من الآيات ونسق الارتباط في دلالتها الموصل إلى تلك

____________

1- الكافي 1 / 227.


الصفحة 193
النتيجة ما رواه الشيخ المفيد في الاختصاص، من مسائل عبدالله بن سلام للنبيّ (صلى الله عليه وآله): "... صدقت يا محمّد فاخبرني إلى ما تدعو؟ قال: إلى الإسلام والإيمان بالله. قال: وما الإسلام؟ قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له... قال: وما دين الله؟ قال: الإسلام. قال: وبه دان النبيّون من قبلك؟ قال: نعم. قال: فالشرائع؟ قال: كانت مختلفة وقد مضت سنّة الأوّلين. قال: صدقت"(1).

والرواية صريحة بأنّ الدين واحد، من آدم (عليه السلام) إلى النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وأنّما التغاير في الشرائع والمنهاج وهي تفاصيل الفروع، كما أنّها تشير إلى أنّ الشهادتين هما من أُمّهات أُصول الديانة الإسلامية التي بُعث بها الأنبياء، وأنّ الإقرار بخاتم النبيّين يتلو التوحيد في أُصول الديانة الواحدة بين النبيّين، والترتيب في أُصول الدين لا يختلف ولا يتخلّف بين نبيّ وآخر; لأنّ الدين واحد كما اتّضح.

وأُصول المعرفة الدينية ليست إلاّ حقائق واقعية يؤمن بها الإنسان، بل يجب أن يؤمن بها; فسلسلة مراتب أُصول الديانة تنبّئ عن موقعية كلّ أصل وأهمّيته وخطورته في الدين الواحد. فمن ثمّ الترتيب في أُصول دين الإسلام الذي بُعث به خاتم النبيّين هو بعينه قد بُعث به جميع الأنبياء والمرسلين، ومن ثمّ فسيادة خاتم النبيّين على الرسل أصل إيماني في الدين الواحد قد أُخذ الإقرار به في الدين الذي بُعث به جميع الأنبياء، كما يشير إلى هذه الحقيقة قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}(2).

____________

1- الاختصاص للشيخ المفيد: 43.

2- سورة آل عمران 3: 81.


الصفحة 194
وفي رواية عبد الحميد بن أبي الديلم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: "أوصى موسى (عليه السلام) إلى يوشع بن نون، وأوصى يوشع بن نون إلى ولد هارون، ولم يوصِ إلى ولده، ولا إلى ولد موسى; إنّ الله تعالى له الخيرة يختار من يشاء ممّن يشاء. وبشّر موسى ويوشع بالمسيح (عليهم السلام).

فلمّا أن بعث الله عزّوجلّ المسيح (عليه السلام) قال المسيح لهم: إنّه سوف يأتي من بعدي نبيّ اسمه أحمد، من ولد إسماعيل (عليه السلام)، يجيء بتصديقي وتصديقكم وعذري وعذركم، وجرت من بعده في الحواريين في المستحفظين، وإنّما سمّاهم الله المستحفظين; لأنّهم استحفظوا الاسم الأكبر، وهو الكتاب الذي يُعلم به علم كلّ شيء، الذي كان مع الأنبياء صلوات الله عليهم، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ...}(1)، {... وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}(2).

الكتاب: الاسم الأكبر، وإنّما عُرف ممّا يُدعى الكتاب التوراة والإنجيل والفرقان، فيها كتاب نوح وفيها كتاب صالح وشعيب وإبراهيم (عليهم السلام)، فأخبر الله عزّوجلّ: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الاُْولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}(3)، فأين صحف إبراهيم؟ إنّما صحف إبراهيم الاسم الأكبر، وصحف موسى الاسم الأكبر، فلم تزل الوصية في عالم بعد عالم حتّى دفعوها إلى محمّد (صلى الله عليه وآله).."(4).

وفي الرواية دلالة واضحة على أنّ الكتاب العلوي ذا الوجود الغيبي الذي هو الاسم الأكبر، يتوفّر على جميع الكتب السماوية المنزلة، وأنّها متنزّلة منه، غاية الأمر أنّ إحاطة كلّ نبي وأوصيائه تختلف عن إحاطة النبيّ الآخر وأوصيائه، ومن ثمّ اختلفت الكتب المنزلة عليهم، وحيث كانت إحاطة الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله) أتمّ

____________

1- سورة الرعد 13: 38.

2- سورة الحديد 57: 25.

3- سورة الأعلى 87: 18 ـ 19.

4- الكافي 1 / 293.


الصفحة 195
إحاطة بالكتاب المبين والكتاب المكنون، كان الكتاب المنزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو الكتاب المهيمن على جميع الكتب، ففي جملة من الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: "إنّ عيسى بن مريم (عليه السلام) أُعطي حرفين كان يعمل بهما، وأُعطي موسى أربعة أحرف، وأُعطي إبراهيم ثمانية أحرف، وأُعطي نوح خمسة عشر حرفاً، وأُعطي آدم (عليه السلام) خمسة وعشرين حرفاً، وإنّ الله تعالى جمع ذلك كلّه لمحمّد (صلى الله عليه وآله)، وإنّ اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، أُعطي لمحمّد (صلى الله عليه وآله) اثنين وسبعين حرفاً وحُجب عنه حرف واحد"(1).

ومن كلّ ما تقدّم يظهر: شطط ما قيل: "كان مذهب جماهير السلف والأئمّة أنّ شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ، فهكذا القول في جنس الكتب، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ.... مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}(2)"(3).

حيث لم يفرّق بين دائرة الدين الواحد الذي بُعث به جميع الأنبياء والذي لا نسخ فيه بل تكامل وزيادة بيان، وبين الشريعة والمنهاج الذي هو محلّ النسخ، وتخيل أنّ ما تضمّنته الكتب السماوية المنزلة يقتصر على الشريعة، فهل التوحيد الذي تضمّنته الكتب السماوية قابل للنسخ؟ وكيف حال المعاد كذلك، وكذلك نبوّة الأنبياء؟ مضافاً إلى ما بشّرت به بنبوّة الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وما أنبئت به من الآخرة والجنّة والنار والعوالم ومطلق المعارف الاعتقادية، هل هو قابل للنسخ؟!

لكن لا عجب في الوقوع في مثل هذا الخلط لمن ترك التمسّك بالثقلين اللذين

____________

1- الكافي 1 / 230.

2- سورة المائدة 5: 48.

3- التفسير الكبير لابن تيمية 4 / 108.


الصفحة 196
أمر بهما النبيّ (صلى الله عليه وآله)، ولا يخفى أنّ هذا القائل قد أسقط في استشهاده تمام الآية; لأنّه مناقض لدعواه، إذ لفظها: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}، فأسقط وصف {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ}، وليس في الآية لكلّ منكم جعلنا ديناً، بل قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلاَمُ}(1)، فلاحظ ما تقدّم في صدر المقالة.

____________

1- سورة آل عمران 3: 19.