الفصل الأوّل
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
تمهيد
إنّ مبدأ التوسّل والدعاء وطلب الشفاعة والاستغاثة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) من المبادئ الأصيلة والأساسية في الدين التي دلّ على مشروعيتها وضرورتها صريح العقل والقرآن الكريم وروايات المعصومين (عليهم السلام).
ولقد آمن بهذه العقيدة في الإسلام عموم المسلمين بكافّة فرقهم وطوائفهم، حيث أن سيرتهم جارية على اللجوء إلى ساحة النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).
ولكن حاول البعض تبعاً لمنهج الجحود والجاحدين بذريعة وغطاء وقناع التكفير والمكفّرين ـ أن يُلصق تهمة الشرك والكفر بهذه العقيدة الإسلامية، حيث تحايل لجحوده بأن ادّعى أن التوسّل من أصناف الشرك في العبادة، وزعم أن الآيات والروايات دالّة على ذلك.
ونحن قبل الشروع في ذكر ما استعرضوه من أدلّة وشبهات والإجابة عنها، لابدّ من بيان ما هو الحقّ في المسألة، وذلك عن طريق إعطاء التصوّرات
وذلك كلّه استناداً إلى الأدلّة العقلية والتحليلية والتاريخية والقرآنية والروائية الناصّة على ذلك.
____________
1- سورة النساء 4: 150.
التوسّل في اللغة والاصطلاح
1 ـ التوسّل لغة:
قال الفراهيدي في كتابه اللغوي "العين":
وسل: وسّلت إلى ربّي وسيلة، أي عملت عملاً أتقرّب به إليه، وتوسّلت إلى فلان بكتاب أو قرابة، أي تقرّبت إليه(1).
وقال الجوهري في الصحاح:
الوسيلة: ما يتقرّب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسّل واحد، يقال: وسّل فلان إلى ربّه وسيلة وتوسّل إليه بوسيلة، أي تقرّب إليه بعمل(2).
ومثله ما في النهاية في غريب الحديث لابن الأثير(3).
وقال ابن منظور في لسان العرب:
الوسيلة: المنزلة عند الملك، والوسيلة: الدرجة، والوسيلة القربة، ووسّل فلان إلى الله وسيلة إذا عمل عملاً تقرّب به إليه، والواسل الراغب إلى الله.
____________
1- كتاب العين / الفراهيدي: ص289.
2- الصحاح / الجوهري: ج5 ص1841.
3- النهاية في غريب الحديث: ج5 ص185.
والوسيلة الوصلة والقربى، وجمعها الوسائل(1).
والذي يتحصّل من كلمات اللغويين أن التوسّل والوسيلة:
هي ما يجعله العبد من الواسطة بينه وبين ربّه لأجل التوصّل بها إلى تحصيل المقصود وهو القرب منه عزّ وجلّ، أو مطلق ما يوسّطه الشخص للتقرّب به إلى الغير من عمل أو كتاب أو قرابة أو غيرها.
2 ـ التوسّل اصطلاحاً:
التوسّل في الاصطلاح قريب جدّاً من المعنى اللغوي، بل هو عينه والاختلاف في تحديد المصاديق التي نصبها الله تعالى للتوسّل والتقرّب بها إليه عزّ وجلّ.
وسيأتي مزيد إيضاح لبيان حقيقة التوسّل اصطلاحاً عند استعراض الأدلّة القرآنية حول التوسّل في الفصل اللاّحق.
____________
1- لسان العرب / ابن منظور: ج11 ص224 ـ 225.
التوسّل عبادة توحيدية
دور الوسائط الإلهيّة وضرورة التوسّل بها:
إنّ الحقيقة التي نريد أن ندّعيها تحت هذا العنوان، هي: إن نفي الوسائل والوسائط الإلهيّة والإعراض عنها في حال توجّه العبد إلى الله هو الشرك بعينه.
وإنّ توسّل العبد بالآيات الإلهيّة وتوجّهه وتشفّعه بالوسائط، التي نصبها الله عزّ وجلّ من أجل قضاء حوائجه أو قبول توبته وأوبته وعبادته ونيله للحظوة والقرب من الله تعالى، هو التوحيد الحقيقي والتام المرضي عند الله عزّ وجلّ.
توضيح المدّعى:
من أجل إعطاء تصوّرات صحيحة حول ما ادّعيناه آنفاً نقول: إن الوسائل والوسائط إذا كانت مجعولة ومنصوبة من قبل الله عزّ وجلّ، فإن التوسّل والتوجّه بها واللجوء إليها والاستغاثة والاستجارة بها إلى الله تعالى هو التوحيد التام، وفي الوقت ذاته يكون الإعراض عنها والاستكبار عليها والتوجّه إلى الله تعالى بالمباشرة شركاً واستكباراً على الله عزّ وجلّ ومبارزة له في سلطانه.
وأما إذا لم تكن تلك الوسائط مجعولة ولا منصوبة من قبل الله تعالى، فإن
بيان الأدلّة:
ولهذه الدعوى التي ذكرناها أدلّتها المتنوعة، ونحاول أن نشير في هذا الفصل إلى الأدلّة العقلية والتاريخية والتحليلية، وأما الأدلّة القرآنية فسيأتي ذكرها في الفصل اللاّحق.
الأدلّة العقلية والتاريخية
1 ـ الدليل العقلي:
هنالك بيانات متعدّدة للدليل العقلي الدالّ على مشروعيّة وضرورة التوسّل، نستعرض فيما يلي بعض تلك البيانات العقلية:
البيان الأول: (التوسّل بالوسائط الإلهيّة تحكيم لسلطان الله على سلطان العبد)
إنّ نصب الوسائط والأبواب من قبل المخلوقين والعبيد باقتراحهم واختراعهم يُعدّ تصرّفاً في سلطان الله عزّ وجلّ، ونوع من تحكيم إرادة العبد وهواه على إرادة ربّه، ويكون هذا الفعل من العبد شركاً ونديّة ووثنية جاهليّة.
فالعبد هو الذي ينادد ربّه في جعله الوسائط واختراعها، سواء من ناحية العمل كاتّخاذ الأحجار والأصنام وجعلها واسطة بين العبيد وبين ربّهم، أم كان من ناحية الفكر والمعتقد وذلك كاتّخاذ العقل الذاتي البشري ربّاً وزعم عدم محدوديته وأنّه يتّسع في الحكم والبتّ في الحقائق بلغ ما بلغ، فإن هكذا توسيط من قبل البشر وباقتراحهم يُعدّ مغالاة وشركاً في سلطان الله; لأنّها تكون مناددة
فمن يجعل لنفسه وسيطاً لم ينصبه الله عزّ وجلّ ولم يأذن به فهذه هي الصنمية، والتزلّف والتقرّب بتلك الوسائط غير المأذون بها هو الشرك الناقض للإيمان، لأنّه منازعة لله تعالى في سلطانه، سواء كانت أصنام العرب أم غيرها من الجهالات والجاهليات الحديثة.
وأما التوسّل والتوجّه بالوسائط التي جعلها الله عزّ وجلّ ونصبها لخلقه فهو التوحيد التامّ، والإعراض عن تلك الحجج والأبواب الإلهيّة التي نصبها الله عزّ وجلّ وترك التوجّه إليها هو الشرك الناقض للإيمان أيضاً; لأنّه استكبار على إرادة الله تعالى وسلطانه.
فالتوحيد التامّ إنما يكون بالانصياع والخضوع أمام الأبواب والوسائط التي جعلها الله عزّ وجلّ، وذلك بالتوسّل بها وتوسيطها بين العبد وربّه.
والسرّ في شرك المشركين والإنكار الإلهي لعقيدتهم الصنمية ليس لأصل شعورهم بالحاجة إلى الوسائل والوسائط والشفعاء، بل كان شركهم في اقتراحهم الوسائط والتدخّل في سلطان الله تعالى وتحكيم إرادتهم وسلطانهم، من دون الانصياع والطوعانية لإرادة الله عزّ وجلّ.
فمصبّ إنكار الباري تعالى عليهم ليس هو إنكار نظرية ضرورة الوسائط، بل في كون الوسائط مقترحة من قبلهم.
والقرآن الكريم أيضاً كما سيأتي ـ لا يستنكر على المشركين نظرية ومقالة الأبواب والوسائط، بل على العكس; إذ القرآن يقرّها ويثبتها، وإنما تخطئته للمشركين بالصنميّة في اقتراحهم الوسائط والوسائل من قبل أنفسهم، ويحتّم
والقرآن الكريم كما سيأتي أيضاً ـ يقرّر نظرية الوسائط بأنها أمر فطري وضروري لابدّ منه.
وبعبارة اُخرى: لا يكفي في نفي الشرك وتحقّق التوحيد التام من العبد نفيه الوسائط المخترعة والمقترحة من قبل البشر، بل عليه أن يتوسّل بالوسائل والحجج التي نصبها الله عزّ وجلّ; وذلك لأن من يقف عند إنكار الوسائط المقترحة فقط كمن قال: (لا إله) وسكت من دون أن يذكر المستثنى، حيث أنه يوجب الكفر لا التوحيد.
خصوصاً وأن كلمة (لا إله إلاّ الله) ليست كلمة للتوحيد في الذات والصفات والأفعال فحسب، وإنما هي توحيد أيضاً في مقام العبادة والخضوع والتوجّه والدعاء، فلا عبادة ولا خضوع ولا توجّه إلاّ لله تعالى، ومعنى ذلك نفي الوسائط والشفعاء الذين لم يأذن بهم الباري تعالى، فلا إله ولا وله ولا تشفّع ولا تقرّب إلاّ بما أثبته الله تعالى، ولا يكفي نفي ونبذ الوسائط المقترحة، بل لابدّ من إثبات الوسائط التي جعلها ونصبها الله عزّ وجلّ.
والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والمعصومون (عليهم السلام) وسائط وأبواب منصوبة من قبل الله تعالى.
والحاصل: إن الشريعة الإسلامية جاءت لنبذ الصنمية القديمة منها والحديثة والمغالاة في الأشخاص الذين لم ينصبهم الله تعالى والتوجّه إليهم.
وأما من نصبهم الله عزّ وجلّ وجعلهم وسائط وأبواب، فلابدّ من التوجّه إليهم والتوسّل بهم والانشداد إليهم; لأن التوجّه والانشداد إلى الآيات
البيان الثاني: الاختلاف في المراتب الوجودية
وهو بيان عقلي فطري استند إليه آدم (عليه السلام) في توسّله إلى الله عزّ وجلّ بالنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ; لكونه أحبّ الخلق إلى الله تعالى، وكذلك استند إليه إبراهيم (عليه السلام) في استغفاره لعمّه آزر، وهو الحفاوة والحظوة والزلفى عند الله تعالى.
بيان ذلك: هناك ضرورة عقليّة ذكرها الفلاسفة، وهي أن الله تعالى وإن كان هو الخالق لكلّ شيء ولا خالق سواه، ولكن إيجاد المخلوقات من قبله تعالى ليس على رتبة واحدة، بل هي ذات مراتب متعدّدة مشكّكة، وهذه ضرورة لابدّ منها، وليس ذلك لعجز في قدرة الباري، تعالى عن ذلك علواً كبيراً; إذ هو على كلّ شيء قدير، وإنما النقص والعجز في طرف القابل والمخلوق ; وذلك لأنّ شيئيّة الأشياء لا تتقرّر ولا يمكن أن تفرض متحقّقة إلاّ بعد إمكانها، فمع عدم إمكانها لا شيئيّة لها، والموجودات والمخلوقات النازلة في الرتبة الوجودية،
ومن هنا ورد من طرق الفريقين أن أوّل ما خلق الله تعالى العقل، أو أوّل ما خلق الله تعالى نور النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)(2)، ولا تنافي بينهما.
وورد أيضاً أن الله تعالى أبى أن يُجري الأمور إلاّ بأسبابها(3)، فسنّة الخلقة في هذا العالم الإمكاني عن طريق الأسباب والمسبّبات، بجعل المخلوق السابق سبباً لأن يخلق الله تعالى المخلوق اللاّحق بنحو التقدّم والتأخّر الرتبي.
ولا شك أن التقدّم في الرتبة الوجودية بين المخلوقات معناه أن المخلوق الأسبق رتبة أشرف وأكرم وأقرب إلى الله تعالى من المخلوق اللاّحق، وهو مجرى سيب الباري عزّ وجلّ إليه، وسبب لتفتّح أبواب السماء لتلقّي الفيض.
____________
1- الأنبياء: 30.
2- كشف الخفاء / العجلوني: ج1 ص265، ينابيع المودة / القندوزي الحنفي: ج1 ص56، بحار الأنوار: ج54 ص170.
3- بصائر الدرجات: ص26، الكافي: ج1 ص183.
وهذا بيان عقلي واضح دالّ على ضرورة التوجّه والتوسّل بالمقرّبين وبالمخلوقات الكريمة على الله تعالى، وهذه هي الحفاوة التي استند إليها آدم وإبراهيم (عليهما السلام) في استغفارهما إلى الله تعالى.
وبعبارة أخرى: إن من المعاني والحقائق الذاتية للقرب والمقرَّب أن الاقتراب إلى المقرَّب (بالفتح) يُقرِّب ; لأنّه مقتضى قربه، كما أن الابتعاد عنه ابتعاد عمّن هو قريب إليه بمقتضى قربه أيضاً، وهذه القاعدة غير مختصّة بالقرب والبعد المكاني، بل هي مطّردة في كلّ أنماط القرب والبعد على الصعيد المعنوي، من كمالات الوجود من العلم والقدرة والحياة والنور، وعلى ضوء ذلك يكون بيان الشرع لكون شيء مقرّب هو بنفسه تحضيضاً وتشريعاً للتوسّل به والتقرّب إلى الله بالتوجّه إليه، وهذه الدلالة بديهية فطرية يدركها عامّة البشر بفطرتهم، فإن إعطاء المالك وذو القدرة والعظمة والعزّة لشيء القرب واتخاذه مقرّباً يلازم إعطاءه مقام الشفاعة، فيلازم الإذن بالاستشفاع والتوسّل به، كما أن إنكار الإذن بالتوسّل والاستشفاع به إنكاراً لكونه مقرّباً، وبالتالي يستلزم الإنكار تكذيب المالك والاعتراض عليه في اتخاذه ذلك الشيء مقرّباً، وكذلك الحال
____________
1- سورة الروم 30: 30.
البيان الثالث: وجوب الاحترام والتعظيم
وهو أيضاً شرح وبيان للحفاوة والأقربية ومعتمد على أصول فطرية جبلّية، وذلك أن الأسلوب الجاري والمتّبَع في شرعيّات البشر وأعرافهم وآدابهم العقلائية والاجتماعية عند بعضهم البعض، هو أن طريقة الوفود على شخص يجب أن تكون بالاستئذان من الباب والحُجّاب والشفعاء والوسائل التي تؤدّي إليه، وأن يكون ذلك بمنتهى الأدب والاحترام.
وبعبارة اُخرى: إن الشخص عندما يتوسّل بشخص آخر للدخول على عظيم يُعدّ نوعاً من أنواع الاحترام والتعظيم والتأدّب، وزيادة في إبداء الحرمة والاحترام، فأنت مثلاً عندما تتّخذ المقدّمات والاجراءات اللاّزمة وتأتي عن طريق الحُجب والأبواب صيانة لحرمة مَنْ تفد عليه، فإن في ذلك مزيد الأدب والاحترام وإن لم يكن ذلك الطرف محجوباً في نفسه، ولو لم تُراع تلك الاجراءات فكأنك تكون قد هتكت حريمه.
وقد ذمّ الله عزّ وجلّ الذين ينادون النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) من وراء الحجرات، وأمر بإتيان البيوت من أبوابها، وأن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأذنوا فيُؤذَن لهم.
قال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَاْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَاْتُوا
وقال أيضاً عزّ وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(2).
وقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}(3).
وجاء في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أنا مدينة العلم وأنت يا عليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها"(4).
ونجد أن هذا الأدب الإلهي قد قرّره الشارع المقدّس في الوفود على بيت الله الحرام، فجعل الإحرام مقدّمة للتهيّؤ وباباً للتعظيم.
لا يقال: أن الجاري في هذه الأعراف أمور متواضع عليها ولا ربط لها بالحقائق.
فإنه يقال: إن من المقرّر في محلّه أن الاعتبارات العقلائية ليست أموراً جزافية، بل لها مناشئ حقيقية ورابطة تكوينية، وقد أمضى الله تعالى تلك الاعتبارات.
ثم إن الله عزّ وجلّ نصب أبواباً ووجهاء مقرّبين يتوجّه بهم إليه من باب التأدّب مع الله تعالى، ولذا عندما يريد الشخص المسلم أن يطلب حاجته من الله تعالى في الدعاء وفي غيره، لابدّ من تقديم الثناء على الله عزّ وجلّ وشكره
____________
1- البقرة: 189.
2- النور: 27.
3- الحجرات: 4.
4- شواهد التنزيل / الحاكم الحسكاني: ج1 ص106، كنز العمال: ج13 ص148.
وكما جاء ذلك في سورة الحمد، التي يقرؤها الفرد المسلم في اليوم والليلة عشر مرات على الأقلّ، حيث قُدّم فيها المدح والثناء والشكر والحمد لله تعالى، ثم بعد ذلك يطلب المصلّي والقارئ للحمد حاجته من الهداية وعدم الغواية والضلال.
إذن التوسّل بمن يكون وجيهاً عند الله من التأدّب والتعظيم لله عزّ وجلّ، والوفود على الله مباشرة من قبل الأفراد العاديين الذين لا يحرز كون وجوههم مقبولة عند الله تعالى، بل قد يكون مطروداً من ساحة العظمة بسبب ما يقترفه من الذنوب ـ يعدّ من الكبرياء والجفاء والجفوة مع الله تبارك وتعالى والعتو عليه، وهذا على خلاف الفطرة التوحيدية، بل إن الله عزّ وجلّ ذمّ الذين يصدّون عن الوسائط ويطلبون الارتباط المباشر بالسماء، بما بيّناه في هذا الوجه، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}(2).
فنحن المذنبون المقصّرون القاصرون عن نيل المقامات الرفيعة يجب أن لا نطلب الحاجة إلى الله تعالى إلاّ بعد تقديم المقدّمات، والتوسّل بالمقربين والوجهاء المرضيين عند الله عزّ وجلّ، وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}.
والحاصل: إن التوسّل من مبادئ الأصول الفطرية والأخلاقية، وهو مقتضى
____________
1- وسائل الشيعة: ج7 ص81، عدّة الداعي / ابن فهد الحلّي: ص148، فتح الباري / ابن حجر: ج3 ص4.
2- الفرقان: 21.
ولابدّ من التنبيه على أن الآيات القرآنية كما تقدّم ويأتي في الفصل اللاّحق لا تثبت أن الوفود على الله تعالى من دون التوسّل بالآيات الإلهية مخلاًّ بالأدب مع الحضرة الربّانية فحسب، بل هي تصرّح بامتناع الوفود عليه عزّ وجلّ من دون آياته وحججه، وامتناع التوصّل إلى ذاته المقدّسة; لقصور في القوابل والاستعدادات.
2 ـ الدليل التاريخي (السيرة):
لا ريب أن هناك ضرورة إسلامية وقرآنية تؤكّد على أن فصل الشهادة الثانية وهي شهادة أن محمّداً رسول الله ـ عن الشهادة الأولى وهي شهادة لا إله إلاّ الله ـ وإنكارها يُعدّ شركاً، وخروجاً عن دائرة التوحيد التام، الذي جاءت به الشريعة الإسلامية الخاتمة.
وعندما نرجع إلى القرآن الكريم نجده يحكم بالشرك والوثنية على الطقوس والمناسك العبادية التي يأتي بها أهل الكتاب، وإن كانوا يدّعون أنهم على دين موسى أو عيسى (عليهما السلام).
وفي الوقت ذاته اعتبر القرآن الكريم عبادة قريش وحجّهم ومناسكهم وصلاتهم تجاه الكعبة من الشرك والجاهلية وعبادة الأوثان.
فالطقوس العبادية القرشية التي يزعمون أنها على ملّة إبراهيم (عليه السلام)، كالصلاة
فإنّ ذلك كلّه يجعل العبادات والمناسك بأجمعها شركاً ووثناً وجاهليّة، كالطواف حول الكعبة مثلاً يعتبر شركاً وطاعة وعبادة لغير الله عزّ وجلّ فيما إذا افتقد الشهادة الثانية والتولّي لنبيّ الإسلام (صلى الله عليه وآله).
والفرق بين حجّ المشركين وحجّ المسلمين، هو أن المشركين يأتون بالمناسك من دون الخضوع والتسليم والتولّي لخليفة الله تعالى، وأما المسلمون فهم يأتون بمناسك الحجّ مع خضوعهم لولاية النبيّ (صلى الله عليه وآله) وإقرارهم بالشهادة الثانية، ولذا كان حجّهم طاعة وعبادة خالصة لله عزّ وجلّ.
وقريش إنما خرجت من مغبّة الشرك والوثنية ودخلت الإسلام بإقرارها بالشهادة الثانية وتولّيها للنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأخذ عنه والخضوع لطاعته وأوامره.
فليس التوحيد بالاتجاه مباشرة إلى الله تعالى والانقطاع عن الوسائط، ولا الشرك بجعل الواسطة بين العبد وربّه، بل الوثنية والشرك في منطق القرآن الكريم رفض التسليم لولاية خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ; وذلك لأن الوثن والوثنية طاعة غير الله عزّ وجلّ، والعبد إذا أنكر الواسطة التي نصبها الله تعالى بينه وبين عبيده، لا يبقى له مجال وطريق لاستعلام أوامر الله ونواهيه وإراداته وشريعته الحقّة، التي يريد من عبده السير على خطاها.
فالهوى وسلطان النفس وثن من الأوثان وإله من الآلهة وإن لم يكن من الأحجار ; إذ لا يشترط في الوثن والصنم أن يكون من الحجارة، فإن المسلمين يتوجّهون في عبادتهم إلى أحجار الكعبة ومع ذلك هم موحّدون ومطيعون لله تعالى ; لكون ذلك عن أمره وإرادته وسلطانه.
والحاصل: إن أي عبادة من العبادات إذا إنقطعت عن الخضوع لولاية سيّد الرسل وفقدت تواصلها مع الشهادة الثانية تدخل حيز الشرك والوثنية الجاهليّة، كما جاء ذلك في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}(2)، حيث حكم الله تعالى في هذه الآية المباركة بشرك ونجاسة ما يأتي به غير المسلمين من العبادات والمناسك في المسجد الحرام.
ثمّ إن من يجحد ولاية أهل البيت (عليهم السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكون حاله كحال من جحد ولاية النبيّ (صلى الله عليه وآله)، إذ من بعده (صلى الله عليه وآله) كيف يستعلم العبد إرادة ربّه وأوامره؟!
ومن ثمّ يقول الإمام الباقر (عليه السلام) في حجّ من لا يؤمن بمودّة وولاية أهل البيت (عليهم السلام): فعال كفعال الجاهلية، حيث ورد عنه (عليه السلام) أنه نظر إلى الناس يطوفون
____________
1- القصص: 50.
2- التوبة: 28.
وهذا برهان تاريخي وأدياني يؤكّد ضرورة الواسطة في صحّة العبادة وقبولها.
والواسطة هي الطاعة لوليّ الله تعالى، بكلّ ما للطاعة من معنى وتداعيات ومعطيات ومقتضيات تقتضيها تلك الطاعة وعلى جميع مستوياتها، فكما أن بدء التوحيد متوقّف على الشهادتين كذلك بقاؤه في كلّ الأبواب الاعتقادية والعبادية، متوقّف على بقاء الشهادتين إلى آخر المطاف.
____________
1- تفسير البرهان / السيد هاشم البحراني: ج4 ص337.