الصفحة 197

العصمة النوعية
الولاية والإمامة النوعية


المعروف لدى مذاهب الصوفية القول بالإمامة النوعية، سواء على صعيد المقام الباطني وهي الإمامة الملكوتية، أو على صعيد الإمامة في مقام الظاهر وهي الإمامة السياسية، ويستدلّون لكون الولاية المطلقة نوعية لعموم أفراد الحقيقة الإنسانية، وكون الباب مفتوحاً لكلّ سالك واصل، أنّه يؤهّل لمقام الخلافة العظمى الإلهية إذا طوى منازل السائرين إلى الله، ويستدلّون لذلك بوجوه نقلية وعقلية وكشفية:

أمّا النقلية فبالعمومات الواردة في الكتاب والسنّة، مثل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ ويُعلّمُكُمُ اللَّهُ}(1)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ

____________

1- سورة البقرة 2: 282.


الصفحة 198
فُرْقَانًا}(1)، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(2)، وقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُْمحْسِنِينَ}(3)، وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}(4).

ومن السنّة قوله (صلى الله عليه وآله): "اتّقوا فراسة المؤمن; فإنّه ينظر بنور الله"(5). وما ورد في الحديث: "إنّ الله جلّ جلاله قال: ما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضتُ عليه، وأنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته"(6).

وكذلك حديث قرب الفرائض..

وكذلك قوله (صلى الله عليه وآله): "من أخلص لله أربعين صباحاً ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه"(7).

فكلّ هذه الآيات والأحاديث دالّة على أنّ أبواب السلوك والسير والمقامات مفتوحة لجميع أفراد البشرية، كمقام الإحسان ومقام التقوى وباب الحكمة والعلم والفرقان، وغيرها من أبواب ولاية الله، فمن أدّى الفرائض وأقامها بحدّها كان عين الله وسمع الله وجنب الله ولسان الله... فضلاً عن مقام قرب النوافل، بل يستطيع الوصول إلى مقام الخلافة الإلهية العظمى فيكون خليفة الله في أرضه وصاحب الولاية المطلقة.

____________

1- سورة الأنفال 8: 29.

2- سورة البقرة 2: 269.

3- سورة يوسف 12: 22.

4- سورة الحجرات 49: 13.

5- الكافي 1 / 218.

6- الوسائل أبواب اعداد الفرائض باب 17 حديث 6.

7- نهج الفصاحة 2 / 534.


الصفحة 199
أمّا الدليل العقلي: فلأنّ العقل لا يحيل وقوع الكمالات الممكنة للماهية الإنسانية في أيّ فرد من أفرادها بعد إمكان توفّر الشرائط الحاصلة بالإرادة الاختيارية، وأنّ فيض الذات الأزلية على استواء مع الذوات القابلة الإمكانية.

أمّا دليل الكشف فيُقرّر بوجوه:

منها: فلأنّ الأسماء الإلهية تطلب الظهور من خلال مظاهر ومجالي، وقد قُرّر في محلّه أنّ مجمع الأسماء هو الحقيقة الإنسانية، وهو مظهر الاسم الجامع وصراط الحقيقة الإنسانية، هو السبيل لظهور جميع الكمالات الأسمائية، ومن ثمّ استحقّ أن يكون خليفة دون بقية الممكنات.

ومنها: إنّ كلّ موجود له إضافة من الجهة التي تلي الربّ، كما قيل إنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، فكلّ ممكن وإن كان في سلسلة التجلّيات والظهورات والصدور والإفاضة يتوسّط بينه وبين الذات الربوبية الوسائط الإمكانية، إلاّ أنّ هذا من الجهة التي تلي الخلق، لا من الجهة التي تلي الربّ، فلكلّ موجود ظهر وبطن، وظهره وإن كان محجوباً بوسائط إلاّ أنّ بطنه لا حجاب بينه وبين الواجب.

وأمّا مذهب الإمامية فإنّ عقيدتهم أنّ الإمامة محصورة في العدد الاثني عشر، والولاية المطلقة محصورة بهم بعد خاتم النبيّين، وكذلك الخلافة الإلهية، استدلّوا على ذلك بالنصوص المتظافرة القرآنية والأحاديث النبوية، وملأوا في ذلك أسفاراً من الكتب.

إلاّ أنّنا نذكر نبذة ممّا له صلة خاصّة في المقام ممّا نُصّ فيه على أنّ هذه المقامات الخاصّة الإلهية ليست كسبية في دار الدنيا وغيرها من النشآت، بل هي وهبية اصطفائية في هذه الدار، وأنّها محصورة بذلك العدد.

أمّا الدليل النقلي، كقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي

الصفحة 200
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(1)، فدلّت الآية كما بسّط ذلك علماء الإمامية في كتب التفسير والكلام ـ أنّ الذي تقع منه المعصية ظالم لنفسه في بدء كتابة التكليف عليه أو في طول عمره ونهايته، لا يتأهّل لإعطاء الإمامة ولا تكون له قابلية لنيل هذا العهد الإلهي، فلابدّ أن تكون ذاته مطهّرة معصومة من البدو إلى الختم، وهذه القابلية في الذات لا تكون كسبية.

وكقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}(2)، فتنفي الآية قابلية الفرد البشري لحمل النبوة أو الإمامة أو الحجّية على الخلق إذا لم تكن ذاته مأمونة عن الوقوع في الزيغ والانحراف. فالتعبير في الآية الكريمة ليس ما كان ليؤتيه النبوّة، أي ليست في صدد نفي السنّة الإلهية والإفاضة منه تعالى، بل التعبير في صدد نفي الإمكانية والقابلية (ما كان لبشر).

وكذلك هنا طائفة من الآيات تُدلّل على أنّ الإمامة في نسل إبراهيم وذرّيته وعقبه باقية إلى يوم القيامة، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض}(3)، وقوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَات فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الَّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ

____________

1- سورة البقرة 2: 124.

2- سورة آل عمران 3: 79.

3- سورة آل عمران 3: 33 ـ 34.


الصفحة 201
إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(1).

فمجموع هذه الآيات تدلّ على دعاء إبراهيم في أن تكون الإمامة في ذرّيته، وعلى استجابة ذلك الدعاء، وبقاء أُمّة مسلمة في ذرّيته لم تنجسّهم الجاهلية بأنجاسها وأرجاسها، ولم تلبسهم من مدلهمات ثيابها، وأنّ إمامتهم هي وصية إبراهيم في بنيه وهي اصطفاء الله لهم.

وممّا يشير إلى توارث الإمامة بالإرث الإلهي في خصوص نسل وعقب إبراهيم في هذه الأُمّة دون غيرهم قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}(2)، فتشير الآية إلى أنّ من نسل إبراهيم (عليه السلام) أُمّة تكون شهداء على الناس والرسول عليهم شهيداً، ومقام الشهادة على الناس أجمعين لا يمكن أن يرقى إليه إلاّ من تحلّى بالعصمة علماً

____________

1- سورة البقرة 2: 124 ـ 133.

2- سورة الحج 22: 78.


الصفحة 202
وعملاً; وإلاّ فغير المعصوم من الزلل والخطل والجهل والضلال حقيقٌ أن يُشهد عليه لا أن يشهد على الناس.

فهذه الأُمّة المسلمة الموحّدة المعصومة الشاهدة على الناس، أبوها إبراهيم وهي من ذرّيته، وهي المشار إليها في قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(1)، أي أُخرجت من عقب إبراهيم (عليه السلام)، وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(2).

وليس المراد بالأُمّة الوسط الأُمّة الإسلامية جمعاء; فإنّ فيها من لا تُقبل شهادته على بقلة خضار، فكيف يشهد على جميع أعمال الناس يوم يقوم الأشهاد؟ ومن أين له العلم والإحاطة بأعمال الناس كي يقوم بأداء الشهادة يوم الحساب؟ فهذه الأُمّة الوسط هي التي أُشير إليها في آخر سورة الحجّ في قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِى هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}(3)، وهي الذرّية التي دعى إبراهيم بأن تكون مسلمة في قوله: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً}(4)، والتي دعى ربّه أن يجعل الإمامة فيها في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}(5)، وهي التي دعى إليها إبراهيم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الاَْصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الُْمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ

____________

1- سورة آل عمران 3: 110.

2- سورة البقرة 2: 143.

3- سورة الحج 22: 78.

4- سورة البقرة 2: 128.

5- سورة البقرة 2: 124.


الصفحة 203
الَّثمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْء فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ * رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاة وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}(1)، وهذه الذرّية هي التي سلّم الله عليها في قوله تعالى: {سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ}(2)، أي آل محمّد (صلى الله عليه وآله) ; لأنّ ياسين اسم للنبيّ (صلى الله عليه وآله) سمّاه به القرآن الكريم في سورة يس، وهم الذين نزلت فيهم آية التطهير في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً}(3).

وقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(4)، والآية باتّفاق جمهور المفسّرين ونصوص الفريقين(5) نزلت في عليّ (عليه السلام)، وهي نصّ في حصر الولاية المطلقة في الله تعالى، ثمّ الرسول (صلى الله عليه وآله)، ثمّ عليّ (عليه السلام).

وهذا ينافي أو يتنافى مع نظرية الصوفية من دعوى الولاية والإمامة النوعية،

____________

1- سورة إبراهيم 14: 35 ـ 40.

2- سورة الصافات 37: 130 ـ كما في قراءة: نافع، وابن عامر، ويعقوب، ورويس، والأعرج، وشيبة وزيد بن علي، وعبدالله، لاحظ: معجم القراءات القرآنية 5/246 فقد ذكرها عن ستّة عشر مصدراً من كتب القراءات، ورواه جملة آخرون عن ابن عبّاس كالسيوطي في الدرّ المنثور 5 / 136، والرازي في التفسير الكبير 26/162، والاسكافي في شواهد التنزيل 2 / 109، والآلوسي في روح المعاني 23/129 وتفسير الخازن 4 / 24.

3- سورة الأحزاب 33: 33.

4- سورة المائدة 5: 55 ـ 56.

5- أورد الجمهور في كتب الحديث والكلام والفقه روايات كثيرة نصّوا على صحّتها والوثوق بها، فلاحظ ما ذكره العلاّمة الأميني في الغدير 2 / 25، والسيد شرف الدين في المراجعات والنصّ والاجتهاد، والفيروزآبادي في الفضائل الخمس من الصحاح الستّة.


الصفحة 204
فإنّه على وفق تلك النظرية لا وجه للحصر في أيّ زمن من الأزمان، حتّى زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله) والزمن الذي يليه. وبعبارة أُخرى: إنّه على نظرية الإمامة النوعية لا حصر لها على صعيد النظرية والتنظير، وإن كان القطب أو قطب الأقطاب ذو الولاية العامّة يتعاقب على هذا المقام واحد تلو آخر، وأمّا على صعيد الإمكان والتنظير أو التعاقب الزمني فلا حصر بل هو شرعة لكلّ وارد، واحد بعد آخر.

وكذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْء فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ}(1).

وكذا قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}(2).

فإنّ تخصيص الفيء وضريبة الخمس بذوي القربى أي ملكية التدبير والتصرّف لهم; لموضع اللام في الآية، حيث أُضيفت إلى الله ورسوله وذوي القربى دون الموارد الثلاثة الأُخرى; لبيان أنّ ملكية ولاية التدبير لهم (عليهم السلام) خاصّة إلى يوم الإشهاد، وأنّ الموارد الثلاثة الأخيرية موارد للصرف، وهذا الحكم ثابت إلى يوم القيامة. ولا يخفى أنّ ذلك يعني أنّ القدرة المالية المطلقة في دين الإسلام وأُمّة المسلمين إلى يوم القيامة هي لذوي القربى; لأنّ الفيء كما مرّ هو مطلق المنابع المالية والخمس الذي يعني 20% من مجموع أموال المسلمين، كلّ ذلك يشكّل سلطة وأُسطول مالي لا نظير له، وقد علّل هذه الصلاحية لهم (عليهم السلام) ; لأجل إرساء العدالة في الأُمّة الإسلامية {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الاَْغْنِيَاءِ مِنْكُمْ}; لأنّ سلطة المال يتمكّن بها من إرساء العدالة، ليس فقط في المجال المالي، بل كذلك في

____________

1- سورة الأنفال 8: 41.

2- سورة الحشر 59: 7.


الصفحة 205
المجال السياسي والقضائي والحقوقي والأمني، وغيرها من الحقول.

الوجه النقلي في الأحاديث النبويّة:

هم الذين قال فيهم النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الحديث المتواتر: "إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً; فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"(1)، فبيّن (صلى الله عليه وآله) بهذا الحديث أنّ وراثة حقيقة القرآن إلى يوم القيامة والإمامة هي في العترة دون غيرها.

ومثله حديث السفينة: "مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها هلك"(2)، ومفاده حصر النجاة بولايتهم، كما كان حصر طريق النجاة من الطوفان منحصراً بركوب سفينة نوح.

وكذلك قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الحديث المتواتر: "لن يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ظاهراً على من ناواه حتّى يملك اثنى عشر كلّهم من قريش"(3)، وكذا قوله (صلى الله عليه وآله): "النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان للأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض"(4).

____________

1- ورواه الترمذي في سننه 13 / 200 ـ 201 باختلاف يسير في اللفظ، ومسلم في صحيحه 7 / 122 ـ 123، وأحمد في مسنده 3 / 14 و17 و26 و59 وكذا 4 / 366، والدارمي في سننه 2 / 432.

2- لم يُذكر مصدره.

3- لاحظ: ملحقات إحقاق الحقّ 13 / 1 ـ 48.

4- صحيح مسند أحمد بن حنبل 4 / 107 و 6 / 292 و 1 / 330 وصحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة في باب فضائل أهل البيت، ونور الأبصار الشبنلجي: 111، الناج الجامع للأصول 3 / 247.


الصفحة 206
وهذا الحديث مفاده انحصار النجاة والولاية العامّة بأهل البيت (عليهم السلام)، كما أنّ الحديث يشير إلى تأبيد حصر الأمان بهم إلى يوم القيامة; لمكان تشبيههم بالنجوم لأهل السماء، فإنّ أمان أهل السماء دوامه بدوام النجوم، وهذا موضع آخر لوجه التشبيه.

وكذا قوله (صلى الله عليه وآله) في حديث النور الذي تقدّم: "كنت أنا وعليّ نوراً بين يدي الله تعالى من قبل أن يُخلق الخلق بأربعة عشر ألف عام، فلمّا خلق الله تعالى آدم سلك ذلك النور في صلبه، فلم يزل الله تعالى ينقله من صلب إلى صلب حتّى أقرّه في صلب عبد المطّلب، ثمّ أخرجه من صلب عبد المطّلب فقسّمه قسمين، فجعل نوري في صلب عبد الله، ونور عليّ في صلب أبي طالب، فعليّ منّي وأنا منه، لحمه لحمي ودمه دمي، فمن أحبّه فيحبّني أحبّه فمن أبغضه فيبغضني أبغضه"(1) والحديث الشريف يدلّ على تخصيص الولاية العامّة والإمامة بالذوات النورية المخلوقة بخلق النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وهم أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وأنّ هذا المقام لابدّ أن يسبقه اصطفاء في العوالم السابقة من عالم النور والميثاق والذرّ والأصلاب والأرحام، فليس يُنال بالكسب الدنيوي المجرّد.

وكذا قوله (صلى الله عليه وآله): "أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليقصد الباب"(2).

____________

1- تقدّم مصادر الحديث وأنّه متوافر عند العامّة فضلاً عن الخاصّة في مقال بعنوان (قاعدة بمعرفتهم بالخلقة النورية).

2- قد عقد صاحب العبقات السيد حامد اللكهنوي مجلّداً في مصادر هذا الحديث وأثبت تواتره عند العامّة، فقد أخرجوا ما يزيد عن عشرة من الصحابة، ورواه عنهم ما يزيد على أربعة عشر تابعياً ثمّ ذكر عدد الحفّاظ والمحدّثين الذين رووه في كلّ قرن قرن إلى قرن الثالث عشر، ثمّ ذكر عدد من نصّ على صحّة الحديث ومن أرسله إرسال المسلمات. لاحظ خلاصة عبقات الأنوار ج 10.


الصفحة 207
الحديث السابع في قوله (صلى الله عليه وآله) ضمن حديث تبليغ سورة البراءة: "لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو عليّ"(1)، وتقريب الدلالة في مفاد هذا الحديث والحديث الذي سبقه هو ما تقدّم في آية حصر الولاية: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(2) من حصر هذه المقامات بعليّ والعترة، ولا ينسجم مع الولاية والإمامة النوعية في جميع الأزمان.

أمّا الدليل العقلي والكشفي:

فنقول:

إنّ مسألة كون العصمة وهبية إلهية أو كسبية اختيارية أو جبرية هي من المسائل والقواعد المعرفية الحسّاسة الهامّة، إلاّ أنّه بعد إلقاء الضوء على هذه المسألة يتّضح عدم كون العصمة المعهودة للمقامات المتقدّمة ممّا يمكن أن تُكتسب في دار الدنيا، فلا تكون كسبية دنيوية.

وتوضيح ذلك: إنّ العصمة لها جهات اختيارية وإن كان لها أيضاً جهات غير اختيارية. فمن تلك الجهات الاختيارية الأفعال الصادرة عن العصمة، فإنّها اختيارية; حيث إنّها تصدر عن علم وقدرة; إذ العلم اللدني الخاصّ الاصطفائي والقدرة المتولّدة منه تستتبع صدور الأفعال عنها، وكلّ فعل يصدر عن علم وقدرة فهو اختياري.

ومن الجهات الاختيارية في العصمة هي أصل العصمة كملكة أو جوهر

____________

1- مسند أحمد 2 / 164 ـ 165 بخمسة طرق، وخصائص النسائي: 19 ـ 20 بطريقين، وصحيح البخاري 3 / 229، والتاج المجامع للأُصول 3 / 335، والصواعق المحرقة: 74، وتاريخ الخلفاء: 169، وسنن البيهقي 2 / 5، وصحيح الترمذي 2 / 297، ومجمع الزوائد 9 / 127، ومستدرك الحاكم 3 / 110، ومسند أبي داود 3 / 111، وكنز العمال 6/399.

2- سورة المائدة 5: 55.


الصفحة 208
نوراني من سنخ العلم في الذوات المطهّرة، ومعنى الاختيارية في أصل العصمة ليس بمعنى إمكان اكتسابها في دار الدنيا بعد أن لم تكن، بل بمعان أُخرى:

منها: ما أُشير إليه في صدر دعاء الندبة الشريف، عند قوله (عليه السلام): "اللّهمّ لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أوليائك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك، إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوالَ له ولا اضمحلال، بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها، فشرطوا لك ذلك، وعلمت منهم الوفاء فقبلتهم وقرّبتهم وقدّمت لهم الذكر العليّ والثناء الجليّ، وأهبطت عليهم ملائكتك وكرّمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك، وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلى رضوانك"(1).

فبيّن (عليه السلام) أنّ العصمة المعطاة لهم والتي عبّر عنها (عليه السلام) بقوله: "فقبلتهم.. وجعلتهم"، أي إهباط الوحي والملائكة عليهم، والإرفاد بالوحي اللدني وتقديم الذكر العلي، وغيرها من شؤون العصمة الوهبية، إنّما أعطاها الباري لهم منذ بدو نشأتهم; لعلمه تعالى بخصوصية في ذواتهم، وهي اشتراطهم وتعهّدهم بطاعة الله من بدو تولّدهم إلى منتهى عمرهم في دار الدنيا، وزهدهم في كلّ درجات الدنيا وزخرفها وزبرجها.

وهذا نظير المعلّم الذي يتفرّس في بعض تلاميذه النبوغ والأهلية والقابلية والجدّ والاجتهاد منذ أوائل حقبة التعليم، فيولّيه عناية خاصّة تزيد على بقية الطلاب; لاستحقاق ذلك التلميذ وتأهّله بقابلية تفوق البقية، فيكون من الحكمة والجود أن يولّي المعلّم مزيد اهتمام ورعاية وتفقّد وتعليم لذلك التلميذ دون الآخرين، وذلك مثل الزارع إذا كانت له أنواع من قطع الأرضين، فواحدة خصبة

____________

1- المزار للمشهدي.


الصفحة 209
حيّة منتعشة طيبة، وأُخرى متوسّطة معتادة الأوصاف، وثالثة سبخة أقرب إلى الميتة، فإنّه والحال هذه يخصّ الأرض الخصبة بالبذر الثمين المنتج والمثمر ويولّيها مزيد من الخصائص، كالماء العذب وتقليب التربة ونحو ذلك، دون القطعتين الأُخرتين، بل الثالثة لا يُزرع فيها إلاّ العشب وما تقتاده الحيوانات.

ومنها: من الجهات الاختيارية في أصل وجود صفة العصمة ما أُشير إليه في خطبة الصدّيقة وزيارتها (عليها السلام):

"... وأشهد أنّ أبي محمّداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن يجتبله، واصطفاه قبل أن يبتعثه، وسمّاه قبل أن ينتجبه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة وبستر الأهاويل مصونة وبنهاية العدم مقرونة، علماً منه بمآل الأُمور وإحاطة بحوادث الدهور ومعرفة منه بمواقع المقدور، وابتعثه إتماماً لعلمه وعزيمة على إمضاء حكمه وإنفاذاً لمقادير حقّه"(1).

وكذلك ما ورد في زيارتها: "يا ممتحنة امتحنك الله الذي خلقكِ قبل أن يخلقكِ، فوجدكِ لما امتحنكِ صابرة"(2)، فإنّ الامتحان في رتبة العلم الربوبي والاصطفاء والاختيار والانتجاب في أُفق العلم الإلهي قبل خلق النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقبل خلق الزهراء (عليها السلام)، يدلّ على وقوع العلم الإلهي على خصوصية في تلك الذوات المطهّرة التي حباها الله بختم النبوّة والحجّية على الخلق.

ونظير ذلك ما يصنعه الزارع، فإنّه يرجع في انتخاب البذر والزرع إلى علمه بخصائص البذور وأنواع ثمارها وصالحها من طالحها، ثمّ يختار أَنفَسها جودةً وطيبة، ويُسمّى هذا بالامتحان في مقام العلم قبل الإيجاد والوجود الخارجي.

ومنها: ما وقع من امتحانات في العوالم السابقة، كعالم الذرّ المشار إليه بقوله

____________

1- كشف الغمة: 482.

2- مصباح المتهجد للطوسي: 711.