الصفحة 251
{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}(1)، تبين سرّ الاقتتال وخلفيته، وهو أيضاً {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، ومن هنا نعرف أنّ الاختلاف الحادث لا ينسجم مع اجتهاد كلّ من الفريقين وإصابته; وإلاّ لا معنى لتصنيف أحدهما فريق الإيمان والآخر فريق الكفر.

وبالإضافة إلى أنّه اختلاف مع البينة، فلا معنى للتأويل والاجتهاد.

النموذج القرآني الخامس: قصّة مريم

آل عمران من آية 41 إلى 47.

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ}، وفي بعض القراءات كما في الروايات: وآل محمّد.

{ذُرِّيَّة}، والتوارث في الاصطفاء من باب التوارث الروحي المعنوي لا المادّي، والمعبّر عنه: بالخيرة بعد الخيرة، والنجباء بعد النجباء.

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ}، عرض لقصّة ومصداق للذرّية المصطفاة.

{إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي}، كان في شريعة بني إسرائيل أنّ للأب مُلكية ابنه المطلقة، ومن ثمّ كان يستطيع إيقافه على المسجد.

{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُْنْثَى}، إمّا نقل كلام امرأة عمران أو كلام الله، وعلى الحالين يدلّ على عدم المساواة بين الجنسين على صعيد الوظائف والقانون في الدنيا، وإن أمكن للمرأة الترقّي في مجال التكوين والمعنى إلى حدّ الاصطفاء، وهذا

____________

1- سورة البقرة 2: 253.


الصفحة 252
عموم فوقاني من نوع الجعل الدستوري، وإن صحّ التعبير عنه فهو أصل قانوني من أُسس التشريع ومقصد من مقاصد الشريعة، وبالتالي فالتشريعات التي نحتمل أنّها وظيفة خاصّة بأحدهما لمناسبة متميزة في أحد الجنسين لا يمكن التمسّك بعمومها.

{وَإِنِّي أُعِيذُهَا..}، كما يظهر من الروايات أنّه دعاء بالعصمة، ومع قرينة الاصطفاء وما يأتي من أنّه تعالى تقبّلها بقبول حسن، دليل العصمة واستجابة الدعاء.

{وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}، النبت يعني النمو، والآية ظاهرة في أنّ التنشئة المادّية للمصطفى تختلف عن غيره، من قبيل تهيئة اللقمة الحلال..

{زَكَرِيَّا}، زوج خالتها..

{أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، نوع من التكريم والحبوة الإلهية والاعتناء الخاصّ مع أنّها ليست نبيّاً ولا إماماً، وهذه الآية تكشف عن نوع ارتباط غيبي بين مريم وبين الله تعالى، والروايات دلّت على أنّ ملكاً كان يأتي لها بالطعام.

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا..}، بعد أن شاهد مريم وكرامتها..

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ..}، تصريح بارتباطها بالغيب، والاصطفاء الأوّل كما في الروايات هو الاختيار، والاصطفاء على النساء هو الحجّية عليهنّ.

وقد ظهر لحدّ الآن:

أ - ارتباط مريم بالغيب ونوع من الاتصال من دون وساطة نبيّ كما سيأتي في عين تبعيتها لشرائع الأنبياء.

وهذا ليس غلوّاً في مريم، وبعدما عرفت أنّها لم توصف بالنبوّة، ومعه لا نستغرب إذا كان لفاطمة (عليها السلام) مصحف فيه تأويل الكتاب.

ب - اختصاص وليّ حجّة بخطاب إلهي خاصّ، وقد يُكلّف بتكاليف خاصّة

الصفحة 253
كما سيأتي لا يعدو مقام التطبيق، لا أنّه خارج عن عموم شريعة موسى كما في المثال.

والظاهر من بعض الروايات وإن كان أنّ مريم محلّ للحجّية والمعجزة والآية، إلاّ أنّها ليست محلاًّ ساذجاً كتكلّم الشجرة وشقّ القمر، وإنّما هي متمّمة للإعجاز ودخيلة فيه، حيث بينت الحجّة والمعجزة في إشارتها إليه، وإحضارها للمعجز في وسط بني إسرائيل كما سيأتي مفصّلاً، فهي شريكة عيسى في تبيان معجزته، ومن ثمّ جاء في القرآن: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}(1).

{يُبَشِّرُكَ...}، نوع من الإنباء بالغيب المستقبلي، حيث كانت البشارة بنبيّ وباسمه المجعول من قبله تعالى ووجاهته الدنيوية ومكانته الغيبية (قرباً منه تعالى) ومعجزته..

وهذا مجانس لما تعتقده الشيعة في مصحف فاطمة، فإنّه مجموعة إنباءات غيبية مستقبلية "ما كان وما يكون إلى يوم القيامة"، وهو تأويل للكتاب المبين الذي يستطرّ فيه كلّ غائبة في السماء والأرض.

{قَالَتْ رَبِّ..}، كانت تخاطبها الملائكة إلاّ أنّها خاطبت ربّها مباشرة، والظاهر أنّ الجواب {قَالَ} ليس بواسطة الملائكة، وإن كان قد يستفاد أنّه بواسطة جبرئيل بقرينة الآيات الواردة حول مريم في سورة مريم، حيث تمثّل لها جبرئيل بشراً سوياً، وأخبرها أنّ الله أمره أن يهب لها غلاماً، فقالت له: أنّى يكون لي غلام؟ فأجابها جبرئيل..

ولكن ما ذكر لا يصلح قرينة بعد الالتفات إلى أنّ الحوار مع جبرئيل حوار آخر حصل بعد مدّة من الحوار الأوّل المذكور في سورة آل عمران عندما انتبذت مكاناً

____________

1- سورة المؤمنون 23: 50.


الصفحة 254
قصياً، وقرينة ما ذكرنا إجابة جبرئيل الظاهرة في أنّ الله تعالى قد أجابك من قبل عن هذا التساؤل والاستغراب: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}(1).

وحيث إنّ الخطاب مع مريم لم يكن بواسطة رسول، فهو إمّا من قسم الوحي المباشر، أو من وراء الحجاب بموجب الحصر المذكور في الآية: {وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}(2).

والترتيب المذكور في الآية معنوي علاوة على كونه ترتيباً ذكرياً كما في الروايات، ومن ثمّ كان التكليم من وراء حجاب فضلاً عن الوحي أرفع ممّا كان بواسطة الرسول، ممّا يعبّر عن سموّ مكانة مريم.

وعندما نرجع إلى النماذج التي سبق الحديث عنها لا نلحظ هذا الارتباط المباشر مع الله فيها، وعلى الأقلّ لا صراحة في ذلك، على العكس من مريم فإنّ الآية صريحة في الخطاب المباشر.

{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً..}(3)، سبق أن ألفتنا إلى دلالة الآية على شراكة مريم في الإعجاز والحجّية، وهو تقرير لعقيدة النصارى في مريم أنّها من أركان العقيدة ولكن لا بما هي محرّفة من التأليه.

كما أنّ مدلول الآية أعمّ من اصطفائها على نساء العالمين المدلول لآية أُخرى.

بالإضافة إلى أنّ الآية ليست لخصوص أبناء الشريعة المسيحية، وإنّما لكلّ البشر بما في ذلك أبناء الشريعة المحمّدية، بعد أن كانت واحدة من عقائدنا

____________

1- سورة مريم 19: 21.

2- سورة الشورى 42: 51.

3- سورة المؤمنون 23: 50.


الصفحة 255
الإيمان بآيات الله، ومن ثمّ كان علينا بعد إخبار القرآن الإيمان بمقام السيدة مريم، كما كان من الضروري الإيمان بنبوّة عيسى.

ويظهر أيضاً أنّه ليس بدعاً في شرائع السماء أن تأخذ امرأة هذا المقام وأن يكون الإيمان بها جزءاً من أُصول الدين.

بالإضافة إلى أنّها ضربت مثلاً كما في سورة التحريم. وإلى القاعدة القرآنية أنّ القرآن لا يذكر إلاّ ما فيه العبرة في حياة المسلمين، والروايات الكثيرة الدالّة على أنّه يجري في حياة المسلمين ما جرى على الأُمم السابقة حذو القذّة بالقذّة.

من هنا أصبحت الفرصة مواتية للحديث عن الزهراء (عليها السلام) شيئاً ما، حيث يمكن لنا أن نفهم ما قيل في حقّها أو على تقدير كونه رواية، من قبيل: "نحن حجج الله وفاطمة حجّة علينا"، و"وأنّها برزخ بين النبوّة والإمامة"، و"أنّها رفع عنها حجاب النبوّة"، وكثير غيرها، ممّا يمكن أن يستشهد له بطوائف أُخرى متواترة معنوياً، من قبيل روايات ترتّب خلقة أنوارهم (عليهم السلام)، ومن قبيل روايات أنّ أحد مصادر علوم الأئمّة مصحف فاطمة (عليها السلام)، ومن قبيل أنّها أوّل مصاديق القُربى الذين لهم ولاية الفيء والأنفال، وأنّها الشاهد شهادة لدنية بصدق النبوّة في آية المباهلة لمشاهدتها عياناً حقيقة النبوّة... وغير ذلك من الآيات والروايات مفادها أنّ الزهراء وإن لم تكن نبيّاً وإماماً إلاّ أنّها حجّة وواسطة علمية للأئمّة (عليهم السلام) من ذريتها، أي أنّها مصدر من مصادر علومهم.

بالإضافة إلى أنّ إدانتها موقف السقيفة لا يقلّ دلالة في الحجّية عن قول الرسول (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير، ويشهد لذلك قبول السنّة ذلك كبروياً، ومن ثمّ ركّزوا إنكارهم للصغرى أي وقوع الإدانة منها للسقيفة.

فهي كمريم في أنها شريكة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الآيتية على مذهب الحقّ والإمامية، حيث لم يكن بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) مصدر حجّة يرجع إليه بعد جحودهم لدلالة الكتاب

الصفحة 256
على الإمامة وجحودهم حجّة عليّ (عليه السلام)، لم يكن إلاّ الزهراء، ومن ثمّ يفهم ما ورد في وصية النبيّ (صلى الله عليه وآله): "يا عليّ انفذ لما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل (عليه السلام) "(1)، وكذا يفهم من احتجاج الأمير بالزهراء.

وآية التطهير تدلّ على الاصطفاء والحجّية للزهراء بإرادة إلهية مشتركة في الخمسة أصحاب الكساء.

وسورة الدهر تثبت مقاماً أرفع من مقام الأبرار لأهل البيت (عليهم السلام)، وبضميمة سورة المطفّفين فإنّهم المقرّبون الذين يشهدون كتاب الأبرار.

كلّ هذا وأمثاله من الآيات والروايات(2) يملي الاعتقاد بمقام الصدّيقة الزهراء.

فإنّها وجود تنزيلي للنبيّ (صلى الله عليه وآله)، فهي لها الحجّية على المسلمين في إثبات الإمامة، والبعد التقديسي لها من الله ورسوله معلول مقامها السامي.

{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا..}، جبرئيل الذي عبّر عنه في آية أُخرى بالروح الأمين، وليُلتفت إلى أنّه لم يصرّح في آيات آل عمران بنوع الملائكة الذين حدّثوها، بينما صرّح به في آيات سورة مريم، ممّا يكشف عن أن التكليم بواسطة الرسول ذو درجات ومراتب..

وفي الروايات أنّ التمثّل الذي حصل لمريم أحد أنماط نزول الوحي عليه (صلى الله عليه وآله)، ونمط آخر أن يسمع من دون رؤية، وثالثة أن يراه ومن معه..

{فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا..}، خاصّية الوارد الرحماني - الهاتف والمكاشفة - التي بها يختلف عن الأنواع الأُخرى كالشيطاني ـ أنّه ذو هيبة وسكينة ووقار ويدعو إلى الخير بأتمّ أشكاله..

____________

1- البحار 22 / 484 نقلاً عن خصائص الأئمّة للشريف الرضي.

2- لاحظ كتاب مقامات الزهراء.


الصفحة 257
{قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ ِلأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا..}، في الوقت الذي كان الوارد رحمانياً، إلاّ أنّ مضمون الرسالة كان شديداً غايته على مريم، وتفرّ منه لارتباطه بعرضها وناموسها، ومن ثمّ اعترضت مرّة أُخرى حين قالت:

{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}، ويلحظ في المحادثة السابقة في سورة آل عمران أنّه لم تعتر مريم حالة الاستيحاش كما ظهر هنا، وربما لأنّها كانت تسمعهم هناك من دون أن تراهم.

{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ}، تذكير مريم بما دار من حوار وحياني سابق.

قد يقال: كيف ينسجم هذا الاعتراض من مريم مع ما لها من مقام سام، ثمّ هل نست الوحي السابق كي تعيد الاعتراض ثانية؟

والجواب: لم تنس مريم، ولكن صعوبة الموقف حيث إنّ القضية مرتبطة بالعرض {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا}، وبه يفسّر قولها: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا}.

وفي الروايات: أنّ الأنبياء والرسل يتحمّلون البلاء إلاّ ما يرتبط بالعرض.

{وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}، وفي آل عمران: {إِذَا قَضَى أَمْرًا}، الظاهر في التعليق، ومن ثمّ يصلح قرينة إضافية على أنّ ما جرى في السورتين حواران اثنان وحيانيان.

{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا}، لها دور رعاية وكفالة لصاحب الشريعة وباختيارها، وهو يوافق ما يظهر من ثنايا زيارة فاطمة بنت أسد من أنّ رعايتها للرسول (صلى الله عليه وآله) كسبها مقام صفة بأنّها صدّيقة.. فإنّ لها إسهاماً في التمهيد لظهور النبيّ والمعجز.

ودور مريم وإن كان يحتوي على مخاطر لارتباطه بالعرض فهو سنّة قرآنية للجهاد بالعرض، إلاّ أنّه كان لكشف دجل وزيف علماء اليهود المقيمين على تحريف الديانة، ولم يتغلّب على فضحهم النبيّ زكريا ولا يحيى، وهو نظير ما

الصفحة 258
ورد في حرم وعيالات سيد الشهداء (عليه السلام): "شاء الله أن يراهنّ سبايا".

ونظير تصدّي السيدة الزهراء حتّى عصرت بين الحائط والباب ـ لكشف الزيف والدجل المتلوّن بالدين والديانة، ونظير نقل إبراهيم هاجر إلى البرية تمهيداً لظهور حكمة الله ومعجزته.

{فَنَادَاهَا..}، استمرار التواصل الغيبي مع مريم ورعايتها وتسديدها.

ووجود أوامر كُلّفت بها مريم مباشرة من دون وساطة نبيّ، مع خطورة بعض هذه الأوامر كارتباطها بصرح الشريعة المسيحية وأصل نبوّة عيسى ونسخ الشريعة الموسوية، بحيث لو أخلت مريم عصياناً لما تحقّقت المعجزة.

{مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْء..}، عرّضوا بها بأبشع تهمة، وقد كانت هذه الظاهرة المثيرة سبباً في الانشداد إلى المعجز والالتفات إليه وكشف قناع الزيف عن علماء اليهود، كما حصل ذلك من السيدة الزهراء حيث عرّت نفاق السقيفة على المكشوف والسيدة زينب حيث كانت سبباً في الانتباه إلى افتضاح مسار السقيفة وأنّه هو مسار الأحزاب وبني أُمية.

{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ}، نقلتهم من التركيز على شيء دنيء للغاية إلى خطير للغاية.

وبهذا ينتهي الحديث عن آيات مريم في سورة مريم.

وهناك ما رود في سورة التحريم، حيث أُشير فيها إلى أنّ مريم مثل يضربه تعالى، والمثل ليس لخصوص قوم دون قوم وإنّما لسائر البشرية ولهذه الأُمّة الإسلامية.

كما أشير إلى أنّها صدّيقة: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ}، فقابل بين الكلمات والكتب، وأنّها {كَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ}، وتشريفها بـ: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا..}..

والخلاصة: إنّه بالتدبّر في مجمل الآيات الواردة في مريم، ينبثق هذا السؤال، وهو: كيف ارتبطت بالتكليم الإلهي، وكيف وثقت أنّه من عند الله مع أنّها ليست

الصفحة 259
نبيّاً ولا وصيّ نبيّ، كما لم يتمّ ذلك بتوسّط نبي زمانها، بل تمّ ذلك من دون وساطة رسول أصلاً، وكيف صدّقت بنبوّة نبيّ آت وبشريعته المقبلة، وكيف قامت ببدايات أعباء الرسالة قبل عيسى حتّى جعلها القرآن في درجة عيسى، كما يظهر من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ}، و {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}، و {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ}، و {كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ..}(1)، الدالّة جميعاً على أنّ مريم كانت في مصاف الرسالة ومن أصول الدين، خاصّة مع الالتفات إلى أنّ المخاطب به مثل زكريا - على فرض حياته - ويحيى وأنبياء زمانها؟ لا جواب على هذا السؤال سوى أنّها معصومة مصطفاة، وأنّ لها مقاماً لا يقلّ عن مقام النبوّة.

ومع كلّ هذا، لا عجب أن تكون فاطمة (عليها السلام) (شافعة للأنبياء)، كما في الرواية المنقولة، كيف لا وهي من أهل آية التطهير الذين شهد القرآن أنّهم يمسّون الكتاب المكنون كلّه، ولديهم العلم بالكتاب المبين العلويّ كلّه، بينما لم ينعت القرآن الأنبياء أولي العزم فضلاً عن غيرهم بأنّهم يعلمون الكتاب كلّه، بل قال في حقّ موسى (عليه السلام) مثلاً: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الاَْلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْء}(2)، فما اُوحي لموسى هو (من كلّ شيء)، وفي حقّ عيسى (عليه السلام): {قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلاُِبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}(3)، فكان ما جاء به بعض العلم، بينما وصف القرآن أنّه مهيمن على ما بين يديه من الكتب التي بعث بها الأنبياء السابقين، وأنّه تبياناً لكلّ شيء.

أو: "على معرفتها دارت القرون الأولى"، بل يمكن أن نسجّل جملة امتيازات

____________

1- سورة النساء 4: 171.

2- سورة الأعراف 7: 145.

3- سورة الزخرف 43: 63.


الصفحة 260
قرآنية للسيدة الزهراء على مريم (عليهما السلام).

الامتياز الأوّل: افتراق في نوعية التطهير بين فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبين مريم، حيث إنّ الذي ورد في مريم التعبير بصيغة الفعل الماضي، وهو دالّ على وقوع التطهير فيما سبق وإلى حدّ درجة من العصمة، بينما الذي ورد في فاطمة (عليها السلام) هو إذهاب الرجس عنها، أي توقيتها عن أن يقترب إليها وإلى أصحاب الكساء الرجس، وعبّر عن التطهير بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرار وأكّد بالفعل المطلق (تطهيراً)، مضافاً إلى أنّ هذا التطهير الخاصّ المستمرّ هو من نمط خاصّ بسيد الأنبياء وأهل بيته أصحاب الكساء، فأين ذاك من ذا؟

الامتياز الثاني: إنّ لفاطمة علم الكتاب دون مريم (عليها السلام) ; لأنّ فاطمة (عليها السلام) من المطهّرين في أُمّة النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله)، وقد وصف المطهّرون من هذه الأُمّة بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَاب مَكْنُون}(1)، وهو وصف للقرآن، ثمّ أردف بـ: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}(2)، فشهود حقيقة القرآن والكتاب كلّه بتلك الدرجة من الكرامة في كنانة الكتاب وهو ذو المجد القرآن المجيد في حفظ اللوح المحفوظ، ولفاطمة (عليها السلام) حيث إنّها من المطهّرين في آية التطهير علم الكتاب الموصوف في القرآن بأوصاف متعدّدة: {وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين}(3)، و {يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}(4)، وغيرها من الأوصاف.

وهذا العلم شهودي لدني، بينما لم يكن للمطهّرين في الشرائع السابقة حتّى الأنبياء هذا المقام; إذ إنّهم لم يشهدوا إلاّ ما تنزّل عليهم، بينما مريم سلام الله عليها وصفت بأنّها صدّقت بالكتب وهو غيب بالنسبة إليها، وبهذه الآيات يتبين أحد

____________

1- سورة الواقعة 56: 77 - 78.

2- سورة الواقعة 56: 79.

3- سورة الأنعام 6: 59.

4- سورة الرعد 13: 39.


الصفحة 261
دلالات القرآن بأفضلية خاتم الأنبياء وأهل بيته على سائر الأنبياء.

الامتياز الثالث: وهو وليد للامتياز السابق وهو شهادة الأعمال لارتباطه بالكتاب المكنون، وقد حفل ملف آيات الإشهاد في القرآن الكريم على جميع الناس من الأوّلين والآخرين أنّ هؤلاء الأشهاد من هذه الأُمّة وأنّ سيد الأنبياء هو الشاهد على الأشهاد وأنّ هؤلاء الأشهاد هم من ذرّية إبراهيم وإسماعيل كما أشارت إليه آخر سورة الحج، ودعاء إسماعيل وإبراهيم في سورة البقرة، وكذا في سورة الدهر حيث بينت أنّ عباد الله الذين يطعمون الطعام للمسكين واليتيم والأسير هم الذين يسقون الأبرار من عين الكافور، فلهم الإشراف على الأبرار وأعمالهم كما في سورة المطفّفين أيضاً، وهذا المقام لم تُنعت به مريم (عليها السلام) في القرآن الكريم.

الامتياز الرابع: آية المباهلة.. لا بتقريبها السطحي وهو أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يباهل إلاّ بأعزّ ما لديه، وإنّما بما يستبطنه هذا التقريب من معنى دقيق وهو: أنّ المباهلة نوع من الدعاء والملاعنة والقسم والحلف لإثبات الحقّ وتوثيقه، فالآية تدلّ على أنّ الدين في بعده الغيبي مرتبط بهؤلاء الخمسة، بعد الالتفات إلى أنّ الذي كان يستهدفه الرهبان من هذه العملية إطفاء برهان النبيّ (صلى الله عليه وآله) الذي يمثّل رمز الدعوة وحربتها، فضمّ النبيّ تلك الصفوة معه في هذه العملية للتدليل على رمزيتهم وأنّهم أصحاب الدعوة أيضاً وشركاؤه، فمن قبله فبها، ومن ثمّ قال تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(1)، في مقابل الصادقين، فكان التعبير بالجمع لا بالمفرد (على من كان كاذباً)، فهي شهادة بالشركة على أنّ نبوّته خاتمة وهي دين الإسلام، ونبوّته خاتمة النبوّات وأنّ المسيح عبدالله ورسوله، خاصّة مع وجود

____________

1- سورة آل عمران 3: 61.


الصفحة 262
قرابة آخرين له ولفيف من الصحابة وبعضهم يُزْعَم له شأن في الإسلام، إلاّ أنّه (صلى الله عليه وآله) لم يشركهم في العملية.

أضف إلى ذلك أنّ تعيين هؤلاء كان من الله سبحانه وتعالى وليس من النبيّ، ممّا يؤكّد أنّ القضية ليست بحكم المعزّة والقرابة.

ولو أبيت عن قبول دلالة القصّة على فكرة كونهم أصحاب الدعوى شراكة بنحو الطولية والتبعية، وأنّها لا تعني إلاّ التوثيق وقد حصل بهؤلاء، فنقول: إنّ التوثيق عادة يكون بالثقل، وإنّ هؤلاء (عليهم السلام) أثقل المسلمين، ومن ثمّ تمّ اختيار الله لهم للوقوف إلى جانب النبيّ (صلى الله عليه وآله) في هذه العملية، فهم وثيقة للدين كما هو (صلى الله عليه وآله)، وعندما نستذكر زيارة الرضا (عليه السلام) نلحظ فيها أنّ كلّ إمام في عصره آية حقّانية للنبيّ ومعجزة صدقه.

النموذج القرآني السادس: قصّة أُمّ موسى

سورة القصص من آية 1 إلى 13.

في المقدّمة نشير إلى مدلول آية {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ..}، فإنّ الواضح منها الاستمرار وبيان السنّة الإلهية وقاعدة القضاء والقدر، وإلاّ لو كانت خاصّة بالأُمم السابقة لجاء التعبير (وأردنا) بصيغة الماضي لا بصيغة المضارع الدالّ على الاستمرار.

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}:

أ - يلحظ الشبه الكبير بين خفاء ولادة موسى وخفاء شخصه وظفره، وبين خفاء ولادة صاحب الزمان (عج) وخفاء شخصه وظفره.

ب - لم ينصّ في الآية على أنّ الوحي كان بتوسّط نبيّ أو رسول أو وصيّ، بل في الروايات أنّها نوديت وأنّه مباشرة، في الوقت ذاته لا دلالة في الآية على أنّه من

الصفحة 263
أيّ قسم من الأقسام الثلاثة للوحي.

{أَنْ أَرْضِعِيهِ..}، سلسلة من الأوامر في كيفية التعاطي مع الوليد الجديد بشكل يحفظه مع إخبار الغيب المستقبلي: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}..

مثل هذه الأوامر التفصيلية من الله تعالى هي لخواصّ من هو حجّة، مصطفاة من القسم الرابع الذي يتجسّد فيه إعمال الحقّ تعالى ولايته مباشرة، ومن دون توسيط نبيّ تلك الأُمّة.. ولكن من دون خروج عن الشريعة الظاهرة آنذاك بالشكل الذي بيّناه في قصّة الخضر، ولهذه الأوامر دلالة على أنّ الوحي في الآية ليس هو الوحي الفطري كما قد يتصوّر أنّه من قبيل {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ..}(1) بعد الالتفات إلى أنّ متعلّقات الأوامر المذكورة ليست ممّا تدركه الفطرة، يضاف إلى ذلك الإخبارات بالغيب التي رافقت الأوامر، واطمينان أُمّ موسى بالوحي المذكور دليل مقامها وسموّ مكانتها، وإلاّ لتلكّأت لاحتمال أن يكون نفث الجنّ أو مكاشفة وإلقاءات شيطانية. وبتعبير آخر: أنّ الوحي المباشر، وقبولها له لا يعقل إلاّمع كون القناة معصومة، وإلاّ لم تكن تستوثق منه.

هذه القصّة وسابقاتها تدفع الإنكار على مقولة الشيعة بأنّ الإمام كيف يرتبط بالوحي بعد وضوح معتقدهم أنّه ليس وحي نبوّة، علماً أنّ القرآن لم يحدّثنا عن حجّية أُمّ موسى بدائرة أوسع من حجّيتها على نفسها في ما يرتبط بطبيعة التعامل مع الوليد.

{وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، فقد آمنت أُمّ موسى برسالته قبل أن يُرسل، كما آمن الأنبياء السابقون بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) قبل أن يولد، وكما نصّت الزهراء البتول بإمامة الأئمّة حيث دوّنوا في اللوح الأخضر الذي نزل من السماء.

____________

1- سورة النحل 16: 68.