الوجودات الأربعة للقرآن:
ولتوضيح أقسام وجود القرآن ينبغي الالتفات إلى التقسيم الذي ذُكر في علم المنطق من أنّ لكلّ شيء أربعة وجودات:
الأوّل: الوجود الكتبي للشيء، وهو نقش اسم الشيء على الورق أو نقش رسم صورته فيما لو كان جسمانياً ـ كلفظ زيد أو صورته، ويُسمّى الوجود الكتبي لزيد ونقش اسمه.
الثاني: الوجود الصوتي لاسم زيد أو صوته، ويُسمّى بالوجود اللفظي الصوتي لزيد.
وهذان الوجودان يقال عنهما الوجودان التنزيليان لزيد أو الوضعيان، أي أنّهما قرّرا وجودين لزيد أو للشيء بحكم الاعتبار الأدبي، فلولا تباني البشر وأهل اللسان عن التعبير عن معنى زيد أو عن وجوده بذلك اللفظ أو بذلك الرسم والنقش من الكتابة، لما كان لهما دلالة على معنى زيد أو وجوده، ولما كان له صلة بحقيقة زيد ولا بمعناه، ومن ثمّ يعبّر عنهما وجودان تنزيليان لزيد، فلفظ زيد الصوتي تنزيل لحقيقة زيد، وكذلك نقش كتابة لفظ زيد تنزيل لحقيقة زيد.
الثالث: معنى زيد في الذهن والصورة التي له في الذهن، أي التي تنتقش تكويناً في ذهن الإنسان وفكره، ويُقال عنه الوجود المعنوي لزيد، وهذا الوجود تكويني وليس من قبيل الأوّلَين، أي ليس وجوداً تنزيلاً اعتباراً، بل هو وجود تكويني لزيد، ولكن لا لحقيقة وجوده بل لحقيقة معناه.
وقد يُطلق عليه تنزيل تكويني لا اعتباري لحقيقة وجود زيد، فهو ليس عين
الرابع: حقيقة وجود زيد وهو وجوده العيني الخارجي، وهو وجود تكويني لزيد، كما أنّه الأصل في أقسام وجودات زيد، فليس هو وجود تنزيلي اعتباري أدبي كالأوّلَين، ولا وجود تكويني كالقسم الثالث، بل هو حقيقة وعين وجود زيد وهذا القسم بدوره أيضاً يشتمل على مراتب: منها الوجود البدني لزيد، ووجود نفسه وروحه.
فتبيّن أنّ الوجود التكويني هو القسمان الأخيران، وكلّ منهما ذو مراتب، وهذا التقسيم يعمّ جميع الأشياء; فإنّ لكلّ شيء من الأشياء وجود لفظي صوتي وكتبي نقشي، ووجودان تكوينان، وهو وجود معانيها في الذهن ووجود عيني خارجي.
فإذا تبيّن ذلك يتبيّن أنّ للقرآن الكريم هذه الوجودات الأربعة، فالتنزيل الذي في المصحف هو وجود كتبي ونقش للوجود اللفظي للقرآن، كما أنّ صوت قراءة القرآن هو وجود لفظي صوتي للقرآن.
ولكلّ من هذين الوجودين أحكام، فإنّه يُحرم لمس خطّ كتابته من دون طهارة، كما أنّ وجود المصحف الشريف المقدّس حرز وأمان، كما أنّه يُستحبّ النظر إليه، والقراءة منه أفضل وأكثر فضيلة من القراءة عن ظهر قلب، كما أنّ قراءة القرآن وهو الوجود الصوتي ـ يدخل النور في البيت ويطرد الشياطين ويُكثر البركة والرزق، ويُستحب تحسين الصوت وتجويده، كما يُستحب قراءته بخشوع وحزن.
وأمّا معاني القرآن فهو الوجود الذهني للقرآن ومعانيه وهو مصدر الهداية والبصيرة.
حقيقة القرآن ووجوده:
والوجود الرابع للقرآن العيني الخارجي هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم}(3) فربط تعالى بين إنزال الروح الأمري وإحيائها وإرسالها، ومعرفة النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالكتاب كلّه، وقد عبّر عن ذلك بالإيحاء وهو الإرسال الخفي، وتشير الآية إلى معرفة النبيّ (صلى الله عليه وآله)
____________
1- سورة محمد 47: 24.
2- سورة القمر 54: 17.
3- سورة الشورى 42: 52.
ونفس هذا الترابط بين الروح الأمري وبين نزول جملة الكتاب نجده في سورة القدر، حيث قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر..}(1)، نلاحظ أنّ نزول القرآن والروح الأمري مترابطان، وكذلك في سورة الدّخان، قوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(2)، والضمير عائد على الكتاب المبين جملة وإرسال الروح الأمري.
فيستخلص من جملة هذه الآيات أنّ نزول القرآن جملة هو نزول حقيقته وهو الروح الأمري، وهذا هو حقيقة الفرق بين تنزيل القرآن نجوماً الذي هو الوجود اللفظي للقرآن، وبين نزوله دفعة.
____________
1- سورة القدر 97: 1 - 4.
2- سورة الدخان 44: 1 - 5.
الأمر الثاني
إنّ للقرآن درجات ومدارج
هناك حقيقة ثابتة مسلّمة بين المسلمين، وهي حقيقة قرآنية من كون القرآن المنزّل ذا تأويل، كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1)، فللقرآن تأويل وبطون، وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ}(2)، وقال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}(3)، فالتأويل والبطون سوى ظاهره المنزّل، بل وتلك البطون التي لا تنفذ من بحور حقائق القرآن تترقّى وتتّصل بأصل حقيقة القرآن الغيبية التي يُطلق عليها: الكتاب المكنون، والكتاب المبين، أو اللوح المحفوظ، أو أُمّ الكتاب.
وعلى ضوء ذلك، فليست الشريعة والدين تقتصران وتنحصران في الظاهر المنزّل، بل هما يشملان تلك البطون، فلا ينحصر تبليغ وأداء الشريعة بأداء
____________
1- سورة آل عمران 3: 7.
2- سورة الأعراف 7: 53.
3- سورة يونس 10: 39.
ولم يقف على تلك البواطن وأُمّ الكتاب إلاّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعترته الذين ورثوه بوراثة الاصطفاء، فسنخ ونمط تحمّل النبيّ (صلى الله عليه وآله) وتبليغه وتحمّل أهل بيته (عليهم السلام) عنه وتبليغهم ليس سنخ نمط تحمّل وتبليغ الرواة للأخبار الحسّية المسموعة لفظاً التي تحمّلوها ليؤدّوها إلى غيرهم، كي يكون الحال في هذا التبليغ (رُبّ حامل لا يفقه ما حُمّل أو رُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، لأن ما تحمّله النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الله تعالى وتحمّله أهل بيته (عليهم السلام) عنه هو تحمّل للحقائق المهيمنة والمحيطة بالمعاني
حقيقة تبليغ النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته:
المنزّلة في آفاق درجات المعاني الباطنة والظاهرة والألفاظ المقروءة.
فمن ثمّ سُمّي هذا التبليغ والإبلاغ (إنزالاً) و (تنزيلاً)، بينما سُمّي تبليغ الرواة إلى غيرهم (نقلاً) وإيصالاً في خطّ أُفقي، ونقلاً للحديث الملفوظ وإسماع الكلام المسموع (ورواية) للخبر المعلوم بالحواسّ الظاهرة، فالذي تحمّلوه هو ألفاظ مسموعة وطبقة من المعاني الظاهرة لأفهامهم من وراء حجاب اللفظ، فهذا النمط والنوع من التحمّل والتبليغ يتحرّك في سير أُفقي، ومن ثمّ قد يصعد المنقول إليه ويتصاعد إلى بعض درجات المعاني وغورها، على عكس الناقل الذي ربّما يكون واقفاً على الألفاظ والدرجة الأُولى لمعانيها، فيكون المنقول والمحمول إليه الخبر أكثر إحاطةً من الناقل والحامل.
وهذا لا يُتصوّر في التحمّل الوحياني والتبليغ النبويّ، وتحمّل الإمام عن النبيّ وتبليغه لا يكون إلاّ عن إحاطة بالحقائق الوجودية، فضلاً عن الإحاطة بكل آفاق
ففيما يبلّغه النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) لا تقف الرعية بما فيها من الفقهاء والعلماء والحكماء والعارفين ـ إلاّ على الألفاظ المتنزّلة والمعاني الظاهرة، وقد يترقّى الحال في بعضهم للوصول إلى بعض درجات المعاني أو لمح بعض لمعان أنوار الحقائق، من دون التحقّق بعينية تلك الحقائق فضلاً عن اكتناهها، ولا الإحاطة بجميع مدارج المعاني.
من ثمّ تدوم وتظلّ حاجة الرعية والبشرية قائمة ومستمرّة إلى تواصل بيانات النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) وهدايتهم وتبليغهم، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(1)، وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(2).
وكذلك يشير قول الإمام الصادق (عليه السلام) في رواية إسحاق بن عمار، قال: "إنّما مثل عليّ (عليه السلام) ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسى (عليه السلام) والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله الصحبة، فكان من أمرهما ما اقتصّه الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) في كتابه، وذلك أنّ الله قال لموسى: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}(3)، ثم قال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الاَْلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء}(4)، وقد كان عند العالم علم لم يكتب لموسى في الألواح، وكان
____________
1- سورة آل عمران 3: 7.
2- سورة العنكبوت 29: 49.
3- سورة الأعراف 7: 144.
4- سورة الأعراف 7: 145.
لا والله ما حسد موسى (عليه السلام) العالم، وموسى نبيّ الله يُوحي الله إليه حيث لقيه واستنطقه وعرّفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على علمنا وما ورثنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسى (عليه السلام) إلى العالم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل العالم ذلك علَم العالم أنّ موسى (عليه السلام) لا يستطيع صحبته ولا يحتمل علمه ولا يصير معه، فعند ذلك قال العالم: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}(1)؟ فقال موسى (عليه السلام) له وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}(2)، وقد كان العالم يعلم أنّ موسى (عليه السلام) لايصبر على علمه، فكذلك والله - ياإسحاق بن عمار- حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم، لايحتملون والله علمنا ولا يقبلونه ولا
____________
1- سورة الكهف 18: 68.
2- سورة الكهف 18: 69.
فإذا التفتّ بنحو الإجمال إلى سنخ تحمّل وتبليغ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الله تعالى وتحمّل وتبليغ أهل بيته (عليهم السلام) عنه، يجدر بالمقام الالتفات إلى كون القرآن ذا حقيقة عينية غيبية، والتي هي الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ والكتاب المكنون، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(2)، حيث يشير إلى وجود كينونة للقرآن علوية تُدعى بالكتاب المكنون، أي المحفوظة من أن يصل إليها إلاّ المطهرون من الذنوب والرجس، وأنّ ما بين الدفّتين من القرآن تنزيل ونزول من ذلك المقام العلوي له.
ومثل هذه الإشارة نجدها في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ}(3)، فوصف القرآن بالمجد والعظمة لكينونته العلوية، أي أنّ المجد والعظمة وصف لذلك الوجود، ولا يغرق الباري تعالى في وصف موجود بالعظمة إلاّ لخطورة موقعيته في عالم الأمر والخلقة، وتلك الكينونة هي المسمّاة باللوح المحفوظ، والوصف بلفظ المحفوظ مع لفظ المكنون مترادف.
وكذلك نجد الإشارة نفسها في قوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}(4)، فوصف القرآن بأنّ له كينونة في أُمّ الكتاب وهي وجود علوي لدني عنديَّ لدى الباري تعالى،
____________
1- العياشي 2 / 330 ح 46، والبرهان 3 / 651 في ذيل سورة الكهف آية 18.
2- سورة الواقعة 56: 77 - 81.
3- سورة البروج 85: 25.
4- سورة الزخرف 43: 4.
وكذلك قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيم خَبِير}(2)، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(3)، فالقرآن النازل تفصيل ونجوم للكتاب العلوي، ويشير إلى الوجود العلوي للقرآن قوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(4)، أي أنّ القرآن متنزّل من الكتاب المبين، وقد وصِفَ الكتاب المبين بعدّة أوصاف:
منها: قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(5)، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(6)، وقوله تعالى: {.. وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(7)، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الاَْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَاب مُبِين}(8).
ثمّ إنّ هناك تعدّداً أيضاً بين مقام وموقع القرآن الكريم بحسب الكتاب المبين واللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب، وبين إنزاله جملةً واحدة، وبين تنزيله مفصّلاً
____________
1- سورة الأعراف 7: 52.
2- سورة هود 11: 1.
3- سورة يونس 10: 37.
4- سورة الدخان 44: 1 - 3.
5- سورة النمل 27: 75.
6- سورة الأنعام 6: 59.
7- سورة يونس 10: 61.
8- سورة هود 11: 6.
وكذلك أهل بيته المطهّرون، كما أنّه (صلى الله عليه وآله) قد أُنزل إليه القرآن جملة وهي المرحلة الثانية، كما تنزّل عليه القرآن نجوماً مفصّلاً أو تفصيلاً وهي المرحلة الثالثة، كما تبيّن أنّ حقائق القرآن العينية موجودة بوجود علوي، وأنّ المعاني وطبقاتها متنزّلة من تلك الحقائق معاكسة وحاكية لها، وأنّ ألفاظ التنزيل ثوب وصورة.
قراءة في معنى إكمال الدين بعليّ:
للمعاني المتنزّلة ودرجاتها إلى درجة المعنى الظاهر.
فالكتاب لا يقتصر على التنزيل والظاهر، بل له بطون لا تُحصى من المعاني، ولبطونه بطون هي حقائق مهيمنة، وأنّه لا يحيط بكلّ ذلك إلاّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) بما أوحاه الله إليه، ومن بعده أهل بيته (عليهم السلام) عنه، وبالتالي لا يمكن الاقتصار على التنزيل والظهور في الوصول إلى معرفة الدين القويم ونيل الهداية الإلهية من دون وجود الشخص المبين لتلك البطون والكاشف عن حقائق التنزيل; لحاجة البشرية إلى الكتاب كلّه ولكلّ درجاته على نحو التدريج بحسب مرّ الزمان والعصور.
فمن ثمّ اتّفقت الإمامية أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ـ على أنّ الدين لم يكمل بالتنزيل إلاّ بعد أن نصّب الله عليّاً إماماً وهادياً لدينه وكتابه من بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما ينادي بذلك قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وقد روى الكليني بسنده إلى الحسن بن العباسي بن الحريش عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) قال: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): بينا أبي (عليه السلام) يطوف بالكعبة إذا رجل معتجر قد قيض له في حديث مسائلة الياس النبيّ (عليه السلام) للباقر (عليه السلام) ـ وما قاله له: اخبرني عن هذه العلم الذي ليس فيه اختلاف من يعلمه؟
قال أبو جعفر (عليه السلام): أما جملة العلم فعند الله جلّ ذكره، وأمّا ما لابدّ للعباد منه فعند الأوصياء. ففتح الرجل عجيرته واستوى جالساً وتهلّل وجهه وقال: هذه أردت ولها أتيت زعمت أنّ علم ما لا اختلاف فيه من العلم عند الأوصياء، فكيف يعلمونه؟
قال: كما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلمه، إلاّ أنّهم لا يرون ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرى; لأنّه كان نبيّاً وهم محدَّثون بالفتح ـ وأنّه كان يفد إلى الله عزّوجلّ فيسمع الوحي وهم لا يسمعون. فقال صدقت يابن رسول الله.....
فإن قالوا لك: فإنّ علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان من القرآن فقل: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(2).
فإن قالوا لك لا يرسل الله عزّوجلّ إلاّ إلى نبيّ فقل: هذا الأمر الحكيم الذي يفرق فيه هو من الملائكة والروح التي تنزّل من سماء إلى سماء أو من سماء إلى أرض.
فإن قالوا: من سماء إلى السماء، فليس في السماء أحد يرجع من طاعة إلى معصية.
____________
1- سورة المائدة 5: 3.
2- سورة الدخان 44: 1 - 5.
فإن قالوا: فإنّ الخليفة هو حكمهم فقل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1) لعمري ما في الأرض ولا في السماء ولي لله عزّ ذكره إلاّ وهو مؤيد، ومن أيد لم يخطّ وما في الأرض عدوّ لله عزّ ذكره إلاّ وهو مخذول، ومن خذل لم يصب، كما إنّ الأمر لابدّ من تنزيله من السماء يحكم به أهل الأرض كذلك لابدّ من وال. فإن قالوا: لا نعرف هذا فقل: (لهم) قولوا ما أحببتم، أبى الله عزّوجلّ بعد محمّد (صلى الله عليه وآله) أن يترك العباد ولا حجّة عليهم"(2).
ويتبيّن من ذلك أنّ إنكار أحد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أي إنكار اتّصال سلسلة إمامتهم أعظم كفراً من إنكار أحد المرسلين السابقين، أي من إنكار سلسلة اتّصال رسالات المرسلين السابقين; وذلك لأنّ إنكار سلسلة اتّصال إمامة أهل البيت تعني إنكار بقاء حجّية القرآن، للقول بتعطيل الكتاب بتعطيل نزول تأويله في كلّ عام.
وإنكار القرآن أعظم جحوداً من إنكار أحد الكتب المنزّلة السابقة، وقد عرفت أنّ ليلة القدر قد كانت منذ أوّل نبيّ بعثه الله عزّوجلّ واستمرّت مع جميع الأنبياء إلى قائم الأنبياء إلى خاتم الأنبياء، وكانت مع أوصياء الأنبياء، وهي مع الأوصياء من أهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذلك لأنّها من أبرز قنوات الاتّصال مع الغيب، وبتوسّطها ينزل تأويل الكتب السماوية في من سبق، وتأويل القرآن على النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعلى أهل بيته من بعده.
____________
1- سورة البقرة 2: 257.
2- الكافي 1 / 242.
وروى الكليني بسند معتبر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "لقد خلق الله عزّوجلّ ذكره ليلة القدر أوّل ما خلق الدنيا، ولقد خلق فيها أوّل نبيّ وصيّ يكون، ولقد قضى أن يكون في كلّ سنة ليلة يهبط فيها بتفسير الأُمور إلى مثلها من السنة المقبلة من حجّة ذلك، فقد ردّ على الله عزّوجلّ علمه لأنّه لا يقوم الأنبياء والرسل
____________
1- سورة البقرة 2: 136.
2- سورة الأعراف 7: 157.
3- سورة الشورى 42: 52.