الصفحة 91
والمحدّثون أيضاً بأنّهم جبرئيل أو غيره من الملائكة (عليهم السلام).

قال: أمّا الأنبياء والرسل (صلى الله عليه وآله) فلا شكّ ولابدّ لمن سواهم من أوّل يوم خلقت فيه الأرض إلى آخر فناء الدنيا أن تكون على أهل الأرض حجّة ينزل ذلك في تلك الليلة إلى من أحبّ من عباده.

وأيم الله لقد نزل الروح والملائكة بالأمر في ليلة القدر على آدم وأيم الله ما مات آدم إلاّ وله وصيّ وكلّ من بعد آدم من الأنبياء قد أتاه الأمر فيها ووضع لوصيه من بعده، وأيم الله إن كان النبيّ ليؤمر فيها يأتيه من الأمر في تلك الليلة من آدم (عليه السلام) إلى محمّد (صلى الله عليه وآله) أن أُوحي إلى فلان، ولقد قال الله عزّوجلّ في كتابه للولاة من بعده محمّد (صلى الله عليه وآله) خاصّة {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الاَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}(1) يقول: "استخلفكم لعلمي وديني وعبادتي بعد نبيّكم، كما استخلف وصاة آدم من بعده حتّى يُبعث النبيّ الذي يليه، يعبدونني بإيمان لا نبيّ بعد محمّد (صلى الله عليه وآله)، فمن قال غير ذلك فأولئك هم الفاسقون، فقد مكّن ولاة الأمر بعد محمّد بالعلم ونحن هم، فاسألونا فإن صدّقناكم فأقرّوا وما أنتم بفاعلين، أمّا علمنا فظاهر، وأمّا إبان أجلنا الذي يظهر فيه الدين منّا حتّى لا يكون بين الناس اختلاف، فإنّ له أجلاً من ممرّ الليالي والأيام، إذ أتى ظهر وكان الأمر واحداً.

وأيم الله لقد قُضي الأمر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف، ولذلك جعلهم شهداء على الناس ليشهد محمّد (صلى الله عليه وآله) علينا، ولنشهد على شيعتنا ولتشهد شيعتنا على الناس. أبى

____________

1- سورة النور 24: 55.


الصفحة 92
الله عزّوجلّ أن يكون في حكمه اختلاف، أو بين أهل علمه تناقض.

ثمّ قال أبو جعفر (عليه السلام): فضل إيمان المؤمن بجملة (إنّا أنزلناه) وبتفسيرها على من ليس مثله في الإيمان بها كفضل الإنسان على البهائم، وإنّ الله عزّوجلّ ليدفع بالمؤمنين بها..."(1).

وقد ورد من طرق الفريقين عنه (صلى الله عليه وآله) قوله لعليّ (عليه السلام): "أنا أقاتل على التنزيل وعليّ يقاتل على التأويل"(2)، ومنه ظهر أنّ سنخ تبليغ النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن الله وأهل بيته (عليهم السلام) عنه لا يقف على حدّ التنزيل والألفاظ، بل يتّسع إلى ما لا يُحصى من مدارج المعاني وبيان الحقائق، فالحاجة إلى تبليغهم وأدائهم عن الله ووساطتهم بين الله وخلقه تمتدّ إلى يوم القيامة في دار التكليف ونشأة الامتحان، ما دام البشر يحتاجون في كل بيئة إلى رؤية كونية عقائدية أعمق للحقائق والمعارف، ويحتاجون إلى هداية من الشريعة إلى أطوار نظامهم الاجتماعي السياسي وحقوله.

فتلخّص، أنّ ما تسالم عليه المسلمون من وجود الظهور والبطون في الكتاب العزيز وكون علومه وحقائقه وكلماته لا تتناهى، يستلزم دوام الحاجة إلى تبليغ النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) من بعده، وعدم سدّ الحاجة بخصوص الظاهر بعد كون الإيمان بباطن القرآن على حذو الإيمان بظاهره.

ويشير إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}(3)، فإنّ توقّف تبليغ مجمل الرسالة على نصب عليّ (عليه السلام) في الغدير

____________

1- الكافي 1 / 251.

2- الخصال للصدوق: 650.

3- المائدة 5: 67، وروى الواحدي النيشابوري في أسباب النزول بسند متّصل عن أبي سعيد الخدري، قال: نزلت هذه الآية (يا أيها الرسول بلّغ ما اُنزل إليك من ربك..) يوم غدير خم في عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه).


الصفحة 93
بحيث لو لم يُنصّب لم تُبلّغ الرسالة من رأس وهذا المفاد في الآية، مؤشّر واضح على أنّ ما حمل النبيّ (صلى الله عليه وآله) من الرسالة بالوحي مُعظَمه لا يقتصر على التنزيل، بل جُلّه في البطون وحقيقته العلوية التي لا يشذّ عنها شيء، وهذا لم يؤدِّه النبيّ إلاّ لعليّ وأهل بيته خاصّة، وتأديته (صلى الله عليه وآله) لأهل بيته لم تقتصر على النمط الحسّي ولا هو عمده الطريق لتلقّيهم (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله).

فمن ثمّ كان إبلاغ النبيّ (صلى الله عليه وآله) التنزيل للناس من دون نصب عليّ نفي لإبلاغ وبلاغ جلّ الرسالة، وأنّ ما عند الناس من الدين والشريعة والرسالة هو أقلّ من قليل، إلاّ باتّباعهم لأهل بيت النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأخذهم عنهم ما أدّاه النبيّ إلى أهل بيته من حقائق القرآن والشريعة، ويشير إلى ذلك ما روته العامّة في الصحاح وغيرها كما ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء(1): "لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش".

وفي رواية: "إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّى يمضي له فيهم اثني عشر خليفة كلّهم من قريش"(2)، وفي رواية عن أبي داود: "لا يزال هذا قائماً حتّى يكون لكم إثني عشر خليفة"(3). فإنّ التعبير بأنّ الدين قائم بهم أي أنّه ينقضي بزوالهم ويزول بمضيهم، وأنّ عمر هذا الدين وصلاحه

____________

1- تاريخ الخلفاء: 10 طبعة السعادة في مصر، كما نقلنا ذلك في محلقات إحقاق الحقّ 13/12.

2- السيوطي عن صحيح مسلم نفس المصدر.

3- سنن أبي داود 4 / 150 طبعة السعادة بمصر، ومسند أحمد بن حنبل: 86 - 87 طبعة الميمنة مصر، ومسند أبي عوانة 4 / 399 طبعة حيدرآباد، وهناك مصادر أخرى لاحظ ملحقات إحقاق الحق 13 / 1 - 48.


الصفحة 94
مرهون عند الله عزّوجلّ بالخلفاء الاثني عشر.

وهذا المفاد للحديث النبويّ المستفيض يقتضي بأنّ ما وصل بأيدي الناس من ظاهر التنزيل من المصحف الشريف وروايات السنّة النبويّة بمجرّده لا يكفي في بقاء الدين، ممّا يدلّ على أنّ معظم الدين وقوامه موجود لدى الاثني عشر سلام الله عليهم دون غيرهم، وكذا لا يمكن الاكتفاء بظاهر التنزيل والروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) والاستغناء عن المهدي(عج).

حيث قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}(1)، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الاَْرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(2)، ليس المراد من الكلمات التي لا تنفذ الألفاظ الصوتية أو المنقوشة المدوّنة أو المعاني المفهومة المتصوّرة; إذ إطلاق الكلمة والكلمات على هذين الموردين إطلاق مجازي عند العقل، إذ الكلمة هي الشيء الدالّ بذاته تكويناً على أمر آخر، ومن ثمّ يُطلق على وجودات الأشياء المخلوقة لا سيّما الشريفة ـ أنّها كلمات الله; لدلالتها على صفات الباري تعالى.

ومنه يُعرف الترادف عند العقل بين الكلمة الحقيقية والآية، ومن ثمّ ورد إطلاق كلّ منهما على النبيّ عيسى (عليه السلام)، وقال تعالى في بشارة الملائكة لمريم: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}(3)، فجعل تعالى وجود نبيّه كلمة منه تعالى وتكلّمٌ منه، وجعل عنوان المسيح عيسى ابن مريم اسم للكلمة، كما أطلق تعالى الآية على عيسى ابن مريم حيث قال: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً

____________

1- سورة الكهف 18: 109.

2- سورة لقمان 31: 27.

3- سورة آل عمران 3: 45.


الصفحة 95
مِنَّا}(1).

فهذه الكلمات الوجودية والتي قد تعرّضت جملة من الآيات لنعوتها وصفاتها والتي لا تنفذ، كلّها مجموعة في الكتاب المبين ; إذ الكتاب هو ما يتألّف من كلمات، فالكتاب المبين متكوّن من وجود جملي لكافّة الكلمات الوجودية بالوجود الملكوتي، ومن ثمّ نعت الكتاب المبين بأنّه مفاتح الغيب كما في الآية المتقدّمة: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(2).

تلقي النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته للكلمات
والكلام الإلهي بوجوده التكويني لا الاعتباري:

إنّ ما يتلقّاه النبيّ (صلى الله عليه وآله) من وحي لا ينحصر في الوحي الإنبائي، كما أنّ سنخ الوحي الإنبائي لا ينحصر في إلقاء المعاني أو الأصوات، بل إنّ عمدة أنواع وأنماط الوحي هو ما يكون من قبيل تلقّي حقائق الأشياء بحقيقتها التكوينية بكينونة تفوق الكون المادّي، وهو ما يعبّر عنه بنشأة الملكوت في القرآن الكريم، قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}(3).

وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود كينونة للأشياء في نشأة الملكوت فقال

____________

1- سورة مريم 19: 21.

2- سورة الأنعام 6: 59.

3- سورة يس 36: 83.


الصفحة 96
تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الاَْرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(1)، وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}(2)، وقال تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(3)، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام مُبِين}(4)، وغيرها من الآيات التي تدلّ على أنّ في نشأة الكتاب المبين وهي نشأة تحيط بغيب السماوات والأرض يستطرّ فيها كلّ شيء بحسب ملكوته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}(5)، فأثبت تعالى للسماوات والأرض ملكوت، فإحاطة وهيمنة الملكوت على كلّ الأشياء وصف مقرّر للكتاب المبين، وتقرّر الأشياء بحسب ملكوتها فيه ليس تقرّر معانيها ومفاهيمها، بل تقرّر كينونة وجودية ملكوتية، بل أنّ هناك أوصافاً ونعوتاً قرآنية أُخرى للكتاب المبين تفوق ذلك.

والقرآن جملة وهو جملة حقيقية، فحقيقة القرآن ليست بلفظ عربي أو أعجمي كما أنّه ليس بمعنى بل هو الروح الأعظم، حيث عبّر عنه في سورة النحل قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(6)، والآية الكريمة في نفس السورة التي صدرها: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ

____________

1- سورة الأنعام 6: 59.

2- سورة الأنعام 6: 38.

3- سورة النمل 27: 75.

4- سورة يس 36: 12.

5- سورة الأنعام 6: 75.

6- سورة النحل 16: 102.


الصفحة 97
بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ}(1)، فبين الآيتين في السورة الواحدة ارتباط، وأنّ ذلك الروح الذي ينزل به الملائكة هو روح القدس، وهو الروح النازل في ليلة القدر بجملة الكتاب، ويعضد هذا الارتباط بين الآيتين في سورة النحل توسّط آية أُخرى في السورة وهي قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(2)، ومن الواضح في هذه الآية إرادة جملة الكتاب وحقيقته، لا النزول النجومي ولا تنزيل القرآن بوجوده اللفظي; لأنّ الذي فيه تبيان كلّ شيء هو حقيقة القرآن الذي يعبّر عنه بالكتاب المبين والمكنون واللوح المحفوظ، إلى غيرها من الأوصاف الآتي استعراضها لهذا الوجود الرابع.

وكذلك سيأتي استعراض روايات أهل البيت (عليهم السلام) الكاشفة لتفسير كلّ ذلك من ظاهر ألفاظ الآيات الكريمة. وتقدّم الكلام في أنّ القرآن اسم حقيقة لروح القدس، النازل على النبيّ جملة في النزول الدفعي الجملي للقرآن كما في آخر سورة الشورى، وأنّه ملتحم مع روح النبيّ (صلى الله عليه وآله) ومن بعده مع أرواح الأوصياء من أهل بيته (صلى الله عليه وآله).

ولا يخفى أنّ لفظة الكتاب شأنها في أقسام الوجود شأن ما تقدّم من الوجودات الأربعة لكلّ شيء، فإنّ الكتاب يُطلق على وجود النقش والرسوم المكتوبة، وهو الذي يُستعمل فيه كثيراً، كما يُطلق الكتاب أيضاً على أصوات الألفاظ المجموعة فيقال قراءة الكتاب، ويُطلق على وجود المعاني فيقال حفظتُ كتاباً كاملاً، ويُطلق على الوجود العيني الخارجي الجامع للكلمات التكوينية.

____________

1- سورة النحل 16: 2.

2- سورة النحل 16: 89.


الصفحة 98
وبعبارة أُخرى: إنّ الكتاب الذي هو مجموع الكلمات والكلمة بدورها له أربع وجودات:

الأوّل: الكلمة المكتوبة المنقوشة.

الثاني: الكلمة الملفوظة المصوّتة.

الثالث: الوجود الذهني في الفكر للكلمة.

الرابع: الوجود العيني الخارجي لشيء دالّ على شيء آخر.

كما أطلق تعالى القرآن على عيسى (عليه السلام) في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}(1)، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ}(2)، وهذا الإطلاق ليس مجازياً، بل حقيقياً; لكون الأصل في معنى الكلمة هو الشيء الموجود لأجل الدلالة على المعنى الخفي، وأي دلالة أعظم على صفات الله من أنبيائه ورسله والأوصياء والحجج، والكلمة مقاربة في معناها لمعنى الآية، حيث إنّ معناها العلامة الدالّة على معنى ومدلول ما، وقد أُطلق لفظ الآية على الوجودات التكوينية في كثرة كاثرة من الموارد في القرآن الكريم.

منها: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}(3)، وقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}(4)، وقوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}(5)، فأطلق على النبيّ عيسى (عليه السلام) كلاًّ من (الكلمة والآية)، ويقرب لفظ (الاسم) من هذا المعنى من لفظ (الكلمة والآية) وإطلاقهما على الوجود التكويني، حيث إنّ معناه من السمة وهو العلامة أيضاً الدالّة على

____________

1- سورة آل عمران 3: 45.

2- سورة النساء 4: 171.

3- سورة المؤمنون 23: 50.

4- سورة مريم 19: 21.

5- سورة الأنبياء 21: 91.


الصفحة 99
شيء أو معنى ما. فهذه الألفاظ الثلاثة هي بدورها أيضاً ـ لها أربع وجودات، الأُوليان اعتباريان وهما الصوت الملفوظ والنقش المرسوم على الورق، والأُخريان تكوينيان:

الثالث: وجودها في أُفق المعنى والفكر والذهن ومدارج المعاني.

الرابع: الوجودات العينية.

وعلى ضوء ذلك، فالكتاب الذي هو مجموع الكلمات أيضاً هو بدوره له أربع وجودات، اثنان اعتباريان وهما المنقوش والملفوظ، واثنان تكوينيان وهما الوجود في أُفق الفكر والذهن والوجود العيني الخارجي.

وإذا كان عيسى بن مريم (عليه السلام) بما له من روح نبويّة كلمة من هذا الكتاب وآية من آياته، فكيف بك في بقية الكلمات والآيات؟ بل ما هو الحال في جملة الكتاب مع أنّه تعالى يقول في عيسى بن مريم (عليه السلام) ـ الذي هو كلمة من هذا الكتاب ـ {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}(1)، فعبّر تعالى بتأييده بروح القدس، ممّا يفهم أنّ روح القدس أعظم من روح النبيّ عيسى (عليه السلام) ; حيث قال تعالى في عيسى (عليه السلام): {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}(2)، وقال تعالى: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ}(3)، ومن ثمّ لم يكن للنبيّ عيسى العلم بالكتاب كلّه كما كان لسيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ; لقوله تعالى في عيسى: {قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلاُِبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}(4)، تبيّن الآية أنّه (عليه السلام) يبيّن بعض اختلاف بني إسرائيل لا كلّه.

وكذلك الحال في موسى (عليه السلام) حيث قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الاَْلْوَاحِ مِنْ كُلِّ

____________

1- سورة البقرة 2: 87.

2- سورة النساء 4: 171.

3- سورة المائدة 5: 110.

4- سورة الزخرف 43: 63.


الصفحة 100
شَيْء مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء}(1) فما كُتب لموسى ليس كلّ شيء وإنّما من كلّ شيء، بخلاف القرآن الكريم حيث وصف بالمهيمن وأنّه تبيان كلّ شيء.

فهذا الارتباط بين كون عيسى كلمة وآية وبين كونه مؤيد بروح القدس، لا أنّ عيسى هو روح القدس.

كما أنّ الارتباط والصلة التي تشير إليها سورة القدر والدخان والشورى والنحل وغافر كما تقدّم استعراض آيات السور ـ بين الروح الأمري وروح القدس وبين نزول الكتاب المبين، يدلّ بوضوح أنّ الكتاب المبين حقيقته هو روح القدس، والذي يعبّر عنه في بعض الروايات بالروح الأعظم، فهذا الروح الذي هو حقيقة وجود الكتاب المبين هو الذي أُوحي به إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ..}(2)، فدراية الكتاب كلّه هو بإرسال هذا الروح إلى روح النبيّ، ومقتضى دراية النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالكتاب كلّه هو التحام الروح في ضمن روحه (صلى الله عليه وآله)، وكذلك تنزّل هذا الروح في الليلة المباركة وهي ليلة القدر والذي هو تنزّل لحقيقة الكتاب عليه (صلى الله عليه وآله).


*  *  *  *  *

____________

1- سورة الأعراف 7: 145.

2- سورة الشورى 42: 52.