ومنها: لا يمكن أن تتحقّق فيمن يفترض فيه إمكان الزلل، أي فيمن يفترض فيه عدم الأمان من الوقوع في المعصية، ولأجل خفاء تلك الامتحانات في تلك العوالم عن الخلق وخفاء قابليات البشر وخفاء معادنهم وطينتهم، كان من الضروري في البديهة التكوينية والعقلية أن يكون تعين صاحب مقام النبوّة أو الرسالة أوالإمامة والولاية المطلقة والحجّية على الخلق هو باطّلاع الله تعالى معرفة ذلك بالنصّ الإلهي الوحياني والمعجزة، وإلى ذلك يشير تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}(2).
ولأجل ذلك، أطبقت الإمامية على ضرورة المعجزة والنصّ الإلهي على صاحب الإمامة والولاية المطلقة والحجّية على الخلق، وأنّها تستحيل أن تكون كسبية في دار الدنيا. وهذا بخلاف نظرية الصوفية وبعض العرفاء; حيث زعموا أنّ مقام الولاية المطلقة مفتوح بابه لكلّ وارد وسالك للطريقة، ويتحقّق بالحقيقة.
وقد عرفت أنّ الوجوه التي تشبثّوا بها من الآيات والأحاديث غاية مفادها هو
____________
1- سورة الأعراف 7: 172.
2- سورة القصص 28: 68 ـ 69.
ومن ثمّ لم يتجرّوا على دعوى بلوغ النبوّة التشريعية أو مقام إبلاغ الرسالة الإلهية، مع أنّ التفرقة لا وجه لها، إلاّ قاعدة الاصطفاء والاختيار الإلهي التي هي مفاد نظرية النصّ الإلهي على أصحاب هذه المقامات الخاصّة، من دون فارق بين النبوّة والرسالة والإمامة والولاية المطلقة والحجّية على الخلق والخلافة الإلهية الكبرى.
وخير شاهد على بطلان زعمهم: ما يلاحظه المتتبّع المدقّق المحقّق في كتبهم وكلمات روادهم في تفسير الآيات والمعارف، وباب التأويل للآيات التنزيلية والتكوينية، وباب الآداب والسنن، وغيرها من أبواب المعارف... فيلاحظ كم لهم من رأي ونظر قد تبيّن ـ في التحقيقات العلمية والحكمية والمشاهدات ـ بطلانها وقصورها عن الإحاطة بتمام الواقع، وضحالة نابعة من البيئة العلمية والمذهبية التي ترعرع ونشأ فيها ذلك الصوفي والعارف.
فبون بين ما يفسّرونه من معارف وتأويلات، وبين ما يشاهده المحقّق الحكيم السالك في المعارف المأثورة عن بيت النبوّة، وأين الثرى من الثريا؟
حتّى أنّ بعض الأكابر من الصوفية يعتقد بالهيئة البطليميوسية ويرتّب عليها مزاعم من المكاشفات، أو تراه يبني على الجبر الأشعري والمسلك الأشعري في الحسن والقبح، أو يقول أنّ الولي وإن كان تابعاً في علم التشريع والأحكام للنبيّ، إلاّ أنّ النبيّ قد يكون تابعاً له في المعارف والعلوم الحقيقية، ثمّ اعتمد في ذلك على قصّة أُسارى بدر المُختلَقة، وحديث تأبيرالنخيل الموضوع.
ثمّ قال: فنسبة مثل هذا من الشيخ الحاتمي إلى النبيّ والشراح ـ سوء أدب وإهمال من جانبه (صلى الله عليه وآله).
وأما الشارح الثالث، وهو داود القيصري وكان تلميذ لعبد الرزّاق الكاشاني المذكور فهو قد أخذ بطرف النقيض والتعصّب وقال:.. وأمثال هذه المهملات من غير تمسّك إلاّ بقول الشيخ ـ لا يُعتد بها. ثمّ نقل قول ابن عربي في كون علماء الظاهر من الأئمّة الأربعة لهم الوراثة في التشريع، وأنّ الوراثة لباطن الشرع مخصوصة لعلماء الباطن العالمين بأسرار الحقيقة.
فردّ عليه السيد حيدر بقوله: وقط ما التفت في ذلك إلى ذكر أهل البيت (عليهم السلام) وعترة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين والمهدي (عليهم السلام)، الذين هم ورثته حقيقةً من غير خلاف كما سبق ذكره من قول الله وقول النبيّ، والحال أنّ الأئمّة الأربعة ليسوا بقائلين لأنفسهم العلوم الإرثية بل الاجتهادية الكسبية، كما أشار إليه الشيخ (الحاتمي) أيضاً. وبناءً على هذا كيف يصدق اسم الإرث على الكسب، وبالعكس؟
هذا بحسب العلوم الظاهرة ونسبتها إلى الأئمّة الأربعة. وأمّا بحسب العلوم
____________
1- سورة النجم 53: 3 ـ 4.
2- سورة الأنفال 8: 17.
3- نصّ النصوص: 332، طبعة طهران.
والعجب كلّ العجب أنّ أمثال هؤلاء يدّعون الكشف والعرفان ويحصل منهم مثل هذا الكلام. أمّا القيصري فقد عرفت خبطه ومهملاته، وأمّا الشيخ (الحاتمي) فإنّه حيث كان يعرف أنّ عيسى (عليه السلام) ينزل في آخر الزمان ويحضر عند المهدي، ويكون تابعاً له ولجدّه في النبوّة والولاية، فنقول: كيف حكم أنّه خاتم الولاية المطلقة مع وجود عليّ (عليه السلام) بما ثبت (أي الذي ثبت) له استحقاق هذه الصورة نقلاً وعقلاً وكشفاً وبقوله أيضاً؟ وحيث كان عارفاً بحال المهدي (عليه السلام) إلى هذه الغاية التي ذكرها وخصّ به الختمية للولاية المقيّدة المحمّدية، كيف كان ينسبها إلى نفسه ويجزم بذلك بعقله. والعجب أنّه يثبت هذا المقام لنفسه بحكم النوم، وقد ثبت هذا لغيره بحكم اليقظة بمساعدة النقل والعقل والكشف، وأين النوم من اليقظة، و(أين) القياس من الدلائل العقلية والشواهد النقلية التي تطابق الكشف الصحيح(1)؟!
وقال السيد حيدر في الكتاب المتقدّم في معرض الردّ على دعوى بعض العُرفاء بأنّه خاتم الولاية المطلقة ـ: وهذا أمر جليل وشأن عظيم لا يستحقّه إلاّ الخاتم للولاية المطلقة الذي هو عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه فلينظر العاقل إلى هذا المنصب الرفيع ويحكم بما يرى فيه، والحقّ جلّ ذكره ما اكتفى
____________
1- نصّ النصوص: 238، طبعة طهران.
وقال: فلم يبق إلاّ أن يكون المراد (بأولي الأمر) الإمام المعصوم الذي لا تصدر عنه صغيرة ولا كبيرة من الصغر إلى الكبر; لئلاّ يلزم الإخلال منه تعالى بالواجب ومن نبيّه (صلى الله عليه وآله). ومع ذلك، فمعنا تقسيم عقلي وقانون كليّ نرجع إليهما.
ثمّ استدلّ على لزوم كونه معصوماً معلوماً معيناً أي منصوصاً عليه.(3) وقال: وأعظم الدليل على ذلك علمه (أي المهدي) بالقرآن على ما هو عليه، وليس للشيخ (ابن عربي) ولا لغيره هذا، حتّى قالوا (إنّه) لا يقرأ القرآن على ما هو عليه إلاّ المهدي إذا ظهر، وقوله (صلى الله عليه وآله): "كتاب الله وعترتي" يشهد بذلك، لأنّه جعلهما توأمين، وقال: "لا يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"، وقال بعبارة أُخرى: "إنّ أولى الناس بكتاب الله: أنا وأهل بيتي من عترتي"، وعند التحقيق: {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(4) إشارة إليه {أي إلى المهدي (عليه السلام)} وإلى أجداده
____________
1- سورة النساء 4: 59.
2- نصّ النصوص: 189، طبعة طهران.
3- المصدر السابق.
4- سورة آل عمران 3: 7.
وقول النبيّ (صلى الله عليه وآله): "من أراد علوم الأوّلين والآخرين فعليه بالقرآن" يشهد بصدق هذا كلّه، وليس الشيخ (ابن العربي) وإن كان عالماً عارفاً في هذا المقام، أعني بأن يكون له الاطّلاع على أسرار القرآن على ما هو عليه في نفس الأمر، وإن قال أنا القرآن والسبع المثاني وروح الروح لا روح الأواني(1).
وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}(2) الآية، فالظالم هاهنا من العباد هو الذي ما أعطى حقّ كتاب الله تعالى وما حكم به، والمقتصد هو الذي أعطى حقّه وأقرّ به وقام بما فيه بقدر وسعه، والسابق بالخيرات هو الإمام المعصوم المنصوص (عليه) المخصوص بهذا المقام، فافهم جيداً واسمع قوله جلّ ذكره: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(3)، ومن جملة ما أنزل الله قوله تعالى: {قُلْ لاَ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(4)، وأنت لا تعطي عوض المودّة إلاّ المبَغَضَة، فكيف حكمت بالقرآن؟ وأقلّ المبغضة أنّك تنسب مرتبتهم وإمامتهم إلى الغير بغير حقّ، لا جرم صرت مستحقّ أن يُقال فيك: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(5)، وأن يقال: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}(6)، ويقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ}(7)، هذا مضى وتلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت(8) أمراً.
____________
1- نصّ النصوص: 249، طبعة طهران.
2- سورة فاطر 35: 32.
3- سورة المائدة 5: 47.
4- سورة الشورى 42: 23.
5- سورة المائدة 5: 45.
6- سورة هود 11: 18.
7- سورة البقرة 2: 161 ـ 162.
8- نصّ النصوص: 241.
القراءة الجديدة الثالثة في حديث الغدير
ولايتهم السياسية المدنية
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْء فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا}(1).
فبيّن تعالى أن الانقياد والطاعة والتبعية السياسية في النظام الاجتماعي السياسي لا تجوز ولا تحلّ لغير الرسول (صلى الله عليه وآله) وأولي الأمر المعصومين (عليهم السلام)، وكلّ مُطاع ومُنقاد له في النظام السياسي دونهم ـ بحيث لا يؤول إليهم ـ فهو طاغوت أُمر بالكفر به، وإن كانت الآية غير خاصّة بالنظام السياسي، بل تعمّه وغيره كما مرّ أنّه
____________
1- سورة النساء 4: 59 ـ 60.
فالانتماء السياسي إلى أيّ جهة لا تنتسب إليهم (عليهم السلام)، يُعد ذلك انتماءً إلى الطاغوت، فعلى صعيد الولاء السياسي واتّخاذ الهوية في الانتساب إلى أي نظام سياسي دونهم (عليهم السلام) غير منتسب إليهم، يُعدّ ذلك الانتماء ركون إلى حاكم الجور وتحاكم إلى الطاغوت، وقد قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}(1).
وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(2)، فإنّ الولوج في الانتماء السياسي إلى غير جماعة الحقّ التابعين لولاء الله تعالى وولاء رسوله وولاء المؤمنين وهم أولي الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم أصحاب الأمر المتنزّل ليلة القدر، وهم الذي يرون أعمال العباد ويشهدونها كما في قوله تعالى:{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}(3)، وهذه الآية قد ذُكرت في سياق نفس الآية في سورة البراءة. ومن الظاهر أنّهم ليسوا عموم المؤمنين، بل خصوص أئمّة المؤمنين.
ومن ثمّ قُرّر في النصوص المستفيضة والمتواترة الواردة في الفقه وكذا في الفتوى باباً بعنوان البغي والبغاة، المستمد من التشريع القرآني والسنّة القطعية، وعُنون في الفقه لدى كافّة المذاهب، فهو من الأبواب المتأصّلة في الفروع، وقد اتّفقوا على تعريفه بأنّه: الخروج عن طاعة الإمام العادل وهذه مرتبة من مراتب ولاية إمام الحقّ.
____________
1- سورة البقرة 2: 256.
2- سورة التوبة 9: 16.
3- سورة التوبة 9: 105.
ولا ريب أنّ مفاده لا ينطبق إلاّ على إمام الأصل وهو المعصوم علماً وعملاً; لأنّه لا يُتصوّر أن يكون شخصاً غير المعصوم له من الطاعة السياسية وغيرها ذات هذا الشأن بحيث لا يموت المسلم والمؤمن على صفة الإسلام ويكون موته ميتةً جاهلية، فطاعته هي الحدّ الفاصل بين الإسلام والكفر بلحاظ الأثر الأخروي، فهذا الشأن لا يكون إلاّ لمن اصطفاه الله وطهّره من الأرجاس والذنوب، لا من يكون في معرض اقتراف المعاصي والكبائر ولا يؤمن من الوقوع في سخط الله وغضبه.
فمفاد الحديث النبويّ يقرّر أنّ تولّي الإمام سياسياً وطاعته في الحكم والانتماء إليه في الهوية السياسية دخيل في الإيمان وصحّته والخروج عن حدّ الكفر القلبي الأُخروي، هذا فضلاً عن معرفة ذلك الإمام والاعتقاد والإيمان بإمامته فالطاعة والولاء لحاكميته هي بهذا الشأن، فأيّ انتماء وتحرّك وحركة وهوية سياسية لا تستند إلى إذن الإمام وأمره يكون خروج عن طاعته وتدبيره وبغياً على ولايته السياسية. وهذا المفاد للحديث النبويّ يطابق مفاد الآية السابقة من لزوم إطاعة أُولي الأمر وحرمة التحاكم إلى غيرهم من الطواغيت.
وقد وردت الروايات المستفيضة بهذا المضمون، الدالّة على أنّ المسلم والمؤمن يجب عليه أن ينتمي ويعيش في ظلّ النظام السياسي المدبَّر من قبل المعصوم، سواء كان ذلك النظام السياسي بصورة الحكومة المعلنة رسمياً، كما في عهده (صلى الله عليه وآله) وعهد وصيّه (عليه السلام) وسبطه المجتبى (عليه السلام)، أو بصورة الحكومة غير الرسمية في ظل النظام الإيماني، وهو نظام الطائفة الإمامية الاثنى عشرية الاجتماعي الذي بُني بيدهم (عليه السلام).
وحينئذ يكون ذلك تمسّكاً وأخذاً بحجزتهم وعيشاً في كنفهم ومكثاً في ظلّهم السياسي وتأديةً لحقوقهم، ومن ثمّ أشارت الآية السابقة إلى التناقض والتهافت بين دعوى الإيمان بما أنزل الله، وبين العيش والانتماء السياسي في ظلّ الكيانات الجائرة التي لا تستمدّ مشروعيتها من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).
وكذلك قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}(1)، وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْم يُوقِنُونَ}(2)، وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمـًا}(3)، وهذه الآية في ذيل الآية الأُولى.
فتبين الآيات الكريمة أنّ الإيمان لا يتمّ إلاّ بالولاء السياسي في كلّ شعبه، من القضاء والتشريع والتدبير إلى من أعطت السماء له الصلاحية، ولا يكفي مجرّد
____________
1- سورة النساء 4: 60.
2- سورة المائدة 5: 50.
3- سورة النساء 4: 65.
وهذا مقامٌ خطير من مقامات ولاية الله وولاية رسوله وأُولي الأمر المطهّرين الذين أُمرنا بطاعتهم. ويتّضح بذلك أنّه يحتمل في قوله تعالى في آية الغدير: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِْسْلاَمَ دِينًا}(1) أنّ إكمال الدين حصل بالبيعة السياسية لأمير المؤمنين (عليه السلام) في غدير خمّ; وإلاّ ففرض الإقرار بإمامته ومعرفته بالإمامة وأخذ ذلك في حصول الإيمان القلبي قد حصل في يوم الدار عند نزول هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ أَلاَْقْرَبِينَ}(2) المعروف بحديث الدار في الآيات والسور المكّية(3) فضلاً عن المدنية. فالتدرّج هو في بيان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لشعب الولاية ومراتبها; وإلاّ فأصل الولاية قد أُخذ ركناً في الإيمان والدين منذ أوائل البعثة، كما في سورة الشعراء، وجعل آدم خليفة أي إماماً، ومقام الإمامة في السور المكّية.
____________
1- سورة المائدة 5: 3.
2- سورة الشعراء 26: 214.
3- آخر آية في سورة الرعد، وما في آية 79 من سورة الواقعة، وسورة النحل 89، ومجموع سور القدر والنحل والدخان، وغيرها.