الصفحة 43

الأدلّة التحليلية


نرمي في استعراض هذه الأدلّة تحليل بعض المفاهيم الدينية والاعتقادية ويكون ذلك بدوره دالاًّ على مشروعية التوسّل وضرورته.

1 ـ مفهوم العبادة:

(مفهوم العبادة ينفي الوسائط المقترحة)


يمكننا عن طريق تحديد المفهوم الاصطلاحي للعبادة وبيان العبادة الخالصة لله تعالى والعبادة غير الخالصة استكشاف مشروعية نظرية الوسائط، وأن المستنكر منها هي الوسائط المقترحة فحسب، وذلك بالبيان التالي:

ذُكر للعبادة في اللغة معان متعدّدة، أهمّها: أنها بمعنى الطاعة والخضوع.

والقرآن الكريم أيضاً استعمل مفهوم العبادة في عدّة معان، منها ما يلي:

1 ـ مملوكية المنفعة.

كقوله تعالى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْء}(1).

____________

1- النحل: 75.


الصفحة 44
وقوله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِك وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}(1).

2 ـ سيادة الطاعة، وإن لم تكن أصالة للمطاع.

كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(2).

3 ـ الطاعة والخضوع والانقياد للمعبود على وجه التعظيم والتقديس، وأنه الغني بالذات ومصدر جميع الخيرات والنعم والكمالات مبدءاً وإصالة.

كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ}(3).

وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}(4).

وكقوله تعالى لموسى (عليه السلام): {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي}(5).

وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الاَْمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ}(6).

إلى غير ذلك من الآيات القرآنية المباركة، الدالّة على إرادة الانقياد إلى المعبود على وجه التعظيم وأنه الغني بالذات من مفهوم ومعنى العبادة.

____________

1- البقرة: 221.

2- يس: 60.

3- الرعد: 36.

4- الذاريات: 56.

5- طه: 14.

6- هود: 123.


الصفحة 45
وهذا هو المعنى الاصطلاحي لمفهوم العبادة.

وإذا كان هذا هو المعنى الاصطلاحي للعبادة، فكيف كان توجّه المشركين إلى الوسائط شركاً، مع أنهم لا يتوجّهون إليها بما هي مصدر الخيرات أصالة بل بما هي شفيعة ووسيطة؟ وكيف تتحقّق العبادة لغير الله تعالى؟ وكيف تتحقّق العبادة لله عزّ وجلّ؟

والجواب هو ما تقدم، من أن الانكار ليس إنكاراً للوسيلة بما هي وسيلة، بل بما هي مقترحة ومخترعة من قبل العبيد، وأما إذا كانت الواسطة بجعل من الله تعالى وإرادته وتحكيماً لسلطانه، فلا محالة يكون التوسّل والخضوع لتلك الوسيلة طاعة للباري تعالى، لأنه يكون انقياداً له تعالى على وجه الرغبة والخضوع وأنه مصدر الخيرات مبدءاً وأصالة، فأي فعل يكون منطلقه من أمر الله عزّ وجلّ لا يكون شركاً، وإن كان ذلك الفعل بالتوجّه والتوسّل بالوسائط، ومن ثمّ يكون سجود الملائكة لآدم كما سيأتي ـ عبادة لله لا لآدم; لأنه خضوع لله تعالى وامتثالاً لأمره بما أنه مصدر الخيرات.

إذن المدار في تحقّق العبادة وعدمه ليس على ارتباط الطقوس العبادية بغير الله وعدم الارتباط بغيره، بل المدار في العبادة الخالصة وقوام التوحيد في العبادة على وجود الأمر الإلهي والإرادة الإلهية، وقوام الشرك في العبادة ليس على تعلّق الفعل العبادي بغير الله، بل الشرك في العبادة يتقوّم بعدم وجود الأمر والإرادة الإلهية، وإنما باقتراح من العبد نفسه.

ومن ثمّ لا يكون التوجّه بالكعبة إلى الله عزّ وجلّ في الصلاة شركاً، بل هو شعار التوحيد.


الصفحة 46
فنحن في صلاتنا نتوجّه إلى الكعبة الشريفة، مع أنها حجر ومع ذلك تكون عبادة لله تعالى، وفي صلاة الطواف نتوجّه إلى مقام إبراهيم (عليه السلام)، وكذا في الطواف نتوجّه إلى الكعبة ونتبرّك بالحجر الأسود ونتمسّح به، مع أن ذلك كلّه لم يجعل من الكعبة صنماً ولا من الحجر الأسود وثناً يُعبد من دون الله، كلّ ذلك لوجود الأمر الإلهي بالصلاة والطواف حول الكعبة والتمسّح بالحجر الأسود، فيكون الامتثال تحكيماً لسلطان الله تعالى على إرادة العبيد، وذلك بخلاف أصنام الوثنيين.

وهذا ممّا اتفق عليه علماء الأصول، حيث قرّروا أن العبادة لا تتحقّق إلاّ بقصد امتثال الأمر وكون العبد ماثلاً طيّعاً أمام مولاه.

فإن وُجد الأمر تحقّق التوحيد في العبادة ولو مع الواسطة، وإن فقد الأمر كان الاتيان بالفعل شركاً ولو مع نفي الواسطة.

2 ـ القول بالتجسيم من أسباب جحود التوسّل:

إنّ انكار التوسّل ورفض الوسائط ناتج إما من القول بالتجسيم أو القول بالنبوءة والتنبّي.

وأما من لا يدّعي النبوءة لنفسه وينكر الجسمية في الباري عزّ وجلّ، فلا محالة له من قبول الوسائط والوسائل في كلّ العوالم والنشئآت.

وقبل البرهنة على هذا المدعى لابدّ من بيان بعض الأمور:

الأول: ليس المقصود من دعوانا أن انكار التوسّل ناتج من التجسيم أو دعوى النبوءة هو أن يكون القائل بذلك قد قال بأحدهما عنواناً وقولاً، بل قد يكون في

الصفحة 47
واقعه متبنّياً لحقيقة التنبّي أو التجسيم من دون أن يُسمّيه تنبّياً أو تجسيماً ; وذلك لأنهما لا يدوران مدار العنوان والشعار، فالحقائق أو الأمور العدمية الباطلة تدور مدار واقعها، سواء واقعها العدمي في الأمور الباطلة أو واقعها الوجودي في الأمور الوجودية، فمن ينفي الوسائط فهو لا محالة إما يبني على التجسيم أو يدّعي التنبّي كما سيتّضح، وهذا نظير ما ذكره الفقهاء في بحوث المعاملات، من أن الشخص ربّما يقصد ماهية معاملية معيّنة ويسمّيها باسم تلك الماهية المقصودة، ولكنها في واقعها قرض ربويّ أو بالعكس.

الثاني: إن هناك دعاءاً يؤكّد مضمون ما نريد الخوض فيه، وهو من الأدعية المأثورة لتعجيل الفرج، وهو: "اللّهمّ عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك، اللّهمّ عرّفني رسولك فإنك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهمّ عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني"(1).

ومفاد هذا الدعاء هو أن منظومة المعارف إنما تصحّ وتكون صائبة مع صوابية وحقّانية معرفة الانسان بربّه، وأن الخلل الناشئ في معرفة الأنبياء والرسل منبعه الخلل في معرفة الله تعالى الصحيحة والتامة، كما أن الخلل في معرفة الحجج والأوصياء والأئمّة منشأه الخلل في معرفة الرسول، وبالتالي يكون ناشئاً من الخلل والنقصان في المعرفة المتعلّقة بالله تعالى، كما تشير إلى هذه الحقيقة مجموعة من الآيات القرآنية، منها:

قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَر مِنْ

____________

1- كمال الدين وتمام النعمة / الصدوق: ص342.


الصفحة 48
شَيْء}(1)، فإنكار الرسل وعدم الإيمان بهم ناشئ من جهلهم بقدر الباري وقدرته وعظيم حكمته وتدبيره، ومن خلل المعرفة في أفعال الله عزّ وجلّ.

ومن ثمّ هذا يؤكّد أن الذي ينفي الوسائط والوسائل والرسل والحجج، منشأ نفيه نقصان معرفته بالله تعالى، إما بالقول بالتجسيم أو القول بالتنبّي.

والغريب من أصحاب هذه المقالة، قولهم بأن التجسيم باطل في النشأة الدنياوية فقط، وأما في الآخرة فنلاقيه والعياذ بالله بصورة شابّ أمرد، ويستدلّون على ذلك، بقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق}(2) و {وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}(3) و {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(4)، فيصوّرون الفوقية على العرش فوقية مكانية، لا فوقية قدرة وهيمنة.

فهم يفترضون إن الله عزّ وجلّ في الآخرة جسم، وهذا ناتج ضعفهم وقصورهم في المسائل العقلية والاعتقادية; إذ لم يلتفتوا إلى أن قولهم هذا يلزم منه كون الله تعالى مادّياً، وكلّ أمر مادّي قابل للانقسام، فله أجزاء متولّدة من جسمه، وهو مناف لما نصّت عليه سورة التوحيد التي نفت التولّد والانقسام والتجسيم والمادّية.

ثم إن الجسم محدود، وهو تعالى خالق الجسم ومهيمن عليه لا يحدّه حدّ.

وأهل البيت (عليهم السلام) يثبتون الرؤية القلبية لله عزّ وجلّ، وهو ما أكّدته الآيات

____________

1- الأنعام: 91.

2- القلم: 42.

3- القيامة 75: 22ـ23.

4- طه: 5.


الصفحة 49
القرآنية، كقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}(1)، وهم (عليه السلام) ينفون الرؤية البصرية، التي يشترط فيها المحاذاة والمقابلة الجسمانية، والله عزّ وجلّ منزّه عن الجسم والجسمية في جميع النشآت.

لقاء الله يوم الحساب بآياته وحججه:

وحيث أن حشر الخلائق بأجسامهم، فإن ملاقاة العباد لربّهم تكون بالوسائط والوسائل والآيات، وإلاّ للزم أن تكون المقابلة والملاقاة جسمية، أي أن الباري والعياذ بالله يلاقي أجسام الخلائق بجسمه وهو باطل بالضرورة.

فإياب الخلائق وحسابهم لابدّ أن يكون عبر الوسائل والوسائط والآيات، وإلاّ فإن الله عزّ وجلّ معنا أينما كنّا.

وذلك ديدن قرآني في الإسناد، كإسناد الإماتة إلى الله عزّ وجلّ وإلى ملك الموت وإلى الرسل التي يديرها ملك الموت، فإياب الخلق وحسابهم على الله عزّ وجلّ، ولكن عبر آياته ووسائطه، قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}(2) وقال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}(3).

فإذا ثبت أن الله عزّ وجلّ ليس بجسم، ونحن أجسام في شطر من ذواتنا وشطر من إدراكاتنا، التي تتحقق عبر الارتباط بالأجسام، سواء في الدنيا أو البرزخ أو الآخرة، فلا يمكن الارتباط مباشرة بربّ العزّة والجلال، وحيث أن الارتباط بالله عزّ وجلّ في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة ليس منقطعاً تماماً، لأن

____________

1- النجم: 11.

2- الأنفال: 17.

3- التوبة: 74.


الصفحة 50
معناه التعطيل في قدره الباري تعالى، وحيث ثبت بطلان التعطيل، وأنه لا تعطيل لمعرفة ذاته تعالىولا لصفاته ولا لأفعاله ولا لعبادته ولا للقائه عزّ وجلّ، فلابدّ من القول إما بالوسائط أو النبوءة.

والمجسّمة قالوا بالتجسيم; لأنهم أنكروا الوسائط وخافوا من الوقوع في التعطيل أو دعوى النبوءة، فلا محيص لهم عن القول بالتجسيم، هذا كلّه على المستوى التحليلي لما ادّعيناه أولاً.

وأما الدليل القرآني على ذلك، فهو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}(1).

فقوله تعالى: {لِبَشَر} للإشارة إلى الجسم والخصوصيات الجسمانية.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} بمثابة البرهان والاستدلال على مضمون الآية المباركة.

وقوله تعالى: {مَا كَانَ} لنفي الشأنية والامكان، لا لبيان عدم الوقوع فقط، وإلاّ لكان حقّ التعبير أن يقال: إن الله لا يكلّم أحداً إلاّ بالطرق الثلاثة المذكورة في الآية.

ومعنى الآية الكريمة أنه لا توجد أي مجابهة جسمانية بين الله عزّ وجلّ وبين البشر، المحكومين بأحكام المادّة والجسمية، فتكليمه عزّ وجلّ للبشر إما وحياً، أي عن طريق جانب الروح في البشر، أو من وراء حجاب، أي عن طريق خلق الصوت وإيجاده في الأمور المادّية، كما في تكليم الله عزّ وجلّ

____________

1- الشورى: 51.


الصفحة 51
لموسى (عليه السلام)، أو يرسل رسولاً أي إرسال الملائكة أو الأنبياء والحجج، بل وكذا الملائكة التكلّم معهم عن طريق الوحي، كما في قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}(1)، إذن لا وجه للمواجهة الجسمانية مطلقاً، سواء في الدنيا أو البرزخ أو في الآخرة.

ثم قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي متعال أن يكون جسماً محاطاً ومحدوداً، فإن العلو يستلزم نفي الجسمية، وهو عزّ وجلّ حكيم، أي غير معطّل، فمن حكمته أن يرسل رسلاً ويقيم أئمة ويوسّط وسائط، فلا تجسيم ولا تعطيل.

وهذه الآية ليست دلالتها مقصورة على دار الدنيا فقط، بل هي بلحاظ كلّ النشآت الوجودية والتكونيية، فهو تعالى عليّ متعال على الجسمية ومقابلة الأجسام، وحكيم غير معطّل بينه وبين خلقه عن طريق الوسائط والرسل، فهو عزّ وجلّ يُعرف برسله وأدلّته وحُججه.

وبعضهم حيث أنكر التجسيم وفرّ من مغبّة التعطيل ورفض الوسائط، بدعوى أنها صنمية منافية لروح التحرّر، وقع في القول بالتنبّي، ولجأ إلى الإيمان بقدسية العقل وسعة مدياته وحدوده وأنه يصيب كلّ صغيرة وكبيرة، كما هي مقالة بعض المتعلمنين من الإسلاميين.

وحيث أن التنبّي والإيحاء إلى الجميع باطل بنصّ القرآن الكريم، وثبت أن التشبيه والتجسيم وكذا التعطيل باطل، فلابدّ من الإيمان بالوسائط والوسائل، ويكون إنكار وليّ الله وحجته تجسيماً أو تعطيلاً أو استكباراً وإكباراً للنفس وصنميّة للعقل، وهي النبوءة المرفوضة في الكتاب والسنّة.

____________

1- الأنفال: 12.


الصفحة 52
إذن الوسيلة والواسطة أمر برهاني وضروري في كلّ النشئات، ولذا ورد في الروايات أن الذي بُعث في عالم الذرّ بين الله تعالى وبين باقي الأنبياء هو النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله).

وهذا هو ما قلناه من أن الشهادة الأولى كما أنها مطلوبة في جميع النشئات، كذلك الشهادة الثانية وأن محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله) باقية في كلّ النشئات أبديّة وأزلية، فوصف النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالرسالة ليس خاصاً بالدنيا فقط، وإنما النبيّ (صلى الله عليه وآله) رسول في إنزال القرآن، وآياته غير مختصّة بالدنيا، بل تحكي كلّ النشئات وعالم الربوبية والصفات وعالم الذات، بما لم يُنبّئ به نبيّ من الأنبياء، وهذا معنى واسطته (صلى الله عليه وآله) في كلّ العوالم والنشئات.

والحاصل: إن لم يكن في البين تشبيه ولا تعطيل، فلابدّ من النبوءة أو قبول الوسائط والحجج، وحيث أن التنبّئ للكلّ باطل، فلابدّ من الإيمان والاقرار بالوسائط بين الله تعالى وبين مخلوقاته في كلّ العوالم، فالله عزّ وجلّ لا يُتوجّه إليه باتجاه جسماني، بل يُتوجّه إليه بالمعاني والآيات والحجج.

ومن ذلك كلّه يعلم عظم مكانة الآية والحجّة الإلهية، وأن إنكارها في الحقيقة بمنزلة إنكار الباري عزّ وجلّ، كما ورد ذلك في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}(1)، فإنكار خلافة خليفة الله في الأرض ليس ينصبّ على الوسيلة بما هي هي، بل يرجع إلى الكفر بالله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَر مِنْ شَيْء}(2) وذلك لأن

____________

1- الأنعام: 33.

2- الأنعام: 91.


الصفحة 53
الذات المقدّسة إذا لم يكن بينها وبين المخلوقات أي ارتباط معناه التعطيل، وهو بمنزلة الإنكار لله عزّ وجلّ لأنه إنكار لقدره تعالى وقدرته وتدبيره.

فعظمة الوسائط والحجج والآيات بعظمة ذي الآية، التي اُضيفت إليه، ويكون الاستخفاف بها استخفافاً بالله عزّ وجلّ، فلابدّ من تعظيمها وإجلالها.

ووظيفة الخليفة هي الواسطة والوساطة في تدبير شؤون العباد، وهذا النظر والاعتقاد الحقّ مما امتاز به مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وهو أن العوالم بجميع نشآتها لا تخلو عن حجّة وخليفة وواسطة.

والنقطة الأخرى التي ينبغي الإشارة إليها في المقام، هي أن التوسّل والشفاعة والتوسّط والوسيلة تحمل في داخلها عدم المحورية الذاتية للشفيع والوسيط، أي ليس للوسيط والشفيع والوسيلة أي استقلالية عن الله عزّ وجلّ، وذلك لأن الواسطة معناه أن النظرة إليها آلية وحرفية، ليس لها من ذاتها إلاّ الفقر والحاجة إلى سلطان الله وإرادته.

ولذا نجد أن الوسائط التي اتخذت من دون الله عزّ وجلّ أخفقت في وساطتها ووجاهتها وكانت شركاً بالله عزّ وجلّ; لأنها استقلّت عن سلطانه وإرادته وإذنه.

والغريب في هذا المجال هو أن أصحاب هذه المقالة والجاحدين للتوسل آمنوا بأن الشفاعة والتشفّع بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) في الآخرة ليس شركاً وكذا التشفّع بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) حال حياته، وأما التشفّع به (صلى الله عليه وآله) حال موته فزعموا أنه من الشرك الأكبر.

ويرد عليهم السؤال التالي: إن دائرة الشرك من أين نتجت؟ هل من حدّ معنى الشفاعة والواسطة، أو من حدّها التعبّدي، أو من خلال المعنى العقلي؟


الصفحة 54
فاذا كان المعنى عقلياً فالغيرية إذا أوجبت الشرك، فإنها توجبه في كلّ نشأة، سواء نشأة الدنيا أو الآخرة، وإذا لم توجب الغيرية الشرك لجهة الوساطة، فما هو الفرق بين أنواع التشفّع في الدنيا والآخرة، أو حال الموت وحال الحياة؟!

لا سيما وأن الشرك الأكبر(1) معنىً عقلي يدركه العقل، ونفيه وإثباته في متناول الأحكام العقلية، وهي لا تقبل التخصيص والاستثناء، لا سيما وأنها من الأحكام التي تقرب من البداهة.

وبعبارة أخرى: إن الوسيلة والوساطة تعني تقوّم الواسطة والوسيلة بالله، وكونها مظهر فعله وظهوره، وهذا عين التوحيد في الأفعال والصفات، فكيف يُجحد تحت قناع أنه الشرك الأكبر، وتسمية ذلك الجحود بأنه توحيد؟!

فإن ذلك من التلبيس لأحد العنوانين مكان الآخر، خصوصاً وأنه قد مرّ أن إنكار الوسيلة والتوسّل بل يؤول إلى إنكار الشهادة الثانية ; لأنه يؤول إلى إنكار ركنية ودخالة رسالة ومقام خاتم الأنبياء في التوحيد.

____________

1- المقصود من الشرك الأكبر أو الشرك الصريح هو الذي يوجب ردّة عن الدين، أما الشرك الأصغر أو الشرك الخفي غير الصريح هو الذي لا يوجب ردّة، وهو قلّما ينجو منه أحد إلاّ المخلصين، والشرك الصريح إنما يوجب الردّة; لأنه مناف لمقررات الدين الإسلامي وثوابته وأولياته، والإذعان والإقرار بما هو مناف صراحة لأوليات الدين الإسلامي، وهذا نوع انشاء فسخ، وخروج عن عهود ومواثيق الشهادتين، وذلك لأن التشهد بالشهادتين لحصول الإسلام أو بالشهادة الثالثة لحصول الإيمان ـ كما هو عند الإمامية ـ يلزم منه الالتزام بعدّة عهود ومواثيق، فلو أنشأ الشهادات الثلاث، والتزم بما هو مناف لها صريحاً، فإنه يخرج عن العهد والميثاق الذي التزم به، وأما عدم إيجاب الشرك الأصغر ردّة في الدين، لأن المتكلم والمدّعي لأمر لا يعي تناقض ذلك الأمر مع الشهادتين، ولا يكون ظاهراً عرفاً في الفسخ للعهود والمواثيق.