فهذا التعريف لهوية النبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) هو نظير تعريف الإنسان بالنطق الذي هو الروح العاقل، أي تمييز وتعريف الشخص بالمراتب العالية الوجودية من ذاته، ونظير ذلك تعريف القرآن النبيّ عيسى (عليه السلام) بأنّه كلمة الله وأنّه آية، لكن لا يخفى أنّ في آيات خلقة النور في سورة النور و روايات خلق النور يظهر أن أُصول ذواتهم خلقا ما هو أرفع من روح القدس.
وفي رواية بصائر الدرجات عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) في حديث عن ولادة الإمام (عليه السلام) وما يرافق ذلك من مراسم ملكوتية وأنّ الإمام (عليه السلام) يقول بعد ذلك: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(3)، فإذا قالها أعطاه العلم الأوّل والعلم الآخر، واستحقّ زيادة الروح في ليلة القدر(4).
وروي عن الحسن بن عبّاس بن حريش، قال: "قال أبوعبدالله (عليه السلام): إنّ القلب الذي يعاين ما ينزل في ليلة القدر لعظيم الشأن. قلت: وكيف ذاك يا أبا عبد الله؟ قال: يُشق والله بطن ذلك الرجل ثمّ يؤخذ ويكتب عليه بمداد النور ذلك العلم، ثمّ يكون القلب مصحفاً للبصر، ويكون الأذن واعيةً للبصر، ويكون اللسان مترجماً للأذن، إذا أراد ذلك الرجل
____________
1- سورة الإخلاص 112: 1-4.
2- الكافي 3 / 485.
3- سورة آل عمران 3: 18.
4- بصائر الدرجات: 223 باب ما يُلقى إلى الأئمّة في ليلة القدر.
والمراد من شقّ البطن أي انفتاح نوافذ الروح، وقريب من ذلك ما روي في معاني الأخبار بسنده إلى الأصبغ بن نباتة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يا علي، أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول الله، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، وكان فيما قدّر عزّوجلّ ولايتك وولاية الأئمّة من ولدك إلى يوم القيامة"(2). وروى مثلها بإسناده المتّصل عن المفضّل بن عمر عنه (عليه السلام).
فكون الروح النازل وهو روح القدس وهو أحد أرواحهم (عليهم السلام) يبيّن هوية ولايتهم والتي هي الكتاب المبين، وقد تقدّم نعوت الكتاب المبين وآثار القدرة والولاية التكوينية له، ووصفه بالمجد في سورة البروج والكرامة في سورة الواقعة، إشارة إلى آثار القدرة لحقيقة الكتاب التي هي روح القدس.
وفي صحيحة جابر الجعفي، قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام) في حديث عن أصناف الخلق: "فالسابقون هم رسول الله وخاصّة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عزّوجلّ، وأيدهم بروح القوّة فبه قدروا على طاعة الله، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عزّوجلّ وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون"(3).
وفي رواية أُخرى لجابر عن أبي عبدالله (عليه السلام)، قال: "سألته عن علم العالم؟ فقال لي: يا جابر، إنّ في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح
____________
1- بصائر الدرجات المورد السابق.
2- معاني الأخبار للصدوق: 315.
3- الكافي 1 / 271 كتاب الحجّة باب ذكر الأرواح التي في الأئمّة (عليهم السلام).
وفي رواية المفضّل بن عمر عن أبي عبدالله (عليه السلام): "سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخي عليه ستره؟ فقال: يا مفضّل، إنّ الله تبارك وتعالى جعل في النبيّ (صلى الله عليه وآله) خمسة أرواح:.... وروح القدس فبه حمل النبوّة فإذا قُبض النبيّ (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار إلى الإمام، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو، وروح القدس كان يُرى به"(2).
وهذه النعوت لروح القدس المذكورة فيهم وهو النازل عليهم ليلة القدر، بل وفي غيرها أيضاً كما هو مقتضى سورة النحل(3) وسورة غافر(4)، حيث لم يقيّد إنزاله بوقت خاصّ، وروح القدس النازل الملتحم بأرواحهم المتّصل بها كما هو معنى الوحي في الحكمة والعلوم العقلية، قد عرّف وطوبق في سورة الدخان بالكتاب المبين: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْر حَكِيم * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(5)، فجُعل الكتاب المبين هو الروح النازل في ليلة القدر.
وقد تقدّم وصف الكتاب المبين بأنّه يُستطرّ فيه كلّ شيء وكلّ غائبة في السماوات والأرض وكلّ صغيرة وكبيرة، وهو القرآن الكريم في الكتاب المكنون والقرآن المجيد في اللوح المحفوظ، وهذا معنى قوله (عليه السلام): "فبه حمل النبوة"، وقوله (عليه السلام): "كان يُرى به"، أي ما في أقطار الأرض وما في عنان السماء وما دون
____________
1- الكافي 1 / 272 كتاب الحجّة باب ذكر الأرواح التي في الأئمّة (عليهم السلام).
2- المصدر السابق.
3- سورة النحل 16: 2.
4- سورة غافر 40: 15.
5- سورة الدخان 44: 1 - 5.
روح القدس وراثتهم (عليه السلام) للكتاب وعلوم النبيّ (صلى الله عليه وآله):
فقوله (عليه السلام) في الرواية السابقة للمفضّل عن أبي عبدالله (عليه السلام): "إذا قُبض النبيّ (صلى الله عليه وآله) انتقل روح القدس فصار إلى الإمام"، هو معنى وراثتهم (عليهم السلام) للكتاب أي لحقيقة الكتاب الذي هو مكنون ولوح محفوظ، لا للمصحف الشريف الذي هو الوجود المنقوش للقرآن الكريم، فقوله تعالى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ * ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}(1) يشير إلى الوراثة التكوينية لحقيقة الكتاب بوجوده الوحياني في عالم الوحي، لا الكتاب بوجوده المنقوش في المصحف، من هنا فإنّ تخصيص الوراثة بالمصطفَين من العباد، فإنّ الإصطفاء هو الطهارة الروحية الخاصّة اللدنية التي يتأهّل بها المصطفون من العباد للوحي الإلهي الأعمّ من الوحي النبويّ وغيره، كما في تأهّل مريم لمحادثة الملائكة لها ووحي الله لها مباشرة، كما في سورة آل عمران.
ومن ثمّ ترى نسق التعبير والتركيب في الآية الكريمة على نسق التعبير في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ}(2)، فالتعبير فيها على من يشاء من عباده أي من يختار ويصطفي،
____________
1- سورة فاطر 35: 31 - 32.
2- سورة النحل 16: 2.
فإرسال الروح وحصول الإنذار لا يختصّ بالوحي النبويّ، بل يعمّ الوحي غير النبويّ وراثة بعد الأنبياء، كما تعلّق البعث الإلهي بطالوت الإمام مع عدم كونه نبيّاً في قوله تعالى على لسان نبيّ من بني إسرائيل: {قَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}(3).
وأمّا التعبير بالآية: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}(4)فالضمير ليس عائد إلى الذين اصطفينا بل إلى عبادنا، أي أنّ عبادنا بعضٌ ظالم لنفسه وبعضٌ مقتصد وبعضٌ سابق بالخيرات، كما أنّ الذين اصطفيناهم بعضٌ من عبادنا، فلفظ (من) التي تكرّرت أربع مرّات في الآية بمعنى بعض; وإلاّ كيف يصطفي الله الظالم لنفسه؟
ومنه يُعرف أنّ المراد من السابق بالخيرات هم الذين اصطُفوا من العباد، وأنّهم الأئمّة، وأنّ الإمامة وهي وراثة الكتاب هي الفضل الكبير، والتعبير بالسابق بالخيرات بإذن الله يقرب من التعبير في سورة الأنبياء في قوله تعالى:
____________
1- سورة الشورى 42: 52.
2- سورة التوبة 9: 122.
3- سورة البقرة 2: 247.
4- سورة فاطر 35: 32.
وكذلك في سورة القدر قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر}(3) وكذلك في سورة الشورى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ}(4)، وهذا ممّا يشير أنّ روح القدس من عالم الأمر الملكوتي الابداعي.
وقد ذُكر عالم الأمر في قوله تعالى {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَْمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}(5)، وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(6)، وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْح بِالْبَصَرِ}(7)، أي أنّه من عالم الإبداع لا الخلق التقديري، ومن ثمّ ورد أنّ تقدير السماوات والأرض أي عالم الملك والمادة أي ما يشمل عالم الدنيا وعالم البرزخ ـ كلّ ذلك قد قُدّر في ليلة القدر.
وقد مرّ في الروايات أنّ تقدير ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) في مقامها التكويني قد قدّر في ليلة القدر، فقد روى الصدوق في معاني الأخبار بإسناده إلى المفضّل بن
____________
1- سورة الأنبياء 21: 73.
2- سورة النحل 16: 2.
3- سورة القدر 97: 4.
4- سورة الشورى 42: 52.
5- سورة الأعراف 7: 54.
6- سورة يس 36: 82.
7- سورة القمر 54: 50.
ولا يخفي التعريض في كلامه (عليه السلام) بين تقدير السماوات والأرض وتقدير ولاية أمير المؤمنين من الناحية الكونية التكوينية، ودور روح القدس، وتناسب سجود الملائكة كلّهم أجمعين، أي طاعتهم لخليفة الله في الأرض كما في سورة البقرة وغيرها من السور، سواء ملائكة الأرض أو ملائكة السماوات أو ملائكة الجنّة والنار.
وقد ورد أيضاً أنّ روح القدس أعظم خلقاً، ففي صحيح أبي بصير، قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ}(1)؟ قال: خلق من خلق الله عزّوجلّ أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخبره ويسدّده، وهو مع الأئمّة من بعده"(2).
وفي صحيحه الآخر قال: "سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}(3)؟ قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مع الأئمّة وهو من الملكوت"(4).
وفي معتبر أسباط بن سالم عنه (عليه السلام): "منذ أنزل الله عزّوجلّ ذلك الروح على
____________
1- سورة الشورى 42: 52.
2- الكافي 1 / 273 كتاب الحجّة باب الروح التي يسدّد الله بها الأئمّة (عليهم السلام).
3- سورة الإسراء 17: 85.
4- الكافي 1 / 273 كتاب الحجّة باب الروح التي يسدّد الله بها الأئمّة (عليهم السلام).
وفي صحيح سعد الإسكافي، قال: "أتى رجلٌ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟ فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): جبرئيل (عليه السلام) من الملائكة والروح غير جبرئيل، فكرّر ذلك على الرجل، فقال له: لقد قلتَ عظيماً من القول ما أحد يزعم أنّ الروح غير جبرئيل، فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّك ضالّ تروي عن أهل الضلال، يقول الله تعالى لنبيّه (صلى الله عليه وآله): {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ}(2)، والروح غير الملائكة صلوات الله عليهم"(3).
وحيث كانت ليلة القدر وراثة الكتاب بنزول روح القدس الذي هو حقيقة الكتاب، ورد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "يا معشر الشيعة خاصموا بسورة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} تفلحوا; فوالله إنّها لحجّة الله تبارك وتعالى على الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّها لسيدة دينكم وأنّها لغاية علمنا، يا معشر الشيعة خاصموا بـ {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}(4)، فإنّها لولاة الأمر خاصّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) "(5).
ولا يخفى أنّ في كلامه (عليه السلام) محطّات للتدبير والغور، منها: وصفه لسورة القدر أنّها سيدة دينكم إي حقيقتها مرتبطة بإلامامة الالهية، وفيه إشارة لكون الامام الناطق ثقل أكبر مهيمن على حجّته المصحف.
ومنها: قوله (وأنّها لغاية علمناه) أي أنّ عمده ما ورثوه من العلم عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) هو بتوسّط روح القدس، لا الطرق السماعية والرواية.
____________
1- المصدر السابق.
2- سورة النحل 16: 1 - 2.
3- الكافي 1 / 274 كتاب الحجّة باب الروح التي يسدّد الله بها الأئمّة (عليهم السلام).
4- سورة الدخان 44: 1 ـ 3.
5- الكافي 1 / 193 ح6.