مما يشير إلى وجود نمطين من النزول للقرآن الكريم: نزول جملي لحقيقة واحدة، ونزول مفصّل، قال تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}(1)وظاهر مفاد الآية يقتضي أنّ مرحلة جمع مفصّل القرآن وتفصيله غير مرحلة الوحي والقرآن جملة، فهو (صلى الله عليه وآله) كان عالماً بالقرآن إلاّ أنّه نُهي عن الاستعجال به قبل تنزيل قرآنه ونزول الوحي به، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}(2)، حيث (يُقضى) إمّا بمعنى يتمّ أو بمعنى يصل، وعلى كلا التقديرين فظاهر الآية دالّ على علمه بالقرآن قبل إنزاله بالوحي بنحو التفصيل نجوماً، أمّا على كون (يُقضى) بمعنى (يصل) فملائمته ظاهرة للمفاد المزبور، وأمّا على كونها بمعنى يتمّ فقيل إنّه بمعنى قراءته للقرآن قبل أن ينتهي جبرئيل من الوحي بتحريك لسانه، ولكنّه خلاف الظاهر; حيث إنّه يستلزم الاستخدام في الضمير، ويكون المعنى على هذا التقدير لا تعجل ببعض القرآن من قبل أن يتمّ إليك وحي الباقي منه.
وحمل الكلام على الاستخدام يتوقّف على القرينة الخاصّة، بخلاف الحال ما
____________
1- سورة القيامة 75: 16 ـ 19.
2- سورة طه 20: 114.
وممّا يدلّ على تعدّد نزول القرآن أيضاً قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(1)، فإنّ المطهّرون وهم النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام) عالمون بالكتاب المكنون بمسّ وصول يختلف عن تنزيل القرآن المفصّل، فالكتاب المكنون قد تقدّم أنّه الوجود المجموعي للقرآن بنحو الإحكام والوجود الجملي، وهو الحقيقة الواحدة وهي الروح الأمري الذي يتجدّد نزوله في كلّ ليلة قدر في كلّ عام، وتتنزّل الملائكة به وهو روح أعظم من جبرئيل وميكائيل.
وممّا يشير إلى اختلاف النزولين أيضاً قوله تعالى: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}(2)، وقد ثبت في تفسير الآية بحسب نزولها المكّي وبحسب وحدة سياق السورة مع الآيات السابقة عليها وبحسب توسّم قريش في بني هاشم جملة من الصفات والحالات غير المعتادة لدى قدرات البشر وبحسب نصوص الفريقين وبحسب النصوص الواردة في ذيلها، أنّ المراد بمن عنده علم الكتاب هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
والآية مع كونها مكّية ولمّا يستتم نزول القرآن التفصيلي المكّي فضلاً عن المدني ـ تدلّ على علم الوصيّ فضلاً عن علم النبيّ بالكتاب كلّه; إذ هذا التعبير
____________
1- سورة الواقعة 56: 77 - 80.
2- سورة الرعد 13: 43.
وممّا يدلّ على ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}(2)، فتدلّ الآية على درايته (صلى الله عليه وآله) بالكتاب كلّه، مع أنّ سورة الشورى مكّية، وكذا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ}(3)، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}(4)، وجملة من الآيات التي تضمّنت إنزال الكتاب عليه (صلى الله عليه وآله) بناءً على ظهور (ال) في الاستغراق أو الجنسية لجملة الحقيقة بجملة الآيات السابقة الدالّة على علمه (صلى الله عليه وآله) بجملة الكتاب المبين
____________
1- سورة النمل 27: 40.
2- سورة الشورى 42: 52.
3- سورة النساء 4: 105.
4- سورة المائدة 5: 48.
وأمّا اشتمال القرآن الكريم على قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا}(1)، وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}(2)، وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا}(3)، وغيره كثير ممّا يشير إلى تدريجية نزول القرآن حسب سلسلة أحداث زمانية ومكانية طوال البعثة والرسالة الشريفة، فلا يتنافى مع نزول الكتاب جملةً على الرسول (صلى الله عليه وآله) قبل ذلك.
____________
1- سورة الأنفال 8: 66.
2- سورة التوبة 9: 43.
3- سورة المجادلة 58: 1.
اختلاف صفات القرآن في النزولين:
لأنّ الكتاب بعد تنزيله بالنمط التدريجي تطرأ عليه أوصاف أُخرى أشار إليها القرآن الكريم، كقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1)، وقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيم خَبِير}(2)، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ}(3)، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(4)، وقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَة أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْر مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}(5)، وغيرها من الآيات التي تشير إلى اتّصاف القرآن بأوصاف طرأت عليه عند نزوله، كالتفصيل والعربية وكونه تصديق الذي بين يديه وتشابه بعض آياته والناسخ والمنسوخ والظاهر والباطن والتنزيل والتأويل والجمع والتفريق، وغيرها من الأوصاف الطارئة، فإنّها أوصاف له بعد نزوله نجوماً.
وليست أوصافاً له بحسب موقعه في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ والكتاب المبين، وكذلك الحال بالنسبة إلى صورة الألفاظ وما يتبع ذلك من أوصاف، وهي العربية والخطابية والإنشاء والإخبار والبلاغة والفصاحة وغيرها، فهذه ليست أوصافاً له بحسب موقعه المكنون باللوح المحفوظ، وأنّما هي حادثة له بعد النزول، أمّا جملة معارفه وحقائقه وأحكامه فلا يطرأ عليها مثل تلك الأوصاف.
____________
1- سورة الزخرف 43: 3.
2- سورة هود 11: 1.
3- سورة يونس 10: 37.
4- سورة آل عمران 3: 7.
5- سورة البقرة 2: 106.
النمط الثالث للنزول:
وقد تُعدّ درجات بطون القرآن ومعانيه التأويلية من سنخ ونمط تنزّل ثالث سيأتي بسط الحديث عنه في مقالات لاحقة.
هذا مضافاً إلى متواتر الروايات المتضمّنة للإشارة إلى موارد النزول وتأليف آيات وسور القرآن بوجوده اللفظي. ثمّ إنّ المعاني المتنزّلة من حقيقة القرآن الكلّية وحقائقه الجملية ليست محيطة بها; فإنّ المعاني والمفاهيم مهما كانت في السعة والشمول ليست إلاّ لمعات يسيرة من أنواع تلك الحقائق، هذا فضلاً عن الألفاظ المشيرة إلى تلك المعاني التي هي تنزّل لفظي لها; فإنّ الألفاظ ليست إلاّ علامات ودوالّ إشارية على مجمل بحور المعاني، وليست بتلك التي تحيط بها، والنسبة بين الألفاظ والمعاني كالنسبة بين المعاني والحقائق.
فالألفاظ مفتاح وأبواب للمعاني، والمعاني لا تتناهى درجاتها وبطونها وهي بوابات لشعب الحقائق من دون أن تكتنه المعاني، فما يحمله (صلى الله عليه وآله) من حقائق وحقيقة القرآن لا يمكن أن تسعه المعاني، كما أنّ المعاني التي تنزّلت من تلك الحقائق لا يمكن أن تسعها الألفاظ.
حقيقة وراثة الأوصياء للنبيّ (صلى الله عليه وآله):
ومن ثمّ ورد أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يكلّم أحداً بكنه عقله قطّ، وكذلك الحال فيما تحمّله الوصيّ (عليه السلام) وولده الأوصياء عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، عمدته ليس من الألفاظ والمعاني من قبيل الحديث والرواية، بل عمدة ما تحمله عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو حقيقة القرآن التي هي الروح الأعظم، وهو أعظم أنماء التحمّل; لأنّه اكتناه حضوري للحقائق لا يغيب عنه شيء منها، بخلاف تحمّل المعاني فضلاً عن تحمّل الألفاظ.
ففرق بين الوصاية والفقاهة والرواية، حيث دلّت سورة القدر ونحوها من السور على بقاء تنزّل ذلك الروح كلّ عام على من يشاء من عباده، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}(1)، وقال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(2)، وقال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(3)، فكما أنّ تنزّل الروح الأعظم في ليلة القدر دائم دائب في كلّ سنة بالضرورة، فكذلك ليلة القدر تعني وراثة وليّ الله تعالى لمقام النبيّ (صلى الله عليه وآله) في تنزّل الروح عليه.
وقد تقدم في هذه المقالة أنّ ذلك الروح هو حقيقة القرآن، وأنّه عطف بيان
____________
1- سورة القدر 97: 1 - 5.
2- سورة النحل 17: 2.
3- سورة غافر 40: 15.
وتقدّم أنّ الكتاب المكنون ليس لوحاً ونقش صور الألفاظ، بل هو الروح (الذي هو حقيقة القرآن التكوينية)، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}(3)، فالروح الأمري هو الكتاب، والذي يمسّ الكتاب هو الذي يتلقّى تنزّل الروح الأمري كلّ عام في ليلة القدر، والمطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون هم الأئمّة (عليهم السلام) الذين يتوارثون الكتاب وهو الروح الأمري، حيث قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}(4)، فالهداية الأمرية هي بالروح الأمري.
وكذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا}(5)، والذين اصطفاهم وأصفاههم أهل آية التطهير، فهذه الآيات تتشاهد لبعضها البعض لتدلّ على أنّ الأئمّة المطهّرون المصفّون الذين يمسّون الكتاب ويرثوه يتلقّون حقيقة الكتاب، وهو الروح الأمري والذي يتنزّل في ليلة القدر في كلّ عام على من يشاء الله من عباده، وقد ذُكر عنوان ورثة الكتاب والذين يمسّونه بصيغة الجمع; للتدليل على أنّهم مجموعة ممتدّة طوال عمر هذا الدين وما بقي القرآن.
____________
1- سورة الواقعة 56: 77 - 80.
2- سورة الأحزاب 33: 33.
3- سورة الشورى 42: 52.
4- سورة الأنبياء 21: 73.
5- سورة فاطر 35: 32.
قراءة جديدة في حديث الثقلين وأنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم الثقل الأكبر:
ولكي نبرهن على ذلك لابدّ من توضيح جملة من الأُمور:
الأوّل: إنّهم عين حقيقة القرآن، وهذا معنى عدم افتراق القرآن عن العترة، أي عدم افتراق حقيقة القرآن التكوينية وهو الكتاب المكنون وهو الروح الأعظم ـ عن ذوات العترة المطهّرة، بل هو أحد أرواحهم الذي يسدّدهم.
قراءة جديدة في آية {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}:
وهذا معنى تنزيل نفس عليّ (عليه السلام) منزلة نفس النبي (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ}(1)، كيف لا والروح الأمري الذي هو الروح الأعظم والذي هو حقيقة القرآن وهو الكتاب المبين الذي نُزّل على قلب النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأُوحي إليه ـ قد ورثه الوصيّ ويتنزّل عليه وعلى ذرّيته الأوصياء (عليهم السلام).
وفي صحيح أبي بصير قال: "سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ}(2)؟ قال: خلق من خلق الله عزّ وجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخبره
____________
1- سورة آل عمران 3: 61.
2- سورة الشورى 42: 52.
وفي صحيحه الآخر قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}(2)؟ قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو مع الأئمّة، وهو من الملكوت"(3).
وفي صحيح ثالث لأبي بصير بعد وصفه للروح بما تقدّم ـ: "لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد (صلى الله عليه وآله)، وهو مع الأئمّة يسدّدهم"(4).
وفي موثّق علي بن اسباط عن أبيه أسباط بن سالم زيادة قوله (عليه السلام): "منذ أنزل الله عزّوجلّ ذلك الروح على محمّد (صلى الله عليه وآله) ما صعد إلى السماء، وإنّه لفينا"(5).
وفي رواية أبي حمزة قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العلم، أهو علم يتعلّمه العالم من أفواه الرجال، أم في الكتاب عندكم تقرؤونه فتعلمون منه؟ قال: الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عزّوجلّ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ..}(6).." الحديث(7). وهذا المعنى الذي يشير إليه (عليه السلام) هو ما تقدّم ذكره من أنّ الأوصياء في تحمّلهم عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) ليس هو تحمّل رواية ألفاظ، ولا مجرّد فهم معاني، بل حقيقة تحمّلهم وعمدته هو تحمّل حقيقة القرآن التي هي روح القدس.
فعمدة ما يتلقّونه بقلوبهم وأرواحهم (عليهم السلام) هو عن قلب وروح النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وليس العمدة هو عن مجرّد لسانه الشريف وآذانهم الطاهرة، ولا عمدته من كتب يقرأونهاكالجامعة ونحوها، فهم بدورهم فيما يبلغونه من ألفاظ مؤدّية إلى طبقات المعاني الموصلة إلى بعض الحقائق التي تلقّوها.
____________
1- الكافي 1 / 273 ح 1.
2- سورة الإسراء 17: 85.
3- الكافي 1 273 ح 3.
4- الكافي 1 / 273 ح 4.
5- الكافي 1 / 273 ح 2.
6- سورة الشورى 42: 52.
7- الكافي 1 / 273 ح 5.
قراءة جديدة في حفظ وبقاء الذكر والقرآن المنزّل:
فمن ثمّ يكون دورهم متمّم ومكمّل لدور النبيّ (صلى الله عليه وآله) في هداية البشرية، وإلى ذلك يشير قوله تعالى في آية الغدير: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(1)، لبيان خطورة وشدّة دورهم (عليهم السلام) المتمّم لدور النبيّ (صلى الله عليه وآله) في تبليغ الرسالة، وأنّه الأمر الذي يجب أن يُبلّغ لامتداد الرسالة وبقاء القرآن، أي بقاء حقيقيته النازلة والمتنزّلة منها درجات في كلّ عام في ليلة القدر لابقاء المصحف المنقوش بالخط.
وإلاّ لو كان دورهم هو مجرّد النقل السماعي اللفظي عن الرسول كقناة لإيصال الألفاظ والصوت لما كان لسان الآية بهذا اللحن الشديد والخطب البليغ، كما ان تعليق وتبليغ الرسالة برمّتها على شخص يخلف النبيّ (عليهم السلام) وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) لابدّ أن يكون في تحمّله عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) خصوصية لا يشترك معه فيها أحد وإلاّ لشاركه آخرون في القيام بذلك الدور ولَمّا انحصر تبليغ الرسالة بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) به.
وليست هذه الخصوصية وليدة عن كثرة سماع الوصي لكمية كثيرة من الأحاديث أو لقوّة حافظة عليّ (عليه السلام) لما يسمعه من الحديث على النمط المألوف، ولا لمجرّد أكثرية ملازمته وإلاّ لشاركه الآخرون في ذلك ولو بدرجة نازلة. وان
____________
1- سورة المائدة 5: 67.
بل خصوصية الإصطفاء الإلهي لهم دون غيرهم هو لحملهم حقيقة القرآن التي هي الروح الأمري والتي قد تقدّم بيان صفاتها في الآيات والسور والروايات التي تقدّمت، وتبين أنّ لديهم (عليهم السلام) علم حقيقة القرآن كلّه، فضلاً عن درجات معانيه غير المتناهية وألفاظه، وهذا التراث والوراثة التكوينية لا يشاركهم فيها غيرهم بأدنى مشاركة، وهذا معنى انحصار باب مدينة علم النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعليّ (عليه السلام)، بل ليس لغيرهم مهما بلغت درجته من العلم سوى الوقوف على حدود المعاني الظاهرة وبعض درجاتها التي توصّل إليها بواسطة الألفاظ.
وحيث إنّ الحاجة وبقاء الرسالة قائم بحقيقة القرآن لا بسطوح المعاني المنزّلة من تلك الحقيقة، ولأجل ذلك كان مقدار ما تنزّل من القرآن من المعاني الظاهرة والألفاظ لا يسدّ الحاجة لهداية البشرية إلاّ بضميمة التأويل، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1)، فالتأويل باب مفتوح...... درجات وطبقات المعاني المتنزّلة من الحقائق.
____________
1- سورة آل عمران 3: 7.