الصفحة 238
هذا في المعجزة الرحمة، والعكس بالعكس، فالمعجزة العذاب كالقمل والضفادع والدم تعبّر عن ذلّة من قامت فيه المعجزة وخسّتهم.

كما أشرنا إلى أنّ هؤلاء الفتية صاروا عظة وعبرة وقدوة للبشرية، ممّا يؤكّد أنّ مقامهم وإن لم يصل حدّ الحجّية إلاّ أنّه مقام رفيع ومكانة مرموقة في مجال التكامل المعنوي، ومن هنا جاء في الدعاء: "اللهم إنّي أسألك بكلّ عبد امتدحته فيه"، أي في القرآن.

ولم يقتصر القرآن في ذكر هذا النمط من البشر على أصحاب الكهف، وإنّما ذكر آخرين كمؤمن آل فرعون.

{إِذْ أَوَى}، ظاهر في نوع الإلجاء والاستجارة، ويؤكّد ذلك طلبهم الرحمة الخاصّة من الله تعالى، ممّا يكشف عن عمق محنتهم.

{أَيُّ الْحِزْبَيْنِ}، عبّرت عن كلا الطرفين بالحزب، مع أنّ أهل الكهف قلّة جدّاً، ممّا يدلّ على التفخيم، وأنّهم يمثّلون خطّاً هو خطّ الهداية.

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ}، النوم نوع من التوفّي كما أشار إليه القرآن الكريم، ونظير البعث الإيقاظ من النوم للتعريف بالأطول بقاءً، والتدليل على أنّ الهداية الإيصالية لا تتخلّف، وهذا هو البعد المرتبط بالمحور الأصلي.

وفي الروايات بيّن هدف بعثة أصحاب الكهف من رقدتهم بأنّه: دحض دعوى الكافرين حيث كانوا ينكرون المعاد، كما يشير إليه قوله تعالى: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا}(1).

{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ}، هذه الآية تتعرّض لمجمل عقائدهم التوحيدية الرفيعة وحكمتهم العملية، من دون أن توجد دلالة في الآيات على تعريفهم بواحدة من

____________

1- سورة الكهف 18: 21.


الصفحة 239
الديانات المعروفة، ممّا يعني أنّ إيمانهم هذا بدافع من فطرتهم السليمة.

{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}، وهي هداية خاصّة مُنحوا إياها علاوة على إيمانهم، ممّا يدلّ على رفعة مكانتهم.

{فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ} بداية لإنشاء مجتمع توحيدي منفصل ومستقلّ عن مجتمع الكفّار; لوجود التقاطع بين المجتمعين، ممّا يفرض وجود دارين: الإيمان والكفر.

{وَتَرَى الشَّمْسَ..}، النوم وما جرى عليهم في أثنائه أُمور غير اختيارية إلاّ أنّها ممزوجة باختيارهم، وبها كانوا آية من آيات الله تعالى.

{مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ..}، لباب القصّة وحلقة الوصل مع المحور الأصلي في السورة، والهداية من دون قرينة يقصد منها الإيصالية في قبال النذارة، وذيل الآية قرينة على الإيصالية; لظهور الولاية في ذلك، والإرشاد وإن كان إراءة إلاّ أنّه ليس إراءة كلّية كما في نذارة النبوّة، بل هداية تفصيلية متولّدة من الإرادة الكلّية النبويّة في التشريع، ومن ثمّ لم يستعمل نعت الإرشاد للنبيّ (صلى الله عليه وآله) من جهة مقام النبوّة.

ومرّة أُخرى نلفت إلى أنّ محور الخلاف مع العامّة هو أنّهم اقتصروا على ضرورة الإراءة والتنظير من دون الإيصال إلى المطلوب.

{لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}، عناية إضافية حفظاً لهم عن التلف.

{وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا..}، واحدة من الأدلّة القرآنية على مشروعية التقية.

{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ..}، واحدة من الغايات، وهي - على الظاهر - نصر المؤمنين في الدين وقدرة الباري تعالى على بعث الأموات.

{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا}، غاية أُخرى: وهي المعاد وهو امتداد الهداية

الصفحة 240
الإيصالية، فإنّه يعني السير إلى الله تعالى واللقاء به، وهو لا يتمّ إلاّ بواسطة الهداية الإيصالية والإيصال إلى المطلوب.

ومن ثمّ كان المعاد واحداً من الأدلّة على الإمامة، فالآية تدلّ على أنّ الهداية الإيصالية تحقّق وتوفّر بلوغ الغاية في الدنيا والآخرة.

{لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا..}، فيه تقرير لجواز اتّخاذ المساجد على القبور، وجعله مكاناً إذا كان موجباً للعبرة كأصحاب الكهف، والقرينة على ذلك هي تذكير القرآن بهذا الاقتراح من بين الاقتراحات المطروحة من القوم حول أهل الكهف الذين فارقوا الحياة.

{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْء إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا..}، مرتبط بما ذكرناه في سبب نزول السورة ووعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) إجابة الأسئلة من دون تعليق ذلك على المشيئة.

{اللَّهُ أَعْلَمُ..}، لعلّه ظاهر في أنّ سنّة الله أن يُبقي الولاية والهداية الإيصالية محاطة بشيء من الغموض و الخفاء، فلا تكون معروفة في حينها للجميع، كما لا يتمّ التعريف بكلّ جنباتها، خاصّة النوع الأوّل والثاني المتمثّل في أصحاب الكهف والخضر.

{مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ..}، فهو الذي يتولّى البشر ويهديهم، والولاية مفهوم قد استبطن فيه القدرة، فالإمامة هي نافذية حكم الله من دون إشراك..

{أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ..} للدلالة على بالغية إحاطة الله تعالى بمجريات الأُمور ومقدّراتها على صعيد الأفراد والمجموع البشري.

وبهذا ينتهي الحديث في هذه القصّة، وأهمّ ما جاء فيها:

1 - وجود هداية إرائية وإيصالية حتّى فيمن لم يتوفّر على هداية الرسول الظاهر.

2 - وجود قسم من الأولياء وذوي الشأن وراء الوليّ الحجّة، وقد وصل

الصفحة 241
بعضهم إلى مقام ضرب المثل والآيتية والقدرة، كما في أصحاب الكهف، ولعلّ نظيرهم: {جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى}(1).

3 - إنّ المأخوذ في ماهية الهداية الإيصالية نوع من القدرة والتصرّف التكويني، ولكن من دون إلجاء، بقرينة مرشداً التي تعني الهداية الإرائية والتبعية.

4 - إنّ النصرة والظفر في الدنيا من سنن الله التكوينية، ومن ثمّ يستتبّ الأمر أخيراً لحزب الله النجباء.

5 - وجود ارتباط وثيق بين الإمامة وبين المعاد، وعلى أساسه يمكن فهم فكرة الشفاعة، الحضور عند الاحتضار، شهادة الأعمال، قسيم الجنّة والنار.

6 - حكمة الله اقتضت كتمان بعض زوايا الهداية الإيصالية، ومن ثمّ قد توجب نوعاً من الاستغراب والتعجّب عند من لم يطّلع على الأُمور ويتعامل معها بشكل سطحي، وإلى حدّ قد تصل الحالة إلى تفسير بعض الظواهر بالعبث.

7 - {وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا}، يدلّ على أنّ الذي يحقّق الأغراض هو تعالى، فلا تنحصر القضية حينئذ بالهداية الإرائية.

8 - مقتضيات الفطرة هي البنية التحتية للأُصول والفروع.

والآيات اللاحقة تحوم حول هذه الأفكار:

أ - غايات الله لا مبدّل لها، فلابدّ أنّ تتحقّق: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ..}.

ب - الدعوة للتمسّك بالهداية الإرائية والتي هي الخطوة الأُولى في السير والاهتداء بالهداية الإيصالية: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ..}.

ج - أعمال الكفّار هباء وأعمال المؤمن مثمرة وإن استقلّتها الأعين: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً}.

____________

1- سورة يس 36: 20.


الصفحة 242
د - كلّ سير وسلوك تحت قدرة الله جلّ وعلا: {مَثَلُ الْجَنَّةِ}.

هـ - سلسلة المنظومة الطبيعية ذات غايات: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً}.

و - عدم النظرة المقطعية ودعوة إلى نظرة طولية: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ}.

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ..}، أذكر أيها الرسول استخلاف آدم وقد تقدّم تبيانه في الفصول السابقة وأنّ ظاهر ألفاظ آياتها كما هو مفاد الروايات هو لأجل تبيان الإمامة، واتّضح فيها أنّ رائد منظومة الهداة في الإيصال إلى المطلوب هو الإنسان الكامل، وأنّ التدبير في هذا المجال لا يختصّ بالملائكة كما يتوهّم ذلك أهل سنّة الخلافة وجماعة السلطان. هذا وأنّ سورة الكهف اقتصرت على هذا المقطع من القصّة وهو ذو الارتباط بالمحور الأصلي في القصّة.

سورة الكهف سورة الإمامة:

إلفاتة: وبعد كلّ ما تقدّم من قصّة أصحاب الكهف، بعد عرض كلّ من قصّتي موسى مع الخضر، وذي القرنين، أصبح من المناسب الإلفات إلى زاوية التناسب بين القصص الثلاث:

حيث يطالعنا القرآن في سورة الكهف في القصّة الأُولى على نموذج لم يكن نصيبهم من الهداية الإرائية أكثر من قضاء الفطرة وحكم العقل، وكأنّهم كانوا في زمن الفترة بين الرسل فلم يوَفّقوا لمعرفة الإمام والوصي الخفي آنذاك، ولكن لم يمنعهم ذلك من الاستجابة لفطرتهم وعقولهم، وإن كانت محدودة بالعمومات والأُسس العامّة الفطرية الأوّلية الإجمالية، فلم يحرموا من الهداية الإيصالية بالقدر الموازي لما عرفوه.


الصفحة 243
في حين نلحظ في القصّة اللاحقة أنّ دائرة ورقعة الهداية الإرائية أوسع من العقلية حيث اقترنت معها هداية تشريعية، فالخضر كان تابعاً لموسى ومتديناً بشريعته، سوى أنّ الهداية الإيصالية كانت خفية وبشكل غير رسمي.

في الوقت الذي نلحظ أنّ ذا القرنين زُوّد بالهداية الإيصالية الكاملة:

{وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}.

فالأنواع والدرجات التي أَلفتَ إليها القرآن في الهداية الإرائية الثلاث، وبما أنّ الله بالغ أمره في من اتّبعها، فتكون الهداية الإيصالية لكلّ درجة متناسبة معها.

وعندما ندرس خطوات الأنبياء نلحظ أنّها متدرّجة بالشكل الذي سلسلته سورة الكهف، حيث إنّ أوّل خطوة يخطوها الرسول في طريق الدعوة إلى الله بإراءة الأُمور الكلّية الفطرية ثمّ التشريعية في مرتبة ترافقها الهداية الإيصالية ذات الطابع السرّي غير المعلن، ثمّ تصل الذروة كما نشهده في قصّة موسى حيث أقام الدولة، وكذا سليمان والنبيّ (صلى الله عليه وآله) في بقعة من الأرض، وتُختم جميعاً بدولة المهدي (عليه السلام) {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، والذي كان نموذج ذي القرنين مثالاً له.

ولم يكتف القرآن بذلك كي ينبّهنا أنّ المجتمع البشري دوماً في حالة تقلّب وتغيّر في هذه الأدوار الثلاثة.

ثمّ إنّ الآيات لا تشير إلى انتماء أهل الكهف إلى شريعة خاصّة، وكما في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}(1)، على الفترة لا يعني خلوّ الأرض من حجّة كما قد يتوهّم خصوصاً من تعبيره بالفاء في الآية الدالّة على التراخي، وإنّما في كلّ عصر

____________

1- سورة البقرة 2: 213.


الصفحة 244
يوجد شريعة وهداية إيصالية، سوى أنّ هناك فترات يكون فيها المعصوم مخفياً، وإلاّ فبم نفسّر نبوّة آدم وكيف نكيفها مع الفترة مع الانسياق للتوهّم؟

وهناك روايات(1) تدلّ على أنّ الهداية الإرائية موجودة ومتوفّرة، وهي ما يحكم به العقل والفطرة العقلية في الإنسان وأنّه منجّز وأنّ الإنسان يؤاخذ عليها ويحتجّ بها عليه.

وقصّة أهل الكهف شاهد من بين شواهد كثيرة على أنّ التجاوب مع هذه الهداية الإرائية يوصل إلى الهداية الإيصالية، فلا يحرم التسديد الإلهي في الوصول إلى الكمالات المنشودة والأغراض التي أراد الله من عبيده تحقيقها.

وللتذكير والإيقاظ: نلفت إلى أنّ أحكام العقل لا تغني عن الشرع; لمحدوديتها وعموميتها ممّا يجعلها بحاجة إلى الشرع في تنزّلها وتفصّلها، ومن ثمّ لا نلحظ في ما حدّثنا القرآن عن معارف أولئك الفتية والتزامهم أكثر من الأُسس العامّة التي وفّرها الرسول الباطن لهم، كالتوحيد وبعض الفروع الواضحة التي لا تخفى على العقل كقبح الكذب، كما أنّ القرآن لم يحدّثنا عن توفّرهم على الهداية الإيصالية أوسع مدى من هدايتهم الإرائية.

النموذج الرابع القرآني: قصّة طالوت

وتبدأ من آية 246 البقرة وتنتهي بآية 253.

في البداية نذكّر مرّة أُخرى: إنّ منهجنا في التفسير يعتمد على الروايات التي

____________

1- الكافي 2 / 464.


الصفحة 245
وردت في ذيل الآيات مفسّرة لها، والتي يصنّف قسم كبير منها في حقل التأويل، والآخر لمعالجة الظهور الابتدائي.

وبما أنّ التأويل له صلة بمنصّة الظهور وقد أَلفتَتَ الكثير من الروايات إلى كيفية ذلك ـ صرنا في صدد التعرّف على الظهور الثاني بتوسّط الظهور الأوّل ببركة الروايات.

وهناك رواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) تلفت إلى أنّ قصّة طالوت التي قصّها القرآن هي لضرب المثل للإمامة، وأنّها فيمن ولمن وممّن تكون.

ونبدأ الحديث بعرض سردي لقصّة طالوت وتجميع مفرداتها ثمّ ننتقل إلى دراستها محورياً.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَـلاَِ..}، الملأ لغة: وجوه القوم وأعيانهم، فإنّه بهم تملأ العين، أو مجلس البلد وندوته.

{مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى..}، في الروايات بعده خمسمائة سنة.

{نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ..}، جالوت القبطي كما في الروايات وما يأتي في الآيات، حيث كان مستعمِراً لبعض أراضي بيت المقدس، ويبدو من الآية أنّهم كانوا يفتقدون الملك القوي المدبّر.

{لِنَبِيّ لَهُمُ..} ظاهر في أنّه رسول; حيث يفترق النبيّ عن الرسول فيما إذا كان قد نبّأ لنفسه أو لأهله، وأمّا إذا كان مبعوثاً لأُمّة فهو رسول، هكذا ورد في الروايات، ومثله في الآيات: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}(1)، نعم ليس شرطاً في الرسول أن يكون صاحب شريعة; إذ يمكن أن يكون تابعاً لشريعة رسول قبله، والاصطلاح القرآني في جملة من استعمالاته في

____________

1- سورة يس 36: 13.


الصفحة 246
القرية والمدينة ليس بالعمران والحضارة المادّية وإنّما المدنية والتحضّر بالمعرفة الأديانية.

{ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا..}، ظاهره في أنّه مغاير للنبوّة، حيث طلبوه من النبيّ، وأنّه غير انتخابي، وإنّما مجعول من الله تعالى، وأنّه أرفع منزلة من ذلك النبيّ; وإلاّ لما أمكن أن يحكم المفضول الفاضل.

ثمّ إنّنا نؤكّد مرّة أُخرى على أنّ الإمامة وإن كانت تستبطن الإيصال وأنّ لطف الله تعالى بالبشر ونعمته عليهم يتمّ بها فهي ضرورة، إلاّ أنّها ليست بالإلجاء الإعجازي التكويني، ومن ثمّ كان على المجتمع - كما ذكرنا في قصّة ذي القرنين - أن يبادر ويتحرّك تحت راية الإمام من أجل تحقيق الأغراض الإلهية المرتبطة بعموم المجتمع.

{إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا..}، فهذا الملك عهد إلهي خاصّ، وعبّر عنه القرآن الكريم ببعثة إلهية، فالإمامة بعثة إلهية أيضاً; لما تشمل من مقام غيبي لدني، والمبعوث من الله تعالى إماماً بالتالي يكون سفيراً وله سفارة إلهية تغاير سفارة النبوّة والرسالة.

فكون الإمامة سفارة إلهية وبعثة أصل قرآني، وليس بالانتخاب والتعيين من البشر، وطالوت من سلالة بنيامين أخ يوسف (عليه السلام) ومن ثمّ كان محور اعتراضهم; حيث كانوا يرون أنّ الملك منحصر فيهم وهم أبناء لاوا الأخ الأكبر ليوسف، وقد صاغ القرآن اعتراضهم: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}، وكان جواب النبيّ لهم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ..} فالأمر بيده تعالى، لا أنّه يخضع للمقاييس العادية التي يتصوّرونها هم، وإنّما هو نصب إلهي لا ملك دنيوي، ومن ثمّ ستذكر الآيات اللاحقة معجزة هذا الملك، والآية والمعجز دليل على أنّ النصب تشريعي إلهي، فلابدّ أن يستجيب له البشر

الصفحة 247
باختيارهم; وإلاّ حقّ عليهم العذاب.

{وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}، يدلّ على أنّ المشيئة التكوينية أيضاً اقتضت أن يكون طالوت ملكاً، وكلتا المشيئتين مرتبطتان بالهداية الإيصالية، والتدبير الإلهي للأُمور الإجتماعية العامّة.

{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ..}، إخبار السماء لنبيّنا (صلى الله عليه وآله) باعتراض اليهود على نصب السماء شخصاً فكيف بنصب شخص ليس منهم، لبيان واحدة من أسرار عداء اليهود للإسلام، كما في الرواية عن الإمام عليّ (عليه السلام).

{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ...}، تبين الآية المباركة ضرورة المعجزة في الإمامة - مع الالتفات إلى أنّ القرآن لم يعبّر عن المعجز إلاّ بالآية والبينة ونحوهما، والتعبير بالعجز اصطلاح كلامي - وأنّ النصّ لا يكون وحده في السنّة الإلهية، بل مع المعجزة والآية. وعندما نطالع تاريخ الشيعة مع أئمّتهم نلحظ أنّهم كانوا يتحرّون عن المعجز العلمي والعملي كشيء إضافي للنصّ.

{سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ..}، في الروايات: ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان، أو روح مخلوق من الله يتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شيء كلّمهم وأخبرهم.

{وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}، يدلّ على أنّ الإمام وارث من سبقه، والتركة وإن كانت مادّية إلاّ أنّ لها سنخ ارتباط بالغيب، كعصى موسى وخاتم سليمان وقميص إبراهيم ويوسف، كما أنّ الآية تشير إلى أنّ الوراثة في بيوت الأنبياء، وأنّها ليست وراثة كسروية ترابية بل وراثة اصطفائية كما في قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض..}.

{تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ}، الحفظ الغيبي يدلّ على خطورة وعظم هذا المقام وعظم وخطورة مواريث الأنبياء، والتي هي الآن جميعها عند أهل بيت النبوّة عند خاتمهم المهديّ (عج).


الصفحة 248
{إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ..}، فلا إلجاء جبري تكويني، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.

{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ}، فارق طالوت وجنوده المكان.

{إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَر}، يكشف عن علمه اللدني وإبلاغه إرادات الله التفصيلية لا بتوسّط النبيّ، فيدلّ على إمامته وأنّ الإمام يحيط علماً بالمشيئة والإرادة الإلهية التفصيلية، لا سيما وأنّ الإرادة منسوبة إلى الباري صرفاً، كما يكشف عن أنّ التدبير يُباشر من قبل الله تعالى، فالحاكم الأوّل هو تعالى، بل في جملة من مواقع حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) يسند إليه تعالى الحكم التفصيلي ولا يسند إلى الرسول، أي وإن كان بتوسّط الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما ألفتنا إلى ذلك مراراً -.

{فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}، ظاهر في أنّ الغاية من هذا الامتحان هو التولّي وعدمه، واستعراض القرآن له للإلفات إلى أنّ التولّي لصيق بالاعتقاد بالإمامة، بل هو في درجاته الأُولى، والوجه الآخر للإذعان والإيمان بالإمامة كما أوضحناه في الفصل الثالث من الجزء الأوّل.

فالأُمّة الواحدة وحدتها على أساس التولّي وعدمه، فالملأ كانوا على شريعة موسى، إلاّ أنه لم يكف ذلك حتّى صُنّفوا إلى صنفين، من اتّبع الإمامة، ومن لم يتّبعها.

ولا يخفى أنّنا لحدّ الآن لاحظنا جملة من مقوّمات الإمامة وأبرز معالمها، وليكن تجميعها وضبطها بالشكل التالي:

أ - إنّ الإمامة بالنصب والبعثة الإلهية: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ}.

ب - إنّها اصطفاء: {اصْطَفَاهُ}.

ج - ذو علم متميز لدني: {بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ}.

د - التكامل الجسدي والقدرة اللدنيان: {وَالْجِسْمِ}.


الصفحة 249
هـ - من شأنه المعجزة: {آيَةَ مُلْكِهِ}.

و - وارث من سبقه: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ}.

ز - التولّي هو الوظيفة المطلوبة من الأُمّة بالنسبة لإمامها: {فَإِنَّهُ مِنِّي}.

{فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً}، هو المتولّي، وبقانون لتركبنّ طبقاً عن طبق تعرف النتيجة في عالمنا الإسلامي، كذا ذكر القرآن الذي هو معجزة الإسلام، قرينة على أنّ ما حصل آنذاك سيحصل بعد.

{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}، عرف المتولّي لطالوت بالذين آمنوا، وهذا هو الذي يدّعيه الشيعة من أنّ قضية الإمامة من أُصول الدين الإيمانية.

خاصّة مع الإلفات إلى أنّ الشرائع متطابقة فيما بينها على مستوى المعارف، بل هذا ليس محلّ للنسخ; لأنّه من أجزاء الدين الواحد للأنبياء لا من الشريعة التي يعرضها النسخ، نعم تتفاوت بينها بالإجمال والتفصيل.

{وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ}، المقام الذي كان لطالوت أُعطي لداود، ولم تبين هذه الآية نبوّته، وإنّما اقتصرت على: {آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}، ويظهر من الآية أن شجاعة وبأس داود في الله أهّلته لهذا المنصب، فإنّ ذكر الأوصاف قبل المنصب يدلّ على الأقلّ على التناسب بين الأمرين.

{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ}، سنّة إلهية أن يُدفع غيّ البعض بالبعض، وله مراتب أقصاها القتل، وقد طبّقت لدفع طالوت وجنوده لجالوت، وهو يعني أنّ صلاح الأرض يتحقّق بالإمامة، وبعبارة أدقّ: إنّ بالإمامة التي هي خلافة الله تعالى في الأرض ـ صلاح الأرض وتطهيرها من الغي والشرّ.

ثمّ يلحظ من مجموع الآيات المرتبطة بطالوت أنّ الإمامة لم تُعرَف إلاّ بالملك، (ملك التصرّف في الأُمور العامّة) كذا في آية: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا

الصفحة 250
عَظِيمـًا}(1).

وعندما نراجع الروايات نراها تلفت إلى أنّ إبراهيم أحد الأربعة الذين بُعثوا بالسيف، إلاّ أنّه لم يعهد منه الإمارة، كذا بعض من جاء ذكرهم في الآية، ومن ثمّ كان التعبير: {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمـًا} مورداً للتساؤل، وجوابه: أنّ الملك باصطلاح القرآن ذو جنبتين:

الأوّلى: تكوينية كالاصطفاء والعلم الخاصّ والسكينة وفصل الخطاب والمواريث، وهذه متوفّرة مكّن من الملك الظاهر في العلن أو لم يُمكّن، لكنه متمكّن من التصرّف في النظام الاجتماعي البشري بصور خفية متستّرة.

الثانية: التشريعية وهو الأخذ بزمام الأُمور، وهذا البعد قد أُلقي تنفيذه على عاتق الأُمّة، بأن تمارس دورها بإقدار الإمام وإيصاله سدّة الحكم الظاهر في العلن.

وقد عبّر عن الملك الذي مُنح لداود في آية أُخرى بالخلافة في الأرض: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الاَْرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ}(2).

وقد جاء في آية أُخرى أنّ الخلافة في الأرض سنّة إلهية ما دامت البشرية، كما نلحظ ذلك في آية من آيات سورة البقرة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَْرْضِ خَلِيفَةً}، والذي طُبّق على آدم. وبالتالي سنخرج بنتيجة، هي أنّ الإمامة قانون تكويني إلهي وضعه الله للبشرية ما دامت في هذا العالم.

{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعد الرسل، ممّا يدلّ على وجود سنّة إلهية، وهي سنّة الاقتتال بين أتباع الرسول بعضهم مع البعض الآخر، ومن ثمّ استشهد أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب الجمل بهذه الآية.

____________

1- سورة النساء 4: 54.

2- سورة ص 38: 26.