وأخرج في البحار عن..... بسنده عن الكاظم، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حال مرضه، قال: "... أصحاب الكساء الخمسة، أنا سيدهم ولا فخر، عترتي أهل بيتي السابقون المقرّبون يسعد من اتّبعهم... اسودّت وجوه قوم وردوا ظماء مظمّئين إلى نار جهنّم، مزّقوا الثقل الأوّل الأعظم وأخّروا الثقل الأصغر، حسابهم على الله"(2).
وما روى المجلسي في البحار "... قال أمير المؤمنين: يا كميل نحن الثقل الأصغر والقرآن الثقل الأكبر وقد أسمعهم رسول الله.."(3).
وكذلك روى المجلسي في البحار: "ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر وركزت فيكم الإيمان؟"(4).
وهذا النمط من ألفاظ حديث الثقلين هو الآخر فيه جملة من القرائن الدالّة على أنّ نعت الأكبر أو الأعظم هو ليس مقتصر على المصحف الشريف، بل هو نعت للكتاب والقرآن، وهو اسمان كما تقدّم ـ صادقان في الدرجة الأولى على الوجود الغيبي للقرآن، وهو أُمّ الكتاب والكتاب المبين واللوح المحفوظ وروح القدس، ومن مراتبه النازلة المصحف الشريف، وهذه المراتب العالية كما هي متنزّلة في ألفاظ المصحف الشريف بنحو الوجود اللفظي وفي معانيه بطور عالم المعاني، فهو متنزّل أيضاً أي روح القدس ـ بحقيقته ووجود التكويني لا الاعتباري على العترة كما تقدّم مبسوطاً في دلالة الآيات والروايات من الفريقين على ذلك.
____________
1- التحصين: 582 وكذلك رواه ابن فتال في روضة الواعضين 1 / 94.
2- البحار 22 / 495.
3- البحار 74 / 276، وبشارة المصطفى: 29.
4- البحار 24 / 209.
فنعت الأكبر صفة للحبل الممدود من الله، طرفه بيده وتنزّله منشعب إلى المصحف والعترة الطاهرة. ومن القرائن التي تقدّمت من الروايات أيضاً أنّ أمير المؤمنين مع وصفه للعترة بالثقل الأصغر إلاّ أنّه وصفهم أيضاً بشجرة العلم وحبل الله المتين، وهو تأكيد على أنّ التسمية بالثقل الأصغر هو في مقابل الكتاب في درجاته العالية، كأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ وروح القدس، ولأجل تنزّله عليهم وراثةً عن رسول الله وصفوا بأوصاف الثقل الأكبر، وهو كونهم حبل الله المتين، مع أنّ الحبل ذو طرفين كما مرّ. وكذلك وصفهم بشجرة العلم فإنّه للدلالة على الامتداد من الأرض إلى سماء الغيب، فالنعت بالأصغر بلحاظ أنّهم أوعية لنزول القرآن، وهم قرآن ناطق بلحاظ أنّ النازل عليهم هو الأكبر.
ومن القرائن أيضاً: أنّ الثقل الأوّل الأعظم الذي مزّق ليس المراد منه مجرّد المصحف الشريف، إنّما يُراد منه عدم العمل بالكتاب، وقد تقدّم أنّ التطبيق الوحياني للكتاب إنّما يحصل بتوسّط العترة بتنزّل روح القدس. نعم، يبقى لتطبيق المصحف بحدود دائرة المحكمات في حال كون الموارد والحوادث بيّنة الوجه أنّه تطبيق يقيني.
روى العياشي عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "إنّما مثل عليّ (عليه السلام) ومثلنا من بعده من هذه الأُمّة كمثل موسى (عليه السلام) والعالم حين لقيه واستنطقه وسأله
وليس كلّ علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) علموه ولا صار إليهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا عرفوه; وذلك أنّ الشيء من الحلال والحرام والأحكام يرد عليهم فيُسألون عنه ولا يكون عندهم فيه أثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويستحون أن ينسبهم الناس إلى الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبوا فيطلب الناس العلم من معدنه.
فلذلك استعملوا الرأي والقياس في دين الله، وتركوا الآثار ودانوا الله بالبدع، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كلّ بدعة ضلالة، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن شيء من دين الله فلم يكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد (صلى الله عليه وآله).
والذي منعهم من طلب العلم منّا العداوة والحسد لنا. لا والله ما حسد موسى (عليه السلام) العالم، وموسى نبيّ الله يوحي الله إليه حيث لقيه واستنطقه وعرفه بالعلم، ولم يحسده كما حسدتنا هذه الأُمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ما علمناه وما ورثناه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يرغبوا إلينا في علمنا كما رغب موسى (عليه السلام) إلى العالم وسأله الصحبة ليتعلّم منه ويرشده، فلمّا أن سأل
____________
1- سورة الأعراف 7: 144.
2- سورة الأعراف 7: 145.
فقال موسى (عليه السلام) له وهو خاضع له يستعطفه على نفسه كي يقبله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}(2)، وقد كان العالم يعلم أنّ موسى (عليه السلام) لا يصبر على علمه، فكذلك والله يا إسحاق بن عمّار حال قضاة هؤلاء وفقهائهم وجماعتهم اليوم لا يحتملون والله علمنا، لا يقبلوه ولا يطيقونه ولا يأخذون به ولا يصبرون عليه كما لم يصبر موسى (عليه السلام) على علم العالم حين صحبه ورأى ما رأى من علمه، وكان ذلك عند موسى (عليه السلام) مكروهاً وكان عند الله رضاً وهو الحقّ، وكذلك علمنا عند الجهلة مكروه لا يؤخذ وهو عند الله الحقّ"(3).
يشير الإمام (عليه السلام) في هذه الرواية إلى أنّ العلم بالكتاب المبين ليس هو مجرّد العلم بالمصحف الشريف كي يظنّ من ألمّ بالمصحف الشريف أنّه قد استغنى عن علم أهل البيت (عليهم السلام)، مع أنّ الإحاطة بكلّ المصحف ومحتملاته وتناسبات الآيات مجموعها ضمن منظومة مترامية لا تقف عند حدٍّ مفاداً وعدداً.
وبعبارة أُخرى: أنّه وصف القرآن في أُمّ الكتاب وفي اللوح المحفوظ والكتاب المبين وروح القدس بأوصاف تختلف عن أوصاف المصحف الشريف، ومن ذلك يتبيّن أنّ نعت الأكبرية للثقل إنّما هي بلحاظ الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ، لا بلحاظ مجرّد المصحف الشريف.
ومن الواضح أنّه لا سبيل للناس في الوصول إلى ما في الكتاب المبين وأُمّ الكتاب واللوح المحفوظ إلاّ عن طريق أهل البيت الذين يحيطون بذلك
____________
1- سورة الكهف 18: 68.
2- سورة الكهف 18: 69.
3- البرهان 5 / 54 ـ 55 في ذيل آية 82 من سورة الكهف عن تفسير العياشي 2 / 357.
أمّا النعت الأوّل كقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء}(1)، ممّا يدلّ على إحاطة الكتاب بكلّ شيء، وهذا وصف القرآن بالكتاب المبين. وكذلك قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبين}(2)، وقوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(3).
وقوله تعالى: {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(4)، وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء وَهُدًى وَرَحْمَةً}(5)، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَة فِي السَّمَاءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(6)، وقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}(7)، وأثر التصدع إنّما هو نعت لذلك الوجود من القرآن الكريم، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}(8)، فنعت قدرة تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى وصف للقرآن بلحاظ ذلك الوجود، ومن الواضح أنّ نعت الأكبر مناسب وأنسب لهذا المقام من القرآن، وأنّ المصحف الشريف والعترة الطاهرة هما السبب الذي بيد الناس من الحبل
____________
1- سورة الأنعام 6: 38.
2- سورة الأنعام 6: 59.
3- سورة يونس 10: 61.
4- سورة الرعد 13: 39.
5- سورة النحل 16: 89.
6- سورة النمل 27: 75.
7- سورة الحشر 59: 21.
8- سورة الرعد 13: 31.
أمّا النعت الثاني وهو ورود القرآن بنعت من يحيط بأُمّ الكتاب والكتاب المبين واللوح المحفوظ وروح القدس، كما في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(1)، والمطهّرون الذين شهد لهم القرآن بالطهارة وهم أهل آية التطهير {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً}(2)، وعرّفهم تعالى في آية أُخرى حيث قال: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(3).
وهذه الآية تفسّر قوله تعالى المتقدّم: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْء}(4)، حيث إنّ الآية الكريمة تصرّح بأنّ الكتاب بجملته آيات بينات في صدورهم، مع أنّ المصحف الشريف نعت بأنّ منه آيات محكمات وأُخر متشابهات، بينما وصف الكتاب الذي في صدورهم بأنّه بتمامه آيات بينات.
وروى الكليني بسند معتبر عن الحسن بن العبّاس بن الحريش، عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام)، قال: "قال أبو عبد الله (عليه السلام): بينا أبي (عليه السلام) يطوف بالكعبة إذ رجل معتجر قد
____________
1- سورة الواقعة 56: 77-80.
2- سورة الأحزاب 33: 33.
3- سورة العنكبوت 29: 49.
4- سورة النحل 16: 89.
ثمّ ذكر مسائلة إلياس النبيّ للإمام الباقر (عليه السلام) عن حقيقة علم سيد الأنبياء وعلم أوصياءه، وحقيقة العلم المتنزّل ليلة القدر من أُمّ الكتاب والكتاب المبين، وأنّه يتنزّل على الوصيّ حجّة الله في أرضه، حيث قال الباقر (عليه السلام): "أبى الله عزّوجلّ بعد محمّد (صلى الله عليه وآله) أن يُترك العباد ولا حجّة عليهم، قال أبو عبد الله (عليه السلام): ثمّ وقف فقال: ها هنا يا ابن رسول الله بابٌ غامضٌ، أرأيت إن قالوا: حجّة الله القرآن؟ أي المصحف قال: إذن أقول لهم إنّ القرآن ليس بناطق يأمر وينهي، ولكن للقرآن أهلٌ يأمرون وينهون، وأقول: قد عرضت لبعض أهل الأرض مصيبة ما هي في السنّة والحكم الذي ليس فيه اختلاف وليست في القرآن ـ أي المصحف ـ أبى الله لعلمه بتلك الفتنة أن تظهر في الأرض وليس في حكمه رادّ لها ومفرّج عن أهلها، فقال: ها هنا تفلجون يا ابن رسول الله الفتنة أن تظهر في الأرض... أشهد أنّ الله عزّ ذكره قد علم بما يصيب الخلق من مصيبة أو في أنفسهم من الدين أو غيره فوضع القرآن دليلاً قال فقال الرجل هل تدري يا ابن رسول الله دليل ما هو قال أبو جعفر (عليه السلام) نعم فيه جمل الحدود وتفسيرها عند الحكم فقال أبى الله أن يصيب عبداً بمصيبة في دينه أو في نفسه أو في ماله ليس في أرضه من حكمه قاض بالصواب في تلك المصيبة قال فقال الرجل أما في هذا الباب فقد فلجتهم بحجة الا أن يفترى خصمكم على الله فيقول ليس لله جلّ ذكره حجة"(1).
فبين (عليه السلام) أنّ حجّية المعصوم الناطق مهيمنة رتبةً على حجّية المصحف.
____________
1- الكافي 1 / 246.
على مَنْ يتنزّل
الروح والملائكة في ليلة القدر؟
لا ريب أنّ ليلة القدر كانت تتنزّل على خاتم الأنبياء، كما هو نصّ القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}(1)، أي أنزلنا القرآن، وكذا سورة الدخان من قوله تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة}(2)، وقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}(3)، وهو النزول لجملة القرآن وحقيقته كما تقدّم بيانه، والذي هو الروح النازل ليلة القدر روح القدس، كما أنّه بمقتضى روايات الفريقين التي مرّ استعراضها كانت تتنزّل على الأنبياء السابقين منذ آدم (عليه السلام) إلى نبيّنا (صلى الله عليه وآله)، وهو مقتضى الأدلّة العقلية، حيث إنّ عالم ولوح القضاء والقدر وإمضائه في عالم الدنيا
____________
1- سورة القدر 97: 1.
2- سورة الدخان 44: 1 - 3.
3- سورة البقرة 2: 185.
أمّا الآيات القرآنية الدالّة على الاستمرار، فمضافاً إلى الضرورة بين المسلمين على استمرار ليلة القدر، يقع الكلام في معرفة من تتنزّل ليلة القدر عليه بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فهنا جانبان من البحث:
الأوّل: في استمرار ليلة القدر.
الثاني: على من تتنزّل ليلة القدر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
والآيات تفيد كلا الجانبين، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر}(1)، فالتعبير بتنزّل ـ جملة فعلية بالفعل المضارع الدالّة على الاستمرار، وكذا قوله في سورة الدخان: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(2)، بنفس التقريب المتقدّم، فإنّه قد وصف الليلة المباركة التي يتنزّل فيها بالجملة الفعلية بالفعل المضارع، وإنّ شأن هذه الليلة على الدوام أن يُفرق فيها كل أمر حكيم، وأن يُرسل فيها الروح إلى من يصطفيه الله من عباده في الأرض.
____________
1- سورة القدر 97: 1 - 4.
2- سورة الدخان 44: 4 - 5.
نزول الروح وحيٌ رباني:
وأمّا الثاني: كما أنّ نزول الروح والملائكة من كلّ أمر أي بكلّ أمر يقتضي وجود من تُرسل إليه تقادير الأُمور، إذ لا يعقل إرسال من دون مرسل إليه بعد تصريح سورة الدخان وغيرها بإنّه إرسال كما هو إنزال، وتصريحها بالمرسل به والمرسل، فلابدّ من وجود مرسل إليه، مع أنّ الآيات الأُخرى صرّحت بالمرسل إليه.
وبعبارة أُخرى: إنّ نزول الروح في استعمال القرآن هو نمط من الوحي الإلهي في القرآن الكريم ومصطلح قرآني دالّ على الوحي، وإن كانت أقسام الوحي الإلهي في القرآن الكريم غير منحصرة بالوحيّ النبوي، كما في مورد مريم وأُمّ موسى وذي القرنين وطالوت وصاحب موسى الخضر ـ وغيرها من الموارد، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}(1)، فلم يخصّص التكليم الإلهي بالأنبياء والرُسل، بل عمّم إلى المصطفَين والحجج من البشر، كما هو الحال في مريم وأُمّ موسى، وقد عبّر عن الوحي بنزول الروح في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}(2)، وقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ أَلرُّوحُ أَلاَْمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ}(3)، وإن كانت هذه الآية تشير إلى النزول الثاني للقرآن وهو تنزيل المعاني والألفاظ، لكنّه تعبير عن الوحي، وكذا قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا
____________
1- سورة الشورى 42: 51.
2- سورة النحل 16: 102.
3- سورة الشعراء 26: 193-194.
وهذا يعني أنّ في ليلة القدر من كلّ عام يقع هذا الوحي الإلهي والنزول، ومن ثمّ عبّر تعالى في سورة الدخان: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(2)بالإرسال، أي أنّ هذا الروح الأمري مرسل من قبله تعالى إلى مُرسَل إليه من البشر، كما في ذيل آية الشورى من قوله تعالى: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ}(3)، فسورة الدخان أيضاً تدلّ على أنّ في ليلة القدر هناك وحي إلهي عبّرت عنه بالقول: {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}، وكذلك في قوله تعالى في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ}(4)، فصرّحت الآية الكريمة بأنّ نزول الروح هو على من يشاء الله أي من يصطفيه لذلك من العباد من دون التقييد بالنبوّة.
فهذا النزول للروح هو وحي وهو نازل على من يشاء ويصطفيه من عباده، وكذا قوله تعالى في سورة غافر: {ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}(5)، وإلقاء الروح الأمري عبارة عن نزوله وإرساله، نظير التعبير بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا}(6)وجعل في الآية الملقى إليه الروح هو من يشاء ويصطفي من عباده من دون التقييد بعنوان النبوّة والرسالة والاصطفاء، فقد تعلّق بمريم، كما تعلّق بطالوت الإمام غير
____________
1- سورة البقرة 2: 97.
2- سورة الدخان 44: 1 - 5.
3- سورة الشورى 42: 51.
4- سورة النحل 16: 2.
5- سورة غافر 40: 15.
6- سورة الشورى 42: 52.
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}(2) الضمير في (جعلناه نوراً) الظاهر عوده إلى الروح الأمري; إذ لو كان يعود إلى الروح الذي هو مبتدء الكلام في الآية ويكون المراد أنّ الروح الأمري يجعله الله نوراً ويوحي ويهدي به من يشاء من عباده ويصطفيهم لذلك فيحصل لهم العلم ودراية الكتاب والإيمان.
والحاصل: أنّ تعميمه تعالى إلى من يوحى إليه الروح الأمري غير النبيّ (صلى الله عليه وآله) يدلّ على عموم ظرف الإيحاء للحجج المصطفين من العباد الإيحاء والوحي به، وقد قرّر في روايات الفريقين كما هو ظاهر سورة القدر والدخان أنّ هذا الوحي غير مرتبط بوحي النبوّة والرسالة، وإنّما هو وحي إلهي مرتبط بتقدير الأُمور وقضائها وإبرامها الذي هو من تأويل الكتاب، وقد عبّر في سورة النحل بأنّ هذا النزول والوحي الإلهي غير النبويّ هو على من يشاء من عباده، فعبّر بلفظ عباده ولم يؤت بلفظ أنبيائه أو رسله; للدلالة على العموم عموم المصطفَين الذين اختارتهم المشيئة الإلهية لذلك.
ومقتضى ذلك وجود ثلّة في هذه الأُمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) تتنزّل عليهم الروح ليلة القدر، وقد أُشير إليهم في سورة الواقعة والأحزاب حيث قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(3)، فأخبر أنّ القرآن الذي في الكنّ محفوظ كما في سورة البروج من قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْح مَحْفُوظ}(4)، فأخبر تعالى أنّ القرآن
____________
1- سورة البقرة 2: 247.
2- سورة الشورى 42: 52.
3- سورة الواقعة 56: 77 - 80.
4- سورة البروج 85: 21-22.
فيتبيّن من ضمّ الآيات بعضها إلى بعض أنّ من يتنزّل عليه الروح الأمري من يشاء الله ويصطفيه من عباده كما في سورة النحل وهم أهل آية التطهير، فإنّهم يمسّون الكتاب في ليلة القدر في الليلة المباركة.
نسب النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته هو سورة القدر:
حيث يتبيّن ممّا مضى أنّ روح القدس الذي هو القرآن الكريم كما هو ملتحم بروح النبيّ (صلى الله عليه وآله) كذلك ملتحم بروح أوصياء النبيّ (صلى الله عليه وآله) من بعده واحد بعد آخر، حيث يتنزّل عليهم الروح ليلة القدر، بل أنّ ظاهر سورة النحل عدم اختصاص التنزّل عليهم بليلة القدر، وقد أشارت إلى ذلك جملة من الروايات عنهم (عليهم السلام)، فهذا النزول والوحي بهذا الروح لهم هو المعرّف لهويتهم ونسبهم الروحي لشخصية ذواتهم ونسب مقام ذاتهم (عليهم السلام).
في صحيحة ابن أُذينة التي رواها الكافي عن أبي عبدالله (عليه السلام) في صلاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في السماء في حديث الإسراء، قال (عليه السلام): "ثمّ أوحى الله عزّوجلّ إليه: إقرأ يا محمّد نسبة ربّك تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * أَللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *
____________
1- سورة الأحزاب 33: 33.