الصفحة 101

نـعـوت
حقيقة الكتاب وهي روح القدس


منها: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الاَْمْرُ جَمِيعًا}(1)، فوصف القرآن بأنّه يسيّر به الجبال وتقطّع به الأرض ويُحيى به الموتى، ومن الواضح أنّ هذه الخواص ليست للكتابة المنقوشة التي هي بين الدفّتين للمصحف المقدّس، بل هي لحقيقة القرآن الموجودة في الغيب وهي روح القدس.

ومنها: قوله تعالى: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(2)، ومن الواضح أنّ لوح المحو والإثبات وما فوقه من أُمّ الكتاب ليس في المصحف الورقي، بل هو في نشأة الغيب.

ومنها: قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ

____________

1- سورة الرعد 13: 31.

2- سورة الرعد 13: 39.


الصفحة 102
خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(1)، ومن الواضح أنّ المصحف المقدّس المنقوش بين الدفّتين لو وُضع على جبل ما رأيناه ينهدّ متصدّعاً، إذن، المراد بذلك هو نزول روح القدس على ملكوت الجبل; لأنّ لكلّ شيء ملكوت كما قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْء}(2)، فملكوت الجبل ليست له تلك القابلية والظرفية لنزول روح القدس عليه، بل لم تكن تلك القابلية في الأنبياء أُولي العزم كما تقدّمت الإشارة إليه، بل هي خاصّة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته المطهّرين، كما سيأتي بيان ذلك.

ومنها: قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(3)، ومن الواضح أنّ تبيان كلّ شيء ليس في ظاهر المصحف المنزّل، وإنّما في الكتاب المبين في النشأة الغيبية أي روح القدس، ومن ثمّ تكرّر التعيير المشابه للوصف في سورة النحل وفي سورة الشورى، ونظير هذا الوصف في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(4)، فذكر أنّ فيه كلّ مغيّبات السماء والأرض وتقدير الحوادث، كما ذكر ذلك في سورة القدر والدخان، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّة فِي الاَْرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَاب مُبِين}(5)، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(6)، وقوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(7)، وكذلك قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي

____________

1- سورة الحشر 59: 21.

2- سورة يس 36: 83.

3- سورة النحل 16: 89.

4- سورة يونس 10: 61.

5- سورة هود 11: 6.

6- سورة النمل 27: 75.

7- سورة سبأ 34: 3.


الصفحة 103
الْكِتَابِ مِنْ شَيْء}(1)، وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبين}(2).

ومن الظاهر أنّ هذه الإحاطة بتفاصيل كلّ الأشياء ليست في تفاصيل ظاهر التنزيل، وأنّما هو نعت للنشأة الغيبية لحقيقة الكتاب، ومن ثمّ هذا الوصف بيّن ظرفه في أرواح الذين أوتوا العلم في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(3)، وهذا ممّا يدلّ على التحام روح القدس مع من يتنزّل الروح عليه ليلة القدر، وهم الذين يؤتون علم الكتاب كلّه.

ونعوت الوجود التنزيلي للقرآن وصفت في الآيات العديدة أنّه بلسان عربي مبين، كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}(4)، فالتشابه وصف لظاهر التنزيل، بينما المبين كلّه وصف للكتاب المكنون; وإلاّ لو حُملت النعوت على مرتبة واحدة من وجود القرآن وهو ظاهر التنزيل لتناقض الوصفان، فكيف يكون فيه متشابه ويكون مبيناً كلّه وتبياناً لكلّ شيء؟

ومنها: وصفه بالكنّ والمجد، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون}(5)، وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ}(6)، فوصف الكرامة قريب من وصف المجد، ووصف المكنون قريب من وصف المحفوظ، ومعنى اللوح قريب من الكتاب.

____________

1- سورة الأنعام 6: 38.

2- سورة الأنعام 6: 59.

3- سورة العنكبوت 29: 49.

4- سورة آل عمران 3: 7.

5- سورة الواقعة 56: 77 ـ 78.

6- سورة البروج 85: 21-22.


الصفحة 104
ومن ثمّ وصف أيضاً {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(1) أي لا يصل إليه إلاّ من طهّره الله، لا المتطهّر بالوضوء والغسل. ومن ثمّ وصف أيضاً بتنزيل من ربّ العالمين أي له وجود علوي.

الثقل الأكبر هو القرآن الناطق:

إذا تبينت الأُمور الثلاثة المتقدّمة من أنّ حقيقة القرآن هي روح القدس وتلك الحقيقة هي عين ذواتهم (عليهم السلام)، وأنّ للقرآن مدارج ودرجات، وأنّ المصحف هو أنزل درجات، فهو القرآن النازل وهو تنزيل القرآن، وأمّا الدرجات العليا فهي حقيقة القرآن وهي أكثر عظمة وقدسية وبهاءً وسموّاً، وأنّ تلك الحقائق هي الثقل الأكبر، إذ كيف يكون الوجود النازل وهو المصحف أكبر من أُمّ الكتاب ومن الكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ شيء، ومن اللوح المحفوظ والكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلاّ المطهرون.

وتلك الحقائق الغيبية التي هي روح القدس مرتبطة وملتحمة مع أرواح الأئمّة (عليهم السلام) حقيقةً لا تنزيلاً واعتباراً، فالارتباط الحي الحيوي بروح القدس هو ذات الإمام (عليه السلام)، فالثقل الباقي بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) الأكبر لا محالة يكون الإمام والمصحف هو الأصغر، وعلى ذلك جملة من الشواهد:

الأوّل: ما ورد بنحو مستفيض ومتواتر أنّهم (عليهم السلام) القرآن الناطق والمصحف هو القرآن الصامت، ولا ريب أنّ القرآن الناطق هو الثقل الأكبر; إذ الناطق أعظم شرافة

____________

1- سورة الواقعة 56: 79.


الصفحة 105
من الصامت، بل أنّ ملحمة صفّين الكبرى تُسطّر ملحمة عقائدية للأئمّة أنّ القرآن الناطق هو عليّ (عليه السلام)، وأنّ المصحف قرآن صامت.

كما أنّ تلك الروايات المستفيضة في كونهم القرآن الناطق دلالة واضحة على هيمنة حجّيتهم على حجّية المصحف الشريف، أي حجّية ذواتهم الناطقة لا كلامهم المروي في الكتب الذي هو إمام صامت.

وفي الكافي روى فيما هو كالموثق عن مسعدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: "ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم أخبركم عنه ان فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم"(1).

الثاني: ما رواه الشريف الرضي في كتابه خصائص الأئمّة بسند صحيح عن أبي موسى الضرير البجلي وهو عيسى ابن المستفاد وهو وإن ضُعّف من النجاشي إلاّ أنّه مستند في ذلك إلى تضعيف ابن الغضائري المتسرّع، والحال أنّ مضامين رواياته عالية المعارف. عن أبي الحسن (عليه السلام) في خطبة الرسول (صلى الله عليه وآله) التي خطبها في مرضه، قال: "يا معاشر المهاجرين والأنصار ومن حضر في يومي هذا وساعتي هذه من الأنس والجنّ، ليبلغ شاهدكم غائبكم، ألا وأنّي قد خلّفت فيكم كتاب الله فيه النور والهدى والبيان لما فرض الله تبارك وتعالى من شيء حجّة الله عليكم وحجّتي وحجّة وليّي، وخلّفت فيكم العلم الأكبر علم الدين ونور الهدى وضياءه وهو عليّ بن أبي طالب، ألا وهو حبل الله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَة مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(2).

____________

1- الكافي 1 / 60.

2- سورة آل عمران 3: 103.


الصفحة 106
أيّها الناس، هذا عليّ، من أحبّه وتولاّه اليوم وبعد اليوم فقد أوفى بما عاهد عليه الله، ومن عاداه وأبغضه اليوم وبعد اليوم جاء يوم القيامة أصمّ وأعمى لا حجّة له عند الله.. وكلّ سُنّة وحديث وكلام خالف القرآن فهو زور وباطل، القرآن إمام هاد، وله قائد يهدي به ويدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وهو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) "(1).

ودلالة الرواية على أنّهم الثقل الأكبر في مواضع:

منها: وصف النبيّ (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام) بأنّه العلم الأكبر، علم الدين في مقابل المصحف الشريف، مع تكراره (صلى الله عليه وآله) للأوصاف التي ذكرها لنعت القرآن كأوصاف لعليّ أيضاً.

ومنها: تخصيصه (صلى الله عليه وآله) حبل الله بعليّ مع أنّ المصحف الشريف حبل الله، كما في الأحاديث الأُخرى إلاّ أنّ هذا التخصيص في هذه الرواية للتدليل على أنّه الحبل الأكبر.

ومنها: وصفه الكتاب بأنّه حجّة الله على الناس وحجّة الرسول وحجّة الوصيّ، فجعل المصحف الشريف حجّة لما هو مقام أعظم وهو مقام الله ورسوله ووليه.

ومنها: وصف عليّ (عليه السلام) بأنّه قائد للقرآن وأنّه الهادي به، مع أنّ القرآن إمام وهاد، فجُعلت القيمومة لعليّ على المصحف.

الثالث: إنّ المقابلة ليست بين كلام الله تعالى وكلام المعصوم; إذ لا ريب أنّ كلام الخالق فوق كلام المخلوق، بل هي بين كلامَي الخالق، أي الكلام النازل وهو تنزيل الكتاب وكلامه تعالى في الكتاب المكنون واللوح المحفوظ وأُمّ الكتاب.

ولك أن تقول: إنّ المقارنة ليست بين المصحف وكتب الحديث وروايات

____________

1- خصائص الأئمّة للسيد الرضي: 72 - 74 طبعة آستان قدس رضوي.


الصفحة 107
السنّة النبويّة وسنّة المعصومين; إذ لا ريب في عظمة المصحف على كتب الحديث فالحديث يُعرض على الكتاب، وإن كان متشابه المصحف يُعرض على محكمات كلّ من الكتاب والسنّة، فمتشابه السنّة يُعرض على محكمات الكتاب والسنّة، وكذلك الحال في متشابهات العقل في القضايا النظرية تُعرض على محكمات الكتاب والسنّة وبديهيات العقل.

فليس المقارنة بين الكتاب والمصحف العزيز وكتاب الحديث، وإنّما المقارنة هي بين المصحف وذات الإمام المعصوم نفسه (عليه السلام)، وقد وصف المصحف العزيز بأنّه القرآن الصامت أي الذي لا ينطق بنفسه في مقام التطبيق وتفاصيل الوقائع ولا متشابه الأُمور، بخلاف ذات المعصوم فإنّها وصفت بالقرآن الناطق; لأن ذات المعصوم تلتحم بذات الكتاب وأُمّ الكتاب والكتاب المبين.

فدرجات القرآن العليا التي هي جزء ذات المعصوم قرآن ينطق، فيرفع المتشابه في الأُمور، ويكون تلاوة للكتاب حقّ تلاوته، أي يتلو الآية ويطبّقها وينزل تطبيقها في حقّ المورد التي يجب أن تطبّق فيه.

وكذلك الحال في المقارنة بين ذات الإمام وكتب الحديث، فإنّ ذات الإمام إمام ناطق وكتب الحديث إمام صامت، ومن ثمّ لا يُستغنى بتراث حديث النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام) عن وجود الإمام المهدي(عج).

وبهذا يتّضح أنّ المقارنة ليس بين كلام الله وكلام المعصوم، بل المقارنة بين كلامَي الله، فإنّ ذات المعصوم هو كلام الله حقيقة، ألا ترى الإشارة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}(1)، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ..}(2).

____________

1- سورة آل عمران 3: 45.

2- سورة النساء 4: 171.


الصفحة 108
فأطلق على عيسى (عليه السلام) أنّه كلمة الله. وأيضاً لاحظ التعبير في قوله تعالى لزكريا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَة مِنَ اللَّهِ}(1)، أي مصدّقاً بعيسى بن مريم، والتعبير في قوله تعالى في شأن مريم: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ}(2)، فقوبل هنا بين الكلمات والكتب.

رابعاً: قد يُعترض على جعل أهل البيت الثقل الأكبر في مقابل المصحف الكريم، بأنّه مخالف للحديث النبويّ المستفيض وهو الوصية بالتمسّك بالثقلين، فإنّ الحديث وإن كان متواتراً إلاّ أنّ ما ورد فيه بلفظ الأكبر والأصغر هو في جلّ الطرق لا كلّها.

منها: ما رواه الشيخ المفيد في المجالس بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام)، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين.. سببٌ طرفه بيد الله وطرف بأيديكم تعملون فيه.. ألا وهو القرآن والثقل الأصغر أهل بيتي. ثمّ قال: وأيم الله إنّي لأقول لكم هذا ورجالٌ في أصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم"(3).

وروى في البحار أيضاً عن تفسير القمّي وغيره قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): "أما وأنّي سائلكم عن الثقلين كتاب الله الثقل الأكبر، طرفٌ بيد الله وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به"(4).

وروى أيضاً في البحار عن تفسير العياشي: "قال (صلى الله عليه وآله): الثقل الأكبر كتاب الله سبب بيد الله وسبب بأيديكم فتمسّكوا به لن تهلكوا أو تضلّوا، والآخر عترتي، وأنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"(5).

____________

1- سورة آل عمران 3: 39.

2- سورة التحريم 66: 12.

3- بحار الأنوار 12 / 475 نقلاً عن مجالس المفيد والأمالي للصدوق: 134.

4- البحار 23 / 129 و 36 / 328 و 89 / 27، تفسير القمي 1 / 3.

5- بحار الأنوار 37 / 141 تفسير العياشي 1 / 4.


الصفحة 109
وروى في البحار أيضاً عن كتاب النشر والطي، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أيّها الناس، إنّي تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر كتاب الله عزّوجلّ طرفٌ بيد الله تعالى وطرفٌ بأيديكم فتمسّكوا به، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي; فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، كاصبعي هاتين وجمع بين سبابتيه ولا أقول كهاتين وجمع بين سبابته والوسطى ـ فتفضل هذه على هذه"(1).

وروى في بصائر الدرجات عن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، قال: "الثقل الأكبر كتاب الله سببٌ طرفه بيد الله وسببٌ طرفه بأيديكم"(2).

وروى في الخصال عنه (صلى الله عليه وآله) قوله: "أمّا الثقل الأكبر فكتاب الله عزّوجلّ سببٌ ممدود من الله ومنّي في أيديكم، طرفه بيد الله والطرف الآخر بأيديكم، فيه علم ما مضى وما بقي إلى أن تقوم الساعة، وأمّا الثقل الأصغر فهو حليف القرآن وهو عليّ بن أبي طالب وعترته، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض"(3).

وتوضيح دفع الاعتراض:

أوّلاً: إنّ كلّ هذه الروايات قد وصفت الكتاب أو القرآن بالثقل الأكبر، فلم تأت بلفظ المصحف والكتاب، القرآن كما يطلق على المصحف يطلق على أُمّ الكتاب وعلى الكتاب المبين وعلى اللوح المحفوظ وعلى روح القدس، كما تقدّم ذلك مفصّلاً في استعمالات آيات السور والاستعمال الروائي، فالكتاب أو القرآن ذو درجات ومقامات متعدّدة.

ثانياً: القرينة على إرادة تلك المقامات العالية من لفظ الكتاب والقرآن في طرق حديث الثقلين الموصوف بالثقل الأكبر، وأنّه ليس المراد به مجرّد

____________

1- البحار 37 / 128.

2- بصائر الدرجات: 414.

3- الخصال 1 / 65.


الصفحة 110
المصحف الشريف، وصف (صلى الله عليه وآله) القرآن بأنّه سببٌ أحد طرفيه بيد الله والطرف الآخر بيد الناس، ومثله توصيفه بأنّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، ممّا يدلّل على أنّ الموصوف بالثقل الأكبر هو الدرجات الغيبية، كروح القدس وأُمّ الكتاب، وهي الطرف الذي بيد الله، فتكرار هذا الوصف بأنّ له طرفان تأكيد على كون أنّ وصف الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد الله.

ثالثاً: إنّه ورد في عدّة طرق من ألفاظ الحديث الشريف أنّهما لن يفترقا كاصبعي هاتين وجمع (صلى الله عليه وآله) بين سبابتيه، وليس كهاتين وجمع (صلى الله عليه وآله) بين سبابته والوسطى، وعلّل (صلى الله عليه وآله) ذلك لئلاّ يفضل أحدهما على الآخر ممّا يقضي بالتساوي، وأنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الذي بيد الله.

رابعاً: إنّه قد ورد في ألفاظ الحديث وصف مجموع الثقلين بأنّه حبل الله الممدود بينه وبين خلقه، ممّا يقضي بأنّ مجموع الثقلين هما حبل واحد باطنهما متّحد كحبل نوري واحد.

وقد تقدّم دلالة الآيات المتعرّضة لحقيقة ليلة القدر وإنزال روح القدس على العترة المطهّرة وتأييد أرواحهم به، كما في قوله تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(1)، وغيرها من الآيات.

ففي ما رواه النعماني في الغيبة من قوله (صلى الله عليه وآله): "ألا وأنّي مخلّف فيكم الثقلين: الثقل الأكبر القرآن، والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، هما حبل الله ممدود بينكم وبين الله عزّوجلّ، ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا، سببٌ منه بيد الله وسببٌ بأيديكم، إنّ اللطيف الخبير قد نبّأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كاصبعي هاتين ـ وجمع بين سبابتيه ـ ولا أقول كهاتين وجمع بين سبابته والوسطى فتفضل هذه على هذه"(2)

____________

1- سورة غافر 40: 15.

2- الغيبة للنعماني: 43.


الصفحة 111
وصفٌ في لفظ هذا الطريق لكلٍّ من الثقلين بأنّهما حبل الله الممدود، كما وصف (صلى الله عليه وآله) أنّ كلاًّ من الثقلين طرف منه بيد الله وطرف منه بيد الناس، كما أنّه (صلى الله عليه وآله) قرنهما بجمع السبابتين لا بجمع السبابة والوسطى; لئلاّ تفضل هذه على هذه.

فكلّ ذلك يؤكّد أنّ الأكبرية هي بلحاظ الطرف الغيبي في كلّ من المصحف والعترة ممّا ينتهي إلى يد الله وقدرته، ويزيدك وضوحاً في هذا المعنى أنّه قد ورد مستفيضاً وصف عليّ والعترة بأنّهم حبل الله، نظير ما رواه النعماني أيضاً وبسنده عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم جالساً ومعه أصحابه في المسجد، فقال: يطلع عليكم من هذا الباب رجل من أهل الجنّة يسأل عمّا يعني. فطلع رجل طوال يشبه برجال مضر، فتقدّم وسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا رسول الله، إنّي سمعت الله عزّوجلّ (صلى الله عليه وآله) يقول فيما أنزل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا}(1)، فما هذا الحبل الذي أمرنا الله بالاعتصام به وأن لا نتفرّق عنه؟ فأطرق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ملياً ثمّ رفع رأسه وأشار بيده إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: هذا حبل الله الذي من تمسّك به عُصم في دنياه ولن يضلّ به في آخرته. فوثب الرجل إلى عليّ (عليه السلام) فاحتضنه من وراء ظهره وهو يقول: اعتصمت بحبل الله وحبل رسوله، ثمّ قام فولّى وخرج"(2). وقد عقد النعماني باباً خاصّاً(3) في ذلك، كما روى غيره من المحدّثين من الخاصّة والعامّة مثل ذلك.(4)

____________

1- سورة آل عمران 3: 103.

2- الغيبة للنعماني: 42.

3- الغيبة للنعماني: 39.

4- قد ذكر السيد المرعشي في ملحقات إحقاق الحقّ هذا الحديث وهو وصف عليّ وأهل البيت بحبل الله عن مصادر غفيرة فلاحظ 4 / 285 - 288 و 14 / 384 - 521 و 13/385 و48 و 18 / 28 و535 و541 وغيره من المجلّدات، لاحظ الفهرس مادّة ح ب ل.


الصفحة 112
وهذه الأحاديث المستفيضة أو المتواترة شاهدة على أنّ وصف الحبل في حديث الثقلين هو لمجموع الثقلين، والحبل كناية أنّ الثقلين لهما امتداد ممدود من عند الله في النشأة الغيبية إلى أن يصل ممتدّاً إلى ما هو ظاهر بين يدي الناس وهو المصحف والعترة، كما أنّ توصيف جملة من الأحاديث في الثقل الأصغر كالذي رواه في العدد القوية من قوله (صلى الله عليه وآله): "معاشر الناس، أنّ عليّاً والطيبين من ولده هو الثقل الأصغر، والقرآن هو الثقل الأكبر"(1).

ومثل ما رواه ابن طاوس في اليقين عن عليّ (عليه السلام) قوله: "يا ابن عبّاس، ويلٌ لمن ظلمني ودفع حقّي وأذهب عنّي عظيم منزلتي، أين كانوا أولئك وأنا أُصلّي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) صغيراً لم يكتب عليّ صلاة، وهم عبدة الأوثان وعصاة الرحمن ولهم يوقد النيران؟! فلمّا قرب إصعار الخدود واتعاس الجدود أسلموا كرهاً وأبطنوا غير ما أظهروا; طمعاً في أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وتربّصوا انقضاء أمر رسول الله وفناء مدّته، لمّا أطمعوا أنفسهم في قتله ومشورتهم في دار ندوتهم قال الله عزّوجلّ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(2) و: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(3).

ولولا اتّقائي على الثقل الأصغر أن يُبيد فينقطع شجرة العلم وزهرة الدنيا وحبل الله المتين وحصنه الأمين ولد رسول ربّ العالمين...." الحديث(4).

وروى ابن طاوس في التحصين بسنده.. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا معاشر الناس، أمرني جبرئيل (عليه السلام) عن الله تعالى.. أن أعلمكم أنّ القرآن الثقل الأكبر، وأنّ وصييّ هذا وابناي ومن خلفهم من أصلابهم حاملاً وصاياهم الثقل الأصغر، يشهد الثقل الأكبر

____________

1- العدد القوية: 174.

2- سورة آل عمران 3: 54.

3- سورة التوبة 9: 32.

4- اليقين: 324.