الصفحة 226

الفائدة الخامسة:

إنّ الأئمّة (عليهم السلام) يطبّقون الشريعة الكونية في السنّة الإلهية التكوينية ويعملون بموازينها جنباً إلى جنب عملهم بالشريعة بدرجة الظاهرة.

وبتعبير آخر: إنّ الأئمّة في تطبيقهم للشريعة الظاهرة يستخدمون كلتا الوسيلتين: العلم اللدني والعلم الحسّي، ويشهد لذلك تعليلهم لبعض القضايا بعلم القضاء والقدر، مثل: "شاء الله أن يراهنّ سبايا".

وشاهد آخر: إقدامهم على ما يعلمون، كالإقدام على القتل، فإنّ تفسيره الصحيح هو العلم اللدني، حيث كان استشهادهم بعد إجراء قانون التزاحم بين الملاكات الكاملة أولى(1).

وظهر أيضاً: أنّ مهمّة الهداية الإيصالية لا تخصّ الملائكة - كما يظهر ذلك من العامّة - بل تعمّ قسماً من البشر الذين يتمتّعون بمواصفات خاصّة، بل يظهر من القرآن أنّهم أكمل من الملائكة..

____________

1- نحن لا نرمي بأطروحتنا هذه التفكيك والعمل بالنقل بلا أُصول وبمعزل عن العقل، وإنّما أردنا التنبيه على عدم الجمود على قواعد الفلسفة والعرفان والكلام، مع قبول فائدتها لتكون عملية التفقّه في العقائد تامّة، وإنّما لابدّ من الترقّي بالتوغّل أكثر في الكتاب وروايات أهل البيت لاكتشاف معارف قصرت المناهج تلك من الوصول إليها، وهي مستمدّة ومعتمدة على قواعد بديهية في الروايات لم يتنبّه إليها في الفلسفة، بل قد تدفع إلى إعادة النظر في تلك القواعد كالحركة التكاملية في المجرّدات.

فلا معنى للجمود على قواعد نظرية قد تكون مترامية في نظريتها، وتأويل ما هو بديهيونصّ في الروايات من أنّ هناك حركة اختيار ومخالفة الأمر في عالم الملائكة.


الصفحة 227
وظهر كذلك أنّ الإمامة غاية النبوة وأنّ الهداية الإيصالية غاية الهداية الإرائية.

وهذه النكتة هي المحور الأصلي في القصّة، بقرينة أسى النبي الذي ورد في أوّل السورة: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}(1)، فكانت قصّة الخضر وغيرها لتطمين النبيّ (صلى الله عليه وآله) بأنّ الهداية الإيصالية موجودة وبواسطتها ستتحقّق الأغراض المجموعية والفردية للشريعة الظاهرة.

فإنّ الإرادة الإلهية لمّا كانت تعني بالتحفّظ على أغراض الشريعة الكلّية في الجزئيات التفصيلية بالنسبة إلى عموم المجتمع، وبالأغراض التي تعدّ استراتيجية بالنسبة إلى الشريعة الظاهرة، كما نلحظ ذلك في قضية الخضر، فإنّه يدلّ بالأولوية على أنّ الإرادة الإلهية والهداية الإيصالية لا تهمل ما كان بالغ الأهمّية في الشريعة الظاهرة كالشؤون المرتبطة بالدولة والحكم وهداية المجموع.

الخلاصة: استعراض لأهمّ المحاور التي وردت في هذه الآيات الكريمة:

المحور الأوّل: وجود تشكيلة من أولياء الله الذين اختارهم الله حججاً على عباده يقومون بدور وظّفوا له ومن وراء الستار، وقد جاء في سورة الكهف(2) ذكر مواصفاتهم.

المحور الثاني: إنّ الإمامة غاية النبوّة، وقد جاءت القصّة لتؤكّد هذا الأمر وطمأنة للنبيّ (صلى الله عليه وآله) بأنّ الهداية الإيصالية ستتكفّل تحقيق أغراض الشريعة الظاهرة والهداية الإرائية التي قام بها الرسول الأعظم على أكمل وجه.

المحور الثالث: هناك قسم آخر من الحجج وراء الرسالة والنبوّة والإمامة، والذي تمثّله الزهراء (عليها السلام) ومريم (عليها السلام) والخضر (عليه السلام) مع حفظ الفارق، وقد أشارت

____________

1- سورة الكهف 18: 6.

2- سورة الكهف 18: 45.


الصفحة 228
الروايات(1) إلى هذا القسم.

المحور الرابع: وجود شريعتين ظاهرة وكونية في الإرادات ومن دون بينونة بينهما.

المحور الخامس: الملاك والحكم في الشريعتين أو درجتي الشريعة واحد، إنّما الاختلاف في وسيلة الإحراز والإنفاذ.

المحور السادس: التزاحم الملاكي ظاهرة غالبة في الشريعة الكونية، وحلّه هو ترجيح أحد الملاكين الأهم، يتمّ بواسطة العلم اللدني بعد مقايسة بين الملاكين ولكن لا بحدود ضيقة مقطعية.

المحور السابع: إنّ الملائكة في قوس النزول مخاطبون ومكلّفون بالدين والشريعة في السنن والإرادات الإلهية الكونية، بعد أن كانت لهم إرادة واختيار وتكامل ممّا يمكن به تعقّل التكليف والطاعة والمخالفة، مع قبول عصمتهم وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم، مع الالتفات إلى تبعيتهم في الدين للأنبياء والرسل الذين لهم مقام الإمامة وخلافة الله في الأرض، كما أسجدهم الباري تعالى لآدم والذي يهدف إلى خضوعهم وتبعيتهم لخليفة الله في أرضه، هذا بعد أن كانت شرائع الأنبياء مشتملة على قوس النزول والصعود والفروع. وبعبارة أُخرى: أنّ الشرائع التي بُعث بها الأنبياء وإن كانت مختصّة بأهل الأرض من الإنس والجنّ لكنّ الدين المتّحد بين الأنبياء فهو عامّ لأهل السماء والملائكة، كما أنّه عامّ لكلّ النشآت والخلائق.

المحور الثامن: ولاية كلّ نبيّ ورسول مقام أرفع من نبوّته وإمامته، ولكنّ النبيّ أرفع مقاماً من الوليّ الحجّة المعاصر له; حيث كان الأوّل محيطاً بالإرادات

____________

1- البحار ج23 باب أنّ الأئمّة محدّثون.


الصفحة 229
الكلّية والثاني بالجزئية، فهو تابع للأوّل.

المحور التاسع: إلفتنا لأقسام التأويل وفرق الباطن عن الظاهر وفرق الشريعة الكونية عن الظاهر، ولمّا كان الأوّل مأخوذاً فيه الانتهاء والرجوع أمكن أن نضع إصبعنا على الجامع بين الأقسام: إنّ كلّ عالم سابق له تأويله في اللاحق.

ونضيف: أنّ هناك عكس التأويل، فعالم الذرّ والميثاق يفسّران العديد من الظواهر التي تجري لأشخاص في النشأة، وبتعبير أوضح: كما أنّ النشأة اللاحقة تأويل للسابقة، كذا السابقة لها نوع تفسير للاّحقة، وهذا هو الذي أشارت له أخبار الطينة: "لو علم الناس كيف خلق الله تبارك وتعالى هذا الخلق لم يلم أحدٌ أحداً...."(1)وكذا روايات الذرّ والميثاق.

المحور العاشر: إنّ الهداية الإيصالية هداية المجموع والجميع; فإنّها كما تعني بالأغراض المرتبطة بالمجموع البشري كذا تعني بأغراض كلّ فرد بل حتّى الواسطة.

النموذج الثاني القرآني: قصّة ذي القرنين

سيتمّ الإلفات إلى المحاور التالية:

1 - مرتبة ذي القرنين.

2 - القوّة التي مُنحت له.

3 - التدبير الإلهي لجزئيات وتفاصيل المجتمع البشري في قصّة ذي القرنين.

____________

1- الكافي 2 / 44.


الصفحة 230
4 - ربط القصّة بالمحور الأصلي في سورة الكهف.

{وَيَسْأَلُونَكَ}، ظاهر في أنّ قصّة ذي القرنين شائعة لدى الأقوام، وأنّ الرجل وقصّته حقيقة تاريخية عاشتها البشرية.

{سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}، ظاهر في أنّ القرآن لا يروي كلّ تفاصيل القصّة، وإنّما يقتصر على بعض ملامحها.

{إِنَّا مَكَّنَّا} تعريف بشخصيّة الرجل كما في قصّة الخضر حيث ابتدأت بالتعريف به، وهذا التمكين هبة وأنّ التمكين هاهنا تمكين لدني.

والتمكين لا يطلق على الملك اليسير وإنّما على الملك الواسع العظيم، ومن ثمّ ذكر ذلك في سورة يوسف والآيات الواردة في نشأة المهدي (عليه السلام) في جانب الخير، وفي عاد ونمرود في جانب الشرّ.

{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْء سَبَبًا}.

لا سبب كلّ شيء، ولكن مع كون (من) تبعيضية إلاّ أنّها دخلت على (كلّ شيء)، ومن ثمّ شكّل هذا الإعطاء ميزة وخصوصية لذي القرنين; لأنّ (كلّ) تفيد العموم، ومدخولها في غاية الإبهام والعمومية.

{سَبَبًا} لم يستعمل القرآن في غير ذي القرنين، نعم ذكرت منفية عن غيره، {فَلْيَرْتَقُوا فِي الاَْسْبَابِ}(1)، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الاَْسْبَابَ}(2)، {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الاَْسْبَابُ}(3). والسبب في اللغة: كلّ شيء يقتدر به على شيء آخر، سوى أنّه في القرآن استعمل في الوسيلة غير المتعارفة.

وهذا الإعطاء حبوة إلهية ومنحة وهي القدرة اللدنية، بقرينة أنّه لم يذكر لغيره،

____________

1- سورة ص 38: 10.

2- سورة غافر 40: 36.

3- سورة البقرة 2: 166.


الصفحة 231
وأنّه أردف الإتيان بالسبب، وأنّ ذا القرنين من الأولياء الحجج كما سيأتي، وأنّه قد استعملت فيه نفس التعبيرات المستعملة في سليمان.

ثمّ إنّ المراد من السبب في عالمنا - كما يظهر من الروايات وجاء في كلمات الحكماء والمتكلّمين - المعدّ، لا سيما في عالم المادّة، لا الفاعل ومعطي الوجود; فإنّه منحصر به تعالى، فهو ما منه الوجود وغيره ما به الوجود.

ويترتّب على ذلك أنّ كلّ المعادلات والقوانين في هذا العالم لا ضرورة بتّية فيها بعد أن لم تكن الظواهر من الأسباب سوى معدّات تعدّ القابل وتهيئه لاستقبال الفيض الإلهي، بل ليس معدّات عالم الطبيعة هي تمام المعدّات، بل توجد معدّات أُخرى ملكوتية فضلاً عن الأسباب الفاعلية، لا سيما أنّ بعض الأسماء الإلهية تقتضي بعض المعدّات التي لا نعلم بها.

وبه يمكن تفسير جملة من التخلّفات مثل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}(1)، {وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْء..}.

والواو فيها استئنافية، فيكون المفاد أنّه بالإضافة إلى تمكينه - الذي قيد (في الأرض) - الإيتاء وهو المنسجم مع عمومية التعبير الذي سبقت الإشارة إليه، وهو الظاهر من الروايات حيث ذكرت أنّها من أسباب السماوات والأرض، بل الظاهر من الروايات أنّه أوتي ملكوت السماوات والأرض، حيث جاء التعبير بـ "كشط له".

{فَأَتْبَعَ سَبَبًا} من تلك الأسباب.

{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} سار بالأسباب التي زوّد بها، وقد ذكرت الروايات أنّه كان يسير في فتوحاته بالزئير. (مغرب الشمس) إشارة إلى أقاصي

____________

1- سورة الأنبياء 21: 69.


الصفحة 232
الأرض، وقد يقال بأنّ رحلته فضائية في السماء كما مرّ إشارة الروايات إلى أنّ الأسباب التي أوتيها سماوية وأرضية وأنّه "كشط له".

{قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ}، خطاب مباشر منه تعالى لذي القرنين، ومن ثمّ قيل إنّه نبيّ، ولكنّه خلاف ظاهر القرآن حيث لم يصفه بالنبوّة ولا بالبعثة والرسالة، مع أنّه في مقام الإجابة عن التساؤل عن الغموض في حال ذي القرنين.

وهذا هو الظاهر من الروايات أنّه محدّث، كما يلاحظ ذلك في أجوبة الأئمّة (عليهم السلام) عندما كانوا يُسألون عن علمهم فكانت الإجابة أنّه كصاحب موسى وذي القرنين، أي ليست علومهم بنبوّة، ولكنّه علم لدني معصوم، والوحي المباشر لا يعني النبوّة وإنّما التشريف والحظوة في الاصطفاء، نظير: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيِهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(1).

{إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا}، تدلّ على أنّ الحاكمية - القيادة السياسية والقوّة التنفيذية - أوّلاً وبالذات هي لله تعالى، وكلّ حاكم عداه سواء كان نبياً أو وصياً أم غيرهما من الحجج المصطفين، فحاكميته في طول حاكمية الله تعالى.

حيث يظهر من الآية أنّ هذا التخيير الإجرائي والتدبير السياسي التفصيلي منحه الله لذي القرنين، ممّا يدلّل على أنّ الحكومة السياسية التنفيذية بيده تعالى، ولم تفوّض للبشر بمعزل عن الله كما عليه أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. والقيادة السياسية شعبة من شعب الهداية الإيصالية كما سيأتي توضيحه.

____________

1- سورة آل عمران 3: 45 - 47.


الصفحة 233
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ}، والحديث الحديث، مع دلالتها على أنّ ذا القرنين كان معنياً بتدبير عدّة مجتمعات وفي مجالات متعدّدة.

{لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا}، ممّا يكشف أنّهم كانوا في تخلّف مدني حتّى على مستوى الضروريات والأولويات، وقد كُلّف ذو القرنين برفع هذا التخلّف. والروايات أيضاً تدلّ على أنّ من مهام الإمام والولي الحجّة هو رفع هذا النمط من التخلّف، كما في تصدّي الإمام الباقر (عليه السلام) في حساب المسافة في قضية البريد وصكّ النقود، وتصدّي أئمّة أهل البيت لتأسيس جملة من العلوم، كما هو شأن الأنبياء السابقين حيث جاءوا للبشرية بأُسس العلوم(1)، وهذا مقتضى العناية الإلهية بعد أن كانت لضروريات العيش مدخلية في التكامل الروحي للأُمّة.

{كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} يدلّ على إحاطة الربّ تعالى بتفاصيل ما يجري وأنّها محور عنايته واهتمامه، فكان كلّ ما يجري تحت نظره.

وبعد اتّضاح الصورة في ملامح ذي القرنين يمكن أن نخرج ببعض النتائج التالية، وهي:

أوّلاً: إنّ تمكينه في الأرض لأجل استصلاح المجتمعات البشرية وإيصالها إلى الكمال المنشود ببناء حضارتهم ومدنيتهم بالقدر اللازم، وإرساء العدل وإفشاء الصلاح ورفع الظلم عنه، كما يبدو ذلك من النماذج التي تعرّض لها القرآن من حياته.

والقرآن كما ذكرنا سابقاً يتناول التعريف بالحياة الشخصية للرجالات والأُمم السابقة كسنن إلهية، ويركّز على المحاور ذات العبرة التي تساهم في رسم العقيدة والشريعة، والروايات حدّثتنا عن جملة من الأبعاد الشخصية لهؤلاء.

____________

1- لاحظ كتاب تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام للسيد حسن الصدر.


الصفحة 234
وما ذكر من ملك ذي القرنين الذي مُكّن منه مع النماذج التدبيرية التي قام بها، تلحظ أنّها وثيقة الصلة في سورة الكهف بالمحور الأصلي وهي طمأنينة الرسول بأنّ الهداية الإيصالية وهي مقام الإمامة وأنّها هي التي ستحقّق أهداف الرسالة والهداية الإرائية التي هي مقام النبوّة.

{لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً}، تخلّفهم أكثر من القوم الذين التقى بهم سابقاً.

ثانياً: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّة}، مع أنّ ذا القرنين أوتي كلّ ما سبق وأنّه منصوب من قبل الله تعالى وفي الوقت الذي زوّد بتلك القدرة اللدنية وقد ملك فيها الدنيا، إلاّ أنّه يطلب الإعانة، ممّا يعني أنّ الغرض الإلهي لا يتحقّق بالإلجاء، وإنّما لابدّ للأُمّة أن تنهض بمسؤوليتها، في الوقت الذي منّ الله عليها بالهداية الإيصالية أي بنصب الإمام لهم.

ومن هنا أمكن أن نفهم توجيه الخطاب بالحكم ووظائف الدولة للأُمّة، وأنّه لا يعني أنّ الولاية بيد الأُمّة كما فهمه البعض، كما لا يعني أنّ الأُمّة مرفوع عنها المسؤولية تماماً في هذا المجال، وإنّما تعني أنّ هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الأُمّة تجاه الحكم والوالي، وهي الإعانة والتجاوب والطاعة، حيث لم تكن سنة الله الإلجاء وكن فيكون في نشأة الدنيا، وبالتالي اليد الواحدة - يد الوالي - لا تصفّق كما في المثل، فنصب الإمام من الله للناس لا يعني إسقاط التكليف عن الأُمّة بنصرته وتمكينه وإقداره من قبلهم، فهناك تكليف مُلقى على عاتق الإمام كما أنّ هناك تكليف مُلقى على عاتق المأمومين وهم الأُمّة.

ثمّ تستعرض الآيات تفصيل بناء السدّ للدلالة على أنّ الأولياء يعملون بالأسباب الظاهرية، على العكس من توقّع الناس أن يكون سيرة ولي الله فيهم كلّها بالإعجاز وخرق الأسباب.

{رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} في حال أنّ بناء السدّ كان من خلال الأسباب الطبيعية، ولكن

الصفحة 235
لم تكن تلك الأسباب مكتشفة آنذاك، ومن ثمّ كان رحمة، حيث اطّلعوا على بعض أسرار الطبيعة.

فتلخّص: أوّلاً: إنّ هناك قدرة لدنية، زوّد بها ذو القرنين، وملكاً عريضاً، ربما كان أوسع من ملك سليمان.

وثانياً: وكان برنامجه استصلاح الأقوام البشرية المغلوبة والمتخلّفة والمتناحرة، فأفشى العدل في قوم، وهيّأ ضروريات المدنية لآخرين، وبنى السدّ لثالث.

وثالثاً: وبأسباب طبيعية كشفت لهم.

ورابعاً: مع نفي الإلجاء وحفظ دور الأُمّة ومسؤوليتها.

وقد ألفت القرآن إلى كلّ هذا في حياة هذا الولي; لرفع أسى النبيّ (صلى الله عليه وآله) وطمأنته بأنّ الأغراض التي على أساسها كان التشريع ستحقّق من خلال الهداية الأمرية في إمامة الأُمّة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة}(1).

النموذج الثالث القرآني: قصة أصحاب الكهف

وهذه السورة متميزة ببحث الإمامة بنحو مركّز جدّاً، ولو سمّيت بسورة الإمامة لكان حرياً، لا سيما وأنّه ذكر نموذج رابع فيها وهو استخلاف آدم كخليفة لله في الأرض وإطواع جميع الملائكة له، وهذه الواقعة برمتها عنوان كبير لمعتقد الإمامة، فسلسلة البحث في كلّ هذه السورة يدور حول الوصول إلى أهداف

____________

1- سورة الأنبياء 21: 73.


الصفحة 236
الرسالة وغاياتها بتوسّط الإمامة، وأصحاب الكهف وإن لم يكونوا حججاً مصطفين، إلاّ أنّ الحديث عنهم له صلة بالإمامة من جهة صلة هدايتهم بالهداية الإيصالية، وهي الإمامة عبر قناة الروح لا عبر قناة الهداية الإرائية وهي النبوّة الظاهرة والسماع بالحسّ.

{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاَْرْضِ}، بيان أنّ عالمنا عالم الإمتحان، فلا إلجاء ولا جبر كما في قوله تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر}(1)، وإنّما اختيار واختبار، كما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}(2).

وقد توسّطت هذه الآية بين آية {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ..} وقصّة الكهف; للتنويه على أنّ الهداية الإيصالية وإن كانت متحقّقة في إمامة الإمام إلاّ أنّ المسؤولية ما زالت قائمة على الأُمّة، ولابدّ أن تخطو باختيارها نحو الكمال ومن الله التسديد والتأييد.

ثمّ إنّ سورة أهل الكهف مكّية نزلت إثر محاولة قريش إحراج النبيّ (صلى الله عليه وآله) عندما استعانت بثلاثة أرسلتهم إلى نجران للتوفّر على مسائل معقّدة يعجز عن الإجابة عليها، فكانت أهل الكهف وصاحب موسى وذو القرنين. وقد قال علماء نصارى ويهود نجران: إنّ محمّداً إن أجاب عنها فهو نبيّ وإلاّ فلا، ثمّ طلبوا سؤاله برابعة إن أجاب عنها فهو ليس بنبيّ، وهو: عن الساعة ومتى هي؟

وتذكر الرواية أنّ الرسول أوعد بالإجابة غداً من دون تعليق وعده على المشيئة الإلهية فحُبس عنه الوحي أربعون يوماً، فاغتمّ وحزن كثيراً، وكذا حزن عمّه أبوطالب (عليه السلام) حتّى نزل الوحي بالإجابة.

والملفت للنظر ترابط هذه القصص الثلاث في فكرة الهداية الإيصالية التي هي

____________

1- سورة الغاشية 88: 22.

2- سورة تبارك 67: 2.


الصفحة 237
حقيقة الإمامة، مع أنّ اليهود اختاروها على أساس من المسائل الصعبة لا أكثر.

{أَمْ حَسِبْتَ}، لا دلالة في السورة على أنّ أصحاب الكهف أولياء وحجج، وإنّما هم من القسم الخامس وهو الأولياء غير الحجج، وقد شُرّفوا بمقام أوجب ذكرهم.

{الرَّقِيم} في الروايات أنّ أسماءهم مرقومة في لوح من رصاص، رقّمها الملك الكافر الذي كان يريد قتلهم، أو الذي عرفهم بعد إفاقتهم فرقّم أسماءهم على هذا اللوح ووضعه على قبورهم بعد موتهم.

{أَمْ حَسِبْتَ} تدلّ على أمرين:

الأوّل: البعث والمعاد كما سنبين.

والثاني: إنّ الغلبة لله تعالى، وإن أغراضه ستتحقّق، فهؤلاء مجموعة غلبت على أمرها من رواد الباطل وعلى رأسهم الملك آنذاك، إلاّ أنّ الدائرة دارت عليهم فانقرضوا وبقيت تلك المجموعة المستضعفة خالدة تشكّل نبراساً للحقّ.

وارتباط هذا البعد بالمحور الأصلي واضح، وأنّه مهما حصل وفعل أهل الباطل، ومهما قويت شوكتهم فلن يعيق تحقّق الغرض الإلهي، فإنّ المغلوب ظاهراً غالب باطناً، أي في الخفاء والمآل.

ومن ثمّ يفهم السرّ في ترديد الرأس الشريف المقطوع للحسين (عليه السلام) المشال على رأس الرمح لهذه الآية المباركة وهو يُطاف به في بلدان أُمّة الإسلام. والروايات تشير إلى هذا المضمون.

{الْفِتْيَة} أشرنا ويأتي تفصيل أنّ هؤلاء ليسوا من الأولياء الحجج، وقصّتهم معجزة.

ومن ثمّ نفهم أنّ المعجزة ذات طابع الرحمة تكشف عن شرف من تقوم فيهم وعلوّ مقامهم.