وروى الكليني عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: "سمعت أبا عبد الله يقول: هبط جبرئيل (عليه السلام) على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورسول الله كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشيء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه الله جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}(3).
وأنزل الله جلّ ذكره: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر} للقوم، فجعل الله ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر)(4).
وفي سند الصحيفة السجادية، عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: "إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ (عليه السلام): إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذته نعسة وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى
____________
1- سورة الشعراء 26: 205-207.
2- الكافي 4 / 159.
3- سورة الشعراء 26: 205 - 206.
4- الكافي 8 / 223.
قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل الله تعالى في ذلك: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر} يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.
قال: فأطلع الله عزّ وجلّ نبيّه (صلى الله عليه وآله) أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتّى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر الله نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم"(1).
وفي تأويل الآيات: "روي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قوله عزّ وجلّ: {خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْر} هو سلطان بني أُمية.
وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.
وقال: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر} أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد بكلّ أمر سلام"(2).
وفي تفسير القمّي: بسنده في معنى سورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فهو القرآن..
____________
1- الصحيفة السجادية الكاملة: 15 - 16.
2- تأويل الآيات 2 / 817 ح2.
أقول: تكثير الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) فتدبّر تبصر.
حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:
وقال في ذيل قوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}: الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل (عليه السلام) أو غيره; لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.
جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:
وقال في ذيل قوله تعالى {وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ}(1): لما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يعلم به إلاّ علاّم الغيوب.
____________
1- سورة القدر 97: 2.
حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:
ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية عن ابن عبّاس: "أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل (عليه السلام) على محمّد (صلى الله عليه وآله) بجواب كلام العباد وأعمالهم".. ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: {أَنْزَلْنَاهُ} من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد; لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟
فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي وابن كثير، وضعّف قولهم، ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.
ثمّ نقل عن الاتقان قول أبي شامة: فإن قلت {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة فما نزل جملة، وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟
قلت: لها وجهان:
أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.
والثاني: أنّ لفظ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} ماض ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في
ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.
ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السفرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.
تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟
وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك; لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة (عليهم السلام) المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:
الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.
الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة (عليهم السلام) بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.
الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل (عليه السلام)، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل (عليه السلام)، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل (عليه السلام)، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.
وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك
أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن الله، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: "إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة.... كلّهم من قريش"(1).
أقوال علماء سنّة الجماعة في عوضية الليلة له عن غصب الخلافة:
قال في تفسير (ألف شهر): وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص يوماً، على ما قيل ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً; لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكهم في جزيرة الأندلس بعد; لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.
وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذكر بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:
ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره | إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا |
____________
1- المعجم الكبير للطبراني 2 / 232. ولاحظ إحقاق الحق 13 / 1 ـ 49.
ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:
الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟
قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره. وقال القسطلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: "يا رسول الله، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية". ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته (صلى الله عليه وآله) تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.
وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركنا في إخفاء كلّ منهما ليقع الحدّ في طلبهما:
القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً، حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.
أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء
وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد الله بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك.
ومن طريق عبد الله بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قوم.
الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حكاه الفاكهاني أيضاً.
الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه، وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر.(1)
____________
1- فتح الباري: 262 - 263 كتاب فضل ليلة القدر.
ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:
وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى {مِنْ كُلِّ أَمْر}(1): أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. فـ (من) بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبوحاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.
والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات; إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات.(2)
ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء الله تعالى من عباده:
جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (إعلم أنّ ليلة القدر موجودة، وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء الله تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصى. وأمّا قول القاضي عياض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً، فغلط فاحش نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به)(3).
____________
1- سورة القدر 97: 6.
2- روح المعاني 30 / 196.
3- شرح مسلم 8 / 66.
وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيثمي: "ليس لرائيها كتمها، ولا ينال فضلها أي كمالها إلاّ من أطلعه الله عليها"، انتهى. والظاهر أنّه عنى برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها ممّا خُصّت به من الأنوار وتنزّل الملائكة (عليهم السلام)، أي نحو من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء الله تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا (صلى الله عليه وآله).
ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره (صلى الله عليه وآله)، ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر: "إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله) أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال (صلى الله عليه وآله): أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر"(2).
وحكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً وغلط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو مسامت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.
وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل (عليه السلام) وكان جبرئيل (عليه السلام) يجيء به بعدُ إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله).
____________
1- سورة الدخان 44: 3.
2- صحيح مسلم 3 / 170.
ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:
وقال في ذيل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ..}(1): وهو ما أُوحي إليه عليه الصلاة والسلام، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.
وقد ذُكر أنّه عليه الصلاة والسلام قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم (عليه السلام)، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود (عليه السلام). ففي "الكبريت الأحمر" للشعراني نقلاً عن الباب الثاني من "الفتوحات المكّية": أنّه (صلى الله عليه وآله) أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل (عليه السلام)، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل (عليه السلام).
وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك; لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.
ونقل الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبدالله رضي الله تعالى عنهما: أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يصعد
____________
1- سورة الشورى 42: 52.
وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً(1).. وقال في ذيل قوله تعالى {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ} أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد; لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ}(2).
____________
1- روح المعاني 25 / 80 - 81.
2- سورة التوبة 9: 62.